نظرية المزج الإيقاعي وأثرها في تطور العروض العربي ما بعد الخليل
بحر الدوبيت نموذجا (3/5)
سليمان أحمد أبو ستة - غزة / فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1699
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المبحث الثاني: نشأة الدوبيت في الشعر العربي
الوزن الذي سأضعه للدوبيت هنا، هو:
(س)(س)(س)[س] | س س و | (س)(س)[س]
وهو شكل يعطي من النظرة الأولى صورة تحليلية لنسق وزني جديد، يمكن التمثيل له بالدوبيت الذي نظمه الحلاج (46) (ت 309 هـ)، وهو أقدم دوبيت بالعربية ، قال:
كم ينشرني الهوى وكم يطويني
ـــ ـــ ب ب ـــ | ب ـــ ب ـــ | ـــ ـــ ـــ
يا مالك دنياي ومالك ديني
ـــ ـــ ب ب ـــ | ـــ ب ب ـــ | ب ب ـــ ـــ
يا من هو جنتي ويا روحي أنا
ـــ ـــ ب ب ـــ | ب ـــ ب ـــ | ـــ ب ب ـــ
إن دام عليّ هجركم يعييني
ـــ ـــ ب ب ـــ | ب ـــ ب ـــ | ـــ ـــ ـــ
(س)(س)(س)[س] س س و (س)(س)[س]
ويقول محقق ديوانه معلقا في الهامش: "هذه المقطّعة رباعيّة على وزن الدوبيت ولا عهد للحلاج به، إذ ظهر هذا الفن بعده ومن الطرافة أن ينسب هذا الضرب من الشعر إليه ". ومن جهتي فلست أرى سببا للطرافة هنا، فالرباعيّات قديمة قدم الجنيد البغدادي. تقول الدكتورة إسعاد قنديل : "وممن ذكروا الرباعيّات أيضا أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري (ت 412 هـ) فقد أشار إليها في كتابين من كتبه، الأول كتاب "آداب الصحبة وحسن المعاشرة" حيث ذكر حوارا وقع بين الجنيد البغدادي (ت 297 هـ) ورجل ممن يأخذون على الصوفية أمورا في السماع، وجاء في ذلك الحوار اسم الرباعيات.
"والكتاب الثاني "طبقات الصوفية" فقد ورد فيه ضمن ترجمة أبي العباس بن مسروق الطوسي (ت 299 هـ) أنه سئل عن سماع الرباعيات، فقال: إن قلوبنا قلوب لم تألف الطاعات طبعا، وإنما ألفتها تكلفا، فأخشى إن أبحنا لها رخصة أن تتخطى إلى رخص، ولا أرى سماع الرباعيات إلا لمستقيم الظاهر والباطن، قوي الحال، تام العلم" (47) .
ومع ذلك أستبعد ما رواه ابن تغري بردي (ت 874 هـ) للعتّابي واسمه كلثوم بن عمرو بن أيوب (ت 220 هـ) من دوبيت قيل في الخمر أن يكون صحيح النسبة إليه لبعد ما بينهما زمنيا، ولأنه لم يذكر عمن أخذ رواية الدوبيت، مكتفيا بقوله: ومن شعره فيما قيل (مواليا)"! (48)
ونعود إلى دوبيت الحلاج، لنجده في الجزء الخببي الأول من كل مصراع، التزم بصورة واحدة لم تتغير في نسق مقاطعه، وذلك على أسلوب الفرس في نظمهم، بينما أخذ ينوع في الثاني على طريقة العرب.
والتمثيل للوزن بالمقاطع اللغوية يعطي وجها واحدا من وجوه الحركة الإيقاعية لهذا البحر، تلك الوجوه التي بلغت أربعة وعشرين صورة مستقلة لتغيّرات هذا البحر عند الفرس، بينما التمثيل له بالوحدات العروضية من سبب ووتد، فتعطي صورة ديناميكية لوزنه العربي في مقابل الصور الاستاتيكية، التي تميز بها العروض الفارسي.
ويعود الفضل للحسن بن علي القطّان (ت 548 هـ) إلى تصميم شجرتي الأخرب والأخرم اللتين جمعتا كل صور هذا البحر، كما يرجع الفضل للدكتور عمر خلوف في حصره لكل زحافات الدوبيت العربي وعلله .
ونستدل من الرموز السبب- وتدية (التي نقترحها بديلا للتفعيلات) على حرية السبب الثقيل في حركته على طول نسق الدوبيت، إلا في موضعين منه، أولهما:
عند التحام المجموعة الخببية الأولى بالجزء الرجزي في عملية المزج.
والثاني: حال انتهاء النسق في البيت أو المصراع عند الوقف التام، وذلك لأنه لا يوقف على متحرك.
ولقد أحسن الدكتور خلّوف في صنعه لشواهد تكشف عن حرية الحركة في الأسباب الثلاثة الأول بعد أن استقصى شواهد السلف ولم يجد مثالا واحدا عليها، فلم يقف موقفا سلبيا كموقف خانلري الذي لم يذكر سببا لتفسير عدم حدوث أي تغيير في مقاطع الركنين الأول والرابع اللذين أشار إليهما في شرحه لشجرتي حسن قطّان، كما سنرى فيما بعد. وهذه الشواهد هي ما يلي:
1- ذلك أدبي فأين منه الأدب
ـــ ب ب ب ب ـــ | ب ـــ ب ـــ | ـــ ب ب ـــ
2- نظر بعين على الأذى مفطورة
ب ب ب ب ـــ ـــ | ب ـــ ب ـــ | ـــ ـــ ـــ
3- رفعك أدبي بين الملا والناس
ب ب ب ب ب ب ـــ | ـــ ـــ ب ـــ | ـــ ـــ ـــ
وجميعها ينضبط على الميزان السبب وتدي الذي وضعناه، وهو:
(س)(س)(س)[س] | س س و | (س)(س)[س]
أما جزء الرجز فتسري عليه قوانين العروض التي بيّنها الخليل في نظرية المكانفة، حيث يقبل هذا الجزء زحافات الخبن والطي والخبل جميعا بلا تمييز.
فإذا وصل الدكتور خلوف إلى المجموعة الخببية الثانية التي يتمتع سبباها الأولان بحرية الحركة هكذا: (س)(س)[س]، مثل له بقول الخليلي:
العشق قديما في فؤادي غرسا (ـــ ب ب ـــ)
والحب لقد جفا المتيّم وقسا (ب ب ب ب ـــ)
ثم قال: ونظرا لمتطلبات التقفية، فإن الشكل (ب ب ب ب ـــ) لا يرد عادة إلا مع (ـــ ب ب ـــ)، والشكل (ب ب ـــ ـــ) لا يرد إلا مع (ـــ ـــ ـــ) . ولكن لم يلتزم الحاجري (ت 632 هـ) بذلك فأورد (ـــ ـــ ـــ) مع (ـــ ب ب ـــ) في قوله :
يا عاذل كم تجور في الحكم عليّ (ـــ ب ب ـــ)
دعنــي وتهتكي، فقــد راق لــديّ (ـــ ب ب ـــ)
خذ حذرك وانصرف ودعني والغيّ (ـــ ـــ ـــ)
ما أطيب ما يقال: قـــد جنّ بميّ (ـــ ب ب ـــ)
وقال مبررا للحاجري عدم التزامه بذلك: إن رويّ الياء الساكن ساعده على ذلك. وليس الأمر في رأيي كذلك، لأن القافية لم تتأثر على الإطلاق. والقافية هنا: صوت الرويّ مع الصوت الذي يسبقه فقط، وهما الياء الساكنة والفتحة التي تسبقها، وهذان لم يتغيرا في أيّ من قوافي هذا الدوبيت.
***************************************************************
الإحالات:
********
46- ديوانه ص 521
47- السماع عند الفرس والعرب ص 275 .
48- النجوم الزاهرة 2/ 186
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: