البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

في سقيفة "الرّباعي- الرّاعي"

كاتب المقال د - صالح المازقي - تونس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 8001


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


كم هي متشابهة حقبات التاريخ العربي، وكم هو غريب عدم قدرتنا على التّطور والارتقاء في ما ينفع الناس، فمنذ خمسة عشر قرن لا نزال نعاني عنت الحاكم، ونتجرع خيباته ونسقى من دماء ضحايا مؤامراته، مما زاد الأمة تخلفا حضاريا وإقصاء ثقافيا. أمّا الأعجب والأغرب أنّنا نتوارث تنشئة اجتماعية وسياسية برهنت الأيام على فشلها وثبت عقمها لدى القاصي والدّاني، والكل لا يزال متثبث بها، محافظا على سلبياتها. جيل بعد جيل نجتر بؤسنا، تساعدنا في ذلك سخرية بعضنا على بعض وتهكمنا على على حكّامنا كلما سمح الظرف بذلك، لهضم الظلم واستساغة الاستبداد.

وكان من الأجدر بنا التفكير في وسيلة أكثر جدية ونجاعة، تخلصنا من همومنا وتقطع صلتنا بالعبودية والاستغفال والقبول بالدونية التي ألحقتها بنا شرذمة ممن يعتبرون أنفسهم أذكياء الزمان ليحققوا بكل أشكال العنف مآرب تعبّر في أفضل الحالات عن مصالح عشائرية أو قبلية أوفئوية أو حزبية (1).

في مساء 14/12/2013 بلغنا خبر توصل فريق (الرّباعي/الرّاعي للحوار الوطني) إلى ما يشبه اتفاق على اسم رئيس الحكومة الانتقالية "الألف" في انتظار تأكد النبأ من أفواه أهل الحلّ والعقد. لا يهمني من تمّ اختياره مع كل الاحترام والتقدير لشخصه، علما وأني كالغالبية الساحقة للتونسيين، لا أعرف عن الرجل شيئا، سوى أنه وزير الاقتصاد في حكومة حزب النهضة الانتقالية الثانية، وقد كان مستشارا لوزير الخارجية النهضاوي السابق. فبالتالي كان ولا يزال نكرة في الأوساط الشعبية. ليست غايتي مهاجمة الرجل، ولا قدح ولا مدح قدراته القيادية، ولا الخوض في خبراته السياسية، وليست لي نية انتقاد أو نقد النتيجة التي ارتضتها الأغلبية الحزبية المتحاورة.

لكن كل همي منصب على فهم الآلية التي جمعت الفرقاء حول هذه الشخصي، وقد اتضح فيما بعد أنّ القوم لجؤوا في نهاية المطاف إلى آلية التّصويت (2) في حضور جل الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني، وفي مقدمتها الرّافضة لنفس الطريقة (التّصويت الحضوري)، من صقور الحزب الحاكم ومواليه من الأحزاب الكويكبية التي تدور في مجال جاذبيته. يذكر الجميع أنّ نداء تونس اقترح في بداية الحوار التّصويت على إحدى الشخصيات المرشحة لمنصب رئاسة الحكومة. رفضت الآلية شكلا ومضمونا من قبل حزب النهضة المتسلط برأيه، والسّاعي لفرضه وجهة نظره على المتحاورين، ونقل التّصويت إلى قبّة المجلس التأسيسي ليشارك فيه كل الأعضاء. مشروع تحايل لم ينطل على محنكي السياسة الوطنية وباروناتها المنتشرين في كل الأحزاب المعارضة والمناوئة للنهضة، وعلى رأسها الحزب صاحب المقترح الذي رفض إجراء مشاركة نواب المجلس في اختيار رئيس الحكومة الجديد، تجنبا لفوز مرشح الحزب الحاكم.

لا أحد ينكر صعوبة الحوار الذي يديره الرّباعي على مائدة تضمّ فرقاء حزبيين على خلفيات فكرية وإيديولوجيا متباينة، كل يدعي الوطنية، ويتكلم باسم الشعب، ليوهم الآخر بسعيه المحموم من أجل الصالح العام. أما المسكوت عنه والذي لا يتجرأ أحد على ذكره، هو أنهم جميعا يتناحرون من أجل السلطة والحكم، تحركم أنثروبولوجيا دفينة تمتد جذورها إلى سقيفة بني ساعدة (3). لا يختلف جوهر خلاف الساعة عن جوهر خلاف الأيام الخوالي. تلتقي جل إن لم تكن كل تلك الصراعات السياسية قديمها ووسيطها وحديثها في قاسم مشترك سوسيوسياسي، ألا وهو السيادة والريادة والقيادة وبالمحصلة السلطة، هدف دونه الرّقاب عند الحاكم وعند الطامع فيه، دون اعتبار لم قد تفرزه صراعاتهم من مآسي في الأرواح والممتلكات، يدفع ثمنها عامة الأمة وبعض خاصتها وقليل من علمائها.

لعلي أرى اليوم في السيد الأمين العام لللاتحاد العام التونسي للشغل استثناءا، فريدا من نوعه لتحليه بالحكمة ورجاحة العقل في ظرف من أحلك ظروف ضعف الدولة التونسية، بلغت فيه أسفل درجات الوهن، حفّز الطامعين فيها وشجعهم على التّمكن من دواليبها والاستيلاء على ما تبقى من ثرواتها المادية، بالمناورة السياسية تارة، والهجمات التكفيرية تارة أخرى، هدفها زعزعة الخصوم السياسيين فكريا، وإقصائهم (باعتبارهم كفرة) من دائرة الحكم الذي لا يتولاه غير مسلم. في نفس الوقت الذي يتهم فيه السياسيون بالالحاد، يتهم الشعب المحكوم هو الآخر بذات التهمة. تكفّر الشعوب عندما يشاء المؤمنون الجدد وتدخل في الإيمان عند الحاجة لأصواتهم الانتخابية.

لا أنكر ما كتبته وقلته من شهور (أوت 2013) في حق الاتحاد العام التونسي للشغل وعن دور الوساطة الذي لعبه ولا يزال يلعبه بين أكباش تتناطح بلا هوادة، وقد انتقدت هذا الدور الوطني واتهمته بالتّراخي حين كتبت قائلا: "[...] نلاحظ موقفا سياسيا أكثر شذوذا وغرابة، إنّه موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تخلّى عن سياسته الراديكالية التي جعلت منه مؤسسة تقدمية ورأس حربة لمقاومة الرّجعية والإستعمار منذ عهد الآباء المؤسسين إلى سبعينيات القرن الماضي وما أحداث 26/01/1978 [ الدعوة إلى الإضراب العام] وانتفاضة الخبز في الثمانينياته 03/01/1984 إلا دليلا على صلابة مواقف المنظمة العمّالية. مواقف خالدة، تجنّب فيها الاتحاد لعب دور الأحزاب والتزم خلالها بخلفيته البروليتارية وتوجهاته اليسارية من ناحية، كما رفض لعب دور الوسيط المحايد بين السلطة والشعب من ناحية أخرى. هذا التّاريخ المضيء في طريقه للنّسيان مادامت القيادات الحالية تمسك العصا من الوسط وتضع قفّازات في التّعامل مع دولة لا ترقى في قيمتها ولا في هيبتها الدّولة التونسية حتى وهي في أحلك حالات ضعفها في آخر عهد الرئيس بورقيبة..."(4) .

لقد اتضّح بعد النّدوة الصحافية التي عقدها السيد الأمين العام للاتحاد ليعلن فيها عن توصل الرّباعي لإقناع الأحزاب بالتّصويت على شخصية وطنية لترأس الحكومة الجديدة، وتمضي بالبلاد إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، وتحرص على أن ينهي المجلس التأسيسي مهمة إعداد دستور جديد لتونس؛ أنّ الاتحاد كان أكثر حكمة من الجميع في تعامله مع الموقف الوضع العام المتّسم بالفرقة والتّوتر.

في هذا المناخ المفعم بتفائل حذر، يمكن طرح أسئلة عديدة لاستجلاء أسباب قبول حركة النهضة بالتصويت على شخصية (ليست هي مجال بحثنا) في زمن كان فيه المطّلعون على كواليس السياسة في حالة يأس شبه تام من التوصل إلى حل؛ وكانت فيه الأنفاس منحبسة في الصدور، خشية فشل يعيد البلاد إلى نقطة الانطلاق، ويهدد سلما اجتماعية هشّة، وجماهير شعبية مغيّبة تارة ومتحفزة تارة أخرى للانقضاض على الجميع ومحاسبتهم على عبثهم بمصيرهم وقد تلهوا عنه بعراك صبياني على تركة مسمومة.

ولما لم نكن لا في ملعب الكبار ولسنا من الفاعلين بقدر ما نعتبر أنفسنا من المحللين، وفي غياب المعلومة الدقيقة والتكتم على محاضر الجلسات الحوار المغلقة، وعدم الإفصاح عن مجريات المفاوضات، لم يبق أمام الباحث إلا ربط الأحداث بعضها ببعض، ليبني تصوراته السياسية ويستقرأ أسباب تحول موقف حزب حركة النهضة مائة وثمانين درجة، وتقديم تفسير منطقي لهذا التحول، لا بد من قراءة منطقية، للمشهد الاجتماعي (وليس السياسي) الذي عشناه على امتداد يوم ونصف اليوم، أي من منتصف نهار الخميس 12/12/2013 إلى مساء يوم الجمعة 13/122013.

لقد عانينا خلال الفترة المذكورة (36 ساعة) اضراب الشركة التونسية للسكك الحديدية. انطلق الاضراب فجأة وبدون سابق انذار، كنت قد استقليت القطار صباح الخميس على الساعة التاسعة من الضاحية الجنوبية، وتوجهت إلى عملي بالعاصمة، وعند عودتي في حدود الساعة الرابعة مساءا، فوجئت بشلل تام أصاب حركة كل الخطوط البعيدة وخط الضاحية.

ما لفت انتباهي أن أعوان الشركة لم يكلفوا أنفسهم مشقة الإجابة عن أسئلة المسافرين، إضافة إلى غياب صوت المضيفة الذي عودنا بالإعتذار في مثل هذه الحالات التي لم تتجاوز في مدتها السعتين أو ثلاث ساعات، لتعود بعدها حركة القطارات إلى طبيعتها تدريجيا.

من الملفت للانتباه أيضا، أن شبابيك بيع التّذاكر قد أغلقت وأن الأعوان المكلفين بقطع التّذاكر قد غادروا مراكزهم بشكل نهائي، ينبئ بأن المسألة قد تجاوزت المطلبية النقابية التي عهدناها. وليس بالعهد من قدم، خاصة وأن الشركة عودتنا على إضرابتها الوحشية والعشوائية. كان آخر اضراباتها (اللامسؤولة) مساء يوم 3/12/2013، حين تعطل نشاط القطارات بدون سبب واضح، ليعود بعد ساعات قليلة.

لكن الاضراب الأخير وبقطع النظر عن الانزعاج والإزعاج الذي أنتابني كما انتاب كل حرفاء الشركة، اختلف عن سابقيه، لكن تحت وطأة الغضب والإرهاق، لم أتمكن من تجميع كل الملاحظات، ولم أقرأ الحركة العمالية جيدا إلا في مساء يوم الخميس (12/12/2013)، حين أدركت أن الاضراب ليس عماليا ولا نقابيا بالمفهوم الكلاسيكي للمصطلح الذي اعتاد عليه حرفاء الشركة وعمالها. لقد بدا لي الاضراب بعد قراءة متأنية، أنه اضراب سياسي بالمقام الأول، أو تمّ توظيفه سياسيا، لعرض عينة متواضعة عن قوة الاتحاد العام التونسي للشغل، الرّاعي المحوري للحوار الوطني، والمسؤول الرئيسي عن نجاحه أو اخفاقه، بعد أن وضع أمينه العام مصدقيته الشخصية على المحكّ، وراهن على ماضي ومستقبل المنظمة الشّغيلة في لحظة سياسية منفلتة، غير مضمونة النتائج، قد تكون عواقبها وخيمة على الجميع.

من خلال قراءة الوضع السياسي الداخلي أحسب أن الاتحاد العام التونسي للشغل وأمام عناد النهضة وتمسك صقورها بالسلطة وخداع "منظري المماطلة وهواة المجازفة" داخل الحركة الذين نسوا سريعا ما حدث للرئيس المخلوع، وتوهموا أن التونسي قد أودع مصيره للنهضة واستكان للأمر الواقع الذي ما انفكت الحركة تتعسف عليه بكل الوسائل الناعمة والعنيفة؛ قد قرّرت المنظمة الشغيلة تهديد الثلاثي الحاكم بومضة عابرة وجزء يسير من شعبيته وقدرته على التعبئة الجماهيرية بروح زعاماته التاريخية والحاضرة ليدخل البلاد في اضراب عام، وربما عصيان مدني يطيح في لحظات بأية حكومة مهما بلغت من الغطرسة وجنون العظمة.

الكل يعلم علم اليقين مدى قوة المنظمة الشغيلة في الشارع التونسي عموما، التي تفوق قوة كل المنظمات والأحزاب السياسية مجتمعة، والسبب في ذلك كثرة المنخرطين، وانظباطهم النقابي وإخلاصهم لمبادئهم، والوفاء لأبائهم المؤسسين. تمثل القواعد النقابية المركزية والجهوية عمق المنظمة الإيديولوجي الذي لم يتزحزح ودرعها الوقي من كل ضربات السياسيين والمتحزبين والمتآمرين عليها منذ الفترة الاستعمارية إلى الآن. منظمة لم تهزها الأزمات السياسية ولم تفككها صداماتها مع السلطة المركزية، ولم تركع أمام بطش أجهزتها البوليسية. كانت صراعات النقابيين مع السلطة تزيدهم صلابة سياسية وتدعم مكانتهم في المجتمع وتمنحهم تعاطف وتضامن غير النقابين.

بعد إعادة قراءة الاضراب المشار إليه آنفا، أيقنت في سري (وقد أكون مخطئ في تقديري) بأن الاتحاد بدأ يسترجع دوره الطبيعي، وأن الاضراب الذي كنت أحد المتضررين منه، لم يكن عشوائيا ولا اعتباطيا وأن خلفيته سياسية وواجهته نقابية، فانتابني شعور بالرضى والتفاؤل، بعد أن تأكدت لدي قناعة اقتراب توصل الحوار الوطني إلى حل، بأسرع مما كنت أتصور ويتصوره الجميع. لم تمضي 48 ساعة حتى تسربت أخبار بتقارب إيجابي بين المتحاورين وبين الرّباعي، وأنه سيعلن عن اسم رئيس الحكومة الجديدة، قبل فجر يوم 13/12/2013، لقد صدق حدسي وصحّ استقرائي وتحليلي لاضراب سكة الحديد.

يبدو أنّ عقلاء حركة النهضة قد استشعروا خطورة الوضع في الداخل وقرب نهاية الإسلاميين في العالم العربي، وهم يتابعون عن كثب ما أصابهم من إخلالات وأخطاء إستراتيجية وتكتيكية خلال فترة حكمه القصيرة، أصابت كيانهم في مقتل، إضافة إلى رفع الغطاء الأمريكي عنهم، بعد أن اكتشف ضعفهم تكوينهم السياسي، وجهلهم بعلم إدارة الدول، وعدم قدرتهم على فهم العلاقات الدولية وفكّ شفرات التعامل الدولي. لقد تجلت الإشارات الأولية لاستغناء الأمريكان عن دور الإسلاميين (وليس المسلمين) في مخططاتهم الجديدة، التي أفسدها الإسلاميون بجنون السلطة وهوس التّمكين من دول الثورات العربية. كلها رسائل سياسية أدرك خطورتها حمائم النهضة، فاستجابوا مؤخرا (ولو على مضض) لرأي الغالبية الوطنية، مع المحافظة على حسابات ستكشفها الأيام.

هذا برأيي (مع التحفظّ الشديد) تنبيه من الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، بما قد تصير إليه الأحوال المتردية في تونس والتي قد تشعل فتيل اضراب عام وعصيان مدني، لن يقدر أحد السيطرة عليه، سيطيح لا محالة بحكم الترويكا بعد أن يرفع عنها الاتحاد الغطاء السياسي، فيكون مصيرهم من مصير نظرائهم المصريين الذين أطاح بهم الشعب بمساندة الجيش بعد سنة من حكم مستبد. يمكن استقراء تهديد الأمين العام للفرقاء المتحاورين، بأن دوره ينتهي بفشل الحوار، وعلى الجميع تحمل مسؤولياته التاريخية أمام شعب غاضب، لا يمنعه عن استعادة ثورته وتصحيح مسارها سوى ثقته في مبادرة المنظمة العمالية.

لعل الأمين العام كان ناصحا أمينا لحركة النهضة فأقنعهم بضرورة الاستمرار (في مجال العمل الحزبي) وتجنيبهم حتمية الاندثار (من المشهد السياسي)، خاصة وأن المؤشرات الدولية والإقليمية والوطنية تؤكد عجز تيار الإسلام السياسي في الاستجابة لمطالب الشعوب من ناحية، وأن انهياره قد بدأ فعلا في مصر، سواء سقط أو أسقط ، وأن نهايته ستكون في تونس.

ما لم ينتبه إليه النهضاويون بعد أن أخذتهم العزّة بالنفس، ونسوا الله فأنساهم أنفسم، أنهم قلّة سياسية، في حال توحدت الأحزاب المتشرذمة في جبهة سياسية واحدة، فمهما بلغت أعدادهم الإسلاميين داخل المجتمع التونسي، فهم لا يمثلون إلا أقلية متناهية، وأنهم سقطوا في أنفس ناخبيهم من المتعاطفين معهم، بعد أن أثبتوا فشلهم في إدارة الشأن العام، واكتشف الجميع افتقادهم لمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي شامل، يقوي اللحمة الاجتماعية ويحقق المساواة والعدالة الاجتماعية، ويزيل الإحساس العام بالغب،ن نتيجة الانتماء للوطن وعدم الانتماء لفكر سياسي بعينه، لكن ما حدث كان العكس.

كيف لم يسترع انتباه حركة النهضة أن الرّباعي الرّاعي، ما كان ليتشكل لولا سخفهم السياسي وضعف بصيرتهم؟ أ لا يقرؤون تركيبة الرّباعي السياسية والاجتماعية، وكيف تحالف الأعداء التاريخيون، البروليتاريا (الاتحاد العام التونسي للشغل) مع الرأسمالية الوطنية (منظمة الأعراف) مع البورجوازية الصغيرة (عمادة المحامين)، وأخيرا دخل الحقوقيون على الخط، وهم عنصر جديدة في المعادلة السياسية الحديثة. لو أن هؤلاء المتحالفون لم يستشعروا الخطر يداهمهم من جهة كانت بالأمس مظلومة ومضطهدة ومسحوقة، تحكم اليوم البلاد بروح انتقامية، لم تتوانى في إعادة إنتاج منظومة الفساد والإفساد بل طورتها إلى الأسوء في زمن قياسي، وقد توهمت تمكينها من الدولة باسم الدين من غير الدعوة إلى الله؟

المجتمع التونسي ودولته على ضعفها الظرفي، ما كانا ليسمحا بعد ثورة 14 جانفي 2011 لكائن من كان بالتحكم في مصيرهما، أو أن يمس من مخزون الوطنية في الوجدان الفردي والجماعي، لذلك تحمل الرّباعي مسؤولية الحوار الوطني، درءا لصدام شعب نفذ صبره من أخطاء جماعة لا منّة لها عليه، بل أفضاله هو (الشعب) عليها، فاختارها دون سواها لتنهض باقتصاد راكد، وتعيد للسياسة نضارتها، وتقيل التنمية من عثرتها.

ما هو المصير الذي ينتظر التوانسة في ظل حكم حركة تحالفة خارجيا مع الأعداء، وداخليا مع الإرهاب؟ إلى أين نحن ذاهبون والأفق معتم ومنسد؟ لماذا يرغب الإسلاميون في حكم مجتمع يتهمونه بالكفر والزندقة؟ لماذا لم يتطهروا من نجاسة السياسة؟ الأجوبة تمتد جذورها إلى الخصومة السياسية التي انطلقت من سقيفة بني ساعدة والتي مزقت وحدة الدولة الناشئة، بعد أن أسس أركانها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فراح كل فريق ينظّر ويعلل ويبرهن ويدافع عن آرائه من الكتاب والسنة، إلى درجة أدت ببعضهم إلى افتعال الأحاديث، والإيمان بعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر، طلبا لحكم تحوّل في أذهان جلّهم إلى مغنم وتناسوا أنه مغرما، وأنهم سيسألون عن بعير لو عثر في جنوب البلاد.

إن دعم المواقف السياسية والبحث عن شرعية الحكم باسم الدين لا نحسبه إلا خطيئة في الدنيا وكبيرة في الآخرة... أدت بأصحابها في الماضي والحاضر إلى الغدر واستباحة دماء المسلمين. فلم تحقن دماء جلّ الخلفاء الرّاشدين، عمر وعثمان في أحداث الفتنة الكبرى سنة 35 للهجرة، واغتيال علي بن أبي طالب بعد صفين سنة 37 للهجرة... لقد تنكر الجميع إلى ما جاء في خطبة حجة الوداع التي حرّم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت ؟ اللهم اشهد..." (5) يبدو أن السلف والخلف قد خالفوا واختلفوا، ثم يدّعي البعض أنهم مسلمون، يتسلون بتكفير من يخالفهم الرأي.

اكتفي بهذه القدر من قراءة المشهد التونسي الذي لم يشّذ عن المشهد العربي القادم من جوف التاريخ، ليعيد إنتاج سياسة دموية لم تختلف دوافعها ولم تتغير نتائجها إلا في فترات قليلة من الزمن. اليوم نعيش في عالم عربي مستنسخ من الماضي فكريا وسلوكيا، زرع في سائر بلاد المسلمين، بنفس الصراع وذات أدوات الخلاف، فكان الهدف واحدا والخلاف واحدا والاختلاف واحدا والغدر واحدا والاغتيال السياسي واحدا والفتنة واحدة...

قبل أن أنهي، وحتى لا أنسى فأحيد عن الموضوعية وأقع في الخلط بين الذّاتي والموضوعي في التحليل السياسي وسبر أغوار عالم الأسرار الخفية، يمكن افتراض وقوع جميع المصوتين على شخصية رئيس الحكومة الجديد في فخّ منهج الخلايا النائمة، المتبع منذ قيام تيارات الإسلام السياسي ودخولها في صراعات مفتوحة مع السلطات المتعاقبة على حكم البلدان العربية قديما وحديثا. لعل النهضة أحيت خلية نائمة ودفعت بها إلى أعلى سدّة الحكم فوزها في انتخابات برلمانية بعد أن تكون قد شكلت دستورا على مقاسها، لتضمن استمراريتها في سلطة من خلال "بزويش" (6) سيتحول بحكم المنصب وفي زمن قياسي إلى صقر جارح، يحدد مسار البلاد ويقرر مصير العباد.

هنا قد يكمن سبب رفض بعض الأحزاب إلى درجة الانسحاب من الجلسة الختامية للحوار الوطني في سقيفة الرّباعي الرّاعي وإعلانها القبول دون موافقة. فهل "كعبرتها" (7) النّهضة للجميع؟

-------------
1) المصطلحات تشير إلى مختلف فترات التاريخ السياسي العربي
2) من تصريحات رئيس حزب النهضة في ندوته الصحافية بعد الاتفاق. 14/12/2013
3) إشارة إلى سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة، حيث اجتمع الأنصار والمهاجرين لاختيار خليفة لرسول الله. وبعد طول حوار وحدّة جدل يصفه المؤرخون بالحاد والشاق وفي غياب بعض كبار الصحابة مثل علي كرم الله وجهه وطلحة والزبير، فتمت مبايعة إبي بكر الصديق في اليوم الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم (12 ربيع الأول من السنة 11 للهجرة).
4) مقال بعنوان تونس في قلب الجيل الرّابع من الحروب موقع بوابتي 3/08/2013
5) من خطبة حجة الوداع للنبي عليه الصلاة والسلام
6) البزويش هو نوع من الطيور الصغيرة التي تعيش في كل مناطق الجمهورية وهي قريبة جدا من البشر، ونسميه أيضا "عصفور السطح" ويعرف بالفرنسية "Le moineau"
7) التتكعبير في اللهجة التونسية تعني انطلاء الخدعة على الأغبياء.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الثورة التونسية، الثورة المضادة، الرباعي الراعي للحوار، مهدي جمعة، الإتحاد العام التوزنسي للشغل،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 17-12-2013  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

 مشاركات الكاتب(ة) بموقعنا

  صباح الخير يا جاري !!!
  متطلبات التّنشيط الثّقافي بمدينة حمام الأنف (1)
  نحن في الهمّ واحد
  روسيا تمتص رحيق الرّبيع العربي
  الشّعب والمشيــــــــــــــر
  التّوازي التّاريخي
  في سقيفة "الرّباعي- الرّاعي"
  الأصل والبديل
  المواطنة في أقطار المغرب العربي... أسطـــورة لا بد منها
  أسئلـــة تنتظــــــــــــــــر...
  إصرار "أوباما"... لماذا؟
  في معنى الخزي
  الحمق داء ما له دواء
  تونس في قلب الجيل الرّابع من الحروب
  إلى متى نبكي أبناءنا؟
  إنّه لقول فصل وما هو بالهزل
  مصر... انتفاضة داخل ثورة
  ما ضاع حق وراءه طالب
  مثلث برمودا Triangle des Bermudes
  عالم الشياطيــــــــن
  بلا عنــــــوان !!!
  إنّها النّكبة يا سادة !
  نخرب بيوتنا بأيدنا
  تطبيق أحكام الشريعة في تونس، فرصة مهدورة !
  فرنسا تحتفل بعيد استقلال تونس !
  "شومقراطية" الحكم في بلدان الربيع العربي
  حكومة السير على الشريطة Un gouvernement funambule
  ما خفى كان أعظم !
  خروج مشرّف أم خطة محكمة؟
  الصراع السياسي في تونس من الميكرو إلى الماكرو

أنظر باقي مقالات الكاتب(ة) بموقعنا


شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
الردود على المقال أعلاه مرتبة نزولا حسب ظهورها  articles d'actualités en tunisie et au monde
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
 

  20-12-2013 / 09:28:23   عبد الملك
رأي العباسي أفضل من رأي الرسول صلّى الله عليه وسلّم

يقول الكاتب:كم هي متشابهة حقبات التاريخ العربي، وكم هو غريب عدم قدرتنا على التّطور والارتقاء في ما ينفع الناس، فمنذ خمسة عشر قرن لا نزال نعاني عنت الحاكم. ثمّ يقول بعد ذلك: لعلي أرى اليوم في السيد الأمين العام لللاتحاد العام التونسي للشغل استثناءا، فريدا من نوعه لتحليه بالحكمة ورجاحة العقل. إنتهى كلامه.
وبعد: لم يسلم منك حتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم الّذين كانت خلافتهم على منهاج النبوّة، ولا القرون الثلاثة الاولى المفضلة بنصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا بني أمية ولا بني العباس ولا العثمانيون الذين حموا دار الاسلام لمدة ستة قرون، ولو آستشرت من هوأعلم منك بهذا الشأن لكان حسنا، أمّا لو كان في قلبك غلّ للّذين آمنوا فإننا نسأل الله تعالي أن يعصمنا من شرّك، والمشتكى لله "يوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
د. أحمد محمد سليمان، صلاح المختار، د- هاني ابوالفتوح، رشيد السيد أحمد، د - عادل رضا، سلام الشماع، صالح النعامي ، خبَّاب بن مروان الحمد، جاسم الرصيف، المولدي الفرجاني، رافع القارصي، ضحى عبد الرحمن، طارق خفاجي، د. عبد الآله المالكي، سامح لطف الله، كريم فارق، عبد الغني مزوز، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، فتحـي قاره بيبـان، يزيد بن الحسين، محمد الياسين، محمد أحمد عزوز، فهمي شراب، محمود طرشوبي، علي عبد العال، عمار غيلوفي، د. أحمد بشير، محمد العيادي، سليمان أحمد أبو ستة، عراق المطيري، أحمد النعيمي، حاتم الصولي، صفاء العربي، مراد قميزة، عبد الرزاق قيراط ، أحمد الحباسي، المولدي اليوسفي، إياد محمود حسين ، محمد يحي، محمد شمام ، نادية سعد، أ.د. مصطفى رجب، أحمد ملحم، د.محمد فتحي عبد العال، رحاب اسعد بيوض التميمي، د. مصطفى يوسف اللداوي، عبد العزيز كحيل، إيمى الأشقر، فتحي الزغل، وائل بنجدو، رافد العزاوي، مصطفى منيغ، العادل السمعلي، أحمد بوادي، د - صالح المازقي، بيلسان قيصر، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمد عمر غرس الله، يحيي البوليني، سامر أبو رمان ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، عمر غازي، صلاح الحريري، محمد علي العقربي، عزيز العرباوي، مصطفي زهران، تونسي، خالد الجاف ، طلال قسومي، الهادي المثلوثي، د- جابر قميحة، سفيان عبد الكافي، محمود فاروق سيد شعبان، إسراء أبو رمان، رضا الدبّابي، الناصر الرقيق، د - شاكر الحوكي ، كريم السليتي، د. طارق عبد الحليم، عواطف منصور، الهيثم زعفان، فتحي العابد، حسني إبراهيم عبد العظيم، أشرف إبراهيم حجاج، د - الضاوي خوالدية، مجدى داود، عبد الله الفقير، سيد السباعي، منجي باكير، محمود سلطان، محمد اسعد بيوض التميمي، د - المنجي الكعبي، د- محمود علي عريقات، أبو سمية، د. صلاح عودة الله ، د- محمد رحال، صفاء العراقي، حسن عثمان، حميدة الطيلوش، سلوى المغربي، سعود السبعاني، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د. عادل محمد عايش الأسطل، د - محمد بن موسى الشريف ، علي الكاش، محمد الطرابلسي، رمضان حينوني، حسن الطرابلسي، ياسين أحمد، د - محمد بنيعيش، د. كاظم عبد الحسين عباس ، ماهر عدنان قنديل، أنس الشابي، د - مصطفى فهمي، عبد الله زيدان، محرر "بوابتي"، د. خالد الطراولي ، صباح الموسوي ، فوزي مسعود ،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة