د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7199
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مرّة أخرى تؤكد الأيام صحة نظرية التّوازي التّاريخي بين مسار الشعبين التونسي والمصري، التي طرحتها في مقدمة كتابي "رؤى وآراء" الذي سيصدر قريبا عن الدار المتوسطية للنشر بتونس.
اليوم 14 جانفي 2013 يحتفل الشعب التونسي بالذّكرى الثالثة لثورة 14/01/2011، في نفس الوقت انطلق الاستفتاء على الدّستور المصري الجديد، في نسخته المصحّحة شكلا واللاّغية موضوعا لدستور 2012 كما وضعه الإخوان المسلمون. في اعتقادي المتواضع يحمل اختيار مصر ما بعد الإخوان، لهذا التاريخ رسالة مشفّرة للتونسيين، أن يلحقوا بالعملية التّصحيحية التي قام بها الشعب المصري، وسانده فيها جيشه الوطني، كما فعل وشقيقه التونسي في جانفي 2011.
فإن انتصر الجيش المصري لشعبه، فإنّ القوى الوطنية في تونس قد استشعرت أزمة حكم الترويكا وعلى رأسها الإسلاميون، واستشفت مع النّخب، بكل ألوان طيفها السياسي، خطورة الوضع في تونس، فانطلقت متضامنة في حوار وطني أثمر (مبدئيا) على نتائج مشجّعة، ما لم ينقلب الإسلاميون على أعقابهم وينقذوا وعودهم.
في نفس الوقت الذي تشهد فيه شوارع العاصمة تونس وكل الولايات احتفالية الذّكرى الثالثة للثّورة، بحلاوة سقوط حكومة النّهضة عن السّلطة التّنفيذية، وبداية تصويب المسار الثّوري، وقطع الطريق (ولو جزئيا) عن سياسة المغالبة والتّمكين التي شرعت في ممارستها الأحزاب الدّينية في تونس ومصر على السواء؛ في نفس الوقت نشاهد على القنوات الفضائية فرحة غالبية الشعب المصري، ونزوله بالعاصمة وبجميع محافظات البلاد للاستفتاء على دستور لجنة الخمسين والاحتفاء بزوال الرّجعية والتّخلص من رموزها.
لقد أصبح يقيني راسخ فيما أطلقت عليه "نظرية التّوازي التّاريخي" التي تربط بين تونس ومصر، لشعبينا روحا واحدة بين جسدين. ستشكل هذه الروح حجر الزّاوية لوحدة عربية، وضعت الثّورة التونسية (14جانفي 2011) لبنتها الأولى وستكمل الثورة المصرية في نسختها الأصلية (25 جانفي 2011) ونسختها المنقّحة (30جوان 2013) بناءها بالاشتراك مع كل الشعوب العربية التّواقة لوحدة طال انتظارها.
لعل المتأمل في مجريات تاريخ البلدين يلاحظ التوازي ويقف بما لا يدع مجالا للشّك على وجود علاقة جدلية وربما عضوية بين الشعبين، هذا ما أشرت إليه وأيّدته بالحجّة ودعمّته بالبرهان في هذه الأسطر من مقدمة الكتاب المشار إليه أعلاه:
" جمعت سيرورة التّاريخ البلدين (تونس ومصر) في مجمل التّغيّرات الجسيمة في ذات التوقيت تقريبا وبنفس الخطورة. توازي الأحداث يدعو الباحثين والمحلّلين من عرب وأعاجم إلى دراستها وتحليلها، للكشف عن نقاط التّشابه والاختلاف بينها، وتحديد آلياتها وشرح طريقة فعلها و ضبط الفاعلين المأثّرين فيها.
لقد ارتبط تاريخ الشّعبين التّونسي والمصري منذ أن طرد الخليفة الفاطمي الرّابع "المعز لدين الله" (932م/975م) العبّاسيين من مصر سنة 969م على يد قائد جيشه "جوهر الصّقلي" الذي بنى القاهرة المعزّية، نسبة إلى "المعز لدين الله" التي دخلها الخليفة سنة 972م واتخذ منها عاصمة حكمه، بدلا عن مسقط رأسه "المهدية"، عاصمة الفاطميين في إفريقية (الجمهورية التونسية اليوم).
منذ تلك الفترة والبلدان يسيران على خطين متوازيين فيما يشبه المسار (المشترك) يمكن تلخص أبرز محطاته فيما يلي:
1. بناء جامع الأزهر الشريف على يد "جوهر الصّقلي سنة 970م، فكان على غرار جامع الزّيتونة المعمور بتونس العاصمة (699م)، ثاني جامع بني في إفرقية المسلمة بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان (671م) عاصمة الدّولة الأغلبية.
2. التّبادل العلمي بين البلدين في العصور القديمة. لقد التحق بعض علماء تونس المتخرّجين من جامع الزّيتونة للتّدريس بجامع الأزهر، نذكر على سبيل المثل: "عبد الرحمان بن خلدون" الذي وصل الإسكندرية سنة (1382م)، ومنها انتقل إلى القاهرة واستوطن بها وتصدّر لتدريس الحديث والفقه المالكي وشرح نظرياته في العِمران والعصبية بالجامع الأزهر أولا وبالمدرسة القمحية بالقاهرة ثانيا. ثمّ عيّنه السّلطان "الظّاهر برقوق" في وظيفة قاضي قضاة المالكية في مصر. كما نذكر العلاّمة "محمد خضر الحسين" الذي شغل خطة الإمام الأعظم بالأزهر الشريف سنة (1952م) بعد أن كان عضوا في هيئة كبار العلماء سنة (1950م).
3. كما كان التوازي بارزا في بدايات عصر النّهضة والدّعوة إلى الإصلاح. من أبرز الأسماء المصرية نذكر: رفاعة الطهطاوي (1801م/1873م) والشيخ محمد عبده (1849م/1905م). كان لهذه القامات العلمية والإصلاحية نظراء من أهل تونس من أبرزهم: الشيخ العلاّمة "محمد الطّاهر بن عاشور" (1879م/1972م) وابنه الشيخ العلامة "الفاضل بن عاشور" (1909م/1970م)، الشيخ "محمد الشاذلي النّيفر" (1911م/1997م)، ووالده العلاّمة الجليل "محمد الصادق النّيفر". كما كان التّوازي في مجال الأدب والفنون، فظهر عمالقة الشّعر مثل "أحمد شوقي" في مصر و"أبو القاسم الشّابي" في تونس، وغيرهما العديد.
4. إسقاط الملكية في كلا البلدين بطريقة (محترمة) و(حضارية) وإقامة نظامين جمهوريين مختلفين في المنهج ومتقاربين في الأهداف.
5. في منتصف القرن العشرين، نلحظ التّوازي التّاريخي مرّة أخرى في عصر الزّعمات العربية، فظهر الزّعيم المرحوم "الحبيب بورقيبة" (1903م/2000م) مؤسس المنهج البورقيبي، وفي مصر برز الرّاحل "جمال عبد النّاصر" (1918م/1970م) مؤسس التّيار النّاصري. مدرستان سياسيتان متناقضتان إيديولوجيا، الأول ليبرالي والثانية اشتراكية، إلا أنّهما اتفقتا إجرائيا على رفض الديمقراطية ونبذ التّعددية وقمع الحرية.
6. كذلك في عصر الفساد والافساد كان التّوازي واضحا إلى حدّ التّوافق الغريب. في مصر ظهر الفساد السياسي والمالي في عهد الرئيس "محمد حسني مبارك "المولود سنة (1928م) واستفحل في نهاية عهده. خلعت ثورة 25 جانفي الرئيس المصري الأسبق في 11/2/2011. أمّا في تونس فقد أسقطت ثورة 14 جانفي 2011 الرئيس "زين العابدين بن علي" (1936م). لم يفصل بين إسقاط هذا وخلع ذاك سوى 27 يوما. انهت الثّورتان فترة فساد واستبداد دامت ثلاثة عقود كاملة، بلغت ذروتها في أواخر مدّة حكم الرجلين. تمّت محاكمة الرئيس التونسي غيابيا بعد أن فرّ خارج البلاد، ليستقر به المطاف بالمملكة العربية السعودية، في نفس الوقت يقبع الرئيس "مبارك" بأحد سجون مصر ينتظر أحكاما ستصدر في شأنه.
7. يعاني الشّعبان التونسي والمصري من تخلّف اجتماعي وتبعية اقتصادية وتنمية متعثّرة من السّنوات الأولى للاستقلال إلى اليوم.
8. اختطاف وانحراف الثورتان الشبابيتان، السلميتان في نفس الظروف السياسية على يد الإسلاميين (الإخوان) في مصر، والنّهضة في تونس، للإطاحة بدولة مدنية منهكة، وتحقيق دولة الخلافة منتظرة، بأموال عربية ومباركة أمريكية، والبلدان في حالة فراغ دستوري وقانوني، سمحت للانتهازيين بالتّطاول على دولتين مفكّكتين.
9. يشهد البلدان معاداة الإسلاميين لكل القوى الحيّة، كما قاوما محاولات التّركيع الجماعي وضرب المؤسسات الأكاديمية والجامعة وترويض المؤسسات الإعلامية، واخضاع المؤسسات القضائية، في عناد مميت لللسيطرة على الدّولة العميقة ووقف المدّ الثّوري.
10. إثارة المشاغب الدّاخلية والسّكوت على الفوضى العارمة التي تلحظها العين المجردة، لتهميش الرأي العام وإزاحته عن مشاغله اليومية، مثل التّضخم المالي وغلاء معيشة والبطالة والفقر الذي بلغ بنسبا قياسية لم يعرفها الشّعبان من قبل.
11. استنساخ الحكومات الإسلامية كلّ الأساليب العنيفة والقمعية التي أطاح بها الشّعبان وبزبانيتها. لقد تجاوزت الحكومات الجديدة كل الخطوط الحمراء، لتصل مرحلة الإرهاب الممنهج والاغتيالات السياسية التي ذهب ضحيتها نشطاء سياسيين هنا في تونس وهناك في مصر.
12. اتخاب حكومات انتقالية أعادت إنتاج مزدوج لمنظومة الفساد السّابقة من ناحية وعجز تام في إقامة تنمية تنجز أهداف الثّورة من ناحية أخرى.
13. تحالف الإسلام السياسي الحاكم مع الشّيطان الأكبر ظهير الإرهاب الدّولي، في سبيل تمكين أهل الولاء وخلاّن الوفاء من أركان الدّولة العميقة.
14. محاولة القضاء على العمق الوطني في وجدان الشّعبين، تنفيذا لمخطّطات التّنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
15. انحباس الفكر السياسي لدى الحكّام الجدد في تونس ومصر، أدّى بهم إلى الخلط المنهجي بين الديمقراطية والشّورى، فوقعوا في (شومقراطية)، زعزعت مصداقيتهم وشكّكت في قدراتهم القيادية وأفسدت علاقتهم بالقواعد الشّعبية بعد أن كشفت عن خلفية فكرهم الفاشي.
هذه نبذة موجزة تؤكد نظرية التّوازي التّاريخي بين البلدين، عبر مختلف مراحل التّاربخ القديم والوسيط والحديث للشّعبين التّونسي والمصري. هل يشكّل تقارب المسار الثوري وتشابه الأحداث المتتالية في كلا البلدين، مقدمات لحلم الوحدة العربية كما تصوّره الآباء المصلحون ليحقّقه الأحفاد الثّائرون؟".
هكذا كانت تسير الأحداث متوازية، متناغمة في السّراء والضّراء، ولا تزال إلى ساعة كتابة هذا المقال، ونترك للقراء حرية الحكم على نظرية التّوازي التّاريخي هذه، كما قدمناها وشرحنا تطوراتها عبر الزمان.
لا يعني هذا التوازي خلو تاريخ الشعبين من فترات تنافر و/أو توتر. ففي ستينات القرن العشرين، اختلف القائدين، الراحلين الحبيب بورقيبة وجمال عبد النّاصر حمهما الله حول التّعامل مع القضية الفلسطينية. كان الخلاف منهجيا، حيث كان الأول يؤمن بسياسة المراحل، ورضي بالتّقسيم الدّولي؛ في الوقت الذي كان ينادي فيه الثاني بمبدأ ما أخذ يالقوّة لا يسترد إلا بالقوّة. أسال الخلاف حبرا كثيرا، ونهش الإعلاميون في كلا البلدين لحم الزعيمين والشعبين، إلى أن هدأت تلك العاصفة الهوجاء، وتخلّى الطرفان عن الهراء.
وبغضّ النّظر عمّن كان منهجه مصيبا، ومن كانت سياسته "مصيبة"، فإنّ القضية الفلسطينية أخذت في التّلاشي من داخلها، وكأنها قدّت من نسيج (قابل للتّحلل الذّاتي biodégradable)، سعى الإخوان المسلمون منذ توليهم السلطة في مصر، وباتفاق ضمني مع الغرب الصهيوني للقضاء على القضية الأولى للأمة بشكل نهائي، مقابل دعم سلطانهم وحماية حكمهم.
لقد نجح الإسلاميون في أول اختبار لهم بعد عدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في عملية (عمود السحاب ديسمبر 2012)، فكتبت قائلا من قبل أن تتعّرى حقيقة الإخوان: " منذ اندلاع الثورات العربية وإسرائيل تبحث عن وسيلة تكشف بواسطتها عن حقيقة الحراك العربي ومدى ارتباطه بوجودها واستمراريتها في ديار الإسلام. قد يبدو رأيي هذا ضربا من ضروب الخيال. نعم قد يكون الأمر كذلك إذا علمنا أن إسرائيل لم تنشأ إلا بفضل خيال آبائها وحلم أجدادها المؤسيين... تضع إسرائيل مصر، شعبا وحكومة ورئاسة على محكّ التاريخ...
لم تنتظر الحكومة الإسرائيلية طويلا لتتلقى الإجابة عن أسئلتها، فهذا الرئيس المصري "محمد مرسي" يخرج على التلفزة المصرية صباح اليوم الثاني لمذبحة غزّة، بعد اجتماعه بأفراد من حكومته، معلنا على الملء استنكاره الشديد للعدوان، مضيفا أنه قد أبلغ الرئيس الأمريكي استياءه من تصرفات إسرائيل العدوانية. رئيس منتحب يهاتف رئيسا منتخبا، ليؤكد له من حيث لا يشعر ولإسرائيل وللعالم بأسره والدّمع في عينيه، أنّ دار لقمان على حالها ولا داعي لكل هذا القتل حتى تطمئن إسرائيل على مصيرها في المنطقة؟ أ لم تكن رسالة الحب والوفاء مطمئنة بالقدر الكافي؟...
إنّنا نسير بخطى ثابتة نحو تنفيذ قرار التّقسيم الجديد، تقسيم مصر بالتّفويت في سيناء إلى منظمة حماس، احتراما لرغبة أعزّائنا الإسرائيليين في التّخلص من فلسطيني القطاع وحشرهم في جزء من سيناء، حتى يسلم الأمن القومي الإسرائيلي الذي في سلامته سلامة دولتنا...
استعجلت إسرائيل اختبار صدقية الإسلاميين في الوفاء بعهود قدّموها للإدارة الأمريكية التي وافقت على اقتراح الكيان الصهيوني بالسماح لهم بتسلّم السلطة في بلدان الثورات العربية. لقد فاجئ "الهجوم غير المقبول على غزّة" ( العبارة للرئيس المصري في 15/11/2012) شبيهاتها في تونس والمغرب وليبيا التي اكتفت بترديد نفس نصوص التّنديد كما كانت الأنظمة الفاسدة والمنبطحة تعلنها في وسائل إعلامها المأجورة..."(1).
احتفال هنا وفرحة هناك رغم الشوائب التي سيجرفها نهر الأيام ولن تبقى إلا الشعوب تحمل في ذاكرتها محاسن هذا ومساوي ذاك، تذكر بعض موتاها بالخير وتلعن البعض الآخر إلى يوم القيامة. لقاء يجمع الأرواح مهما نأت المسافات وتتآلف فيه الأفكار وتتوحد الرؤى حول مستقبل أفضل، بعد أن خاب أمل الأمة في من ادعوا انقاضها، فألقوا بها في آتون حروب أهلية، وصراعات مذهبية على خلفيات إيديولوجية متصلبة، لم تختلف إلى اليوم عن بداياتها في القرن الثاني هجري.
لم تفلح النّخب العربية على امتداد الأزمنة إلا في إعادة إنتاج التخلف والصراعات التي أخرجتنا من سياق التاريخ البشري، وأقصتنا من الحضارة الإنسانية، فغدونا لقمة سائغة، لفظتها أفواه الأعداء قبل أفواهنا. فلولا قطرات النفط والغازات السّامة التي تخبئها أيام بيض لأيام سود، لهلكنا ماديا، وقد أوشكنا على الهلاك المعنوي.
--------------
1) صالح المازقي: الإسلاميون على المحّك، من كتاب تأملات في السياسة والاجتماع، عامان في ظل الثورة التونسية. عن دار المجال للنّشر تونس 2013. المقال منشور على موقع بوابتي الإلكتروني بتاريخ: 16/11/2012
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: