د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5631
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بات من الواضح أنّ الشّعب المصري الشّقيق قد اختار رئيسه... بل اختار قائده... أقول هذا الكلام بعد طول مراقبة المشهد السّياسي في مصر، بكل تقلّباته التي قد يرى فيها البعض مؤشرات انحدار، و/أو تراجع هذه الدّولة العظيمة، و/أو تخلّفها عن ركب الحضارة التي لو لم تكن مصر لمَا كانت هناك حضارة.
لست مبالغا في توصيفي هذا، وأنا التّونسي الأصيل، العربي القّح والمسلم الصّادق. ويبقى السؤال الذي ما انفك يطرح نفسه على الجميع داخل مصر وخارجها، لماذا اختارت غالبية المصريين المشير عبد الفتاح السّيسي دون غيره؟ حقّا لماذا هذا الاختيار والرجل جندي حتى النّخاع؟ هل من مجيب؟.
لم أجد جوابا مقنعا من قبل كلّ الذين حاولوا شرح هذا الاختيار، سواء كانوا من مثقّفين العالم العربي، أو من العسكريين، أو من السّياسيين. فلكلّ قراءته وإجابته، حينا تأتي القراءات متباينة وأحيانا أخرى تكون متقاربة، لكن ما لفت انتباهي أنّ كلّ الآراء لم تتوفق في تقديم قراءة موضوعية.
سأحاول من خلال هذه السّطور القليلة طرح رأي مغاير، يقوم على تحليل سوسيو-تاريخي لفترة ما بعد جوان 2013 وبداية جويلية من نفس السّنة. يعلم الجميع أنّ هذا التّاريخ شهد سقوط حكم الإخوان بعد مضي سنة كاملة، تولوا فيها السّلطة في مصر بعد فوز مرشّحهم الدكتور محمد مرسي في انتخابات الرئاسة على الفريق أحمد شفيق.
استبشر العديد من العرب على اختلاف مشاربهم السّياسية بهذا الفوز، واعتقد المستبشرون أنّ الرّوح قد عادت لجسد أمّة طال موتها السّريري، وأصبح شعار (الإسلام هو الحلّ) قاب قوسين أو أدنى من التّفعيل. هنا طغت الذّاتية على الموضوعية، فغفل أو تغافل هؤلاء عن الدّور الذي لعبه أعداء الأمّة في وصول الإخوان إلى سدّة الحكم.
دون العودة إلى كلّ الملابسات التّاريخية التي أتت بتنظيم الإخوان إلى الحكم (وقد شرحناه في مقالات عديدة قبل أن تتعرّى الحقائق ويفضحها الإعلام العربي والدّولي). سقطت (دولة الإخوان) بإرادة شعبية، رغم مناورة الأمريكان وتهديداتهم المتنّوعة.
في هذه اللّحظة الفارقة من تاريخ مصر خصوصا والأمّة العربية عموما، استجاب الجيش المصري، وتحرّك لنصرة العرب جميعا، ليزيح من على عرش مصر تيّارا دينيا بالأساس، ويحدّ من انتشارهم في العالم العربي. توقف التّمدّد المتأسلم في الدّولة بعد محاولات الفرعنة التي بادر بها الحكّام الجدد إثر انتخابهم مباشرة، والتّمرد على الأعراف السّياسية والأخلاق الإسلامية. كنت قد طالبت قبل سقوط الإخوان بنصف سنة تقريبا، وبكل وضوح وصراحة بضرورة تدّخل الجيش المصري والانقلاب على الحكم الإخواني، فكتبت قائلا: " الآن والحال على ما هي عليه من سوء وصراع سيأتي على الأخضر واليابس، ماذا يجب فعله للخروج من المأزق؟ لن أقول تحاوروا ولن أقول كوّنوا لجان للحكماء. في هذا السياق يقول مثل فرنسي ما معناه: " إذا أردت أن تغرق السمكة، كوّن لجنة"؛ ولكنني أقول بكل صراحة وجرأة: لم يبق أمام مصر مجال للتّفكير ولا للحوار وليس أمام الجيش المصري إلاّ أن يستعيد تاريخ أمجاده، ويتصرف تصرف الضباط الأحرار الذين أنقذوا البلاد من الفساد وخلعوا الملك "فاروق" وانطلقوا في الإصلاح والتّنمية، فأثبتوا وجودهم وأعادوا لمصر هيبتها ومكانتها ودورها العروبي بين الدول. لم ينقذ انقلابهم على بطانة الفساد مصر وحدها، بل أنقذوا الأمة العربية بأسرها..(1).
يبدو أنّ القيادة العامة للجيش المصري أدركت خطورة انقلاب الإخوان على الدّولة واستخفافها بالوطن من ناحية، واستغفالهم للجماهير، وتلاعبهم بالمفاهيم السّياسية التي لم يتورعوا في الخلط بينها، ولم يراعوا ثقة ناخبيهم الذين أخرجوهم من صناديق كانت بالأمس القريب محرّمة عليهم من ناحية أخرى.
تسلّق المتأسلمون الديمقراطية، وهي عندهم آلية الكفرة والفجرة، وبمجرّد تسلّمهم دفّة الحكم داسوا عليها بالأقدام، وعمدوا إلى تأصيل مفهوم الديمقراطية في الكتاب والسّنة بجعله موازيا لمفهوم الشّورى، لتبرير وتمرير قراراتهم المستبدّة التي أعدّت في ظلمة اللّيل الدّامس وخلف جدر محصّنة.
ونظرا لانعدام خبرتهم العملية في الحقل السّياسين، وضيق قدرتهم على المناورة، وقعوا في خلط المفاهيم نتيجة " انحباس الفكر السياسي لدى الحكّام الجدد في تونس ومصر، أدّى بهم إلى الخلط المنهجي بين الديمقراطية والشّورى، فوقعوا في (شومقراطية)، زعزعت مصداقيتهم وشكّكت في قدراتهم القيادية وأفسدت علاقتهم بالقواعد الشّعبية بعد أن كشفت عن خلفية فكرهم الفاشي(2)، فكان من المنطقي أن تثور عليهم الأغلابية الشّعبية وكان من الطّبيعي أن يساندها الجيش.
وفّرت القراءة التّاريخية (الموجزة) للأحداث نصف الإجابة الموضوعية لتمسّك الجماهير المصرية بالمشير السّيسي. أمّا النّصف الثاني فيكمن بين طيّات علم الاجتماع، وبالتّحديد نظرية الفعل الاجتماعي والتّفاعلية الرّمزية. من المعروف بالبداهة أنّه لا معنى للحياة بدون الفعل، وأنّ لا معنى للفعل خارج منظومة الحياة، تلك العلاقة الجدلية وهي في نفس الوقت عضوية بين الحياة والفعل أوضحها الشّاعر العربي في قوله:
" هــو الكــونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاة ويحــتقر المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ"(3)
هذا ما حدث بكلّ دقّة في مصر حين خرج الشّعب على الرئيس محمد حسني مبارك وأجبره على التّنحي في فيفري 2011، كما سبق وحدث في تونس في 14 جانفي 2011، وثار الشّعب على رأس الدّولة زين العابدين بن علي.
لقد غيّرت الشّعوب تاريخها بعد أن يئست من المثقّف ومن السّياسي ومن كلّ الذين خذلوهم طيلة ستين عام. ولمّا تحركت هذه الشّعوب (الميؤوس منه)، أنجزت ما نسميه في علم الاجتماع فعلا تاريخيا بكلّ المقاييس العلمية حتى أصيب المثّقف بالذّهول, وسقط السّياسي مغشيا عليه، بعد أن تعرّت سوءات الجميع في خطابات تكّلست وتنمية فشلت، ومزاعم سقطت.
لقد تجاوز الإنسان العربي العادي كلّ أولائك الذين حقّروه واستغفلوه وبالمحصّلة استعبدوه، فغيّر الله ما بهذه الأقوام بعد أن غيّروا ما بأنفسهم. لكن المنتفضون أو الثّائرون وقعوا في الغفلة وتخّلوا عن قاعدة الفعل، وعادوا إلى تواكلهم على الدّولة (كما عادت حليمة لعادتها القديمة). لقد أتاح هؤلاء للمتربّصين والمنافقين والمرجفين في المدينة، قفز على ثورة لم تستوفي شروط نجاحه، فاستخفوا أهل الوفاء وخلان الولاء فأطاعوهم... ولم تمضي سنة حتى اكتشف الغافلون خطأهم من حيث تخلّيهم عن الفاعل التّاريخي... فأعادوا الكرّة لتصويب الانحراف، فالتقى فعلهم هذه المرّة بفعل متأهب، لا يخشى في الحقّ لومة لائم، ولا يثنيه الردى عن الفداء.
التقى البفعل بالفعل، فعل ثوري عفوي وفعل إستراتيجي دقيق، فتمّ تجسير الوعي باللاّوعي الثّوريين، وهو ما افتقدته الشّعوب العربية الثّائرة. هنا عثر المصريون باعتبارهم فاعلين على ضالتهم المنشودة... الفاعل/المفقود المنشود، فقفزت من لاوعيهم إلى وعيهم صورة الزّعيم/الفاعل، الرّاحل جمال عبد النّاصر وغيره من زعماء مصر التّاريخيين.
لم يكن المشير قائد ثورة بقدر ما كان ظابطا وطنيا، أي أنّ الجنرال السّيسي لم يتعد دوره في القوّات المسلّحة (مهما ارتفعت رتبته العسكرية) وبقي ملتزما بدور عون تنفيذ، يسمع ويطيع وينفّذ. وكان من الممكن أن يواصل لعب هذا الدور وهو في مكانة وزير الّفاع والقائد العام للجيش المصري في دولة الإخوان دون أن يحرّك ساكنا؛ لكن بحصافته انتبه إلى افتقار مصر لفاعل، ينال ثقة الجماهير فتسير خلفه وتنفّذ أوامره.
اختبر القائد الجديد مكانته بين النّاس وطلب منهم بكل لطف وذكاء النّزول إلى الشوارع لانجاز خطّة التّغيير، وعكس الأدوار في مرحلة الاختبار، وطلب من الشّعب الأمر والتّفويض بالتّحرك حتى لا يتجاوز دور (عون التّنفيذ) المنوط بعهدته من ناحية، وينفي صفة الانقلاب العسكري على السلطة الحاكمة لو أنّه تصرّف بمفرده. بهكذا تكتيكا، انتقل الرجل من التّنفيذ إلى الفعل العقلاني ونآى بنفسه عن الإنفاعلية البافلوفية، والإرتجالية المرتبكة/المربكة.
جاء الفعل النّظامي متماهيا مع الفعل الثوري، يوازيه في الاتجاه وأشّد منه في القّوة، ليعيد ترتيب حقل الرّمزية ويعدّل ما أصابه من اخلالات عميقة، شوّهت على امتداد سنة واحدة الثّقة بين الدّولة والشّعب، ووسّعت الهوّة بين الحاكم والمحكوم. بتوحّد الرموز تبلور الهدف واتضحت الطريق، فحصل أسموز بين الفَاعِلَيْنِ (الشّعب والمشير)، فالتحم الثّاني بالأول لتتأسّس بنية عضوية صماء، تعي مكانتها وتدرك دورها، وتتقاسم الصعاب والمخاطر، فأصبح على رأي التّوانسة "حمل الجماعة ريش" وبكذا اتحاد يتمسّك غالية المصريين بالفريق أول، وقد منحوه رتبة مشير لانتصاره على الغباء والعناد في الدّاخل، وإلحاقه الهزيمة بالمؤامرة الخارجية.
المعارضون لترشيح المشير السّيسي لمنصب رئيس الدّولة، سيمنحوه فرصة تاريخية ليمارس الديمقراطية في حالة انتخابه. مرّة أخرى يلتقي المشير بالشّعب الذي سيأتي به ديمقراطيا، وما على المنتخَب إلا دعم التّوجه الديمقراطي بتقوية المعارضة، وتشريكها في الحكم وتحميلها مسؤولوياتها التّاريخية، وكسر عقلية المظلومية والتّباكي على الحكم التي يتعلّل بها الخصوم والمعارضون. وقبل تشريك المعارضة الحزبية والسّياسية، يتحتّم على االمشير أن يحتضن الشّعب ولا يقصيه من تقرير مصيره عبر لعبة البرنامج الانتخابي المعلّب. وعليه أن لا ينسى أنّه استجاب لنداء الواجب، فلبّى الدّعاء مقدّما الوطن على الذّات.
كذلك على المشير أن يتخلص من النّمطية الكلاسيكية القائمة على وعود انتخابية (طوباوية)، ويصارح الشّعب بأنّه لا يمتلك برنامجا انتخابيا، وأنّه يخوض حربا عالمية تمثل مصر محورها... وما على المصريين سوى وضع برنامج يرتضونه، ويسهرون على تحقيقه، ويعملون على انجاحه، ولا يعرقلون مراحل انجازه، تحرّكهم روح الكتيبة تحت راية قيادة مشتركة.
لكنّني استشعر تبرّص الأنثروبولوجية بالسّياسة والاجتماع، أو بالشّعب والمشير على السواء. ما يدفعني إلى هذا القول هي تركيبتنا العاطفية التي حجبت ولا تزال عنّا جميعا وحيثما كنّا التّعامل العقلاني مع الأحداث. قد تفسد هذه الخاصية المميّزة لشخصيتنا القاعدية العربية، العلاقة الموضوعية الناشئة بين فاعلين تاريخيين، وتحوّلها إلى علاقة قدسية في تصوّرات اجتماعية إذا أحبّت أفرطت وإذا كرهت غالت. أمّا إذا تماهى الشّعب مع المشير في ملاعبة الأعداء، فإنّ كلّ الأمواج العاتية ستتحطم على صخرة التّكامل في الاختلاف، ولعلّ أولها موجة الغرور والكبر.
---------
1) د/ صالح المازقي، مقال بعنوان "سقوط مصر... نهاية الأمّة" موقع بوابتي الإلكتروني بتاريخ 2/2/2013. المقال وغيره سينشر قريبا في كتاب يحمل اسم "رؤى وآراء" عن الدّار المتوسطية للنّشر.
2) د/ صالح المازقي، من مقدمة كتاب "رؤى آراء". الكتاب تحت الطّبع الآن.
3) أبو القاسم الشّابي، ديوان أغاني الحياة، من قصيدة "إرادة الحياة"
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: