أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3804
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعد سقوط حكم المرشد في مصر وصمود النظام السوري في مقاومته للدواعش اضطرت حركة النهضة إلى التخفيف من تصلب مواقفها والتراجع عمّا وعدت به أنصارها من أخونة للدولة والمجتمع فرضيت بالتوافق مع الأزلام لحكم تونس بعد انتخابات 2014، ولأن محاصرة الإرهاب ومموليه وداعميه أصبحت جدية إلى حد ما هذه الأيام انتقلت الحركة من موقع الحليف الذي يملي شروطه إلى موقع التابع للباجي قائد السبسي طمعا في حمايته ممّا يمكن أن يحدث لها في قادم الأيام فلم ترفض له طلبا ولا اعترضت على مقترح أبداه خصوصا في الأيام الأخيرة، غير أن اللافت للنظر أن بعض كتبة هذا الزمن البائس لم يتوقفوا عن ترويج فرية أن ما أصبحت عليه الحركة من لين وطراوة إنما مردّه تطوّر ذاتي داخلي نقلها إلى الموقع المدني وإن كان عليها أن تتقدم أكثر في هذا الاتجاه حسبما جاء في تصحيح الباجي المتلفز لتصريحه في جريدة الصحافة ليوم 6 سبتمبر 2017 ويواصل البعض الآخر رحلة الكذب ليقول إن الحركة تتونست وأصبحت مشمولة بنسيجنا الاجتماعي والسياسي.
في تقديري أن هذا الكلام يحمل مغالطات تقارب تزوير المعاني وتدليس المفاهيم وتزييف الحقائق الهدف منها تلويث الرؤية وتلبيسها حتى تتمكن الحركة من فسحة للتصرّف والمناورة بعد أن أحكم الطوق حول عنقها لأسباب خارجية أوّلا وداخلية ثانيا خصوصا لما أظهر المجتمع التونسي صلابة وقوّة في رفض ما خططت له الحركة من أخونة للمجتمع والدولة، والذي يجب أن ننتبه إليه أن ما سُمِّي تونسة الحركة لم يصدر عن الحركة ولا ظهر في نصوصها ولا تعمدت التأكيد عليه في مؤتمراتها وندواتها بل روّجه ونشره بين الناس البعض ممّن يدّعون خصومتها ولكنهم يفتشون لها عن مواقع تبرّر التقاءهم بها وتجعله مستساغا والبعض الآخر تحت عنوان البحث والحياد والتحليل، فيما يلي لن أتناول نصوص ما قبل 2011 بل سأكتفي بما صدر عنها بعد هذا التاريخ.
في المؤتمر الرابع للحركة المنعقد سنة 1986 في المنزه أجيزت الوثيقة العقائدية المسماة "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي" وهي الوثيقة التي بقيت معتمدة إلى يومنا هذا وقد أعادت الحركة نشرها المرات المتعددة إما في كراس منفصل أو ملحقا لأحد كتب الغنوشي كما يمكن أن يجدها المرء في موقع الحركة الإلكتروني الذي أضيفت إليه أشرطة فيديو لشرحها وذلك بعد أن قرّر المؤتمر العاشر فصل الدعوي عن السياسي وهو ما يعني أن هذه الوثيقة كما مثلت سابقا تمثل اليوم الرابط الذي يجمع منتسبي الحركة ويحدّد لهم الأهداف الكبرى التي يجب أن يعملوا على تحقيقها، واللافت للنظر أن الذين يدعون أن الحركة تتونست وأصبحت مدنية لا نجد لديهم ما يفيد أنهم اطلعوا عليها بل يكتفون ببعض التصريحات من هنا وهناك ليبنوا عليها أوهامهم وأكاذيبهم، تقع هذه الوثيقة في حوالي 30 صفحة من القطع المتوسط والدارس لها يلحظ جيدا أنها وثيقة إيديولوجية بامتياز إذ تعيد وتكرّر المفاهيم الرائجة في الفضاء الإسلامي السلفي ويبدو ذلك من خلال محورين:
2) ومحور أصولي منهجي تناول منزلة الإنسان في العقيدة الإسلامية والوحي والعقل وخصائصهما والأفعال الإنسانية بينهما والتعامل مع الوحي.
بحيث يجد المرء نفسه أمام نصّ عقدي لاهوتي كلامي لا يختلف عن نصوص أصحاب الفرق القدامى، اقتصر على الحديث عن الغيبيات لا زمان يحدّه ويضبط صلاحيته ولا أرض يتعامل معها ومع سكانها ليغيب مفهوم المواطن ويحضر مفهوم المؤمن، الهدف الأسمى لهذا النص تكوين مناضل إسلامي أممي صالح لكل زمان ومكان يقول الغنوشي: "إن على الدولة الإسلامية.... أن تجتهد في أن تكون... ورشة عمل وفضاء مفتوحا للكفاءات الإسلامية من حيث أتت... وأن تستعين في إدارة أجهزة الحكم ولو في أعلى سلم التوظيف بالكفاءات الإسلامية بصرف النظر عن الجنسية... ونحسب أن في الدستور الإيراني بهذا الصدد تشددا في التأكيد على إيرانية الدولة وكذا في ميثاق العمل السياسي لثورة الإنقاذ في السودان وما تلاه من وثائق دستورية طافحة بشعور حاد من العزة الوطنية نأمل أن يشهد تليينا"(1) هذا البعد الأممي فيما يُربّون عليه منتسبيهم يفسر أسباب غياب تونس التاريخ والجغرافيا والتعتيم الكامل على الإسهام الحضاري لأسلافنا في الدوائر الإسلامية والعربية والإنسانية، فهل يصحّ بعد كل هذا الحديث عن تونسة لحركة أمميّة لا تعترف بالوطن وبالخصوصية التونسية، هذا الإغفال يشمل كل ما يصدر عن الحركة فجريدة الفجر في إصدارها الأخير منشغلة بتركيا وصندوق الزكاة وقانون المساجد أما الوطن وتاريخه وأسلافه فلا حضور له كما أن الحزب لم ينشر طوال السنوات الفارطة أي كتاب أو نصّ يؤشر على أن له علاقة بتونس رغم أنه أمسك عبر أعوانه مباشرة بوزارة الثقافة والشؤون الدينية اللتين كانتا تنشران في العهد السابق تراث أسلافنا كالإتحاف ومقدمة أقوم المسالك والأعمال الكاملة لنخبة من رواد الإصلاح، أما في حكم حزب الحركة فلم تنشر الوزارتان إلا قضايا هلامية من نوع الهوية والعلمانية والزكاة والأوقاف وغيرها من المواضيع العامة التي لا تؤشر على انتماء وطني محدّد، هذا الانتساب للأممية الإسلامية يظهر كذلك في احتفالاتهم وأعراسهم حيث ينشدون النشيد الذي يردّده كل المنتمين للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين "في حماك ربنا"، أما الأعياد الوطنية فقد قاطعها حكم الثالوث بعد 2011 منذ أيامهم الأولى حيث غابت كل المظاهر الرسمية وأصبحت احتفالات يحييها الشعب لوحده وقد وصل الأمر إلى حدود معاقبة المحتفلين بعيد الشهداء في 9 أفريل 2012 ومطاردتهم في الشوارع.
أما ما ظهر فيما بعد من محاولة الحركة وبعض القوميين الاستيلاء على بعض الرموز الوطنية والإدعاء بأنها تمثل امتدادا وتواصلا لهم فهو كذب محض وافتراء سياسي لا أساس له من الصحة فصالح بن يوسف لم تكن له علاقة بالعروبة كما يدعو لها القوميون ولا بالإسلام كما يدعو له حزب الحركة لأن الرجل بورقيبي دستوري بامتياز ناضل تحت إمرة الزعيم ولم يحدث الخلاف بينهما إلا بعد الوصول إلى مرحلة اقتسام الحكم(2).
في إطار هذه الحملة المبتذلة لتلويث قادة النضال والفكر في تونس طلع علينا جماعة النداء بعد التوافق مع النهضة بفرية أنهما ينتسبان إلى جدّ مشترك واحد هو عبد العزيز الثعالبي وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة لما يلي:
1) بالنسبة لحزب حركة النهضة هنالك تناقض كامل بين الشيخ والحركة فالشيخ يؤمن بالذاتية والخصوصية التونسية التي وضع لها كتابه "تونس الشهيدة" كما أضافها إلى تسمية حزبه الحر الدستوري التونسي أما الحركة فهي أممية بدأت بالجماعة الإسلامية إلى حزب حركة النهضة مرورا بالاتجاه الإسلامي بحيث لا تظهر تونس في تسمياتها المتعددة ولا في وثائقها.
2) أما بالنسبة للنداء فلا أدري ما وجه العلاقة بينه وبين الشيخ فالثعالبي من أكبر مثقفي عصره ومجدّديه ومصلحيه ترك إرثا فكريا وسياسيا يشهد له بالنبوغ أسس حزبا قاد الحركة الوطنية وحقق الاستقلال أما النداء فلا يعدو أن يكون تجمعا لأناس لا هدف لهم سوى اغتنام الفرص لاقتناص منافع السلطة وحالما نجحوا في الانتخابات نكصوا على أعقابهم وغدروا بناخبيهم ومن ثم فإن ادعاءهم الانتساب إلى الزعيم الثعالبي لا يمكن عده إلا من ساقط القول الذي لا يعتد به.
-----------
الهوامش
1) "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص155.
2) انظر دراسة لنا عنوانها "الزيتونة وبورقيبة وابن يوسف، العلاقة الملتبسة" في "أعلام وقضايا" نشر دار آفاق تونس 2015 وكتاب "بورقيبة يعود؟" نشر نيرفانا تونس 2015.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: