د. ضرغام الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8734
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا نجافي الحقيقة إن اعتبرنا أن تعاظم دور وسائل الإعلام في الحياة الرأسمالية المعاصرة هي واحدة من السمات الرئيسية، لا في تكوين الوعي العام لدى الجماهير، بل وحتى عند القادة السياسيون، وتحول نفوذ ملوك الصحافة واحتكاراتها إلى عناصر مؤثرة في القرار السياسي وفي الحياة السياسية بصفة عامة لا يمكن تجاهلها.
وتمثل وسائل الإعلام السمعية والمرئية والمقروءة قلاعاً ضخمة لمصلحة القوى المسيطرة على المجتمع، وفي بعض الدول الرأسمالية يحظر على العناصر السياسية المعادية العمل في أجهزة الإعلام، وتدير أجهزة الإعلام احتكارات مالية ضخمة، فهي إذن مجالاً رحباً للاستثمارات ولجني الأرباح أيضاً.
وقد تسللت البراغماتية إلى فلسفة الإعلام أيضاً، ويعبر عن ذلك البروفسور جون نيف وهو أستاذ في جامعة هارفارد، وهي أحدى (أرقى) معاهد الغرب الرأسمالي في كتابه (الحرب والتقدم البشري: دراسة في نشأة الحضارة الصناعية)" أصبحت المبيعات العامل الأول الذي يأخذ به الناشرون ورؤساء التحرير في تحديد محتوى ومستوى صحفهم بدلاً من تقديم المعلومات الموثوقة، وهكذا أزداد توجه الوسائل الإعلام إلى تلبية طلبات ذوي المستويات الثقافية المتدنية والأفق الضيق بحجة أن هذه هي الوسيلة الأنسب لزيادة الأرباح، وهكذا أبتدع أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها أناساً يتصفون بالفراغ الفكري والابتذال واللامسؤلية والشهوة.
ثم ينتهي البروفسور نيف إلى القول" وأدى التدهور في الذكاء الفطري والفطنة الغريزية والذوق الذي نتج إلى حد معين عن الإفراط في الدعاية إلى ازدياد عدد أولئك الموهوبين الذين ابتذلوا مواهبهم من أجل المال ".
وإذا كان عصر النهضة قد بهر الناس قبل كل شيئ بالأدب والفنون والموسيقى، فإن ذلك بدأ بالتلاشي في الحقب اللاحقة، إلا أن عصر الرأسمالية الاحتكارية وفي ذروة تطورها في عصرنا الراهن، امتدت لتعمل على ترويج ثقافة سطحية وآداب وفنون غير إنسانية المغزى والهدف، وذلك لم يأت دفعة واحدة، بل أن "تطوراً أستغرق عقوداً كثيرة بفعل نمو المجتمعات الرأسمالية التجارية ومن ثم التأثيرات الواسعة النطاق على أخلاق الناس ومبادئهم وقيم الحياة بفعل الثورة الصناعية، جعلت منهم يتخلون عن العوامل الروحية والمعنوية والأخلاقية، لتسود أخلاقيات مجتمع جديد آخذ بالتطور والتبلور وهو يفرز معطيات أخلاقية جديدة، ويعرض ذلك البروفسور نيف ويتوصل إلى نتيجة محزنة غذ يقرر، أن هكذا أستسلم أدباء وفناني القرن العشرين إلى مسيرة الزمن بدلاً من محاولتهم في صنع التاريخ كما فعل أسلافهم العظماء في عصر النهضة وحتى القرن التاسع عشر.
وكانت محصلة ذلك ونتيجة تغليف العقل وتجريده من إنسانيته بوسائل متعددة إلى أن وصل إلى درجة العجز عن تقديم خدمة للإنسانية وعن تخليص الناس من أسر الدعاية وأساليبها، فشاعت عادات التعري وانهيار السلوك المهذب، وصار إطلاق العبارات البذيئة من لوازم الكلام في الأدب الغربي لا يتورع حتى أحصف السياسيين عن قولها.
ويستطرد الأستاذ نيف في تعرضه ليقرر " ومع ازدياد فروع المعرفة عند بداية القرن العشرين، انقلبت الحالة رأساً على عقب حيث أصبح أفضل ما يمكن أن يقدمه التعليم والفن والأدب في متناول طبقة خاصة من الجمهور، أما عامة الناس، وقد أصبحت الأكثرية الساحقة، فإن اهتمامها الأساسي أنصب على أنواع الكتابة الغوغائية والمبتذلة والسطحية، بل وصل الأمر إلى شيوع أنواع من الكتابة البذيئة ظهرت تحت ستار من النصوص غير الجادة لكي تتملص من الرقابة الشديدة التي أنشأت حديثاً، وهكذا عولج كل ما هو مخجل وأخفيت حقيقته حتى صار شيئاً محترماً ".
ومن المستبعد والحالة هذه أن تتمكن دور نشر ناشئة من أثبات وجودها في مجال النشر والإعلام، فالأمر يتعلق باستثمارات تتجاوز مئات الملايين من الدولارات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن دار نشر هولندية واحدة حقق عام 1990 مدخولاً بلغ 1,2 مليار دولار، فلنا أن نتصور كم هي مداخيل دور النشر الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية العملاقة. وهناك العديد من الاحتكارات الصحفية التي تتولى إصدار الصحف والمجلات والكتب في آن واحد، مثل احتكار "أكسل شبرينغر" في ألمانيا.
والحلقات متممة لبعضها في الحياة الرأسمالية، لذلك فإن الإعلام في الدول الرأسمالية هو في واقع الأمر تعامل تجاري يومي بحت، يهدف إلى تحقيق الأرباح، لذلك لن تجده في نهاية المطاف بعيداً عن التناغم مع سائر المؤسسات الرأسمالية.
ويصف الكثير من علماء الاجتماع في البلدان الرأسمالية مواطني بلدانهم بالسطحية وضعف التكوين الثقافي، سريع التأثر والتقبل لما تنشره وسائل الإعلام بأساليبها المتقدمة عبر خبرة تكونت خلال قرون عديدة من العمل الإعلامي، بل أن هناك قاعدة في العلم الإعلامي في الولايات المتحدة ينص: أن الإعلام يجب أن يصاغ لا لكي يطابق الحقيقة، بل أن يطابق الاعتقاد الموجود لدينا.
لذلك فإن أجهزة الإعلام شديدة التأثير على اتجاهات الرأي العام التي أصبحت لا مراء أحدى العناصر الفعالة التي يهتم بها صانعوا القرارات السياسية، وتقوم تلك المؤسسات الإعلامية باستفتاءات وإحصاءات تحرص على نشرها عن اتجاهات الرأي العام وشعبية الرسميين ورجال الدولة والأحزاب الرئيسية، وتنشر أو تحجم عن نشر الحقائق الاجتماعية أو تحريفها، أو بنشر ما يسمى في الدول الغربية (نصف الحقيقة) أي طي وتحريف أو إغفال النصف الآخر من الحقائق، وقد يكون ذلك النصف هو الجزء الأهم والمؤثر في الحقيقة.
وقد أتاحت ثورة التكنولوجيا الفرصة لامتلاك محطات إذاعية وبث تلفزيوني للقطاع الخاص(عن طريق القابلوات) أو استئجار قنوات فضائية، امتلكتها شركات إعلام ودعاية خاصة بها، وهكذا تكتمل تسيدها للساحة الإعلامية. فعلى صعيد الأنباء مثلاً، فإن أربعة وكالات أنباء أمريكية وفرنسية وبريطانية تسيطر على 80% من حركة تداول الأخبار في العالم والباقي، 20% يتوزع على أكثر من 160 وكالة أنباء، وهذه ليست مكرسة لخدمة الرأي السياسي، بل أنها تعمل على تكوين وعي لا يتناقض مع أهدافها، وبمجموعها تعمل على تشكيل وعي ثقافي وفني ومحذورات اجتماعية وأخلاقية، وتسعى حتى لامتلاك ضمير الإنسان وليس وجوده المادي فقط.
في إطار دراسة نعدها، نأمل أن تجد طريقها للنشر خلال الفترة القادمة، بإلقاء الضوء والتحليل على مفردات من القاموس السياسي للإمبريالية الجديدة المسماة بالعولمة تلطيفاً لها من أشياعها حتى شاع الاسم وطغى على جوهره وذلك ديدن الوسائل الجبارة لأجهزة الإعلام للرأسمالية في حرف المسميات عن جوهرها وإطلاق أخرى بغرض رفع الشبهات أو بالعكس الإساءة حتى غدا الأمر حرفة لها خبرائها وأساطينها أطلقوا على أنفسهم " مكاتب العلاقات العامة " عوضاً عن التسمية الحقيقية التي تليق بهم وبأضرابهم: مروجو الصناعة الإعلامية للنظام الإمبريالي.
ومن أولى مهام هذا الطابور الإعلامي هو تبيض الشعارات الاستعمارية وتحويلها إلى أهداف إنسانية، وتحويل القتلة إلى محررين وعمليات السطو المسلح والنهب المنتظم إلى إنقاذ، والقتلة المحترفين إلى أبطال، أما المظلومين فإن أقرب تهمة يمكن أن تلصق بهم هي الإرهاب.
نقول، أن الإرهاب مثلاً قد غدا من أهم المفردات التي تم لي عنقها لتصبح مطية يمتطيها منى هب ودب حتى الضب في عالم الإعلام الإمبريالي الجديد وقاموسه السياسي، وربما وذلك ليس بمستبعد أن نجد من يصدق الكذب من فرط استخدامه وإتقان صنعته والتفريط في سلامة اللغة، وفي ذلك للإمبرياليين والاستعماريين تجارب عظيمة، فمن منا ينسى ذلك اللعب الذكي على الألفاظ عندما صيغ قرار مجلس الأمن 242 السيئ الصيت الذي يساوي بين القاتل والمقتول بعبقرية العدالة الغربية التي تتسلل بين الجلد واللحم وتحيل بياض اللبن إلى سواد الليل الفاحم، وتحيل الحقائق إلى أكاذيب، والضحية إلى قاتل، وهكذا يتحول الكذب إلى فن يدرس في الجامعات والمعاهد ويعمل به بلا حياء.
صدق أو لا تصدق، تغزو جيوشهم المتطورة بأجهزة القتل الجماعية دولاً وشعوب لتبحث عن قبضة من الرجال بتهمة الإرهاب، ثم تبدأ مطاردة شعب بأسرة بتهمة دعمه للإرهاب، ثم تتهم أمة بأكملها بأن أنها تتمتع بأخلاق إرهابية، ثم تتهم ديانة بمئات الملايين بأن تعاليمها إرهابية، وصدق أو لا تصدق أن بعضنا صدق، أو مصلحته في أن يصدق، فتواطئ مع الغزاة ليصدق، فتعاون وأنحدر إلى درجة غير إنسانية، ثم ضرب أبناء جلدته ومواطنيه بكرباج الغاز المحتل لقاء مكاسب وقتية، فأنسلخ عن كينونته البشرية.
القاعدة عندهم: دعنا ندخل بلادك ونستولي على ثرواتك ونقتطع من أرضك قدر ما نشاء حتى دون تفاهم معك، وعليك أن تقبل، وإذا لم تقبل، بل أن ترحب وتظهر الفرح، فأنت ضد النظام الدولي، وإن قاومت .. فأنت أرهابي .. هذه هي النسخة الأحدث من المبادئ الديمقراطية.
هم بصدد صياغة ثقافة جديدة مفادها: يحق لنا أن نقتل من نشاء، وأن نثير الكراهية ضد من نشاء، ونشتري الأنفس والضمائر، وهذه عملية حضارية، نشتمكم صباح مساء في الصحف والمجلات وقنوات التلفاز وأفلام السينما، ونظهركم كوحوش الكرة الأرضية، ونصدر بحق رموزكم الصور وهذا فن وحرية رأي، ولكن إياك أن تشكك برقم مثير للشكوك، فتتهم بأنك معاد للسامية ويحكم عليك بمدة لا تقل عن عشرة سنوات .. نعم هذه صلب الديمقراطية ... وهكذا وإلا فلا...
إن شئنا أن نذكر معطيات بسيطة .. بسيطة جداً سيبدو ظاهراً للعيان حتى لمن كان بعين واحدة، أو بنصف عين من هو الإرهابي:
* قتل المستوطنون البيض 60 مليون من الهنود الحمر من سكان أمريكا الأصليين.
* قتل 100 ـ 200 مليون أفريقي أسود اختطفوا من أوطانهم في أفريقيا وتعرضوا لحملات
صيد ونقلوا كعبيد إلى أمريكا لاستصلاح الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية
جماعية.
* قضت الحروب الصليبية على أربعة ملايين إنسان في المشرق العربي.
* قتلت الحروب الاستعمارية بعد الثورة الصناعية 50 مليون إنسان.
* قتلت الحربين العالميتين الأولى والثانية 70 مليون إنسان.
* أوربا قتلت 6 ملايين يهودي (وفق أرقامهم).
* قتل الأمريكان في العراق (بعد انتهاء الحرب) مليون و200 ألف مدني عراقي، وفق أكثر الأرقام تواضعاً.
* في المرحلة ما بين 1945 / 1975 خاضت الدول (المتقدمة) في أربعة قارات: أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية 241 حربا أو نزاعاً مسلحاً منها: 9 في أوربا، 95 في أفريقيا، 137 في أميركا .
ويكتب الأستاذ الأمريكي نيف قائلاً: "التقدم الصناعي قلص احتمالات المواجهة الفردية في ميادين القتال، ومع بقاء قاعدة الاستراتيجيين وخبراء التعبئة إلى أن الهدف من إشعال الحروب هو القضاء على العدو، إلا أن أمماً بأكملها تحولت إلى أهداف حربية"
وتسهم أجهزة الإعلامية التي تعمل بتنسيق أوركسترالي مع الأجهزة السياسية والعسكرية، وتروج لحزمة من الأكاذيب تجعل منها الحبة ليس قبة فحسب، بل قارة كاملة، ويمكن ببساطة طبعاً بالأستعانة بالوسائل التكنولوجية، تحويل شعب كامل وأمة كاملة إلى زناديق وأرهابيين وقتلة يستحق أن نشد الرحال إليهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم .. وبذاك تصبح الدعاية وسيلة فاعلة في إثارة العنف وإشعال الحروب بدلاً من أن تكون الأداة لكبح جماحها.
هذا إعلام أشد غوغائية بكثير عن أبواق الفاشية، وإنها لديمقراطية مشكوك فيها، تلك التي تصل بمعتوه مرتين لسدة الرئاسة، إنها دون ريب توافق مصالح دوائر وقوى خفية تقرر في النهاية وإن بفارق مئات الأصوات من يحكم إمبراطورية نشأت على القتل واستمرأته وصارت تمارسه، حتى غدا ضرب من ممارسة سياسية تعكس أخلاق رعاة البقر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: