أوزان ابن عبد ربه وقوافيه
دراسة إحصائية على نهج أبي العلاء (*)
سليمان أحمد أبو ستة - غزة / فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1707
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة:
لم يبلغ إلى علمي، في جميع ما قرأته للمعريّ، أنه ذكرَ ابنَ عبد ربّه صاحبَ العقد الفريد أو أشار إلى كتابه ذاك أو شعره، مع أن المتنبي كان شديد الإعجاب به حين وصفه بمليح الأندلس وهو يستَنشِد أحد الحُجّاج الأندلسيين شِعرَه ويستعيده الإنشاد ثم يصفق بيديه قائلا: يابنَ عبدِ ربّه، لَقد يأتيكَ العراقُ حَبوا!
وأقول هذا لأني رأيت المعري أتى بأشياء في العروض واللغة بدا للكثيرين أنه سبق بها غيرَه مع وجود ما ينقض ذلك الزعم. فقد عُرِف المعري بكثرة استخدامه للمصطلحات العلمية على سبيل المجاز في شعره، نحو قوله:
فَلَو كان المُثَقَّفُ جُملَةَ اسمٍ || أَبَى التَرخيمَ صارَ حُروفَ هاجِ
أو قوله:
فَلَو كُنتَ شِعراً كُنتَ أَحسَنَ مُنشَدٍ || سَليمَ القَوافي لا زِحافٌ وَلا خَرمُ
وتوسع في ذلك توسعا كبيرا إلى الحد الذي دعا بعضهم إلى القول: "ومن إيثاره هذه النزعة استخدامه مصطلحات ووسائل العلوم والفنون الخاصة في اختراع المعاني العامة وتوسيع الطاقة اللغوية والبيانية بحذق وعمق سواء أكان ذلك في الشعر أم في النثر، مما لم يسبق إليه".
غير أن المعري كان في ذلك مسبوقا بابن عبد ربه في نحو قوله:
أضحى لَكَ التَدبيرُ مُطَّرِداً || مِثلَ اطِّرادِ الفِعلِ للاسم
وقوله:
على أهازيجِ ظُباً بَينَها || ما شِئتَ مِن حَذفٍ وَمِن خَرمِ
وذكر القفطي للمعري كتابا أسماه " جامع الأوزان الخمسة "[ عشر ] التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها ويذكر فيه قوافي كل ضرب ... ومقدار هذا الكتاب ستون كراسة، ويكون عدد أبيات الشعر المنظومة نحوا من تسعة آلاف بيت".
ونفهم من هذا القول أن المعري مثل لكل ضرب بمقطعة شعرية كما فعل ابن عبد ربه بصنعه لثلاث وستين مقطعة غزلية بعدد ضروب العروض مضمّنا كل واحدة منها بيتا مما استشهد به الخليل في عروضه. ثم أكمل ذلك بمقطعات على روي حروف الهجاء من الألف إلى الياء ولكنه لم يبلغ في ذلك ما بلغه المعري، فيبدو أن هذا الأخير استوفى في نظمه على كل ضرب روي أحرف الهجاء كلها. ومع ذلك يبقى لابن عبد ربه فضل السبق والريادة فيما ألصق وضعه بالمعري وحده.
غير أن الذي جاء به المعري _ في نظري _غير مسبوق إليه، ودلّ في ذلك على حافظة قوية وحس ثاقب هي هذه الإحصاءات التي أثبتها في أعقاب شرحه لدوايين الشعر، ومن أهمها دراسته التي عقدها لإحصاء الأوزان والقوافي عند المتنبي.
ونحن لا نظن أن أحدا يمكن أن يكون سبق أبا العلاء المعري في اهتمامه بالإحصاء كوسيلة للتعرف على ظواهر معينة في الأوزان والقوافي، الأمر الذي نراه انعكس أثره على كثير من الأحكام التي أصدرها أبو العلاء في دراساته العروضية وخاصة ما تعلق منها بتقبل الغريزة لبعض الزحافات في الشعر أو نفورها منها، مما قد يتوهم به البعض أنه كان يصدر في ذلك عن حكم ذاتي.
ولم يكن علم الإحصاء في ذلك الوقت يقارن بما هو عليه الآن من تقدم وانتشار يكاد يشمل جميع فروع المعرفة، بل ولم يكن متوقعا من أبي العلاء نفسه أن يسلك سبيل الإحصاء نظرا لظروفه الشخصية المتمثلة بكف بصره، ومع ذلك لا يسعنا إلا أن نعجب بعمل المعري هذا ونسجل له الريادة فيه غير منازع عليها.
وتعد دراسة أبي العلاء لأوزان المتنبي وقوافيه من أكمل الدراسات الإحصائية في عصره لشعر شاعر معين تلتها أو ربما سبقتها دراسته التي حصر بها الأوزان والضروب وأنواع القوافي المستخدمة في ديوان الحماسة لأبي تمام، وإن لم تكن بعمق دراسته الأولى. ولقد تبين لي أن هذه الدراسة، بهيكلها الذي أقيمت عليه، يمكن استخدامها وسيلة إحصائية ملائمة للتطبيق على شعر أي شاعر ما دام متبعا في أوزانه نهج الخليل. وقد اخترت ابن عبد ربه لأجري على شعره هذه الدراسة مستخدما نموذج المعري بحذافيره كشاهد على صلاحية تطبيق هذا النموذج على مختلف الشعراء.
أما لماذا ابن عبد ربه بالذات وقد علمنا أن ديوان شعره الذي قيل أنه بلغ نيّفا وعشرين جزءا قد ضاع ولم يبق منه إلا شذرات جمعها بعضهم مما تناثر في الكتب إضافة إلى ما سجله بنفسه في كتابه العقد؟
فلأن هذا الذي بقي لنا من شعر ابن عبد ربه يمثل عينة عشوائية لمجمل ديوانه الكبير، وسنرى أنه على الرغم من قلة هذه العينة فقد أثبتت لنا أنه فاق المتنبي في عدد الأوزان والضروب التي استخدمها، وإن كان ذلك بنسبة ضئيلة. فقد استخدم ابن عبد ربه ستة وعشرين ضربا لاثني عشر وزنا مقابل خمسة وعشرين ضربا لأحد عشر وزنا استخدمها المتنبي.
وقد أخرجنا من الإحصاء أشعار ابن عبد ربه التي صنعها للتمثيل على ضروب الشعر الثلاثة والستين، لأن القصد في نظمها واضح، والدراسة تتحرى الأشعار المنظومة لا المصنوعة بقصد التمثيل.
وقد اتفق المتنبي وابن عبد ربه في النظم على مختلف الأوزان والضروب التي استخدماها، ولكن يلاحظ عدم استخدام المتنبي لوزنين شائعين هما المديد والهزج، مع أنهما ليسا من الأوزان النادرة، بينما يلاحظ عدم ظهور المتقارب فيما جمع من شعر ابن عبد ربه.
نقد إحصاء المعري
اعتمد المعري في إحصائه لأوزان المتنبي وقوافيه لغة علمية مغرقة في موضوعيتها، وجريها على وتيرة واحدة فكادت تشبه الجداول البيانية في اتخاذها هذا الأسلوب الدقيق. لذلك لم أجد حرجا في استخدام هذا النموذج بحرفيته تقريبا، واستكملته بما اقتبسته من كتب المعري الأخرى للزيادة في التأكيد على ريادته في هذا السبيل وإعلانا لتتبعنا خطاه، وفي ظننا أن هذا المسلك لا يكاد يخفى على من كانت له أدنى ألفة بأسلوب المعري.
ولكن قبل أن نشرع في إحصائنا هذا نود لفت الانتباه إلى بعض الملاحظات على إحصاء المعري مما لم ينتبه إليه محققا دراسته هذه؛ فقد سها المعري عن ذكر استخدام المتنبي لثالث السريع في نحو قوله:
لَم تَرَ مَن نادَمتُ إلاكا || لا لِسِوى وُدّكَ لي ذاكا
وقوله:
لَو كانَ ذا الآكِلُ أزوادَنا || ضَيفاً لأوسَعناه إحسانا
وقوله:
جاءت دَنانيرُكَ مَختومةً || عاجِلةً ألفاً على ألفِ
وكذلك لم يذكر المعري استخدام المتنبي لزحاف القبض في الطويل وكان في بيت واحد رواه الواحدي وهو قوله:
هُما خَلَّتانِ ثَروة أو مَنيّة || لَعَلَّكَ أن تُبقي بِواحِدة ذِكرا
وقد يكون له عذره في ذلك من حيث أنه لم يثبت هذا البيت في روايته للديوان، ولكن كان على المحققين أن يشيرا إلى ذلك في دراستهما لهذا العمل.
وكان في النسخة التي حققها محمد الحمصي خطأ ارتكبه الناسخ في قوله من زحاف البسيط: "ولا تنفر الغريزة من خبن الخماسي، ولم يستعمله أحد من المحدثين" فكلمة (لا) مقحمة على النص إقحاما بّينا، وكان على المحقق أن ينتبه إلى المقصود من الجملة بعدها في دلالتها على عدم استعمال المحدثين لهذا الزحاف الذي تنفر منه الغريزة.
ومما يؤسف له أن هذا المحقق استثمر الخطأ نفسه في دراسته التي خصصها لمذاهب أبي العلاء في اللغة وعلومها فبنى عليه رأيا لا نظن المعري يوافقه عليه.
وقد خلت النسخة التي حققها السعيد عبادة من هذا الخطأ، وهذا يدلنا على مخاطر الاعتماد في التحقيق على نسخة وحيدة ما لم يتوفر للمحقق تعمق كاف بكل تشعبات الموضوع الذي يبحثه.
الإحصاء
استعمل ابن عبد ربه من الأوزان التي ذكرها الخليل اثني عشر وزنا: الطويل، والمديد، والبسيط، والوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع، والمنسرح، والخفيف، والمجتث.
ولم يستعمل ثلاثة وهي: المضارع، والمقتضب، والمتقارب.
وقد استعمل الطويل بضروبه الثلاثة ، الأول كقوله:
هُوَ الفَتحُ مَنظوماً عَلى إثرِهِ الفَتحُ
والثاني كقوله:
أناحَت حَماماتُ اللِوى أم تَغَنَّتِ
والثالث كقوله:
كِلاني لِما بي عاذِلَيَّ كَفاني
واستعمل السادس من المديد، كقوله:
كُلُّ ما تَطوي جَوانِحُهُ || فَهوَ في العَينَينِ مَكتوبُ
واستعمل من البسيط ثلاثة أضرب ، الأول كقوله:
الجِسمُ في بَلَدٍ والروحُ في بَلَدِ
والثاني كقوله:
أطلالُ لَهوِكَ قَد أقوَت مَغانيها
والسادس كقوله:
وَرُبَّ مُلتَّفةِ المَعالي || يَلتَمِعُ المَوتُ في ذُراها
واستعمل الأول من الوافر ، كقوله:
رَجاء دون أقرَبِه السَحابُ
وجاء من الكامل بالأول ، كقوله:
أدعو إلَيكَ فَلا دُعاء يُسمَعُ
وبالثاني كقوله:
يالؤلؤاً يَسبي العُقولَ أنيقا
وبالخامس كقوله:
يا مَن تَجَلَّدَ لِلزَما (م) نِ أما زَمانُكَ مِنكَ أجلَد
وبالسابع كقوله:
قَولٌ كَأنَّ فَريدَهُ || سِحرٌ عَلى ذِهن اللَبيب
وبالثامن كقوله:
لَم يَبقَ مِن جُثمانِهِ || إلا حُشاشة مُبتَئِس
واستعمل الأول من الهزج، كقوله:
فأينَ الزيجُ والقانو (م) نُ والأركَند والكَمّة
وجاء بمجزوء الرجز، كقوله:
لَستَ بِقاضٍ أمَلي || وَلا بِعادٍ أجَلي
وجاء بمشطور الرجز، كقوله:
يَختَلِسُ الأنفُسَ بِاستِلابِهِ
وجاء بالثالث من الرمل في قوله:
هَيَّجَ البَينُ دَواعي سَقَمي
وبالخامس كقوله:
أيُّها البَدرُ الذي ضَــ(م)ـــنّ عَلَينا بِالطُلوع
وجاء بالسريع الأول في قوله:
مَدامِع قَد خَدَّدَت في الخُدود
وبالسريع الثاني في مثل قوله:
ما قدّر الله هو الغالبُ
وبالسريع الثالث في مثل قوله:
قد َصرّحَ الأعداءُ بالبَينِ
وبالضرب السادس من السريع في رأي الخليل كقوله:
رُبّ بَقيعٍ طامِسِ المِنهاجِ
والعرب تسمي هذا رجزا كما ذكر أبو العلاء.
وجاء بالمنسرح الأول في مثل قوله:
أمّا الهُدى فاستَقام مِن أوَدِه
وبثاني المنسرح، ولم يذكره الخليل ولا حتى ابن عبد ربه في عروضه، كقوله:
يا مَلِكاً يَزدَهي بِهِ المِنبَر || والمَسجِدُ الجامِعُ الذي عَمَّرْ
ومن يجئ بمثل هذا الضرب مقيدا، كما جاء به ابن عبد ربه، يسهل له الخروج إلى الضرب الأول، ويجتمع له في القافية النوعان: المتراكب والمتواتر كما اجتمعا في قصيدة المرقش من رابع السريع، وقصيدة عدي بن زيد من رابع الكامل وخامسه، إذا جاز القول، ومنها:
مِن آلِ لَيلى دِمنة وَطَلَلْ || قَد أقفَرَت فيها النَعامُ زَجِلْ
وَلَقَد غَدَوتُ بِسابِحٍ مَرِحٍ || وَمَعي شَبابٌ كُلُّهُم أخيَلْ
وشروط القافية في الشعر العربي تقبل مثل هذا التناوب بين النوعين.
وجاء بالأول من الخفيف ، كقوله:
باكِر الرَوضَ في رياض السُرورِ
وبالمجتث في قوله:
بدا الهِلالُ جَديداً || والمُلكُ غَضّ جَديدُ
**********
فأما الطويل فلم يزاحف فيه زحافا تنكره الغريزة إلا في موضع واحد ، وذلك قوله:
دِيارُ الذينَ كَذَّبوا رُسلَ رَبِّهِم || فَلاقَوا عَذاباً كانَ مَوعِدَهُ الصُبحُ
وإن لم يكن في النسخة المنقول عنها تحريف، فلا ريب أنه قاله على البديه. وقل ما تسلم قصيدة جاهلية بنيت على الطويل من أن يستعمل فيها قبض السباعي، أما امرؤ القيس فكثير الاستعمال له، وأما النابغة وزهير وأعشى قيس فيستعملون ذلك دون استعمال الملك الضليل.
ولو أن لي حكما في البيت لجعلت أوّله (ديار أناس كذّبوا) أو (ديار الألى قد كذّبوا)
ولم يكف السباعي، وقد كفته فحول الشعراء. أليس أكثر الرواة ينشد قول امرئ القيس على الكف:
ألا رُبَّ يَومٍ لَكَ مِنهُنَّ صالِحٍ || وَلا سيَّما يَومٍ بِدارة جُلجُلِ
وإنما جاء بما لا تنكره الغريزة، وهو سقوط نون الجزء الخماسي، وذلك كثير في الشعر القديم والمحدث، وفي قوله:
تَطيرُ بِلا ريشٍ إلى كُلِّ صَيحة || وتَسبَحُ في البَرِّ الذي ما بِهِ سَبحُ
زحافان، أحدهما في ( تطير ) والآخر في ( تسبح ).
وأما أول البسيط فجاء فيه بزحاف يسمى الخبن، ولا تأثير له في الغريزة. ومنه ما يقع في جزء سباعي، ومن ذلك قوله:
تَرى الأباريقَ والأكواسَ مائلةً || وكُلُّ طاسٍ مِن الإبريزِ مُمتَثِلُ
ففي قوله ( ترى ) زحاف، وكذلك قوله ( وكل )، وهذا زحاف السباعي. وأما زحاف الخماسي فمثل قوله:
بَحرٌ يَسيرُ عَلى بَحرٍ بِجارِيةٍ || لِلبَحرِ حامِلةٍ بالبَحرِ تُحتَمَلُ
فبعد الياء الساكنة من قوله ( يسير ) زحاف، وكذلك بعد الألف من ( حاملة )، وهو زحاف الخماسي. ولم يجئ بزحاف يسمى الطي في الجزء الأول من أول البسيط وثانيه ، والغريزة تنفر منه ، وهو سقوط الرابع من هذا الجزء ، كقول المتنبي:
رُبَّ نَجيعٍ بِسَيفِ الدَولة انسَفَكا
ولم يزاحف الجزء الثالث من أول البسيط وثانيه، والجزء الثالث من البسيط أي حرف سقط منه بان فيه لصاحب الذوق، وليس كذلك غيره من الأجزاء، كقول الأعشى:
عُلّقتها عرَضا وعُلّقت رجلا || غيري وعُلّق أخرى غيرها الرجلُ
فقوله ( وعلقت ) هو الجزء الثالث، وقد أصابه الخبن ... ولو أصابه الطي كان أشنع، وهو كالمفقود في شعر العرب، فإن أصابه الخبل فهو أشنع ، وذلك كالمفقود في شعر العرب أيضا. على أن الخليل قد أجازه في الأجزاء السباعية كلها من هذا الجنس.
وأول البسيط وثانيه يستوي الزحاف فيهما، فما قبح في الأول قبح في الثاني، وما خفي في أحدهما خفي في الآخر.
وأما السادس منه فلا يقبح فيه خبن السباعي ولا طيه، وتنفر الغريزة من خبن الخماسي، ولم يستعمله أحد من المحدثين. ومن خبن السباعي قوله:
وقُل لِمن لام في التَصابي || إلَيكَ خَلّي عَن الطَريقِ
كان في بعض النسخ (خلّ)، وله وجه صحيح إلا أن تنفر الغريزة من خبن الخماسي. ولعل الرواية الأصح هي ما نقله أبو بحر التجيبي عن إحدى نسخ العقد وجاء فيه ابن عبد ربه بالطي الخفي من قوله:
خَلّ قليلاً عن الطريق
وأما الوافر فاستعمل فيه العصب، وهو سقوط الخامس من السباعي، وقد كثر في الشعر القديم والمحدث، قال:
سَقى ذاك الثرى وَبْلُ الثُرَيّا || وغادى نَبتَهُ صَوبُ الغَوادي
وفي هذا البيت عصب في أربعة مواضع.
وأما الكامل فإنه زاحف فيه الزحاف الذي يسمى الإضمار، وهو كثير جدا في كل شعر من الوزن الكامل، من ذلك قوله:
حَوراءُ داعَبَها الهَوى في حور
والإضمار: سكون الحرف الثاني.
وأما الرجز فجاء فيه بالطي والخبن، وكلاهما غير قبيح، كقوله:
لَستَ بقاضٍ أمَلي
وكقوله:
يَمونُ أهلَ البَيتِ باكتِسابِه
والجزء من الرجز يدركه الطي تارة والخبن مرة والخبل أخرى، وكل ذلك يسهل فيه، وهذا شطر قد اجتمع فيه الأصناف الثلاثة ولا بأس به في الذوق ، وهو قوله:
فَنَزَعَ الحاجِبُ تاجَ مُلكِهِ
وأما الرمل فجاء فيه بالخبن، وهو سقوط الثاني من سباعيه، كقوله:
ولَقَد هاجَ لِقَلبي سَقَماً || ذِكرُ مَن لَو شاءَ داوى سَقَمي
ففي النصف الأول خبن في المواضع الثلاثة.
وأما السريع فطوى فيه وخبن، كقوله:
وَرديّةٌ يَحمِلُها شادِن || في مُشرَبِ الحُمرةِ وَرديُّ
ففي هذا البيت طي في موضعين. وقوله:
كَأنّهُ والكأسُ في كَفِّهِ || بَدرُ دُجى يَسعى بِدُرّيّ
فيه خبن في قوله ( كأنه ).
وأما المنسرح فاستعمل في أول جزء منه الطي، كقوله:
وانتَعَشَ الدين بَعدَ عَثرَتِه
وخبن في الجزء الأول أيضا، كقوله:
وَزُلزِلَ الكُفرُ مِن قَواعِدِه
ففي قوله (وزلزل) خبن. وأتانا بالطي في الجزء الثاني، وطيه أحسن في الغريزة من تمامه، وفي قوله:
وانتَعَشَ الدين بعد عَثرَتِه
طي في الجزء الثاني.
وأما الخفيف فخبن فيه وشعث، والتشعيث سقوط حرف متحرك من جزء الضرب (في وتده) قال:
باكِر الرَوضَ في رياضِ السُرورِ || بَينَ نَظمِ الرَبيعِ والمَنثورِ
ففي قوله ( الروض ) خبن، وقوله ( منثور ) فيه تشعيث، وذلك موجود في الشعر الجاهلي والإسلامي.
وأما المجتث فجاء فيه بخبن السباعي، وفي قوله:
بَدا الهِلالُ جَديداً
زحاف في الجزئين.
*********
واستعمل أبو عمر القوافي الأربع التي تردد ذكرها، وهي: المتراكب، والمتدارك، والمتواتر، والمترادف، كما استعمل المتكاوس وهو أربعة حروف متحركة بعدها ساكن ، واستعمالها يقل لأنها لا تكون إلا بزحاف. ومن المتكاوس قوله في الأرجوزة العروضية:
ثَلاثةٌ قالَت عَلَيها العَرَبُ || وَاثنانِ صَدّوا عَنهُما وَنَكَبوا
والقوافي المقيدة ثلاث، استعمل منها أبو عمر اثنتين، وهما: المجردة والمردفة، فالمجردة لقوله:
يا مَلِكاً يَزدَهي بِهِ المِنبَر
يلزمها لازمان: الروي والحركة التي قبله، وهي التوجيه. والمردفة كقوله:
مَدامِعٌ قَد خَدَّدَت في الخُدود
يلزمها ثلاثة لوازم، الروي: وهو الدال، والردف: وهو الواو التي قبل الدال، والحذو: وهي الحركة التي قبل الواو.
والقوافي المطلقة ست، استعملها كلها، وهي المطلقة المجردة، كقوله:
يا عَجَباً مِن مِثلِهِ يُعجَبُ
الباء روي وحركتها المجرى، والواو وصل. والمؤسسة المطلقة، كقوله:
ألا إنَّما الدُنيا كَأحلامِ نائمِ
الألف في نائم تأسيس، وحركة ما قبلها الرسّ. وكان أبو عمر الجرمي يزعم أن الرسّ لا يحتاج إلى ذكرها؛ لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحا. والهمزة التي تصوّر ياء في (نائم ) دخيل، وحركتها الإشباع، والميم روي وحركتها المجرى، والياء وصل.
والمطلقة المردفة، كقوله:
وَدَّعَتني بِزَفرةٍ وَاعتِناقِ || ثُمَّ نادَت مَتى يَكون التَلاقي
القاف روي وحركتها مجرى، والياء وصل، والألف التي قبل القاف ردف وحركة ما قبلها حذو.
والقافية المجردة التي لها نفاذ، كقوله:
ما ضَرَّ عِندَكَ حاجَتي ما ضَرّها
الراء روي وحركتها مجرى ، والهاء وصل وحركتها نفاذ.
والقافية المردفة التي لها نفاذ، كقوله:
تَجَدَّدت الدُنيا وَأبدَت جَمالَها
الألف في ( جمالها ) ردف وحركة ما قبلها حذو، واللام روي وحركتها المجرى، والهاء وصل وحركتها نفاذ، والألف خروج.
والقافية المؤسسة التي لها نفاذ، كقوله:
يا مَجلِساً أينَعَت مِنهُ أزاهِرُهُ
الألف الثانية في قوله (أزاهره) تأسيس وحركة ما قبلها رسّ، والهاء الأولى دخيل وحركتها إشباع، والراء روي وحركتها مجرى، والهاء وصل وحركتها نفاذ، والواو خروج.
--------------
المصادر والمراجع
إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي، الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف ت 624 هـ
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986م.
ديوان ابن عبد ربه، أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ت 328 هـ، جمع وتحقيق: الدكتور محمد رضوان الداية، دار الفكر، ط2، دمشق – سوريا ، 1987 م.
سقط الزند، لأبي العلاء المعري، شرحه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت – لبنان، 1990 م.
شرح اختيارات المفضل، لأبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي ت 502 هـ، تحقيق: الدكتور فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، ط 2، بيروت – لبنان، 1987 م.
الشعر والشعراء، تأليف: أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، دار إحياء العلوم – بيروت.
العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، للشيخ ناصيف اليازجي، دار القلم، ط2 ، بيروت – لبنان.
كتاب القوافي، لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، ت 215 هـ، تحقيق: أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة، ط1، دمشق –بيروت، 1974 م.
مذاهب أبي العلاء في اللغة وعلومها، محمد طاهر الحمصي، دار الفكر، ط1، دمشق – سوريا، 1986 م.
مجلة كلية اللغة العربية – جامعة أم القرى، العدد الأول 1401/1402هـ.
مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 57 ، الجزء الرابع، 1982 م.
المجلة العربية للعلوم الإنسانية – الكويت، العدد 23/ 89
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تأليف: الشيخ أحمد بن محمد المقّري التلمساني، تحقيق: الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت – لبنان، 1968 م.
استعمل أبو نواس جميع الأوزان التي ذكرها الخليل، وعددها خمسة عشر وزنا: الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمجتث والمقتضب والمتقارب
ولكنه لم يستعمل جميع ضروبها، ومع ذلك زاد عليها بعض الضروب مما سبقه فيها غيره، ومما يبدو أنه أول من استدركها على الخليل.
وقد استعمل الطويل بضروبه الثلاثة ، الأول كقوله:
خلعت مجوني فاسترحت من العذل
والثاني كقوله:
تتيه بك الدنيا وتزهو المنابر
والثالث كقوله:
ألا هل على الليل الطويل معين
واستعمل الخامس من المديد، كقوله:
عد عن رسم وعن كثب * واله عنها بابنة العنب
والسادس منه كقوله:
تلك لذاتي وكنت فتى * لم أقل من لذة حسبي
واستعمل من البسيط ثلاثة أضرب، الأول كقوله:
لا كان أحسن ممن قال ملتفتا * وقد تغضب ، ما مشّاك في أثري
والثاني كقوله:
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجا * فإن حظركه في الدين إزراء
والسادس كقوله:
هذا زمان القرود فاخضع * وكن لهم سامعا مطيعا
واستعمل الأول من الوافر، كقوله:
دع الأطلال تسفيها الجنوب * وتبلي عهد جدتها الخطوب
والثاني منه كقوله:
فواعقلاه قد ذهبا * وواجسماه قد عطبا
والثالث منه، كقوله:
فقلت الخمر تعجبني * فقال كثيرها قتل
وجاء من الكامل بالأول، كقوله:
أين الجواب وأين رد رسائلي * قالت تنظّر ردّها في قابل
وبالثاني كقوله:
أصبحت معتمدا عليّ بنعمة * ما كان ينعمها عليّ سواكا
وبالرابع كقوله:
من غائب في الحب لم يؤب * لا شيء يرقبه سوى العطب
وبالخامس كقوله:
وإذا وصلت بعاقل أملا * كانت نتيجة قولك الفعلا
وبالسادس كقوله:
أنت التي قد سمته * ببلية وضنا وكرب
وبالثامن كقوله:
فاضت دموعك ساكبه * جزعا لمصرع والبه
واستعمل الأول من الهزج، كقوله:
أيا من كنت بالبصرة * أصفي لهم الودا
وجاء بمجزوء الرجز، كقوله:
يا من لعين سربه * تفعل فعل الطربه
وجاء بمنهوك الرجز في قوله:
وبلدة فيها زور * صعراء تخطي في صعر
وبمجزوء الرجز المقطوع العروض والضرب، بقوله:
بزاتنا الأقداح * درّاجهن الراح
وذكره الخليل في المنسرح منهوكا مكشوفا
وجاء بمشطور الرجز، كقوله:
لما غدا الثعلب في اعتدائه
وبآخر منه مقطوع لم يذكره الخليل، كقوله:
يا رب ظبي بمكان خال
صبحته والليل ذو أهوال
وجاء بالأول من الرمل في قوله:
ونديم لم يزل ساقينا * وعلى الصبح من الليل إزار
وبالثالث منه في قوله:
قد سقيت الخمر حتى ثملوا * ليلة ذات رياح صرده
والخامس في قوله:
ليس غير الله يبقى *من علا، فالله أعلى
وجاء بالسريع الأول في قوله:
سبحان من سخّر هذا لنا * يوما، وما كنا له مقرنين
وبالسريع الثاني في مثل قوله:
أنزف دمعي طول تسكابه * واختصني الحب بأتعابه
والثالث في قوله:
أعتلّ بالماء فأدعو به * لعلها تنزل بالماء
وجاء بالمنسرح الأول في مثل قوله:
اصدع نجي الهموم بالطرب * وانعم على الدهر بابنة العنب
وبثاني المنسرح، كما أسماه أبو العلاء المعري، ولم يذكره الخليل في عروضه، وهو قوله:
كل محب سواي مستور * والناس إلا عن قصتي عور
وكان أبو حنيفة الدينوري قد أنشد في كتابه النبات مثله في الشعر الجاهلي.
ومن ثاني المنسرح هذا ما جاء به مقيد القافية، كقوله:
عوجا صدور النجائب البزّل * فسائلا عن قطينة المنزل
ومن يجئ بهذا الضرب مقيدا يسهل له الخروج إلى الضرب الأول ، ويجتمع له في القافية النوعان: المتراكب والمتواتر، كما اجتمعا في قصيدة المرقش من رابع السريع، وقصيدة عدي بن زيد من رابع الكامل وخامسه، إذا جاز القول، ومنها:
من آل ليلى دمنة وطلل * قد أقفرت فيها النعام زجل
ولقد غدوت بسابح مرح * ومعي شباب كلهم أخيل
وشروط القافية في الشعر العربي تقبل مثل هذا التناوب بين النوعين.
وجاء برابع المنسرح مجزوءا مقطوعا في العروض والضرب، بقوله:
بزاتنا الأقداح * دراجهن الراح
قسينا عيدان * أوتارها فصاح
وهذا عند المعري وعندي أقرب إلى مجزوء الرجز منه إلى المنسرح.
وجاء بالأول من الخفيف كقوله:
نال مني الهوى منالا عجيبا * وتشكيت عاذلي والرقيبا
وبرابع الخفيف المجزوء، كقوله:
يا بني النقص والعبر * وبني الضعف والخور
وجاء بالمضارع مقصورا وهو مما لم يذكر الخليل في قوله:
أيا ليل لا انقضيت * ويا صبح لا أتيت
ويا ليل إن أردت * طريقا فلا اهتديت
وجاء بالمقتضب في قوله:
حامل الهوى تعب * يستخفه الطرب
والمجتث في قوله:
من سبّني من ثقيف * فإنني لن أسبّه
وجاء بأول المتقارب في قوله:
أحب الشمال إذا أقبلت * لأن قيل مرّت بدار الحبيب
وبثالثه المحذوف المعتمد في قوله:
طربت إلى الصنج والمزهر * وشرب المدامة بالأكبر
وأخيرا ، رابعه الأبتر، كقوله:
ودار تؤدب فيها البزاة * ويمتحن الفهد والفهده
----------
(*)
بحث مقدم لتكريم الأستاذ الدكتور محمد العلمي تقديرا لجهوده في الأدب والشعر والعروض والدرس الأكاديمي وشغفه المعرفي نشر بكتاب "شغف المعرفة" الصادر عن المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية ص381
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: