أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4979
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
صدر هذه الأيام كتاب للدكتور محمد ضيف الله تحت عنوان "أواخر الزيتونيين، وجوه وأدوار وعلاقات" نشر مكتبة تونس 2016، جمع فيه عددا من الدراسات التي ينظمها خيط واحد هو محاولة الربط بين الزيتونة ورجالها وجماعة الإخوان المسلمين في مصر بهدف إيجاد امتداد تاريخي محلي لحركة الاتجاه الإسلامي ومن ثم لحزب حركة النهضة في تونس، فإلى أي حد وُفِّق المؤلف في هدفه؟، وهل أن ما هو متاح من وثائق يسند هذه الفرضية التي دافع عنها؟.
عبد العزيز الثعالبي ومحيي الدين القليبي
تأسّست جمعية الإخوان المسلمين سنة 1928 في مدينة الإسماعيلية وهو التاريخ الذي اعتمده المؤلف للبحث عن الشخصيات التونسية التي بدا له أنها تأثرت بالإخوان أو كانت لها صلة ما بهم وأشهرهم على الإطلاق الشيخ المرحوم عبد العزيز الثعالبي يقول: "وأول من اتصل بهم.... خاصة الشيخ عبد العزيز الثعالبي... ومحيي الدين القليبي"(1)،
إن المتأمل في مسيرة الشيخ ورحلاته خصوصا منها إلى مصر يلحظ أن اتصاله بالنخب المصرية كان منحصرا في كبار العلماء والأدباء والساسة من وزن منصور فهمي ومصطفى عبد الرازق وإبراهيم الهلباوي وإبراهيم اطفيش وزكي مبارك ومحمد لطفي جمعة وخير الدين الزركلي وعبد الوهاب عزام وطنطاوي جوهري وغيرهم من الذوات ولم نعثر فيما هو بين أيدينا من وثائق على ما يثبت أن الرجل كان على صلة بالإخوان المسلمين أو بقياداتهم، وحتى بالتثبت في التواريخ نلحظ أنه من المستحيل أن يكون للشيخ أي صلة له بهم إذ من المعلوم أن الجمعية انتقلت من الإسماعيلية إلى القاهرة سنة 1932 وبقيت بعد ذلك تمارس نشاطا محتشما لا يتجاوز إلقاء الدروس في المساجد والاندساس في بعض المنظمات الثقافية والصوفية ولم تصبح تنظيما يحسب له وزن إلا بعد انعقاد مؤتمرها الخامس سنة 1938، طوال هذه الفترة كانت الحركة محلية ولا وجود إلا في الساحة المصرية، فهل يعقل أن يكون لشخصية من وزن الشيخ الثعالبي الذي يعدّ واحدا من أبرز رجال الإصلاح في العالم الإسلامي اتصال بحركة لم تولد بعد ولم تتشكل ملامحها فضلا عن أن يكون قد تأثر بها إضافة إلى أن الشيخ يختلف جذريا في تفكيره وبرنامجه السياسي عن الإخوان المسلمين، فالشيخ سمّى حزبه حزبا دستوريا أي أن الحكم فيه ينظمه دستور يتفق حوله الناس وأضاف للتسمية لفظ تونسي للإشارة إلى أنه حزب يؤمن بالوطن أوّلا وقبل كل شي وهو ما يتنافى تماما مع تسمية الإخوان المسلمين لأنفسهم التي تحيل إلى حكم رجال الدين والأممية الإسلامية.
أما بالنسبة لمحيي الدين القليبي فإنه وإن عُرف بصلته بالإخوان المسلمين إلا أنه لم يتجاوز حدود التعاطف إلى غيره من أساليب المساندة من ذلك أنه في سنة 1928 فكر في إنشاء جمعية سماها "جمعية الشبان التونسيين" ولكن لمّا رفضت السلط الاستعمارية قيام هذه الجمعية بهذه التسمية سماها "جمعية الشبان المسلمين"(2) وهو ما يؤشر على أن الإيمان بالذاتية والشخصية التونسية حاضر بقوة في فكر الرجل مثله مثل الزعيم الثعالبي تماما، وما يلفت النظر أن المؤلف استند في كتابه(3) لإثبات الادعاء بتأثير الإخوان المسلمين في الوسط الزيتوني إلى ما ورد في دراسة للمختار العياشي جاء فيها أن بعض المعاصرين للخلاف بين لجنة صوت الطالب الزيتوني والحزب الدستوري ذهبوا إلى أن هنالك اقتراحا بتأسيس فرع تونسي للإخوان المسلمين ويكون رئيسه ابن محيي الدين القليبي(4) مثل هذا الكلام لا يستند إلى مؤيدات فضلا عن أن أكبر أبناء محي الدين القليبي وهو عبد القادر لم يتجاوز العشرين من عمره في تلك الفترة فهو من مواليد 1931 الأمر الذي ينفي أي مصداقية لهذا القول، وإمعانا في التعسف مع الأحداث لإثبات هذا الموقف الإيديولوجي الذي يستهدف إيجاد رابطة ما بين الزيتونة والإخوان المسلمين استشهد المؤلف(5) ببيان أصدره "لسان الحياد الزيتوني" وهي لجنة كونها الديوان السياسي للعمل ضد صوت الطالب الزيتوني يقول الشيخ البدوي فيما نقله عنه علي الزيدي: "وأوّل تنظيم بعثه (الديوان السياسي) ليقوم بهذا الدور وينافس اللجنة كان لسان الحياد الزيتوني الذي قام بحركة تشويه إعلامية لتلك اللجنة تعتمد بالأساس على توزيع المناشير المزيفة لتحركاتها والمشككة في نضالاتها"(6) ولأن صاحب الإيديولوجيا لا تعدمه الحيلة لإكساب قناعاته مصداقية لدى القارئ التجأ المؤلف إلى تشابه الأسماء لإثبات أن الإخوان المسلمين كانوا حاضرين في الوسط الزيتوني يقول: "في هذه الفترة ظهرت في الوسط الزيتوني جمعية سميت (الإخوان الزيتونيين) التي يبدو من خلال تسميتها تأثرها بتسمية الإخوان المسلمين..."(7)
هكذا يصبح التشابه في الأسماء دليلا على وجود صلة ما بين الجمعيتين، إن صحّ هذا القول فإن الإخوان المسلمين تأثروا هم كذلك بإخوان الصفاء للتشابه في الأسماء وهو ما يرفضه العقل وتنفيه الوقائع، والمتأمل في نشاط الإخوان الزيتونيين يلحظ أنه لم يتجاوز تنظيم بعض المحاضرات والمهرجانات من بينها حفلان لعيدي العروبة إحياء لذكرى تأسيس الجامعة العربية كما دعت إلى شن إضراب عام في مدينة تونس بمناسبة إعلان مشروع تقسيم فلسطين وأعدت قائمات في المتطوعين للمشاركة في حرب سنة 1948 كما أرسل السيد الوالد محمد الصغير الشابي رحمه الله وهو رئيسها في تلك الفترة برقيات تأييد ومؤازرة بشأن القضية الفلسطينية لعدد من الزعماء العرب في مقدمتهم عبد الرحمان عزام الأمين العام للجامعة العربية(8)، كاتب هذه السطور عرف هذه الجمعية عن قرب من خلال معاشرته لرئيسها وكاتبها العام أبي القاسم محمد كرو رحمهما الله وأحاديثه الطويلة معهما وإن كان ذلك بعد غياب الجمعية بسنوات كثيرة إلا أن هذه اللقاءات رسخت لديه قناعة بأن المرحومين لم تكن لهما أي علاقة بالإخوان المسلمين إلا ما تقتضيه العاطفة الدينية ولعلّ فيما ترك صديقنا المرحوم أبي القاسم من دراسات ومقالات في المسألة الدينية ومشاركته في حزب البعث ما يؤكد هذا المعنى الذي كان يتبسط فيه عند الحديث ففي حوار له مع صلاح الدين الجورشي يقول: "الإخوان المسلمون حسب ما أعلم لم يتكوّن لهم أي فرع في تونس لا سري ولا علني إطلاقا لكن كانت هناك ميولات تتعاطف معها داخل الحزب القديم وبعض أفراد شيوخ الزيتونة الذين ليس لهم أي دور في الحياة العامة بما فيهم الشيخ محمد الصالح النيفر"(9).
محمد الصالح النيفر وعبد القادر سلامة
عند حديثه عن مرحلة تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي يقول ضيف الله: "ولن تطول المدة بعد ذلك لتظهر الحركة الإسلامية التونسية التي كان من بين مؤسّسيها عدد من الزيتونيين من بينهم محمد الصالح النيفر..... وعبد القادر بن سلامة"(10) الصحيح عبد القادر سلامة وليس ابن سلامة، ولأنه لم يجد أسماء أخرى لزيتونيين آخرين اقتصر على ذكر هذين الاسمين فقط فليس هنالك غيرهما والحال أن الساحة الدينية في تلك الفترة كانت تعج بكبار شيوخ الزيتونة الأحياء الذين كان عدد منهم يلقي الدروس في المساجد والجوامع، ففيما يخصّ الشيخ محمد الصالح النيفر من المعلوم أنه كان له حضور خصوصا في فترة تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي إذ كان رئيس هيئتها التأسيسية سنة 1981 ولصفته الزيتونية وانتمائه لعائلة زيتونية عريقة لم تتوقف الحركة عن استعمال اسمه في كل الاتجاهات والمحافل بهدف إثبات نسبها وصلتها بالزيتونة حتى وإن كان ذلك عن طريق الإلحاق مستندة في ذلك إلى الرواية التي يشيعها الشيخ عن خصومته مع بورقيبة حول مجلة الأحوال الشخصية وغيرها، وقد أجهد المؤلف نفسه لإثبات هذا المعنى والحال أن ما سمي معارضة لبورقيبة هو في حقيقته غضب من الزعيم وردّ فعل لأنه لم يحقق واحدة من أهم رغبات الشيخ وهي توليته منصب الإفتاء وبيان ذلك أن الشيخ محمد الصالح النيفر كان دستوريا منتميا إلى اللجنة التنفيذية(11) فيما بعد انخرط في كتلة الدفاع عن المطالب الزيتونية وهو تنظيم أسّسه الديوان السياسي لإضعاف صوت الطالب الزيتوني وقد وضع على رأسه محمد الشاذلي النيفر رئيس الشعبة الدستورية لمنطقة السيدة في العاصمة يقول الأستاذ سمير البكوش بكثير من الصفاء والموضوعية في دراسة له بعنوان النضال الزيتوني في الخمسينات من خلال أحداث 15 مارس 1954 ما يلي: "لقد أصبح الشاذلي النيفر متزعما للكتلة وسعى إلى إضعاف صوت الطالب بدعم من الحزب الجديد، كما أنه كان مدعوما بابن عمّه محمد الصالح النيفر رئيس جمعية الشبان المسلمين وعمّه علي النيفر نائب رئيس الجامعة الزيتونية، كما ارتبطت نشأة الكتلة بمحاولة إضعاف شق ابن عاشور الذي أصبح مهيمنا على الجامعة الزيتونية.......
كما أثارت هذه الصراعات بين الكتلة ولجنة صوت الطالب الزيتوني صراعات بين عائلتين عريقتين تنافستا المناصب العلمية والدينية بتونس العاصمة وهما عائلة النيفر وعائلة ابن عاشور"(12)، سنة 1959 عيّن الحبيب بورقيبة الشيخ محمد الصالح النيفر رئيسا للوفد الرسمي للحجيج وفي سنة 1961 صدر قرار بحلّ جمعية الشبان المسلمين وكافة فروعها(13)، سنة 1960 أحيل الشيخ محمد العزيز جعيط على المعاش فشغر بذلك منصب الإفتاء وقد كان الشيخ يتطلع إلى تعيينه في المنصب لذلك التزم الصمت ونأى بنفسه عن كل ما يمكن أن يثير الشكوك حوله حتى بعد حلّ جمعيته خصوصا أن تلك الفترة شهدت عددا مهولا من المحاكمات السياسية، وفي سنة 1962 عُيّن الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مفتيا للجمهورية عندها ضاع الأمل وخاب الظن في النظام الجديد الذي آثر عاشوريا على نيفري في الإفتاء فقررّ الشيخ الهجرة إلى الجزائر وكان ذلك سنة 1963 بعد أشهر معدودات ممّا أعتبره السبب المباشر للعداوة التي أعلنها الشيخ للزعيم بورقيبة وهو ما استغلته حركة الاتجاه الإسلامي فيما بعد للادعاء بأن لها امتدادا زيتونيا، أما الشيخ عبد القادر سلامة فهو وإن درس في الزيتونة إلا أنه لا يعدّ من الذوات والشخصيات التي لها شأن فيها سواء في التدريس أو الإفتاء أو القضاء الشرعي فالرجل كان تاجر زيوت وأشباهه من متوسطي الحال في الزيتونة يعدّون بالآلاف وحشره ضمن النخبة الزيتونية العلمية والشرعية تجوّز لا مبرّر له.
ما أجهد محمد ضيف الله نفسه لإثباته من أن الحركة الإسلامية لها صلة بالزيتونة ينفيه تماما مؤسّسها قال راشد الغنوشي: "ولذلك لم تكن الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس من ثمار جامع الزيتونة بل لم يكن للجامع دور يذكر في نشأتها كانت الحركة الإسلامية إلى حدّ كبير انعكاسا لأثر الفكر الإصلاحي في المشرق... واصطدمنا في المجتمع التقليدي بمشايخ جامع الزيتونة"(14)، فعلى من تقرأ مزاميرك يا ضيف الله؟.
والذي نخلص إليه أن حركة الإخوان المسلمين لم يكن لها حضور في الوسط الزيتوني إلى ما بعد الاستقلال وهو أمر لافت للنظر لأن النخبة التونسي طوال تاريخها لم تكن نخبة منغلقة بل على العكس من ذلك كانت منفتحة على الآخر وصلاتها بالمشرق قوية ففي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين تأثرت تأثرا ملحوظا بالعروة الوثقى ووصل الأمر إلى حدود الاشتراك فيها وفي مجلتها، فما هي الأسباب التي جعلت من حركة الإخوان المسلمين حركة منبوذة محترز منها في أوساط النخبة التونسية منذ تأسيسها سنة 1928 إلى ما بعد الاستقلال ومرفوضة حتى من قبل الذين درسوا في مصر في حين نجد أن جمعية قليلة العدد وضعيفة العدّة كالعروة الوثقى تؤدي دورا إصلاحيا وتنويريا في تونس ويسعى أبناء البلد إلى الانخراط فيها؟.
-----------
الهوامش
1) أواخر الزيتونيين، ص128.
2) "فصول في التاريخ والحضارة" حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1992، ص324.
3) أواخر الزيتونيين، ص131.
4) "البلاد التونسية في فترة ما بعد الحرب 1945/1950" أعمال الندوة الخامسة، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 1991، ص247.
5) أواخر الزيتونيين، ص131.
6) "تأريخ النظام التربوي للشعبة العصرية الزيتونية (1951/1965)" علي الزيدي، منشورات مركز البحوث في علوم المكتبات والمعلومات عدد 16، تونس 1986، ص87 وخصوصا 145 و146.
7) أواخر الزيتونيين، ص129.
8) جريدة الزهرة 4 ديسمبر1947.
9) "حصاد العمر" أبو القاسم محمد كرو، نشر دار المغرب العربي تونس 1998، المجلد السادس الجزء الثاني ص116.
10) أواخر الزيتونيين، ص134.
11) البلاد التونسية في فترة، دراسة لطفي الشايبي تحت عنوان "خلفيات البعد الثقافي والاجتماعي والتربوي لجمعية الشبان المسلمين (1944/1947)" ص146.
12) "حول الزيتونة: الدين والمجتمع والحركات الوطنية في المغرب العربي" منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2003، ص372.
13) "الشيخ محمد الصالح النيفر (1902/1993) مسيرة نضال، 1/72.
14) "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس" دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص41 و44.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: