منهج ابن عبد ربه في تهذيب كتاب العروض للخليل وأثره في نشأة الخلاف بين العروضيين من بعده (1/3)
سليمان أحمد أبو ستة - فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1728
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من البحوث المشاركة في مؤتمر عروض الشعر العربي بين طلاقة الفن وانضباط العلم والمنشور في عدد خاص من مجلة جامعة الطائف للعلوم الإنسانية.
ملخص البحث
لا يمكن لأحد من العروضيين اليوم أن يؤكد أنه وقف على رواية يوثق بها لكتاب العروض للخليل أو لأحد من تلاميذه الوثيقي الصلة به بحيث نطمئن إليها كلّ الاطمئنان. ومع ذلك فإن بين أيدينا اليوم أقدم كتابين في العروض يمكننا القول أنهما يحققان ما نعنيه بوجود شبه رواية قد تكون وثيقة الصلة بالخليل، وذلك في حال تم إخضاعها إلى شيء من البحث المطلوب.
هذان الكتابان هما أعاريض الشعر لابن عبد ربه، وهو أحد كتب العقد الفريد. وأما الثاني فهو كتاب الإقناعi لأبي الحسن العروضي (342 ه)، ومع أن الأول أقدمهما إلا أن الإفادة منه لا تتحقق به وحده، فكان لزاما علينا الاعتماد على آخر يكون مصاحبا له كنوع من المقارنة، وهو ما أدى إلى كشف قدر من التهذيب أو التحوير في كتاب الخليل الذي قام بتلخيصه ابن عبد ربه.
ولقد شق هذان الكتابان بمنهجيهما المتباينين مسارين لهما في رحلة العروض الخليلي منذ مطلع القرن الرابع وحتى اليوم، بحيث انبثقت من الخلاف الذي دار بين العروضيين حول صحّة ما نقله ابن عبد ربه من كتاب الخليل، وما أحدثه هذا الخلاف من هجر لبعض ضروب الشعر من ناحية، وبعْث بل خلْق لضروب جديدة كشف عنها هذا البحث.
مقدمة
يعدّ كتاب "أعاريض الشعر"، في العقد الفريد، نسخة مهذّبة من كتاب العروض المفقود للخليل بن أحمد (175ه)، إذ قال ابن عبد ربه في وصف كتابه الذي وصلنا: "فأكمَلت جَميع هذه العَروض في هذا الكِتاب الذي هو جُزءان: فجُزء للفَرش وجُزء للمِثال، مُختَصَرا مُبَيَّنا مُفَسَّرا".ii
ومسألة التهذيب هذه، التي لم يأت على ذكرها ابن عبد ربه في قوله هذا، متضمّنة أيضا في تلك الأوصاف الثلاثة التي تعدّ من أركان التهذيب. فالاختصار يتيح له حذف كلام، والبيان يشتمل على إضافة كلام غيره بقصد الإيضاح، وأما التفسير فهو الغاية المرجوّة من ذلك التهذيب كله.
وإلى جانب قضية التهذيب هذه، يتناول البحث قضية أخرى ارتبطت بها وكانت سببا فيها، ألا وهي قضية الخلاف بين العروضيين منذ أن اختطّ كل فريق منهما طريقا له يختصّ به وحده.
أهداف البحث:
1 – التقرّب غير المباشر من أصل كتاب العروض المفقود للخليل بن أحمد عبر كشف طريقة تهذيبه.
2 – معرفة دور التهذيب في تطور العلم العروضي بعد الخليل.
أهمية البحث:
وجود علاقة بين تهذيب كتاب العروض للخليل على يد ابن عبد ربه، وبين الخلاف المستمر بين العروضيين بشأن صحّة النقل عنه وبالأخصّ في ضربين من بحري السريع والمتقارب.
الدراسات السابقة:
التفت الزنجاني (كان حيا 660 ه) والعبيدي (749 ه) مبكّرين لقضيّة الخلاف هذه، فقد نقلا عن الخوارزمي أخذه بالضرب السابع في السريع مع نفيه إثبات الخليل له، وقالاiii بأن من العروضّيين من لم يثبته أيضا. ثم ذكر لنا الثاني أسماء أخرى تبدو لنا اليوم مجهولة ولم نتيقّن بعد من رأيها، كخشنام وابن عبد العزيز والبارقي الذي نسب للخليل إثبات الضرب الأصلم في السريع.
وأما في زماننا الحالي، فقد اهتم بهذه القضية باحثان هما د. محمد العلميiv ود. مضاوي الحميدة vالتي أوردت اسم ابن عبد ربه واحدا من بين هؤلاء، ثم قالت "ويبدو أن سبب اختلاف العروضيين ... ما ذكره رضي الدين بن الحنبلي من أنهم لم يرجعوا إلى نصّ للخليل بالذات".وقد قدّم الباحثان كذلك، أسماء جديدة أخرى في مسيرة الخلاف الطويلة هذه، مما يشير إلى أن هذا الخلاف قد حفر مجرى عميقا له في تاريخ علم العروض العربي . ومع ذلك فلم يتبيّن لأحد من هؤلاء جميعا منشأ هذا الخلاف، وهو ما سنستهل به الكلام في هذا البحث.
مشكلة البحث: تحاول هذه الدراسة أن تجيب على السؤال التالي:
هل يوجد تأثير لتهذيب ابن عبد ربه كتاب العروض للخليل، على الخلاف الذي وقع بين العروضيين في ضربي بحرين هما السريع والمتقارب؟
مجال البحث: كتب العروضيين التي وصلنا شيئ منها والمكتملة حتى اليوم.
منهج البحث: تستلزم طبيعة هذا البحث استخدام المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي النقدي، فقد قمت باستقراء وحصر العروضيّين الذين وافقت آراؤهم رأي ابن عبد ربه في ضروب بحري السريع والمتقارب، بما فيهم البارقي الذي لم نعلم تاريخ وفاته بالضبط وإن كان مرجّحا أخذه رأيه ذاك عن ابن عبد ربه. وقد أفدنا كذلك من المنهج التاريخي، لا سيما في مراجعتنا لكتاب أعاريض الشعر لابن عبد ربه.
خطة البحث: يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة: فقد بيّنت فيها أهمية الموضوع وسبب اختياره ومنهجي في البحث بالإضافة إلى تبيان مشكلته وخطة ومجال البحث فيه. وأما التمهيد فقد عرضت فيه للنموذج العروضي الخليلي والمعدّل مع قائمة بالرموز المستخدمة في البحث.
المبحث الأول: ابن عبد ربّه وجهوده في تهذيب مختاراته من الكتب.
المبحث الثاني: تهذيب كتاب العروض للخليل بفرشه ومثاله، ودوره في استحداث ضربين جديدين.
المبحث الثالث: مخالفة ابن عبد ربه للخليل في تعريفه للمعتل.
المبحث الرابع: ثورة ابن عبد ربه وهيجانه الغريب على الخليل.
التمهيد
لأن هذا البحث يشتمل على أنساق جديدة لم ترد في العروض الخليل، فقد رأيت أنه يقتضيني التمهيد له بمبحث يشتمل بالإضافة إلى شرح مكوناته وأشكاله زيادة ثبت للرموز المستخدمة فيه.
الرموز المستخدمة في البحث
ق = النسق أو الدور
ن = عدد مرات تكرار النسق
السبب الخفيف: س = ب أو ـــ
الوتد المجموع: و = ب -
الوتد المفروق: (و) = ـــ ب
الوتد المفروق المعتل: [(و)] = ــــ
السبب الخفيف المعتل بالبسط: [س] = ـــ
السبب الخفيف المعتل بالقبض: <س> = ب
حيث - : مقطع طويل، ب : مقطع قصير
1 – النموذج العروضي القديم
يعد النموذج فكرة أساسية يبنى عليها العلم. وعلى ذلك سوف نستعرض تطور النموذج العروضي من زمن الجاهلية وحتى عصرنا الحاضر مرورا بعدة نماذج متميزة منه، أهمها نموذج الخليل المستند إلى فكرة الدوائر.
وهو أول النماذج التي وصلتنا قبل الخليل، وكان نموذجا شديد البساطة، يفتقر إلى التجريد الذي هو صفة العلم، ومؤلفا من كلمتين فحسب، هما نعم ولا. وذلك نحو:
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم للا
(وهو وزن صدر بيت من الطويل)
وقد صيغت، لتأليف هذا (العلم) في الجاهلية، نماذج عدّة بعدد البحور التي نظموا عليها، وبمختلف أعاريضها وضروبها. مع ملاحظة أن مصطلحي العروض والضرب، بمعنى أجزاء البيت، لم يكونا مستعملين في ذلك الحين، أو أنهما كانا يبحثان عن صيغة تجريدية تفي بالمعنى المطلوب، وكان عليهما أن ينتظرا لحين مقدم الخليل بن أحمد (175 ه)، حتى حتى يتم استخدامهما الاستخدام الأمثل في نموذجه. غير أن الرواة ذكروا مصطلحات كثيرة أخرى في علم العروض والقافية، قد طورها الخليل في زمانه وألحقها بالنموذج الذي زاد اكتمالا وقبولا بعد ذلك، ثم ظل ساريا إلى زمننا الحالي.
2 – نموذج الخليل
كان نموذج الخليل من الدوائر الخمس هو أول نموذج علمي مشفوع بقوانين من مثل المعاقبة والمراقبة والمكانفة وغير ذلك من القواعد التي جعلت هذا الفن يسمّى للمرة الأولى علم العروض في وقت كانت فيه أغلب علوم العصر هي مما يميل بعضه إلى السحر، وبعضه إلى التنجيم كالسيمياء والفلك القديمين مثلا ما عدا الرياضيات بطبيعة الحال.
3 – النموذج الدوري الحديث أو النسق المتنامي
لما كان علم العروض يناظر علم الكيمياء الحديث من عدة وجوه، فقد جرى وصف هذا النموذج بالدوري لشبهه بالجدول الدوري للعناصر، وهو قائم في الأساس على فكرة الدور المستخدمة في الموسيقى والغناء والشعر. أما مصطلح النسق المتنامي، فيبدو أنه جاء ليحقّق حلم البعض من العروضيين قديما وحديثا في توحيد دوائر الخليل وجعلها لا تزيد عن دائرة واحدة أو اثنتين كما نجد ذلك عند السكّاكيvi وإبراهيم أنيسvii.
- يمثل الجدول رقم 1 صورة رمزية للجدول الدوري الحديث لبحور الشعر، وقد يسمى النسق المتنامي تبعا لآلية تأليفه المتدرجة من بحور قصيرة الدور، بحيث تزداد في كل محور من محاوره التسعة بدءا بالخبب وانتهاء بالمنسرح والخفيف. ويتميز كل نسق ق بعدد أدواره ن ، فبحر البسيط يأتي في حالتين، الأولى حين تكون ن تساوي 1 وهو بحر لم يذكره الخليل، والحالة الثانية حين تكون ن تساوي 2 وهو بحر البسيط الخليلي.
- تظهر البحور في الجدول أقرب ما تكون إلى الواقع الشعر من غير حاجة إلى افتراض مصطلحات كالجزء والشطر والنهك، حيث أن طول البحر يتحدّد بالمعادلة التالية:
الطول = ق x ن
- أما الجدول رقم 2 فهو جدول الخليل وقد مرّ بعدّة مراحل لجعله أقرب إلى المقارنة مع الجدول الدوري الحديث. لذلك فهو خلاصة لنموذجي أبي بكر بن السراج (316 ه)viii الذي طوّره محمد المحلّي (673 ه)ix، وفيه يلاحظ أن المحور الثالث يمثل دائرتي المجتلب والمؤتلف عند الخليل، وذلك لأنه يسري عليه القانون المستخدم في الجدول الحديث، وهو فيما يخص مواضع وجود السبب الثقيل بنسقه المتنامي وذلك ضمن الشرطين التاليين:
أولا: حيث لا يشترك الوتد في تأليف النسق، وبالتالي يكون المقصود من السبب فيه هو الثقيل فقط.
ثانيا: عندما يتبادل السبب الثقيل مع الخفيف موضع أول السببين في التشكيل الثنائي فقط، وعندها لا يجب أن يكون في النسق الإيقاعي كله، سببٌ حرّ الحركة قبضاً وبسطاً.
فالشرط الأول تعبير عن وجود الخبب (س)، وأما الثاني فلتوليد بحري الكامل (س)[س] و، والوافر و (س)[س] ، من الرجز والهزج على التوالي.
وقريبا من نموذج ابن السرّاج نجد نموذج ابن مضاء القرطبي المعروف بابن الحصّار (أحد لغوييّ القرن الرابع الهجري) مما يدلّ على اتفاق العروضيين منذ زمن مبكر بالاندلس في هاجس ترتيب البحور ابتداء من أقل مكوّناتها السبب_وتدية المخالف لترتيب الخليل.x
- ويفترض نموذج الخليل الذي يتلاقى مع النموذج الحديث في ثلاثة محاور هي الثاني والثالث والخامس أن الخليل لو اتبع الطريقة المنطقية في تأليف جدوله، فلا بدّ له أن يقع في المحور السادس، وبشكل مباشر، على ثلاثة من بحور دائرة المشتبه عنده، من غير أن يتكلّف صنع قاعدة للجزء، وهذه البحور هي المضارع والمقتضب والمجتث بالإضافة إلى البحر الذي عدّه الخليل من مجزوء الخفيف.
مثال تطبيقي على بحور المحور الثالث من الجدولين 1،2
يشتمل هذا المحور على خمسة بحور هي الهزج والوافر والرجز والكامل والرمل. ويلاحظ فيه أن الرمل لا يتوفر له مقابل خببي كما للهزج والرجز، وذلك بسبب احتوائه في الحشو على سبب حرّ الحركة قبضا وبسطا.
*********
الإحالات:
i - وقد طبع الكتاب بعنوان الجامع في العروض والقوافي اجتهادا من محققيه، وفضلنا أن نعيد له عنوانه الحقيقي كما ظهر في فهارس كتاب الوافي في علمي العروض والقوافي للعبيدي وفي تصحيح المقياس لابن الخباز وانظر مقالا لي بموقع بوابتي.
ii - العقد الفريد ص 424/5
iii - انظر معيار النظار ص 59/1 والوافي في علمي العروض والقوافي ص 414 - 416
iv - انظر العروض والقافية ص 151
v- انظر ظاهرة التداخل في البحور العروضية ص 292
vi - مفتاح العلوم ص 685
vii - موسيقى الشعر ص 137
viii - العروض المنسوب لابن السراج ص 20 -23
ix - شفاء الغليل ص 124 – 168
x - كتاب العروض لابن مضاء القرطبي ص 40 - 43
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: