د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5920
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
18 مارس 2014 تاريخ لن ينساه العالم بأسره. في هذا اليوم وقف الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" هادئاه كعادته، ثباتا وثقته بنفسه لا تتزعزع، ليعلم أمام أعضاء الكرملين ولكلّ الدنيا أنّ شبه جزيرة القرم المنشقة عن أوكرانيا قد انضمت أو ضمّت أو ضمّها (الصيغة لا تهمّ الرجل) إلى روسيا اعتبارا من يوم الثلاثاء الموافق للتّاريخ أعلاه.
على إثر تلك الكلمة المدوّية، راح ليوقّع مع قادة القرم الجدد الموالين لروسيا على وثيقة إعلان ضمّ القرم، رغم تهديدات الأمريكان والاتحاد الأوروبي الذين أصيبا بالدّهشة، بل هي الصّاعقة التي جعلتهم يكتفون بالتّنديد والتّهديد والوعيد بتسليط بعض المضايقات الاقتصادية وما شابه، تهديدات لن تتجاوز شفاههم أو صفحات جرائدهم.
أمّا نحن في العالم العربي فقد تعاملنا مع الحدث بكل سذاجة، وكأنّ الأمر لا يهمنا، وقد غاب عن الجميع أنّنا في قلب الحدث، بل أكثر؛ وإنّي أجزم (بكلّ تواضع) أنّ الفضل في هذا الموقف، يعود بشكل مباشر إلى الرّبيع العربي عموما وسقوط حكم الإخوان في مصر خصوصا.
قد يبدو هذا الرأي محض هراء، أو مجرّد فكرة نابعة من نرجسية (محلّل عربي)، قد يتهمّه البعض بالحالم أو المجازف... الخ. لكن لو تروّينا قليلا وأمعنّا النّظر في مجريات الأحداث العالمية منذ اندلاع الحراك العربي الذي انطلق من تونس في جانفي 2011 وتداعياته الإقليمية والكونية، لوجدنا أنّ الفكرة التي قدمتها مجملة هي عين الواقع، كما سنشرحه ونبيّنه.
يمكننا الانطلاق من مقارنة موقف روسيا من الثّورة الأوكرانية الأولى (2004/2005) الموصوفة بالبرتقالية، وموقفها من الحراك الشّعبي الأوكراني في 2014، الاختلاف بين الموقفين واضح وجليّ. في عام 2005 وقفت الدّولة الرّوسية على حياد شبه تام، واعتبرت أنّ ما يجري وقتئذ في البلد الجار، هو شأن داخلي.
أمّا في مارس 2014 فقد تحوّل الموقف الروسي مائة وثمانين درجة من الأزمة الأوكرانية، رغم التّحذيرات الأمريكية للرئيس الرّوسي، أبى هذا الأخير إلاّ أن يتحدّى نظيره الأمريكي وأحلافه الأوروبيين، ويعلن قرار إرسال قواته المسّلحة لأوكرانية، كما تناقلته وسائل الإعلام الدّولية. لقد كتبت صحيفة "المصريون" تقول: " قرر الرئيس فلاديمير بوتين، اليوم السبت (01/03/2014)، مبدئيًا إرسال الجيش الروسي لأوكرانيا متحديًا بذلك الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي حذر موسكو من مغبة القيام بأي عمل عسكري بهذا البلد. كان المجلس الاتحادي قد قرر بالإجماع تدخل الجيش الروسي في أوكرانيا وذلك إثر طلب بهذا الصدد تقدم به الرئيس بوتين كما يقضي الدستور الروسي"(1).
ما هي المتغيّرات السياسية والإستراتيجية التي دخلت على المعادلة الرّوسية، حتى غيّرت حسابات الرئيس "بوتين"، وشجّعته على اتخاذ موقف ليس منتظرا، بدّل وجه جغرافية المنطقة من ناحية، ودقّ إسفينا في نظام دولي انفردت فيه الولايات المتحدّة الأمريكية بالهيمنة شرقا وغربا؟ إجراء جريء وتحدّ غير مسبوق، أعاد إلى أذهان الأجيال السّابقة صورة "نيكيتا خروتشيف"( 2) وهو يضرب منصة الأمم المتحدة بحذائه مهدّدا بالتّدخل العسكري وضرب كلّ باريس ولندن وتل أبيب بالسّلاح النّووي، لو لم يوقفوا عدوانهم على مصر إثر تأميم قناة السّويس سنة 1956،.
يمكننا الإجابة بسريع، فنقول أنّ المتّغير الرئيسي الذي طرأ على الحسابات الرّوسية، وشدّ أزر الرئيس "بوتين" ليضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا التي قالت عنها الصحافة العالمية والعربية "بوتين يلتهم القرم"(3)، وإرسال قواته لتحاصر الجيش الأكراني في ثكناته، هو الرّبيع العربي الذي فتّحت أزهاره في روسيا، ومنح رحيقه لرئيسها في سهولة ويسر. بمعنى أنّ الرجل استغل سقوط الإخوان في مصر (جوان 2014)، فأدرك بحسّه السّياسي والمخابراتي ميلاد قيادة مصرية، قوية، جريئة وقادرة على تحمّل المسؤولية كاملة في الدّاخل والخارج، يمكن التّعويل عليها والتّعامل معها بندّية إنّه: المشير "عبد الفتّاح السّيسي".
استشعر الرئيس "بوتين" شخصية كريزماتية في المشير، فاستقبله استقبال الرؤساء إن لم أقل الأبطال في قصر الكرملين في 12 فيفري 2014. ذلك لأنّ الرئيس بوتين قرأ في تحدّي المشير "السّيسي" للولايات المتحدّة الأمريكية نصيرة الإخوان، وقطع معوناتها العسكرية على مصر، بطريقتين متكاملتين: الأولى انتصار المشير عسكريا على جنرالات البنتغون، وعلى خبراء معاهد الدّراسات الإستراتيجية الذين ضلّوا، فأضلّوا البيت الأبيض ورئيسه لمّا شجّعوه على المراهنة على الإخوان، ليجلسوهم على عرش مصر. الثانية أنّ المصريين نزعوا من حيث لا يشعرون الشّوكة الجهادية المتأسلمة من خاصرة الرّوس، شوكة عجز الرّوس عن انتزاعها وكسرها في أفغانستان طيلة عشر سنوات (1979/1989). فكان العرفان بالجميل للشّعب المصري صريحا. هذا الشّعب الذي أطاح بالإخوان، وحطّم حزام النّار الجنوبي الذي خطّط له الغرب (في غفلة من العرب) لمحاصرة التّمدّد الرّوسي المرتقب، بعد أن استعادت روسيا قوّتها الاقتصادية وتماسكها الدّاخلي، في الزقت الذي لاحت فيه مؤشرات الترهّل أورو- أمريكي في الأفق الغربي.
أهدى الفشل الأورو- أمريكو- إخواني، القيادة الرّوسية فرصة التّقارب مع المصريين، كذلك مكّنوهم من تعويض خسارتهم الإستراتيجية في شمال إفريقيا، بتفريطهم في ليبيا وخذلان حليفهم العقيد "معمّر القذّافي"، واتهامهم بالغباء السّياسي. قفز الرّوس دون تردّد على الخلاف المصري/الأمريكي ليحلّوا (ولو جزئيا) محلّ الأمريكان في خطوة تكتيكية، قد تتطّور إلى خطّة إستراتيجية في مجال التّسليح المستديم للجيش المصري.
ما لم تدركه الإدارة الأمريكية أنّ هذا التّقارب مكّن الرّوس من ضرب طوق يمتد من إيران شمالا إلى مصر جنوبا مرورا بسوريا في الوسط. شكّل هذا الهلال العربي/المسلم درعا متقدّما للأمن القومي الرّوسي، خاصة وأنّ إيران الحليف الأول لروسيا في الشرق الأوسط تطلّ، بل تهيمن على الخليج العربي وسوريا تشارك إسرائيل في الضّفة الشّرقية للبحر الأبيض المتوسط، والآن أصبح لروسيا منفذين إستراتيجيين في قلب المياه الدّافئة، أولهما الجزء الشرقي من جنوب ضفة البحر الأبيض المتوسط، وثانيهما قناة السّويس التي ستتقاسم فيها من الآن فصاعدا بعض الاامتيازات مع الولايات المتحدّة الأمريكية وحلفائها.
سيمكّن الوضع الجيو-إستراتيجي لروسيا بعد طول انتظار، مساحة مناورات سياسية، وعسكرية، واقتصادية طالما حلمت بها بعد طردها من مصر على يد الرئيس الرّاحل محمد أنور السّادات قبل حرب أكتوبر 1973 بقليل. في ظلّ هذه المستجدّات لن تنسى مصر مصالحها القومية، خاصة وهي في صراع مياه مع أثيوبيا المتمسّكة ببناء سدّ النّهضة. لذا أتوقّع أنّ روسيا ستلعب دورا إيجابيا في التّوصل إلى حلّ يرضي جميع الأطراف... بما سيسقط أو يكبح مخططات إسرائلية في الإستيلاء على جزء وفير من مياه النّهر المقدّس.
لن تتوانى روسيا مستقبلا في دعم الجيش المصري ومدّه (على غير عادة الرّوس) بأسلحة هجومية، متطّورة بما يضمن للرّوس في المقام الأول تحصين درعها المصري، بعد أن ضمنت وتأكدّت من المناعة الإيرانية ببلوغها درجة (الرّدع النّووي)(*). ليس للقوّة النّواوية الإيرانية من معنى سوى أنّها تمثّل ميمنة السّد الذي بناه الرّوس. في نفس الوقت وحتى لا تكرّر خطأها مع ليبيا، تتمسّك روسيا بالنّظام السّوري بكل مساويه، ذلك لأن سوريا هي صدر الدّرع الروسي في الشّرق الأوسط، وهي مستعدّة لأسوء السناريوهات من أجل سلامة النّظام السوري. واليوم تتخلى الولايات المتحدّة الأمريكية عن مصر، حليفها العتيد في المنطقة، وتقدّمها لـــ "بوتين" يكمل بها ميسرة درعه الأمني الذي يمثل كتلة ديموغرافية (92 مليون نسمة) وثقلا حضاريا، وعلميا، وسوقا تجارية ستكون داعمة لاقتصاد الرّوس لا محالة.
ما كان لهذه التّغيرات أن تحدث لولا غباء الأمريكان في التّعامل مع الرّبيع العربي بالتآمر والتّثبيط من ناحية، وغطرستهم واستعلائهم على جميع الشّعوب واستهانتهم بالتّحولات العميقة في العالم العربي، وقصر نظرهم السّياسي في استشراف مستقبل المنطقة، بدأ من تونس ومصر واليمن... الخ... فربّى ضارة نافعة.
وقبل أن أختم هذه الخاطرة، أوّد أن أذّكر كلّ المشكّكين في الثّورات العربية وكلّ المتهكّمين عليها، أنّ ما حدث في دول الرّبيع العربي هو ثورة وثورات، إلتقطها الدّهاة ووظّفوها في خدمة مصالحهم، ولمن لا يرى الواقع بعينيهم، ولمن لا يرى تداعيات هذه الثّورات خارج حدودها فما عليه إلاّ مراجعة مواقفه.
من المؤكد أن الثّورات العربية انحرفت عن مساراتها، فحوّلها أهلها إلى حركات مطلبية ضيّقة، في حين استغلها الذين قدّروها حقّ قدرها لتغيير النّظام الدّولي القائم (Le statut quo)، واستخدموها ورقة ضغط لاسترجاع مكانتهم في العالم، وكسب جولات في حرب كونية تدور رحاها في صمت.
ما كان بإمكان الرئيس "بوتين" أن يجهر بالقول ردّا على خصمه التّقليدي: " إن محاولات الغرب إخافة روسيا بفرض عقوبات بسبب سيطرتها على منطقة القرم ستعتبر (تصرفاً عدوانياً متوعداً بالرّد)"(4)، لولا الرّبيع العربي... الذي قال عنه: " لقد تحوّل الرّبيع العربي إلى خريف"، وتلك إشارة عسى أن تصادف لبيبا ليفهم مرماها... فأين نحن ياعرب؟ حتى ثورة يتيمة جاد بها الزمن علينا، لم نحسن استغلالها فيما ينفع الأجيال القادمة... سادتنا يتصارعون على كرسي نخر السّوس قوائمه، ويتنازعون على فتات مغانم تركها من سبقوهم لعنة لورثة حكم زائل... أمّا ما ينفع النّاس فهم عليه متلّهون...
---------
1) جريدة "المصريون" النسخة الإلكترونية. الأحد 02 مارس 2014 .
2) نيكتا خروتشيف (1894/1971) تولى رئاسة الاتحاد السوفياتي من سنة 1953 إلى سنة 1964، مباشرة إثر وفاة جوزيف ستالين.
3) عنوان ورد على الصفحات الأولى لكل من: جريدة الحياة 19/3/2014، وجريدة الجريدة...
*) الجميع لا يصرح بتوصل إيران اكتساب السلاح النّووي، أما المؤشرات الجانبية فتؤكد على حقيقة امتلاك إيران لهذا السلاح، وإلا بماذا نفسر عجز أمريكا وإسرائيل على الاعتاد على هذه الدولة، بل والتقارب بينها وبين الأمريكان الشيء الذي أغضب إسرائيل.
4) صحيفة الشّروق، المصدر السّابق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: