سليمان أحمد أبو ستة - غزة / فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2968
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المقدمة
عندما فكرت في اختيار موضوع للبحث يتصل بالأخلاق والقيم الأخلاقية في الشعر العربي، انصرف تفكيري في الحال إلى نوع من الحب عرفته البادية العربية يسمى الحب العذري. ذلك أن الحب العذري كان يمثل، عند العرب، أعلى القيم الأخلاقية المتصلة بالعفة والنقاء والطهر ودوام الإخلاص بين الحبيبين، الأمر الذي يصل بهما إلى درجة الموت عشقا، كما يلاحظ في أغلب الحالات.
ولعله لهذه الصفات العذرية المرتبطة بالبكارة ، صارت الكلمة نقيضا للإباحية ، فيقال هذا شعر عذري وذاك إباحي، ثم كاد الناس ينسون أن هذه الصفة إنما تعود بشكل محدد إلى اسم إحدى القبائل التي اشتهرت بهذا النوع من الحب في العهد الأموي، وهي قبيلة بني عذرة، إحدى قبائل قضاعة التي كانت تنزل في وادي القرى شمالي الحجاز.
وقد يتساءل المرء عن السبب في استفراد بني عذرة بنسبة هذا الحب إليهم على الرغم من وجود شعراء متيمين لا ينتمون قبليا إلى بني عذرة، منهم على سبيل المثال، الشاعر الجاهلي المرقش الأكبر وصاحبته أسماء، وهو من بكر بن وائل وقصته في هذا العشق تقرب من قصة عروة بن حزام في بعض تفاصيلها. كما أن من هؤلاء المتيمين الشاعر الجاهلي ابن العجلان النهدي، وهو من قبيلة قضاعة الحجازية، وهو القائل: (1)
حجازيّ الهوى علقٌ بنجد * جويّ لا يعيش ولا يموتُ
فنسب هذا النوع من العشق إلى بيئته الحجاز، إذ لم يكن العذريون قد عُرِفوا آنذاك ، بل ولم يكادوا يعرفون إلا في بداية العصر الإسلامي .
ولو تتبعنا أصول الشعراء العذريين في الإسلام فسنجد أن القليل منهم ينتمى إلى بني عذرة، وأول هؤلاء الشعراء العذريين بحق، هو عروة بن حزام صاحب عفراء، ثم جميل بن معمر صاحب بثينة، ومع ذلك فإن شهرة عذرة بهذا الحب ربما لا تكون ترسخت إلا بدءا من ذيوع شعرعروة بن حزام وظهور ولعه بعفراء، مرسيا بذلك المبادئ الإسلامية الحقة من الفضيلة والطهر في هذه النوع الجديد من الحب الذي بات يعرف على نطاق واسع بين الشعراء الغزليين ، ومهد لنوع آخر من الحب عرف بالحب الصوفي .
وبذلك يمكن لنا أن نعد شاعرنا عروة ، وهو الذي قضى شهيد الحب العذري، إماما لطائفة كبيرة من الشعراء اقتدوا كلهم بطريقته أو بالأصح ، بمدرسته في الحب العذري، فقد كان من أخص خصائص تلك المدرسة أن يقصر الشاعر شعره كله على حبيبة واحده ولا يخرج فيه عن موضوع واحد هو شكوى الحرمان المقرون بالتعفف في حبه. وكان من أول رواد هذه المدرسة جميل بن معمر، مع العلم أن هذا كان ينتمي قبل ذلك إلى مدرسة أخرى هي المدرسة الأوسية التي نشأت في الجاهلية وكان من أبرز شعرائها القدامى زهير بن أبي سلمى، إلا أن المدرسة الجديدة جعلت تركيزها على موضوع واحد هو الغزل، وبالذات ما كان منه عذريا.
ثم لحق بجميل بن معمر في مدرسته العذرية تلميذه وراوية شعره كثيّر بن عبد الرحمن صاحب عزة، ولم يكن من قبيلة عذرة وإنما كان من خزاعة. وهكذا امتد نطاق مدرسة الحب العذري ليتسع لقبائل أخرى، وأصبحنا نجد أسماء لشعراء عذريين كل منهم ينتمي إلى قبيلة مختلفة عن الأخرى، كقيس بن ذريح وصاحبته لبنى، وهو من كنانة، وقيس بن الملوح، الشهير بمجنون ليلى، وهو من بني عامر التي أنجبت شاعرا عذريا آخر هو توبة بن الحميّر وصاحبته الشاعرة ليلى الأخيلية. وكل هؤلاء الشعراء ساروا على ما سنّه لهم عروة ومن بعده جميل من سلوك متميز للعاشق العذري ، وهو ما سنحاول أن نتبينه في عرضنا لموضوع : الحب العذري (عروة بن حزام نموذجا ).
ويتألف البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة. تناولت في التمهيد سبب تميز قبيلة عذرة بهذا النوع من الحب العذري وعرضت فيه لبعض الأراء التي توضح هذا السبب . ثم تناولت في المبحث الأول سيرة حياة عروة العاشق معتمدا فيه على رواية صاحب الأغاني مع الالتفات إلى بعض الروايات الأخرى بهدف إلقاء الضوء على سيرته من نواح متعددة.
كما خصصت المبحث الثاني لدراسة شعر عروة لما له من أهمية في إلقاء المزيد من الضوء على سيرته بشكل عام .
وأما المبحث الثالث فقد خصصته لمحاولة فهم شخصية عروة بن حزام من خلال شعره .
وأخيرا جاءت الخاتمة لتلخص مجمل ما ورد في هذا البحث، وتعرض لما توصل الباحث إليه من نتائج.
تمهيد
ذكرنا فيما تقدم أن السبب في تميز قبيلة عذرة بهذا النوع من الحب قد يعود إلى أن أول من أسس هذه المدرسة في الإسلام كان عروة بن حزام، ويبدو لنا ذلك واضحا من اعتراف الشعراء بذلك ، فقد قال الأحوص الأنصاري (2):
إذا جئت قالوا قد أتى، وتهامسوا * كأن لم يجد فيما مضى أحد وجدي
فعروة سنّ الحب قبلي إذ شقى * بعفراء والنهدي مات على هند
وقال جميل بن معمر(3):
وما وجدت وجدي بها أم واحد * ولا وجد النهدي وجدي على هند
ولا وجد العذري عروة ، إذ قضى * كوجدي ، ولا من كان قبلي ولا بعدي
وليس هذا فحسب، ولكن صاحبات هؤلاء الشعراء كن ملهمات لمن جاء بعدهن ، قالت أمرأة من خثعم (4):
فأقسم أني قد وجدت بجحوش * كما وجدت عفراء بابن حزام
لكن تفرد بني عذرة بنسبة هذا النوع من الحب إليهم لا يرجع فقط إلى ذلك العدد من شعرائهم الذين أذاعوه في قصائدهم، وإنما يرجع في رأيي إلى أن القبيلة، كل القبيلة، كانت تبدو مصابة بهذا الوباء الذي يسمى الحب، ما جعل الناس يطلقون عليه الحب العذري لأن أبناء القبيلة وبناتها لم يكد أحد منهم يسلم من هذا العشق القاتل.
جاء في نشوار المحاضرة (5) عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: سمعت رجلا من بني عذرة، عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا، بحق أقول لكم إنكم أرق الناس قلوبا. فقال: نعم، والله لقد تركت بالحي ثلاثين شابا قد خامرهم السلّ، ما بهم إلا داء الحب.
قال ابن قيم الجوزية (6) :
"قال سعيد بن عقبة لأعرابي: ممن الرجل ؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، قال: عذري ورب الكعبة ! فقلت له ومم ذاك ؟ قال: في نسائنا صباحة، وفي رجالنا عفة .
وقال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة، ورأيت بها هوى غالبا، خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب ؟ فقالت فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يفني آجالنا، وإنا نرى عيونا لا ترونها."
وقد يبدو أن ذلك كله راجع إلى وجود صفات جينية متوارثة في أقوام معينة، ذكر أبو الفرج الأصفهاني أن أحدهم سأل بعض بني عامر عن الشاعر الذي قتله العشق، يقصد مجنون بني عامر، فأجاب : "هيهات ، بنو عامر أغلظ أكبادا من ذاك ، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها ، السخيفة عقولها، الصعلة رؤوسها، فأما نزار فلا".(7)
وهناك سبب آخر في رأيي، لرقة قلوب بني عذرة ووحدانية العشيقة عند فتيانهم، وهو أن ذلك كله يبدو أثرا باقيا من آثار اعتناقهم النصرانية قبل الإسلام. وربما كان لسهولة العشق عندهم أن مجتمع القبيلة لم يكن مغلقا بحيث يحول دون الاختلاط وتبادل الأحاديث بين الفتيان والفتيات في براءة وعفاف ساهما في كثرة حالات العشق العذري بينهم.
ويمكننا أن نتلمس شبيها لحالة عذرة هذه في قبيلة جرم التي عشق يزيد بن الطثرية القشيري إحدى فتياتها وتدعى وحشية وأصابه معها ما يصيب المتيمين العذريين عامة، ذلك أن "الغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة" (8).
وإذن فنحن هنا أمام ظاهرة للحب فريدة شملت معظم أفراد القبيلة، وهذا في رأيي هو ما جعل قبيلة بني عذرة تنفرد من بين القبائل جميها بهذا الحب العفيف، وتشتهر به وحدها دون غيرها من القبائل.
ولقد حافظت قبيلة عذرة على صفة العشق العذري هذه حتى زمن قريب . ففي بادية فلسطين الجنوبية كان من عادة بعض القبائل البدوية أن لا تمنع فتيانها وفتياتها من الاختلاط البريء أثناء خروجهم لرعي الأغنام. كذلك حدثني بعض هؤلاء أنه كان في صغره يخرج للرعي ويلتقي بإحداهن، فتجلس هي في ناحية ويجلس غير بعيد منها في ناحية أخرى، يتناشدان الأشعار ويتبادلان الأحاديث البريئة لساعات ثم ينهض كل منهما إلى بيته. وحينما سألته عما إذا كان يحدث أن يتمادى الفتى في سلوكه، قال إنه ما إن تحس رفيقته منه ذلك التمادي حتى تخرج من ثيابها خنجرا كانت تخبئه للدفاع عن نفسها، وفي أغلب الحالات لم تكن تضطر إلى ذلك ، فالطرفان كانا عادة ما يحترمان هذا العرف ويحافظان عليه.
غير أن محدثي ذاك حكى لي رواية عن بعض تلك الفتيات (المسلحات)، أنها اضطرت يوما إلى اللجوء إلى سلاحها حينما أحست من رفيقها نقضا لذلك الاتفاق العذري، وهو ما أدى إلى قتله في الحال، وحين علمت أنها تسرعت في الحكم عليه ندمت ندما شديدا، وقالت في أبيات من الشعر النبطي (البدوي العامي) :
أشرفت عالمشراف واوميت بالخمس * وقلت يا هطل الندى وين خلي
خلي عقد لي عقدة ما بها لمس * وانا عقدت له عقدة ما تحلي
ويبدو أن علة الرواية الشفهية قد لحقت بمصدر تلك الأبيات، فقد وجدت في كتاب اطلعت عليه مؤخرا، أن هذين البيتين يرويان في قصة مشابهة لقصة صاحبنا، وأنهما لشاعرة تدعى مداهن، ترثي زوجها (9).
2- سيرة عروة العاشق
حدد الدكتور عبد القادر القط (10) المخطط العام لنمط القصة العذرية في قوله:
"والقصة نمط مألوف في حياة هؤلاء المحبين على اختلاف في التفصيلات والبداية والنهاية: يحب الشاعر صاحبته، وقد تكون ابنة عمه أو من فتيات الحي أو بعض الأحياء المجاورة، حبا ينشأ منذ الصغر أو من "أول نظرة" ، ثم يُحرَم لقاءها أو زواجها للفقر أو لسطوة التقاليد، فلا يملك إلا أن يتحول إلى الشعر يتغنى فيه بحبه، ويشكو حرمانه ويتأرجح فيه بين الرضا والسخط واليأس والأمل، محاولا من حين إلى آخر أن يرى صاحبته لحظات عارضة في غفلة من الأهل و"الواشين والرقباء" تكون قبسا جديدا لموهبته ومعينا لمزيد من الصور والمعاني والأحاسيس. تم تتزوج صاحبته فتزداد لوعته اتقادا ويزداد الفراق حدة ويصبح الحب عنده مجرد شعورمطلق وذكرى مجردة يترجمها إلى صور فنية ونفسية في شعره".
وشاعرنا عروة أحب ابنة عمه عفراء منذ كانا صغيرين في بيت واحد، هو بيت عمه، وفيه كانا يعيشان معا ويلعبان معا، فقد كان عروة يتيم الأب وقد كفله عمه بعد وفاة أبيه وهو في الرابعة من عمره، وظلا كذلك حتى "لحقت عفراء بالنساء، ولحق عروة بالرجال" (11)، أي أنهما تجاوزا مرحلة الصبا الغض، فحُجبت عفراء عنه ، ولكنه ظل قريبا منها. وهنا تقدم عروة لخطبتها من أبيها بواسطة عمة له، فوافق طلبُه ذاك قبولا من عمه وأجابها بقوله: "ما عنه مذهب، ولا هو دون رجل يُرغَب فيه ولا بنا عنه رغبة، ولكنه ليس بذي مال، وليست عليه عجلة. فطابت نفس عروة وسكن بعض السكون." (12)
وكان عروة آنذاك يعمل فيما يكلفه به عمه من أعمال يقضيها له، ولكنها لم تكن كافية لجعله رجلا ذا مال. وفي الحين ذاته كان عروة يعاني من أولى صباباب عشقه لعفراء إلا أنه ظل يجاهد لكبحها ووجدناه يلتزم بتجنب ذكر اسم محبوبته صراحة في شعره حتى لا يوفر بذلك حجة لمن يريد أن يمنعه من الزواج بها. وهو ما لاحظناه في شعره الذي يبدو أنه من بدايات نظمه، قال عروة (13):
وأحبس عنك النفس والنفس صبة * بذكراك والممشى إليك قريبُ
مخافة أن يسعى الوشاة بظِنّة * وأحرسكم أن يستريب مريبُ
غير أن أطرافا أخرى هنا بدأت في التحرك على مسرح الأحداث، وبالتحديد أمها لعفراء، وخطيب موسر طلع على المسرح مؤخرا. ولنترك هنا أبا الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني يحدثنا عن تطور الأحداث ، قال(14) :
"وكانت أمها سيئة الرأي فيه، أي في عروة، تريد لابنتها ذا مال ووفر، وكانت عرضة ذلك كمالا وجمالا، فلما تكاملت سنه وبلغ أشده عرف أن رجلا من قومه ذا يسار ومال كثير يخطبها، فأتى عمه فقال: يا عم قد عرفت حقي وقرابتي، وإني ولدك وقد ربيت في حجرك، وقد بلغني أن رجلا يخطب عفراء، فإن أسعفته بطلبته قتلتني وسفكت دمي، فأنشدك الله ورحمي وحقي، فرقّ له وقال له: يا بني ، أنت معدِم وحالنا قريبة من حالك، ولست مخرجَها إلى سواك، وأمها أبت إلا أن تزوجها بمهر غال، فاضطرِبْ واسترزق الله تعالى.
فجاء إلى أمها فألطفها وداراها، فأبت أن تجيبه إلا بما تحتكمه من المهر، وبعد أن يسوق شطره إليها، فوعدها بذلك، وعلم أنه لا ينفعه قرابة ولا غيرها إلا بالمال الذي يطلبونه، فعمل على قصد ابن عم له موسر، كان مقيما باليمن فجاء إلى عمه وامرأته فأخبرهما بعزمه، فصوّباه، ووعداه ألا يحدثا حدثا حتى يعود."
ويكمل أبو الفرج هذه الرواية، بالقول (15):
"وصار في ليلة رحيله إلى عفراء فجلس عندها ليلة هو وجواري الحي يتحدثون حتى أصبحوا، ثم ودعها وودع الحي وشد على راحلته، وصحبه في طريقه فتيان من بني هلال بن عامر كانا يألفانه، وكان حيّاهم متجاورين، وكان في طول سفره ساهيا، يكلمانه فلا يفهم، فكرةً من عفراء، حتى يُرَد القول عليه مرارا، حتى قدم على ابن عمه، فلقيه وعرّفه حاله وما قدم له، فوصله وكساه، وأعطاه مائة من الإبل، فانصرف بها إلى أهله."
وأبو الفرج يذكر أنه جمع روايته هذه من مجموعة من الرواة ، ومع ذلك فإن أكثر من مؤلف ذكر رواية مخالفة لرواية أبي الفرج . فقد قال صاحب مختصر تاريخ دمشق :
إن عروة كان يسأل عمه أن يزوجه عفراء، "فكان يسوّفه إلى أن خرج في عِير أهله إلى الشام، وقدم على أبي عفراء ابن عم له من البلقاء، كان حاجا ، فخطبها فزوجوه إياها فحملها" (16).
ومثل هذه الرواية ذكرها صاحب "مصارع العشاق"، ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء، وداود الأنطاكي صاحب "تزيين الأسواق" الذي نقل عن كتاب "تسريح النواظر" قوله :
"فلما بلغ الحِلم سأل عروة عمه تزويجها فوعده ذلك، ثم أخرجه إلى الشام بعير له. وجاء ابن أخ له يقال له أثالة بن سعيد بن مالك يريد الحج، فنزل بعمه هصر . فبينما هو جالس يوما تجاه البيت إذ خرجت عفراء حاسرة عن وجهها ومعصميها، تحمل إداوة سمن، وعليها إزار خز أخضر، فلما رآها وقعت من قلبه بمكانة عظيمة، فخطبها من عمه فزوجه بها. وإن عروة أقبل مع العير وقد حمل أثالة عفراء على جمل أحمر، فعرفها من البعد وأخبر أصحابه. فلما التقيا وعرف الأمر بهت لا يحير جوابا حتى افترق القوم". (17)
فهاتان إذن روايتان مختلفتان عن بعضهما اختلافا كثيرا، ومع ذلك فلم يكن لهذا الاختلاف أثر في تغيير مجريات الأحداث. إذ بينما ذكرت الرواية الأولى أن عروة رحل قاصدا ابن عمه الموسر في اليمن بصحبة رفيقيه الهلاليين فإن رجوعه مع النوق المائة لم يكن ليفيده في نيل مطلبه على كل حال. وقد ذكرت الرواية الثانية أنه في أثناء غياب عروة لإنجاز المهمة التي أرسله عمه بشأنها إلى الشام، كان عمه قد أخل بوعده له وزوّج ابنته لابن أخ آخر له يقطن بالبلقاء في الشام ، لتبدأ في الحال قصة جديدة من الحرمان والعذاب. وهكذا لا تهم التفاصيل ما دامت حكاية رفضه قد أخذت مجراها، وبدأت مأساة عذابه وحرمانه (18).
وكان عمه، أو بالأحرى امرأة عمه، قد طلب مهرا تعجيزيا لابنته ثمانين ناقة، في حين أنه لم يكن يملك غير ثماني منها، قال (19):
يكلفني عمي ثمانين بكرة * وما لي يا عفراء غير ثمان
ولم نجد في قصيدته التي منها هذا البيت أي ذكر لابن عمه الموسر، ولا لإعطائه مائة من الإبل بحيث توقعنا أن يشيد عروة بعطيته في بعض أبيات قصيدته النونية، ولكنا لم نقع على أي ذكر لذلك في ديوانه كله.
وهنا تأتي لحظة الذروة في قصة عشقه حين يكتشف مبلغ خديعة عمه وامرأة عمه بأنهما ما طلبا هذا المهر إلا ليبعداه عن عفراء التي تقدم لخطبتها رجل موسر، فقال يخاطب عمه:
ومنيتني عفراء حتى رجوتها * وشاع الذي منيت كل مكان
ثم قال:
فيا عم يا ذا الغدر لا زلت مبتلى * حليفا لهَمّ لازم وهوان
غدرت وكان الغدر منك سجية * فألزمت قلبي دائم الخفقان
وأورثتني غما وكربا وحسرة * وأورثت عيني دائم الهملان
وعلى نحو قريب من هذه القصة، وما تحويه من طلبات تعجيزية، كانت قصة عشق الشاعر الجاهلي المرقش الأكبر الذي "عشق ابنة عم له اسمها أسماء بنت عوف بن مالك، فقال له عمه - يعده المواعيد، ويمنيه الأماني: لا أزوجك حتى تُعرَف بالبأس، فانطلق المرقش إلى ملك الغساسنة الحارث بن جبلة الغساني، وأدت ضرورات مادية بعم المرقش إلى تزويجها من غيره، وأخذها زوجها إلى بلاده في نجران باليمن، ولما علم العاشق بذلك حين عاد من رحلة البأس والمال، ولم يجد حبيبته، تبعها إلى موطنها الجديد، وقبل أن يبلغ المكان المقصود ، مرض مرض الموت حتى تركه رفقته في كهف هناك يائسين منه". (20)
3- سيرة عروة الشاعر
لا نعرف على وجه التحقيق متى بدأ عروة ينظم الشعر، ولا في أية أغراض كانت بدايات نظمه. فكل ما وصلنا من شعره لا يتعدى ثلاث قصائد إحداها مطولة، وبعض النتف المتفرقة مما اهتدى إليه جامع شعره(21) ، ونقله من مصادر متعددة. وهذا الإنتاج القليل من الشعر لا يحتمل إلا وجها واحدا من التفسير، وهو أن موهبته الشعرية لم تتفتح إلا نتيجة لحرمانه من المحبوبة، واكتشافه لغدر كل المحيطين به. أي أنه في خلال العامين الذين قضاهما في جمع مهر عفراء، حسب رواية الأغاني، لم ينظم من الشعر شيئا يذكر، فلم يكن إذ ذاك يشعر بما يمكن أن يحرك قريحته ويدفعها إلى النظم، وهو ذلك الحرمان من خطيبته عفراء التي فوجئ به فيما بعد كما فوجئ بخديعة أهلها له، وغدرهم به.
ومعنى ذلك أن كل ما نظمه في عشقه العذري لا يتعدى العام الواحد، وهو غير العام الذي يفترض فيه أن يكون قضاه على قبر عفراء المزعوم يرثيها ، والذي لم نجد له أيضا أي أثر في شعره مما يدل على أن فرية عمه لم تدم طويلا، إذ سرعان ما أخبرته حقيقة ذلك القبر جارية في الحي الذي يقطنونه بعد أيام قليلة من علمه بخبر موتها الكاذب (22). وأما العام الذي تدفقت فيه موهبته بأقوى تعبير عن الحرمان وما تبعه من اللوعة والأسى ، فقد بدأ من لحظة علمه بذلك الخبر ، وكان الشعر الذي نظمه خلاله ، هو بالتأكيد ما خلد عروة وعفراء في سجل تاريخ العشاق العذريين، وجعله يستحق به أن يكون المؤسس الحقيقي لمدرسة الحب العذري .
وقد يحسب الناظر في المطولة التي نظمها عروة، أن صاحبها ذو نفس طويل في النظم، إذ بلغت أبياتها مائة وواحدا وعشرين بيتا . ولكن النظرة المدققة فيها تدله على أن هذه القصيدة لم تنظم على نفس واحد ، وبدت أشبه بقصائد زهير بن أبي سلمى التي كان يطلق عليها الحوليات لأن الواحدة منها كانت تنظم ثم تخضع بعد ذلك للمراجعة والتعديل في مدة عام كامل . غير أن مطولة عروة قد نظمت على مدى فترات متباعدة خلال ذلك العام، ولذلك بدا واضحا أنها كانت تصور أحوالا نفسية مختلفة، وأحاسيس عديدة ، وذلك لما يبدو عليها من عدم الترابط بين بعض أبياتها والبعض الآخر. وهكذا تتحول هذه القصيدة إلى مجموعة من المقطوعات التي تشترك في وزن واحد وقافية مشتركة. وأما الجو العام الذي يشيع في تلك القصيدة فهو ما يحقق الوحدة العضوية لها ، ويجعل منها ، بل ومن الديوان كله، قصيدة واحدة لا يتغير فيها إلا الوزن والقافية فقط.
وإذن فشعر عروة ما هو إلا مدونة سجل فيها أحداث حياته ، القصيرة والمعذبة، حدثا حدثا. ثم قام بعد ذلك بتجميع تلك الأحداث ، كل منها على حسب وزنها وقافيتها، في قصائد قد يرتبط أولها بفترة زمنية معينة ، وآخرها بفترة أخرى، كما أخبر داود الأنطاكي في تحليله لقصيدته البائية ، وأولها عنده (23):
وإني لتعروني لذكراك رعدة * لها بين جلدي والعظام دبيب
فما هو إلا أن رآها فجاءة * فأبهت حتى ما يكاد يجيب
فقلت لعراف اليمامة داوني * فإنك إن أبرأتني لطبيب
فما بي من حمى ولا مس جنة * ولكن عمي الحميري كذوب
عشية لا عفراء منك بعيدة * فتسلو ولا عفراء منك قريب
قال الأنطاكي:
"وقيل أنه لم ينشد في ذلك الموقف سوى البيتين الأولين، وأما قوله: فقلت لعراف اليمامة ... إلى قوله: ولا عفراء منك قريب، فإنه أنشده حين أتى به إلى الطبيب".
ونحن كذلك لا نعلم بالتأكيد العمر الذي بلغه عروة حين قضى نحبه، ولكنه في تقديري لم يتعد العشرين بأي حال من الأحوال. ذلك أنه حينما كفله عمه وأسكنه بيته، كان في الرابعة من عمره . ولنفرض أن عفراء كانت في عمره تقريبا، فقد قال أبو الفرج الأصبهاني (24): "وكانت عفراء تربا لعروة ، يلعبان معا ، ويكونان معا ، حتى ألف كل واحد منهما صاحبه إلفا شديدا" . وظلا على هذه الحال قريبين من بعضهما مدة أربع سنوات حتى بلغت هي الثامنة، وهي السن التي تظهر فيها علامات الأنثى على الفتاة من نحو بروز الثدي وغير ذلك من علامات، وعند ذلك جرى حجبها عنه، والفصل بينهما كما تحكم بذلك العادات. ثم إن عروة لما خطبها لم تكن قد جاوزت السادسة عشرة من العمر ، وهو أول شبابها ، كما في قوله :
منعمة لم يأت بين شبابها * ولا عهدها بالثدي غير ثمان
ثم لنفرض أنه قضي عامين بعد ذلك في تدبير المهر الذي طلبته امرأة عمه ، وعاما آخر بعدهما قضاه ما بين بكاء على قبر عفراء المزعوم إلى حين اكتشافه أنها على قيد الحياة تعيش في كنف زوجها بالبلقاء، فسافر إلى موطنها الجديد لعله يتمكن من لقائها هناك ثم ليخرج من عندها ممتلئا باللوعة والحسرات، ويلقى بعدها حتفه من أثر داء الحب الذي ابتلي بآثاره، كما ذكرت أمه (25)، وذلك في مدة تقرب من عام ، أي وهو بالكاد قد بلغ العشرين. وبذلك فمن المرجح أنه ولد في حدود عام عشرة هجرية، أي قبل انتقال الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، إلى الرفيق الأعلى بعام واحد، وتوفي عام ثلاثين وقيل عام ثمانية وعشرين.
ولعل هذا ما يفسر لنا قلة إنتاجه الشعري وعدم تنوعه بين فنون الشعر المعروفة، بل إنه ربما لم يحاول نظم الشعر إلا للتعبير عن مكنون قلبه من الجوى والحرمان الذي عاناه من جراء عشقه لعفراء وما تبعه من عذاب ومرض. فشاعر في مثل هذا الوضع من المأساة لم يكن ليفكر في التنقل بين أغراض الشعر المختلفة من وصف او مديح أو هجاء إلا ما وصف به حاله من شدة الهيام بمعشوقته ، أو ما هجا به عمه لغدره وإخلافه وعده في تزويجه ابنته.
وأخيرا، يتميز شعر عروة بالسلاسة في نظمه، والسهولة في لغته ، والبساطة في معانيه وصوره، وهو ما يتفق وحداثة سنه ، وقصر تجربته الإبداعية التي لم يكن لها أن تنمو إلا تحت وهج هذا الحب العذري الشريف والعنيف معا.
ونختم هذا المبحث بأبيات قليلة لقيس بن الملوح وقيس بن ذريح يبدو فيها أثر عروة بوضوح، ولو شئنا التقصي في ديوانيهم وفي دواوين الشعراء الآخرين لسودنا صفحات كثيرة من التناص.
قال مجنون ليلى (26) :
وألقى من الحب المبرح سورة * لها بين جلدي والعظام دبيب
وصدره مأخوذ من قول عروة (27) :
وإني لتعروني لذكراك رعدة * لها بين جلدي والعظام دبيب
كما قال مجنون ليلى (28) :
وإني لتعروني لذكراك نفضة * كما انتفض العصفور بلله القطر
فما هو إلا أن أراها فجاءة * فأبهت لا عرف لدي ولا نكر
والبيتان مأخوذان من بائية عروة السالفة الذكر
كما قال مجنون ليلى (29)
أأبعد عنك النفس والنفس صبة * بذكرك والممشى إليك قريب
وهو مأخوذ من قول عروة (30):
وأحبس عنك النفس والنفس صبة * بذكرك والممشى إليك قريب
وكذلك قال مجنون ليلى (31):
فلو أن واش باليمامة داره * ودار بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وهو مأخوذ من قول عروة (32):
ولو كان واش باليمامة داره * وداري بأعلى حضرموت أتاني
وهو أصح نحويا.
ثم نصل إلى قيس بن ذريح وقوله (33):
حلفت لها بالمشعرين وزمزم * وذو العرش فوق المقسمين رقيب
لئن كان برد الماء حران صاديا * إلي حبيبا إنها لحبيب
وهو مأخوذ من قول عروة(34) :
حلفت برب الراكعين لربهم * خشوعا وفوق الراكعين رقيب
لئن كان برد الماء عطشان صاديا * إلي حبيبا إنها لحبيب
---------------
المراجع والمصادر
• تزيين الأسواق في أخبار العشاق ، داود الأنطاكي، عن نسخة في مكتبة المصطفى الإلكترونية على المشباك.
• الحب العذري ، د. كامل مصطفى الشيبي، سلسلة الموسوعة الصغيرة 159، بغداد ، 1985 م.
• ديوان جميل بثينة ، طبعة دار صادر، بيروت ، بدون تاريخ.
• ديوان قيس بن ذريح، اعتنى به وشرحه: عبد الرحمن المصطاوي، ط 2 ، دار المعرفة ، بيروت، 2004م.
• ديوان عبد الله بن العجلان النهدي، جمعه وحققه إبراهيم صالح، نشر هيئة أبو ظبي للثقافة والفنون، دار الكتب الوطنية.
• ديوان قيس بن الملوح (مجنون ليلى) ، رواية أبي بكر الوالبي ، دراسة وتعليق يسري عبد الغني، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1999م .
• ديوان عروة بن حزام جمع وتحقيق وشرح: أنطوان محسن القوال، دار الجيل ، بيروت، ط 1 ، 1995 م.
• روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، ابن قيم الجوزية ، تحقيق: محمد عزيز شمس ، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ط 1 ، 1431م.
• شاعرات من البادية ، جمع عبد الله بن محمد بن رداس ، طبع بإشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض ، بدون تاريخ.
• شعر الأحوص الأنصاري، جمع وتحقيق عادل سليمان جمال ، ط 2 ، 1990م ، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
• في الشعر الإسلامي والأموي ، الدكتور عبد القادر القط ، دار النهضة العربية، بيروت ، 1987م .
• كتاب الأغاني ، أبو الفرج الأصفهاني ، جزء 2 ، 6، 8 ، 24 ، تحقيق د. إحسان عباس وآخرين، دار صادر ، بيروت ، ط 3 ، 2008 م .
• مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ، ابن منظور ، ج 16 ، تحقيق محمود الصاغرجي ، دار الفكر بدمشق ، ط 1 ، 1986 م .
• الموشى أو الظرف والظرفاء، محمد بن إسحاق ، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي ، 1953 م .
• نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، القاضي أبوعلي المحسن التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر، ج 5 ، ط 2 ، 1995 م.
----------------
الإحالات:
-------
1- ص 18 ، ديوان عبد الله بن العجلان النهدي، جمعه وحققه إبراهيم صالح، نشر هيئة أبو ظبي للثقافة والفنون ، دار الكتب الوطنية
2- شعر الأحوص الأنصاري ص 130 .
3- ديوان جميل بثينة ص 43 .
4- الموشى أو الظرف والظرفاء لمحمد بن إسحاق الوشاء، ص 71..
5- ص 95 .
6- ص 467 ، روضة المحبين ونزهة المشتاقين .
7- كتاب الأغاني ، ج 2 ، ص 6 .
8- المرجع السابق ، ج 8 ، ص 114 .
9- أنظر: كتاب شاعرات من البادية، عبد الله بن محمد بن رداس ، دار اليمامة للبحوث والترجمة، الرياض، ب.
10- في الشعر الإسلامي والأموي، ص 74
11- الأصفهاني ، كتاب الأغاني ، ج 24 ، ص 80 .
12- المرجع السابق ص 81 .
13- ديوانه ص 26
14- كتاب الأغاني ، ج 24 ، ص 81 .
15- نفس المرجع والصفحة.
16- مختصر تاريخ دمشق، ج 16، ص 351 .
17- كتاب تزيين الأسواق، داود الأنطاكي ، ص 98
18- أشار أبو الفرج إلى هذه الرواية الثانية في الأغاني مجلد 24 ص 85 ، كما أشار إلى رواية أخرى (ص 88 ) لم نأخذ بها، وهي تزعم أن عفراء كانت يتيمة عند عم لها وله , وأن عمه عرضها عليه الزواج منها فأبى، ثم عاد بعد مدة طويلة فخطبها إلى عمه فمنعه ذلك . وهذه الرواية يكذبها كل ما قاله عروة في عفراء من شعر .
19- ديوانه ص 44 .
20- الحب العذري ، ص 39 ، د. كامل مصطفى الشيبي ، سلسلة الموسوعة الصغيرة 159، بغداد العراق سنة 1985 )
21- انظر مقدمة ديوان عروة بن حزام، ص 17 .
22- كتاب الأغاني ص 82 .
23- ص 98 تزيين الأسواق
24- كتاب الأغاني، ج 24 ، ص 80 .
25- نفس المرجع ص 87 .
26- ديوانه ص 41
27- ديوانه ص 22
28- ديوانه ص 85
29- ديوانه ص 117
30- ديوانه ص 26
31- ديوانه ص 123
32- ديوانه ص 43
33- ديوانه ص 60
34- ديوانه ص 23
----------------
(*) بحث شاركت به في السيمينار المنعقد لثلاثة أيام في 6/2/2014م بجامعة جوهاتي بالهند (جواهاتي أسام) حول "الصوفية في الشعر العربي" تلبية لدعوة منها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: