د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5942
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
خجلت من قلمي حين أكرهته على تدوين أفكاري، وخجل قلمي من خطّ تلك الأفكار على صفحات الزمان الأسود، وخجلت أفكاري من النّظر في واقع زمن التّردي، وخجل الواقع منّا ومن ضعف أوضاعنا وتخلّف عقولنا وضحالة فكرنا وسخف مواقفنا... حوار صامت جمعني بقلمي المتمرّد (لأول مرّة) على الكتابة، لمّا تعسفت عليه وأرغمته على تدوين بعض خواطري في الذّكرى الخامسة والستين للنّكبة.
من المؤكد أن جيلي يفقه الدّلالة متعدّدة الأبعاد لهذا المصطلح الذي ألحق بنا جميعا وحيث كنّا القدر الوفير من الخزي والعار؛ لكن جيل الأبناء (إلا ما قلّ منهم) لا تهمهم تلك الدّلالات في شيء لأنّ مشاغلهم في حدّ ذاتها نكبة. رفض قلمي أن يكتب في البكاء على الأطلال وانساب من لدنه يسطر ما خطر بباله، ليصبّ جام غضبه عليّ أولا وعلى الأمة التي انتسب إليها ثانيا...
النّكبة الحقيقية برأي قلمي ليست تهجير الفلسطينيين من أراضيهم سنة 1948 ولا طردهم من بيوتهم ولا انتزاع ملكياتهم ولا اغتصاب اليهود والصهاينة للأرض والعرض، بل النّكبة في شعوبنا جميعا والنّكبة في حكّامنا والنّكبة في نخبنا... على امتداد ثلثي قرن ونحن نحيي ذكرى هزيمتنا ونقيم التّظاهرات الاحتفالية الحزينة والمهرجانات الخطابية الملتهبة، لتثبيت العار وغرسه في وجدان ناشئة أسقطت (بالتّقادم) القضية الفلسطينية من أولوياتها التي تتصدرها البطالة والفقر وكل أشكال الانحراف. لقد سئمت الأجيال العربية المتعاقبة استهلاك النّكبة إعلاميا وتوظيف الهزيمة سياسيا من طرف رموز تآكلت رمزيتها وفقدت كل مقوّمات شرعية حكمها علاوة على بسط وصايتها على المجتمع والدولة...
النّكبة الفعلية هي خروجنا من التاريخ وغياب فعلنا الحضاري وقبولنا بالتّفاعل، وقد اخترنا (طوعا) القطيعة مع الذّات كما خطّط لذلك سياسيو الخرج بتواطؤ مع سياسيي الدّاخل ممن انتهجوا الكذب والخداع والمكر والتّنكيل بشعوبهم "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"(1)...
النّكبة في جوهرها عدائنا الشّديد للعلم والمعرفة حتى غدونا أمة أكثر من نصفها جاهل يجتر ثقافة بالية لا تستجيب لأمر الله "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"(2)؛ ونصفها الآخر مهاجر إمّا بجسده أو بروحه ليعيش وهم الكرامة بين أحضان ثقافة معادية، تتحيّن الفرص بل تصنعها وتخلق لها الأسباب وتحيك مسبّباتها لتنقّض على القليل المتبقّي من عزّة ونخوة وتذيب النواتات الصلبة الشّاردة في خيالات أنثروبولوجيا محتضرة...
النّكبة في عجزنا عن تأمين دواء مرضانا وغذاء جوعانا والدّفاع عن حدودنا وبناء قوّة تردع الطّامعين في ثرواتنا ونهب مواردنا الطبيعية والبشرية...
النّكبة في حكّام أضاعوا حمرة الخجل على سجّدات حمراء تبسط تحت أقدامهم لتدوس بخطى ثابتة وأحذية ملمّعة على فرش اصطبغت بلون وجوه لم يبق فيها من الحياء شيئا ولا من ماء الوجه قطرة.
النّكبة في اتفاقيات السّلام، سلام الخائفين من ظلّهم فتنازلوا صاغرين عن حق عودة المهجّرين إلى وطنهم وديارهم...
النّكبة في شعوب تضرب كفّا بكفّ وجرّافات الصهاينة تقتلع أشجار الزّيتون في حقول فلسطين وتهدّم البيوت على رؤوس أهلها إن لم يمتثلوا لأمر إخلائها...
النّكبة أن يخرب الحكّام العرب بلدانهم بأيديهم فيستحيوا نساءهم ويقتّلوا أبناءهم ويشرّدوا المقيمين ويروّعوا الآمنين...
النّكبة أن يشرعن علماء الدين الظلم والاستبداد وأمّ النّكبات أن يدعو بعضهم ألّد الأعداء أن يقفوا "وقفة لله" لفكّ اشتباك بين الأخوة الأعداء من أبناء البلد والواحد، في نفس الوقت الذي يخيّم فيه صمت رهيب يلّف شريحة من نعتبرهم (الآباء الرّوحيين للأمة) وكأنّ على رؤوسهم الطير...
النّكبة في كل من ارتضى منصبا ليتمتّع بالرّفاه ويتلذّذ في سادية مقيتة بغباء شعوب ما انفكت تصفّق للصوص المال العام آكلي السّحت وتهتف بحياة جلاّديها.
النّكبة حين ينقض الحاكم عهده ويخون من ائتمنه على ثورة دُفِعَ ثمنها من دماء خيرة الشباب، فيراوغ ويناور ويخادع في كرّ وفرّ ونسي قول الله تعالى: " وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا"(3)...
النّكبة الأعمق والأخطر حين يتأخر الوطن ويغيب الحسّ الوطني عن ذهن الحكّام، اعتلوا السلطة باسم الشعب، فانقلبوا عليه خدمة لفئة بعينها وتحقيقا لإرادة أعداء صدوقين، ونسوا العهد والوعد بتنمية شاملة وعدالة اجتماعية. خدعوا البسطاء واستغفلوا الفقراء والمحتاجين؛ في ذات الوقت نافقوا الأغنياء وتملقوا الميسورين فهم "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"(4)... فكانوا منافقين بامتياز "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ"(5)
النّكبة في انحباس الفكر السياسي العربي وكِبْرِهِ وعناده وادعائه بالمعرفة دون غيره، فكان كمن " يدّعي بالطّب ويموت بالعلّة"(6) وانعدام الرؤى الإستراتيجية...
النّكبة في موت خيالنا وتعطّل أحلامنا التي تؤسس لمستقبلنا، فنحن شعوب تعيش بلا آمال و طموح، فهذا الكيان الصهيوني أقام دويلة وحقّق حلم أجداده...
النّكبة في كثرة الكلام وقلّة الفعل، فما ضرّ لو اتفق مثقفو الأمة على أن يصمتوا سنة واحدة، يهجرون فيها الهراء الفضفاض ويعتزلون فيها الحوارات الجوفاء ويقاطعون المناقشات البيزنطية ويقلعون عن السفسطة، في مقابل الالتزام بتقديم دراسات علمية منفردة أو جماعية (كل في مجال تخصّصه)، تجمّع إثرها البحوث والأطروحات، فتمحّص وتدقّق من أجل تنفيذ استنتاجاتها الممكنة وتطبيق مقترحاتها ضمن خطّط قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى...
النّكبة في اختلافاتنا الدّاخلية وتآمر بعضنا على بعض، فتفكّكت لحمتنا وتشرذمت عقيدتنا فلا الدّين يجمعنا ولا لا إله إلاّ الله توحدّنا... فنصّب هذا نفسه وكيلا على لله يتكلّم باسمه، وعيّن ذاك نفسه حاميا للشريعة وداعيا لتطبيق أحكامها وهو جاهل بمقاصدها وتصدّى آخر للإفتاء دون دراية بأصوله وقواعده...
النّكبة في تواكلنا على الله دون التّوكل عليه فصوّر لنا مخيالنا المريض أنّ الدعاء هو الطريق للنّصر على الأعداء من غير الأخذ بالأسباب وبحث المسبّبات واستقراء النتائج " فعيش بالمنى يا كمّون"(7)...
النّكبة في القضاء على مفاهيم العمل والكدّ والاجتهاد في النّفوس والبحث الرّسمي المحموم على الإعانات والهبات والقروض... فاستبدلنا "الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ"(8)...
النّكبة أن نوكّل بعض أعدائنا محامين للدّفاع عن قضايانا وننصّب بعضهم الآخر قضاة ليردّوا لنا حقوقنا وفيهم الخصم والحكم...
النّكبة في ثقافة تؤمن وتقّر بأنّ المرأة "شرّ لا بد منه"(9) وفي يقيني أنّ الإمام كرّم الله وجهه براء منها، فليس من المنطق في شيء أن يصف رضي الله عنه المرأة بالشّر وهو قرين فاطمة الزّهراء رضي الله عنها وأرضاها، قرّة عين أبيها رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وسليلة خير من سعت به قدم، صاحب الفضل كلّه والخير كلّه، فكيف ينجب الخير شرّا؟...
النّكبة في الهواء الذي نتنفّسه والماء الذي نشربه والخبز الذي نأكله؛ وقبل أن يقولها القارئ، ها أنا أصرّح بها واضحة جلية، النّكبة في هذا المقال وأمثاله وفي جلد الذّات وغياب الرّغبة في التّقدم إلى الأمام.
النّكبة فيّ شخصيا قبل أن تكون في الآخر وهي نكبة هيكلية ووظيفية لا يكفي الإقرار بوجودها للتّخلص منها ولن تجدي الخطب والمهرجانات لتجاوزها، على المغرمين بإقامة الفعاليات أن ينتبهوا إلى أنّهم يعكّرون براءة الأطفال بمرارة ذنوب الأجداد وخيبة الآباء وفشلهم وعجزهم تلك هي النّكبة العميقة متعدّدة الأبعاد التي لا تحّل إلا بالعلم والعمل.
---------------
1) الأنفال الآية 30
2) الأنفال الآية 60
3) فاطر الآية 43
4) النساء الآية 9
5) النساء الآية 142
6) مثل شعبي تونسي
7) مثل شعبي تونسي
8) البقرة الآية 61
9) ورد في نهج البلاغة أنّ المقولة تنسب للإمام علي كرّم الله وجهه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: