د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6088
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في حياة الشعوب أيام لا تنسى، هذا ما تعلمناه منذ الصّغر ونحن تلاميذ في الإبتدائي، وأكّد عليها أساتذتنا الأجلاّء في الثانوي والعالي إلى أن أدركنا معنى هذا الكلام الذي كان يبدو لي شخصيا على قدر من الحكمة التي تتخطى إدراكي. من الأيام التي عشتها وأنا على أولى عتبات من الشيخوخة، اليوم الرابع والعشرين من شهر جويلية 2013. كنت في هذا اليوم طريح الفراش وعينايا مثبتتان على شاشة التلفاز أتابع مجريات الأحداث في مصر وأتساءل عن كيفية انتهاء الانقسام لا أقول السياسي ولا الشعبي بل هو انفصال فصيل سياسي عن شعب تعداده واحد وتسعين مليون نسمة بعد أن فشل وعجز في إدارة الشأن العام المصري خلال سنة أو سنتين من الحكم. فوجئت بالفريق الأول عبد الفتاح السيسي يلقي كلمة باللّهجة المصرية في حفل تخّرج دفعة من طلبة الكلية الحربية وكلية الدّفاع الجوّي. وقبل أن أتعّرض لهذه الكلمة التي أجابت عن حيرتي فيما أعلنه نائب رئيس الوزراء ووزير الدّفاع المصري في ثبات وثقة لا متناهية.
أظّن أنّ القارئ قد تبيّن من أعنيهم بالفصيل المنفصل... نعم وبكل تأكيد كنت أقصد الإخوان المسلمين الذين وصلوا لسدّة الحكم بعد انتخابات عامة وصفت بالنّزاهة والشّفافية، والواقع أنّها اتسّمت ومنذ اللّحظة الأولى بالغّش والتّزوير والرّشوة السياسية التي مارسها الإخوان على النّاخبين من البسطاء الذين دفعتهم ثقتهم المفرطة في من أوهمومهم بأنّهم أحباب الله وحماة الإسلام وقد رفعوا شعار "الإسلام هو الحلّ"، ولم ينتبه القوم (إلاّ المستنيرين منهم) إلى الخدعة الإخوانية التي استبطنت حبّ الدنيا والجشع وأعلنت الورع والتّقوى. وتجدر الملاحظة هنا بأنّ الرّسمة المصرية هي التي عشناها نحن في تونس مع الكذبة الكبرى التي تخفّى ورائها حزب النّهضة الذي هو جزء لا يتجزأ من الأممية الإخوان المسلمين وأحد أذرعتها في المغرب العربي.
لن أعود إلى تفاصيل خيبة الإخوان في كل ممارساتهم السياسية والاقتصادية والثقافية التي تابعتها ورصدتها وكتبت عنها في مناسبات عديدة، وقد حذّرت من التوّجه السياسي الخطير الذي كان سيقود مصر ومن ورائها الأمة العربية الإسلامية إلى كارثة حضارية لا مناص منها لو استمر حكم الجماعة. جاءت لحظة الخلاص يوم 30 جوان 2013 حين نزل الشعب المصري تلقائيا للساحات والشّوارع في حشود تجاوزت الثلاثين مليون نسمة لينهي حكم الإخوان ويضع حدّا لصلفهم وعنادهم وتغوّلهم وإلقائهم بالمصريين والعرب من ورائهم بين أحضان الأمريكان الذين وجدوا فيهم منسوبا عاليا من الأنانية التي جعلت على عيونهم غشاوة سميكة وحجّرت قلوبهم على مصالح الشعب والأمة.
ارتبطت مصالح الغرب بغباء الحكّام العرب حيث ما كانوا، فأمدّوهم بالمال والخبرة المغشوشة لتساعدهم على تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أنفقوا عليه ما أنفقوا، وراهنوا على الإخوان في تحقيقه مقابل صعودهم للسلطة وتأمين بقائهم فيها إلى أن يتمّ لهؤلاء تقسيم بل تخريب العالم العربي وللأولائك دوام الحكم إلى حين انتهاء دورهم فيسحلهم الأمريكان ويلقون بهم في غيابات التاريخ وعلى جباهم وصمات العار والخزي والخيانة كما فعلوا بأسلافهم من قبلهم.
أبرز أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد كما خطّط له علماء الاستشراف الأمريكان ما كان صرّح به وزير دفاعهم الأسبق "دونالد رامسفيلد" وهو إعادة العرب والمسلمين إلى العصر الحجري. من الغريب أنّ هذا المخطّط يتناسب مع الفكر الإخواني المحنّط الذي لا يمكنه الاستمرار إلا في مناخ اجتماعي يعمّه الجهل والتّخلف والتّبعية. لقد شرع الإخوان في تطبيق ما اتفق عليه بالأحرف الأولى مع الأمريكان وهو اتفاق يشتمل برأيي على بندين رئيسيين، أولهما الأمن الاستراتيجي الإإسرائيلي في المنطقة، وثانيهما تأمين النفط العربي وتمكين الأمريكان من الثّروات المنجمية العربية وفي طليعتها مناجم الذّهب.
ما لم ينتبه عليه الأمريكان أنّ الأمة العربية والإسلامية قد خرجت من الأجداث وفتّحت عيونها على ضرورة القطع مع كل أشكال التّخلف والتّبعية وتفعيل ثوراتهم في معيشهم باسترجاع سيادتهم على أوطانهم وثرواتهم. خصّصت لهذا الموضوع كتابا بأكمله عنونته: نظرية التّبعية بين القرآن الكريم وعلم الاجتماع، صدر عن الدار المتوسطية للنشر بتونس سنة 2012، وقد طالبت التّيارات الإسلاموية الحاكمة أن تكون لهم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، وبيّنت لهم بالحجّة العلمية أنّ الرسول الكريم كان أول من ضاق ذرعا بالتّبعية وكان عليه الصلاة والسّلام يقلّب وجهه في السماء بحثا عن حلّ جذري وعملي يخلصه من استقبال المسجد الأقصى، قبلة اليهود في صلاتهم ولسان حاله يقول: "يارب كيف لي أن أسّس دولة وأبني شخصية إسلامية جماعية تكون قادرة على الانتشار واتمام مكارم الأخلاق وتغيّير التّاريخ الإنساني نحو الأفضل وأنا أتبّع قبلة قوم ناصبوا دعوتي العداء؟"
هذا هو محمد بن عبد الله الرسول الذي استحى من ربّه فلم يجاهر بما تكّنه نفسه من ضيق وتذّمر من تبعية اليهود، كان صلّى الله عليه الصلاة والسّلام، نبيّا صابرا، محتسبا وفي نفس الوقت رجل دولة وسياسي حصيف إلى أن أتاه أمر الله في غاية اللّطف " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحق من ربّهم وما الله بغافل عما يعملون" (البقرة الآية 144)... لكن ليس لجماعة الإخوان في رسول الله الأسوة الحسنة، بل تصّرفوا بعكس رغبة الرسول الأكرم، فانبطحوا وتنازلوا لأعداء الأمة حتى أصبحت إسرائيل آمنة طيلة سنة حكمهم على حدودها وآمن المستوطنون على حياتهم ولم تسقط عليهم قذيفة "آر بي جي" واحدة ولا صاروخ ولا حتى طلقة من بندقية صيد...
في ذات الوقت عملت قيادات الإخوان على خلق الأزمات المعيشية في الدّاخل كأزمة المحروقات ورغيف الخبز وقطع التّيار الكهربائي على السكّان والمحلاّت والمصانع، وكان الجميع داخل مصر وخارجها يتساءلون عن سبب تردّي الأوضاع العامة في مصر إلى أن بلغت درجة رهيبة من شضف العيش. ليس من العبقرية في شيء إذا قلنا أنّه بإمكان علم الاجتماع أن يقدّم الجواب الموضوعي عن هذا التساؤل استنادا على مفهوم المزيّة.
لعب هذا المفهوم دورا خطيرا في تكميم أفواه الشعوب العربية وإذلالها وتركيعها منذ الأيام الأولى للاستقلال من ناحية ومن ناحية أخرى أعطى مفهوم المزيّة شرعية لا محدودة للرعيل الأول من حكّام استلموا بلدانا متخلّفة وشعوبا كانت فريسة للمرض والفقر والجهل، فما كان على الزّعامات الرّاحلة إلا انتشال شعوبها من أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية المزرية باسم التّقدّم والنّهوض الذين لا يتحققان إلا بالعقل السليم في الجسم السليم، وقد نجحت الدّولة الوطنية في نشر التّعليم المجانّي بين أفراد الشعب دون تميّيز وتوفير الصّحة المجانية لكل طبقات المجتمع وتحرير المرأة، وكان المقابل أن تبقى الشعوب القاصرة تحت وصاية الدولة وتقبل طوعا أو كرها أن تعزل عن السياسة وتقرير المصير. فكانت المعادلة واضحة: الدّولة تعلم، تعالج وتشغل والشعب يخرس، يسمع ويطيع. في نفس السّياق، خطّط الإخوان لافتعال الأزمات التّموينية إلى حين بلوغ مستوى معيّن يسمح بتفعيل مبدإ المزيّة، فتوّفر حكومة الإخوان جلّ حاجيات الجماهير فيحصل الرّضى وبالتالي ينطلق مشروع السّمع والطّاعة وتكميم الأفواه ويسجد الجميع لفرعون مصر ومللك خزائنها بالمكائد والتّزييف.
في الأثناء طبّق الرئيس المعزول محمد مرسي مبدأ المزيّة مع اللّواء السيسي إثر إعفاء جنرالات المجلس العسكري، فقام بترقيته إلى رتبة فريق أول وكلّفه بوزارة الدّفاع، لاحتوائه وضمّه بطريقة غير مباشرة لصف وليّ النّعم. لكن... تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن ! وفي غفلة فاضحة من الرئيس السابق وأهله وعشيرته، نسي جميعهم أنّ ولاء الجيش لله وللوطن وللشعب وللعلم، من هنا، من بوابة الوطنية والفداء جاءت الريح الصّرصر العاتية، من الشعب المصري وجيشه الوطني لتفسد مخطّط الحلف الثّلاثي التّقليدي، الصهيوني الأوروبي الأمريكي الذي وُفِّقَ في التّلاعب بأحلام الإخوان المسلمين في التّمكين فأوهمهم بأنّهم الضلع الرّابع في الحلف الجديد/القديم، لتجتثّه العاصفة الشعبية من جذوره وتعصف بمشروع الرّدة الحضارية والعودة إلى الجهالة. إعصار نسف الشرق الأوسط الجديد وهزّ البيت الأبيض في واشنطن وبعثر أوراقه الإستراتيجية في المنطقة.
هذا ما فعله الفريق أول عبد الفتاح السيسي بكل بساطة ولباقة في انتظار أن يمضي الشعب المصري على وثيقة التّفويض للقضاء على بؤر العنف في المدن والإرهاب في سيناء أولا وفي العالم العربي ثانيا. لقد قالها وزير الدّفاع المصري في خطابه صبيحة هذا اليوم (24/07/2013) "المسؤولية جماعية يتحمّلها الشعب والشرطة والجيش" لذلك طالب المصريين بالنّزول إلى الشّارع يوم الجمعة 26/07/2013 لا خوفا من أداء واجبه الوطني في انقاذ البلاد والعباد ولا مراعاة لمشاعر الأمريكان، بل ليعلن في كلمات صامتة أنّ الثّورة المصرية، ثورة ديمقراطية خالية من كل أشكال المزيّة وليقطع ألسنة السوء النّاعقة بما لا تعلم " انقلاب عسكري... السيسي طالب سلطة... السيسي سيضرب الشعب باسم الشعب... الخ".
لقد بلغ السّيل الزبى ويوشك الإرهابيون أن يضعوا القشّة الأخير ليقسموا ظهر البعير، هذا ما صرّح به الفريق أول السيسي فعلى الجميع أن يتحمل نتيجة إجرامه وقتل الأبرياء بغير ذنب وترويع المصريين والأخطر من كل ذلك محاولة تحقير الجيش والتّشكيك في قياداته واتهام أركانه بالرّعونة والجبن... الجيش وقياداته لا تهاب النّزال ولا تخشى المسؤولية التي حان وقت تحمّلها كاملة غير منقوصة مادام "الجيش على قلب رجل واحد"...
تبقى العقول العقيمة عاجزة عن التّمييز بين الجدّ والهزل وتمضي في التّلاعب بالأنفس المريضة وهي لم ولن تعي المعناني الضمنية للقول الفصل، كما أنّها لم تستشعر أبدا المخاطر التي تهدّد الأمة شرقا وغربا نتيجة تلهفها على السلطة وتشبثّها بالجاه، لتخوض لعبة سياسية دولية وُضِعَتْ فيها موضع البيدق في رقعو الشّطرنج.
لو حكّم هؤلاء عقولهم لانتبهوا إلى الشّر المستطير المحيط بالدّولة المصرية وما يتربص بها من هجمات خارجية وشيكة بدت إرهاصاتها تلوح في البحر الأبيض المتوسط بتواجد وحدات من البحرية الأمريكي الواقفة على مشارف المياه الإقليمية المصرية، فهلّل لها الأغبياء وكبّر لقدومها "ناقصو العقل والدّين"، بعد أن أمن هؤلاء جانب أصدقائهم الصهاينة الذين التّململوا في إسرائيلي بمجرد وقوع الحمقى.
لم يقرأ مراهقو السياسية الدّولية وضع بلدهم بين فكّي كمّاشة العدو الذي فقد بسقوطهم حليفا تكتيكي (وليس إستراتيجي). سقط حكم جماعة الإخوان سياسيا لكنه سيشّن على بلده مصر في أقرب وقت حربا جرثومية ستندلع من داخل القاهرة (ميداني رابعة العدوية والنّهضة) نتيجة الفضلات البشرية والتّلوث البيئي الذي ينذر بانتشار أوبئة اجتماعية « Fléaux sociaux » من كوليرا Choléra وتيفوس Typhus وسّل Tuberculose وغيرها من الأمراض المعدية (وأعتقد أنّ السلطات الصحية المصرية على وعي تام بهذه المسألة). كيف لا يخاف المعتصمون من الإخوان والسلافيين ومن ولاهم من حكم الله في من أجرم في حقّ المؤمنين والوطن فقال سبحانه وتعالى: " فأرسلنا عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين"؟ (الأعراف الآية 133).
وعليه يمكن فكّ الإعتصامات برشّ تلك المنطاق بمواد كيمياوية لتطهيرها من الحشرات كالبراغيث والبق والقمّل ومن الفطريات دون أن تؤذي المواطنين (مقترح لا يكلّف الجيش كثيرا ويجنّبه إسالت الدّماء). لكن القوم لم يؤمنوا يوما بالوطن ولا بالمواطنة فالرئيس المعزول محمد مرسي لم ينطق ولو مرّة واحدة في خطبه العديدة بكلمة الوطن ولم يدعوا المصريين بالمواطنين والمواطنات... واليوم خرج الفريق أول عبد الفتاح السيسي ليقول للجميع بكل جدّية وحزم " إنّه لقول فصل وما هو بالهزل" صدق الله العظيم (الطّارق الآية 13/14).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: