الوجوه المتعددة للردف في القافيتين العربية والفارسية (دراسة مقارنة)
سليمان أحمد أبو ستة - غزة / فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1603
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يتناول هذا المقال بالبحث وجهين من وجوه الردف المتعددة كان قد أهملهما العروضيون العرب، أو لم يولوهما ما يستحقّانه من التأصيل، وهذان الوجهان هما الحركة القصيرة والصامت. ومن ناحية أخرى فقد لاحظت أن العروضيين الفرس قد أولوا هذا الجانب من الدرس الصوتي اهتمامهم في القديم والحاضر على العكس مما بدا من جانب العرب الذين تشتتت طرقهم وتباينت في تحديدها. فمن القديم ما كان من جهود شمس الدين محمد بن قيس الرازي (ت بعد 628 ه) وهو صاحب كتاب "المعجم في معايير أشعار العرب" الذي يقال إن منه نسخة باللغة العربية اختفت وحلت هذه محلّها. ومن الحاضر دراسة حديثة للدكتور علي أصغر "قهرماني مقبل"، من خلال رسالتة لنيل درجة الدكتوراه عام 2006 م، وعنوانها "النظام الشعري بين العربية والفارسية – دراسة مقارنة".
وسيحاول هذا المقال دحض الفكرة المغلوطة عند بعض العرب والفرس بأن ثمة قوافيا في الشعر العربي تخلو من الردف، وهي فكرة يرجع السبب في خطئها إلى إهمال العروضيين العرب تقعيد الوجهين الرابع والخامس من وجوه الردف، كما سوف نفصّل الكلام في البحث.
الردف
الردف مصطلج أطلقه الخليل على الصوت اللغويّ الملتصق بالرويّ من قبله حين يكون من أحد أحرف المدّ واللين فقط. أي أنه لم يعتبر بما يمكن أن يلتصق بالرويّ من حركة قصيرة أو صوت صامت، فيسمّيه ردفا أيضا.
أما وجوه الردف التي أحصيناها فتبلغ خمسة، وبيانها على النحو التالي:
1 – صوت ألف المدّ .
2 – صوتا واو المدذ ويائه نحو: ذو وذي، وهما يتقارضان في القافية العربية.
3 – صوتا الواو والياء نصفي الحركة نحو: أيْ وأوْ، وهما يتقارضان أيضا.
4 _ الحركة القصيرة، وهي الفتحة والضمة والكسرة.
5 _ الصوت الصامت وهو ما كان من غير أحرف المدّ واللين.
قال سيبويه (1) : وأما الردف فإنه ألف تكون قبل حرف الرويّ، ليس بينه وبينها حرف، لا يجوز معها غيرها، ولا بد من تكريرها، وذلك قوله:
طاف الخيال بركب * سقوا بكأس الكلال
فألف (الكلال) هي الردف. وردف ثان وهي واو ساكنة، قبلها ضمة، قبل حرف الرويّ، ليس بينها وبينه شيء. والياء الساكنة قبلها الكسرة في مثل ذلك مع الواو، وهي قبل حرف الرويّ، يجوزان جميعا في قصيدة، قال الشاعر:
أقفر من أهله ملحوب * فالقطّبيات فالذنوب
فراكش فثعيلبات * فذات فرقين فالقليب
فقال (الذنوب) و(القليب) في قصيدة.
وأما الياء المفتوح ما قبلها، والواو المفتوح ما قبلها تكونان في موضع الواو المضموم ما قبلها من القافية، فهما ردف أيضا، يجوزان في قافيتين من قصيدة واحدة، قال الشاعر:
كنت إذا ما جئته من غيْب
يشمّ عطفي ويشمّ ثوْبي".
الردف في الدراسات المتقدمة
وقد وجدنا ابن قتيبة (ت 276 ه) يذكر اثنين من هذه الأرداف، وهما الثاني والثالث ثم يغفل عن ذكر الردف الأول وهو ألف المدّ. قال في كتاب "الشعر والشعراء" ص 96 : "والسناد هو أن يختلف إرداف القوافي كقولك "علينا" في قافية و"فينا" في أخرى. كقول عمرو بن كلثوم:
*ألا هبّي بصحنك فاصبحينا*
فالحاء مكسورة. وقال في آخر:
*تصفّقها الرياح إذا جرينا*
فالراء مفتوحة، وهي بمنزلة الحاء.
وكقول القائل:
*كأنّ عيونهن عيون عين*
ثم قال:
*وأصبح رأسه مثل اللجين*
لكن ابن عبد ربه (ت 328 ه) في كتاب "علل القوافي" من عقده الفريد، وهو ما يبدو أنه يستنسخ فيه كلام سيبويه السابق، يأتي بالأرداف الثلاثة كاملة ولكن تحت غلالة من التهذيب المصحوب بشيء من الأمانة العلمية، وخصوصا عندما صرّح بذكر القائل، قال (2):
"وأما حرف الردف فإنه أحد حروف المدّ، وهي حروف اللين [أيضا] ، وهي: الياء، والواو، والألف؛ يدخل قبل حرف الرويّ. وحركة ما قبل الردف بالفتح إذا كان الردف ألفا، والضمّ إذا كان واوا، والكسر إذا كان ياء. والأرداف ثلاثة، فردف يكون ألفا مفتوحا ما قبلها، وردف يكون واوا مضموما ما قبلها، وردف يكون ياء مكسورا ما قبلها. وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد؛ لأن الضمة والكسرة أختان، كما قال الشاعر:
أجارة بيتينا أبوك غيور * * وميسور ما يرجى لديك عسير
فجاء بغيور مع عسير، ولا يجوز مع الألف غيرها، كما قال الشاعر:
بان الخليط ولو طوّعت ما بانا* *
وجنس ثالث من الردف ، هو أن يكون الحرف [قبله] مفتوحا ويكون الردف ياء أو واوا، نحو قول الشاعر:
كنت إذا ما جئته من غيْب
يشم رأسي ويشمّ ثوْبي
إلا أن ابن قتيبة (3) وسيبويه لا يلبثان أن يفاجئانا بظهور الوجه الرابع للردف ضمن إطار مختلف سماه أولهما (الإجازة) مع إصرار واضح منه في شرحة على تكرار تسميته بالردف، قال ابن قتيبة:
"اختلفوا في الإجازة، فقال بعضهم: هو أن تكون القوافي مقيّدة فتختلف الأرداف، كقول امرئ القيس:
لا يدّعي القوم أني أفِرّْ
فكسر الردف، وقال في بيت آخر:
وكندة حولي جميعا صُبرْ
فضمّ الردف، وقال في بيت آخر:
[ة ويحك] ألحقت شرّأ بشَرّ
ففتح الردف".
وأما سيبويه فأدخله في مبحث التوجيه، ولم يشر إلى أيّ علاقة له بنوع من أنواع الردف، قال:
"وأما التوجيه فالفتحة تكون قبل الرويّ المقيّد نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترَقْ
أو كسرته أو ضمّته نحو قوله:
مضبورة قرواء هرجاب فنُقْ
ثم قال:
ألّف شتّى ليس بالراعي الحمِقْ
فالفتحة قبل الرويّ المقيّد تفرد كما تفرّدت الألف في (قال) إذا كانت في قافية. والضمّة والكسرة تفردان من الفتحة، وتجتمعان في القصيدة، كما اجتمعت الواو والياء في (محلوب) و(غريب)، لأن الواو والياء كالكسرة والضمّة، والألف كالفتحة.لأن الياء منها الكسرة، والواو منها الضمّة، والألف منها الفتحة. وقد تجيء الكسرة مع الفتحة، وقد تجيء الضمّة مع الفتحة، لأنها حركات وليست كالحروف أنفسها، قال: هرجاب فنُقْ، وقال: خاوي المخترَقْ".
وهنا نجد توسّعا في مبحث التوجيه، يبدو أنه من أثر تهذيب ابن عبد ربه لكتاب سيبويه، الذي قد يكون نقله عن أحد القدماء ولم يصرح لنا باسمه، قال (4) : "وأما التوجيه فهو ما وجّه الشاعر عليه قافيته من الفتح والضمّ والكسر يكون مع الرويّ المطلق أو المقيّد إذا لم يكن في القافية ردف ولا تأسيس". وبعد ابن عبد ربه صار هذا المصطلح المتوسّع فيه يعرف بالإشباع، ولا يزال مجهولا أوّل من أطلق هذه التسمية عليه.
وأخيرا، يظهر لنا الوجه الخامس للردف، وهذه المرّة على يد عروضي هو الأخفش (ت 215 ه) الذي يبدو أنه استحسنه وذلك حين قال (5): "وإذا قفّوا بالكلمة التي فيها حرف مضاعف لم يجعلوا معه غيره نحو "ضبّا" و"لبّا"لا يكادون يجعلون معها "صعبا" وهما سواء، وذلك جيد".
قوله: "وهما سواء وذلك جيد"، يبدو إشارة إلى قبوله لهذا الردف الخامس، ومع ذلك فلم يأتنا بشاهد من الشعر على قوله ذاك.
الوجهان الرابع والخامس للردف بعيون فارسية
إذا كان علماء القافية العرب القدامى، وأحفادهم من الباحثين في مختلف العصور لم يتنبهوا في درسهم للقافية إلى وجهين من وجوه الردف هما الرابع والخامس، بحيث يكملون بهما ما نقص من هذا الدرس حينما يتفرّسون بعيونهم في دقائق القافية، فإن باحثا فارسيا محدثا قدّم لنا رؤية مقارنة جديدة لهذا الموضوع الذي كان لأسلافه إسهام واضح فيه. فقد تعرّض الدكتور علي أصغر "قهرماني مقبل" في رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراة في الأدب المقارن عام 2006، وهي بعنوان "النظام الشعري بين العربية والفارسية – دراسة مقارنة "، لما توهمّه إهمالا من قبل الدارسين للوجهين الرابع والخامس من الردف (ص ص 472-476)، وقال (6):
أولا: في حروف ما قبل الروي
"إن الفرق الأكبر في الحروف التي تأتي قبل الروي هو التزام القوافي الفارسية بصامت ساكن قبل الروي، ويسمى هذا الحرف بالقيد في علم القافية الفارسية، ولا فرق إن كان الروي مطلقا أو مقيدا". ثم قال:
"والجانب الأول من الفرق بين النظامين هو أن القافية العربية قلما تشمل الروي المقيّد (الساكن) المسبوق بحرف القيد أي بصامت ساكن دون المصوتات، إلا أن هذا النوع من القافية شائع جدا في الشعر الفارسي. والجانب الثاني هو التزام الشعر الفارسي بحرف القيد عينه، إلا أن الشعر العربي يعدل عنه عند استعمال القوافي المطلقة، ويكفي أن يكون القيد ساكنا، على سبيل المثال في هذه الأبيات:
فديناك من ربع وإن زدتنا كرْبا * فإنك كنت الشرق للشمس والغرْبا
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا * فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبّا
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت * على عينه حتى يرى صدقها كذْبا
فرب غلاما علم المجد نفسه * كتعليم سيف الدولة الطعن والضرْبا
عليم بأسرار الديانات واللغى * له خطرات تفضح الناس والكتْبا
فحب الجبان النفس أورده التقى * وحب الشجاع النفس أورده الحرْبا
ويقول: "ولا يقبل الذوق الفارسي في هذه القصيدة، وهي 45 بيتا، إلا أبياتا تلتزم القافية فيها بالحرف الساكن (الراء) قبل الروي (الباء)، مثل البيتين الرابع والسادس، إذا اعتبرنا البيت الأول معيارا للعمل.
ثم يستشهد بكلام لشمس الدين محمد بن قيس الرازي (ت بعد 628 ه)، صاحب "المعجم في معايير أشعار العرب"، في مصطلح القيد، ليدلل بذلك على سبق علمائهم الأقدمين في تأصيل هذه الظاهرة من الردف. قال الرازي: "إن التزام القصيدة بحروف القيد بعينها ضروري مثل التزامها بحروف الردف".
ثانيا: في حركات القافية
وقال أيضا (7): "لا تلتزم القافية العربية غير المردوفة، بنوع المصوت القصير (يقصد بعينه) الذي يسبق الرويّ مطلقا أو مقيدا. ومهما كان المصوت القصير الذي يسبق الروي مباشرة أو يفصل بينهما صامت ساكن، ويمكن أن يكون هذا المصوت القصير فتحة أو ضمة أو كسرة، مثل ما نجد عند المتنبي في قصيدة مطلعها:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أبِ * كناية بهما عن أشرف النسبِ
ونجد فيها "الطرب" بفتح الراء إلى جانب "الكذب" بكسر الذال و"الكتب" بضم التاء. وفي قصيدة أخرى، وهي بائية أيضا لكن رويها مقيّد:
فهمت الكتاب أبرّ الكتبْ * فسمعا لأمر أمير العربْ
وكذلك نجد فيها "الكُتُبْ" بضم التاء، إلى جانب "الكذِبْ" بكسر الذال و"الذهَبْ" بفتح الهاء، كأنّ الذوق العربي اقتنع في الشاهد الثاني بأقلّ ما يمكن من حروف القافية، أي حرف الرويّ وحده دون اشتراك في حرف أو حركة، إلا أن هذا النوع من الشعر قليل جدا في الشعر العربي".
فها هو إذن عروضيّ فارسيّ محدث يبدو مقتنعا بفكرة أن العروضيّين العرب لم يعرفوا من أوجه الردف في القافية العربية الا وجها وحيدا هو الردف بالمدّ أو باللين. وأما الوجهان الرابع والخامس اللذان حكم بوجودهما حصرا في القافية الفارسية وحدها، فقد يكون له بعض العذر في هذا الحكم، للتقصير الظاهر في مؤلفات علمائنا العرب القدامى والمحدثين في تقصّيهم لجميع الأصوات التي تسبق الرويّ وردّها بالكامل إلى دائرة واحدة هي الردف، بدلا من تشتيتها في دوائر أخرى غير ذات صلة به نحو الإجازة والإشباع.
الخاتمة
من الممكن للتعريف الذي وضعته للقافية في كتابي "في نظرية العروض العربي"، أن يقدّم للدارس والشاعر معا وصفا دقيقا لوجوه الردف الخمسة، حيث توخّيت في هذا التعريف بيان صلة كل صوت من أصوات القافية بحرف الرويّ، وموقعه منه قبلا وبعدا وسواء أكان حرفا أم حركة قصيرة، وذلك لكي يعمّ بالوصف هذه الجوانب الخمسة جميعها، في قولي (8):
"والقافية تحديدا هي صوت الرويّ وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبقه، ولنسمّه – توسّعا في المصطلح الخليليّ – الردف. وهذا الردف، إذا كان حركة قصيرة، وكان ثاني صوت يسبقه ألف مدّ، التزم هذان الصوتان بعينهما، وليس بنوعهما فقط، وتسمى هذه الألف ألف التأسيس".
وعلى ذلك يمكنني أن أختم المقال بهذه التوصية للقائمين على وضع مناهج التعليم، وهي أن يقوموا دوما بتحديث هذه المناهج ورفدها بكل جديد يجدّ في عالم التأليف، أسوة بما يجري في جانب العلم الرياضي والطبيعي. فلا أحد اليوم يقتصر في مناهج الرياضيات والعلوم على كتب الخوارزمي وابن الهيثم مع أهميتهما، ويهمل كتب المحدثين.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أننا لم نخرج عن المعيار الموضوع للردف كما حددّه الخليل بن أحمد، رحمه الله، وكل ما في الأمر هو أننا توسّعنا فيه. فالوجوه الخمسة التي ذكرناها للردف كلّها يحقّق شرط الالتصاق بالرويّ من قبله، بينما لم يشترط الخليل فيها إلا المدّ الطويل ، وعلى ذلك جاءت إضافتنا للصامت ونصف الحركة فقط.
******
المراجع
- كتاب الفصوص، لأبي العلاء صاعد بن الحسن الربعي، تحقيق د. عبد الوهاب التازي، الجزء الخامس، المغرب، 1995 م.
- العقد الفريد (مخطوط)
- العقد الفريد تأليف أحمد بن محمد بن عبد ربه، تحقيق محمد سعيد العريان، الجزء السادس، ط 2، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
- الشعر والشعراء ، ابن قتيبة ، تحقيق محمد أحمد شاكر ، جزء 1، دار المعارف.
- كتاب القوافي للأخفش ، تحقيق أحمد راتب النفاخ، ط 1، دار الأمانة، 1974 م.
- النظام الشعري بين العربية والفارسية – دراسة مقارنة ، د. علي أصغر "قهرماني مقبل"، رسالة دكتوراه، معهد الآداب الشرقية بجامعة القديس يوسف ، بيروت، 2006م.
- في نظرية العروض العربي ، سليمان أبو ستة، دار الإبداع، عمان، 1992 م.
******
الإحالات
1- ، وقد توهم محقق الكتاب ونسب قول سيبويه هذا للمازني كتاب الفصوص 167/5
2- لوحة 192 ، وانظر نشرة العريان للعقد ص 311، 316/6 العقد الفريد (مخطوط)
3- الشعر والشعراء ص 97
4- العقد الفريد نشرة العريان ص 305/6
5- كتاب القوافي للأخفس ص 27
6- انظر النظام الشعري بين العربية والفارسية، ص ص 472 - 476
7- نفسه ص 474
8- في نظرية العروض العربي ص 48
---------------
مقال نشر بمجلة البيان الكويتية ع 601 أغسطس 2020 م
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: