د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8928
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم تستقر الأوضاع السياسية في مجتمعات الثورات العربية ولم تهدأ النّفوس ولم تلتفت الأطراف المتصارعة للمخاطر الاقتصادية المحدقة بالجميع دون تفرقة ولا تمييز. وبعد طول تأمل في مجريات الحياة العامة وفي المعاناة الجماعية التي تمّر بها تلك المجتمعات؛ والبحث المعمّق في أسباب هذه الحال المعطّلة ونتائجها الآنية التي أتت معاكسة لطموحات وانتظارات الشعوب الثائرة ومخيبة لآمالها العريضة وأحلامها الوردية، كان من الضروري البحث في زوايا مغايرة تماما لكل الفرضيات التي انطلقنا منها في كل ما كتبناه سابقا.
لا يختلف عاقلان (ولا حتى سفيهان) حول الانقسامات السياسية والمذهبية التي تبدو جلية للعين المجردة. فلو حاولنا تصنيف تلك الانقسامات لحدّدناه في صنفين رئيسيين: صنف شفّاف الفكر واضح المواقف، غلّب عليه حبّ الدنيا واحتفظ بحبّه للآخرة لنفسه، فاتّسم بالواقعية ضمانا لمواكبة العصر بكل مكوّناته النّظرية والإجرائية المحلية والقطرية والعالمية. أما الصّنف الثاني فقد فضل الهروب من واقعه واختار العيش في زمن افتراضي، محاولا اكراه المجتمع على رحلة خيالية من ناحية وتعبيرا عن رفضه للوجود كما هو موجود بجميع تفاعلاته وتناقضاته الدّاخلية والخارجية مع التّمسك بشيء من حاضره بحكم الضرورة من ناحية أخرى.
هنا أصبح الباحث بصدد ثنائية شديدة التنافر إلى حدّ التّطرف، انتفى معها الحدّ الأدنى للتجانس الاجتماعي والثقافي بين الطرفين، وهو أدنى المستويات الضامنة للتعايش السلمي بين وجهتي النّظر المتقابلة. فتح غياب العتبة الدنيا للتقارب بين الرؤى الباب على مصراعيه أمام الجميع للدفاع عن وجهة نظره والتّعصب لها والاستماتة في فرضها على الآخر. أصبحت كل الطرق والوسائل مباحة لكليهما لإثبات أحقيّة رأيه في ساحة الصراع وهي ساحة سياسية بامتياز في لحظة تاريخية ضعفت فيها الدولة وتحلّلت أسسها القانونية، لتتخلّى بشكل شبه تام عن دورها في حماية الأفراد والمجتمع والمؤسسات.
للكشف على الميكانيزم الرئيسي للأزمة السياسية في تونس لا بدا من الرجوع إلى التاريخ القريب: الزمان الفترة الممتدة ما بين 1975 و1990. المكان الجامعة التونسية، مسرح الصراع الفكري/الطّلابي والتناحر بين الفرقاء الذين تكتلوا حينئذ (ولو ظرفيا) في جبهات هشّة سريعا ما انفصمت عراها. في تلك الفترة أي قبل الثورة، كانت الخلافات والتّجادبات السياسية، منحصرة بين الطلبة داخل حرم الجامعة بمختلف كلياتها. خلافات يمكن وصفها بالميكرو سويو- سياسسية، شكلت تقليدا طلاّبيا سنويا شبيها ببسيكودراما أقرّتها الدولة وأمسك التّجمع الدستوري الديمقراطي بخيوطها ووجّه منحاها ورسم خطوطها الحمراء، بشخوص متباينة الانتماء الطبقي والمرجعية السياسية، ضمّت اليمين واليسار والقوميين والعروبيين والنّاصريين والإسلاميين الذين عُرِفُوا وقتئذ بالخوانجية.
أما بعد الثورة واجتثاث الحزب الحاكم وسجن منظّريه وإقصاء رموزه وفي ظل فراغ دستوري وضعف صارخ للدولة الرّاعة، تجاوز الصراع محيط الجامعة وانتقل وبنفس الوجوه وذات الأسماء التي كانت بالأمس القريب على الرّكح السياسي الصغير ( فيما عدى التّجمعيين ومن توفي من هذا الفريق أو ذاك) إلى الشارع التونسي، متخذا بعدا "ماكرو سوسيو- سياسي"، ليتحوّل من صراعات على قيادة الاتحاد العام لطلبة تونس إلى صراع على السلطة والحكم والكراسي، بأشكال أكثر جدّية وأحدّ عنف متجاوزا حدود المنطق والمعقول، ليصل مرتبة الاغتيال السياسي وتصفية الخصوم جسديا.
يتمحور الصراع السياسي اليوم في أفضل الأحوال من يحكم البلاد ويفرض على البقية، رؤيته السياسية وإيديولوجيته ومرتكزاتها الفكرية السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية. لقد شلّت الثورة جلّ مجالات العمل الرسمي للدولة، ففتحت الطريق أمام سياسة ليّ الذّراع التي يمارسها التيار الدّيني الذي حاز على الأغلبية التأسيسية في انتخابات نزيهة، ومنه تسلّيها إلى السلطة التّنفيذية بشرعية غير متفق عليها. منذ اللحظة التي هيمنت فيها حركة النّهضة بصفتها صاحبة أكبر كتلة في المجلس الوطني التأسيسي حتى انبرى اليمين واليسار لتشكيل معارضة، مشتّتة، متشرذمة، منقسمة على نفسها، لتعارض تنصل النّهضة من المنهج الديمقراطي في حكم البلاد وسعيها الدؤوب لترسيخ وبآليات عنيفة، إيديولوجية دينية على المذهب الوهّابي الذي يمدّها بالمال والرجال.
أدخل غياب البرامج الاقتصادية والتّنموية لحكومة الترويكيا المؤقتة بعد انحرافها على هدفها الرئيسي أ لا وهو إعداد دستور للبلاد وانتخابات برلمانية ورئاسية، تؤسس للجمهورية الثانية تُعيدُ الحياة في جسد الدولة وتُجْرِي دماء الحرية والكرامة في عروق المجتمع التونسي؛ في خصومة مراهقين خالين من كل تجارب ممارسة الحكم، ليجدوا أنفسهم يقطّعون أوصال الدولة ويفتّتون المجتمع إلى هباءات متناثرة، متصادمة، توشك أن تشعل فتيل حرب أهلية، لاحت إرهاصاتها في الأفق التونسي، ستجهض على الثورة وتتيح الفرصة أمام تدّخل خارجي وشيك.
سمحت المراهقة السياسية لخروج تيار ديني شديد التّطرف، متعصبا، عنيفا دخل مسرح الأحداث في مناورة لحزب حركة النّهضة في مغالبة معارضيه من اليمين واليسار وأعني التّيار السلفي بمختلف طوائفه التي تتوحدّ حول مناهضة الحداثة وتكفير كل من يخالف اتجاهه الفكري بما في ذلك حليفه الدّيني أي إسلاميي النّهضة. يرفض الطيف السّلفي كل تمشّ ديمقراطي ويكفر بكل من لا يوافقه الرأي ويرمي إلى جعل الناس أمة واحدة، مؤمنة، مسلمة. لقد نسي هذا التّيار وخالف أنصاره مشيئة الله التي لم تجعل الناس أمة واحدة "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين"(هود الآيات 118/119). كما شاء الله سبحانه وتعالى أن لا يتوحد البشر وأن لا يجتمعوا حول الإيمان؛ وليس لكائنا من كان، بمن في ذلك الأنبياء والرسل أن يكرهوا الناس أن يكونوا مؤمنين "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين"(يونس الآية 99).
إنّ إكراه الناس على الإيمان في حدّ ذاته كفر بالقضاء والقدر وهو ركن ركين في عقيدة المسلمين. والشّرك أخطر من الكفر، فكل من (يحجر) على مشيئة الله ويتصرف عكسها بفرض الإيمان وسلوكياته على من يرغب عنها. يفعل الله ما يشاء ويريد وهو أعلم بمن آمن وبمن كفر، ومن يفعل ذلك من دونه فقد أشرك بالله وكل ما أمر به الرسل أن يفعلوه أن يبلغوا عن الحق قوله " وَقُلِ الحَقَ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلِيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلِيَكْفُرْ"(الكهف الآية 29)، ذلك لأنّ الله غني عن عباده فلا يضره كفرهم ولا ينفعه إيمانهم "وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌ حَمِيدٌ"(إبراهيم الآية 8).
من الميكرو إلى الماكرو يضيع الوطن(تونس) ويسأم المواطن (التونسي) وتتفتت الوطنية وتغيب المواطنة ما بعد الثورة بين دعاة حكم من أجل دنيا زائلة، ومتمسكين بالحكم محتمين بعقيدة زائفة. لقد تضخّم الصراع الطّلابي وكبر في ظل غياب قيادة عاقلة، متعقلة، تؤمن بأنّ السلطة مغرما والخروج منها مغنما، لا تفرح بما أتاها ولا تأسى على ما فاتها " لِكَيْلَا تَأْسُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا أَتَاكُمْ وَالله لَا يُحِبُ كَلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد الآية 23).
بغض النظر عمّا سيؤول إليه الصراع السياسي في تونس بعد أن تجاوز شكلا ومضمونا مرحلة التّسلي/الشبابي، بالمناكفات الإيديولوجية، فيما يشبه التّطاحن السياسي بين مختلف فصائل الطلاب داخل أسوار الجامعة. لم يكن لذلك الحراك السياسي تداعيات ولا تأثيرات سلبية على الاقتصاد الوطني، ولم يعطّل في وقتها إلا الدّروس في حين كانت مسيرة البلاد، المتعثّرة لأكثر من عقدين، قي منآى من مشاغبات الطلبة للدولة. والأهم من كل ذلك لم يتسبب الصراع الطلابي في سقوط ضحايا ولم تزهق أرواح زكية من أجله.
أما في الفترة الرّاهنة والصراع على أشدّه بين أعداء الأمس واليوم ومصير البلاد ومستقبل العباد وطموحات الشباب بين أيديهم، فإنّ حماسة أولائك الطلبة للتّنظير والتّغيير قد توجهت باتجاه معاكس لأهداف الثورة التي حوّلوها إلى شماعة لمشاريع واهية ورؤى ضبابية، يلصقونها زورا وبهتانا إلى رغبة الشعب... ركود اقتصادي، انفلات أمني، تضخم مالي، عنف تجاوز المدى، قتل، هدم... الخ هي أبرز العلامات المميّزة التي طبعت مارد الصراع في انتقاله من الميكرو إلى الماكرو، تحولت فيه الشورى إلى عصا في عجلة الديمقراطية والتّنمية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: