|
الجزائر: ضمها لفرنسا والمقاومة الوطنية حتى عام 1914
يورغن براندت / ترجمة: د - ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 5409
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
آ : قبل الاحتلال الفرنسي:
كانت الجزائر في بداية القرن التاسع عشر كغالبية البلدان العربية الأخرى، تابعة شكلياً كولاية للإمبراطورية العثمانية. ولكن السلطان التركي لم يعد يمتلك في الواقع هنا السلطة الحقيقية، إذ كان الباب العالي يسمح منذ فترة طويلة للفئات العليا من الأنكشاريين بالإدارة الذاتية. وقد مارس الداي، وهو اللقب التركي الأعلى في الجزائر، الإدارة مستقلاً عن الحكومة المركزية العثمانية. وكان البيكات(جمع بيك ـ المترجم)، وهم حكام ولايات الجزائر ووهران وميديا وقسطنطينة، مسئولين أمام الداي، وكان نفوذ المواطنين المدنيين والعسكريين من الأتراك وسلطاتهم محدودة في الجزائر أيضاً.
وكان بالإمكان رؤية موظفي البك بالقرب من بوابات المدن الجزائرية الكبرى في مواجهة مع الإقطاعيين الجزائريين وزعماء القبائل الذين كانوا يحوزون النفوذ السياسي والاقتصادي، سيما قادة القبائل الذين كانوا السادة الحقيقيين للبلاد، إذ يحوزون على النفوذ المطلق ضمن العلاقات التقليدية بين القبائل والرعاة البدو، وكذلك بين السكان الفلاحين المستقرين في وديان الأنهار والواحات. ففي ظل هذه العلاقات كانوا يحوزون ما يقارب السلطان المطلق.
وكانت القبائل في شمال أفريقيا تكن الكثير من سوء الظن والارتياب العميق حيال المحتلين الغرباء، كما كانوا في العصور الوسطى قد تأثروا بشكل حاسم بفشل المحاولات الأسبانية والبرتغالية العدوانية، مما جعل التوسع العثماني والسيطرة على كامل البلاد أمراً مستحيلاً. وأخيراً فإن سادة الإقطاع أعاقوا تشكيل جبهة جزائرية لتطرد وبشكل نهائي وتام الفئات العليا من الأتراك الغرباء. كما استخدم الموظفون الأتراك من أجل تحقيق الاستقرار لمواقعهم في السيطرة والسيادة، قبائل محزان الذين قدموا الجنود إلى الداي تحت تصرفه، ثم عملوا في وظائف الشرطة وفي جمع الضرائب، وكانوا ممقوتين من الشعب الجزائري لأنهم كانوا يقومون بقمع أنتفاضات الشعب المعادية للأتراك، كما ساهموا بشكل مخز في الحملات التأديبية ضد البدو والفلاحين الجزائريين.
وكانت المقاومة المعادية للأتراك قد نهضت في القرن التاسع عشر في مناطق جبال القبائل، وكذلك في أنحاء وهران في انتفاضة كبيرة، وأظهروا في الحركة الأخوة الدينية، فأنتظم أعداد كبيرة من الناس في الانتفاضة الهادفة إلى طرد الأعداء الغرباء والسيادة الأجنبية للداي والأنكشارية.
وساد في المدن الجزائرية الكبرى بعد شيوع ظاهرة القرصنة(التي كانت تدر أرباح وفيرة)، ظروف أزمة دائمية. فالتجار الجزائريون كانوا، يصبحون وبشكل متزايد تحت سيطرة التجار الأوربيون، لا سيما كبار التجار الفرنسيين والأسبان، وكانوا قبل ذلك تحت رحمة الموظفين الأتراك الذين كانت لهم الفاعلية في المدن.
وكان الريف الجزائري على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والانقسام الإقطاعي والسلطة التي كانت ما تزال قائمة للداي وللأنكشارية، يطرح صورة غير يائسة. ففي عام 1833، كتب م. روزيت M. Rozet (عضو جمعية التاريخ الطبيعي الجيولوجيا الفرنسية) يعكس انطباعاته التي جمعها من خلال حملة الاحتلال الفرنسية في الجزائر، فهو يكتب عن بساتين البرتقال ذات المساحات الواسعة والحبوب وحقول الرز، وكذلك أنظمة الري بالقنوات. وقد أمتدح العالم الفرنسي نظافة الشوارع الضيقة في مدينة الجزائر، كما كان متأثراً بسماحة المسلمين حيال الأشخاص من الديانات الأخرى، كما لاحظ الرغبة في التعلم لدى الطلبة الجزائريين، وتحدث عن الموقف الإنساني للمعلم إذ قال:" إن الأولاد المسلمين هم طلاب أذكياء جداً، وكانوا نادراً ما يرفعون رؤوسهم عند دخولي عليهم، مظهرين أعظم الاحترام، لكن لا أحد يسيء التعامل كما نفعل نحن بطلبتنا في الريف الفرنسي".(1)
وحملت الجزائر رغم ظروفها السيئة مؤشرات الدولة إقطاعية المنتظمة. وكان الداي يرأس الحكومة في الجزائر التي كانت تقيم العلاقات الدبلوماسية مع العديد من البلدان الأجنبية، كما كان هناك جهاز إدارة صالح للعمل، يمتلك جيشه الخاص، وذلك كان الفراغ في الجزائر الذي زحف إليه الاستعماريون الفرنسيون عام 1830.
* * * *
ب : الغزو :
لأكثر من قرن كامل، كانت الأوساط الحاكمة الفرنسية تحاول أن تبرر لشعبها أحتلالها الاستعماري للجزائر من خلال خرافة ما يطلق عليها (ضربة المروحة). وفي دراسة ظهرت عام 1955 حول تاريخ الجزائر، كتب عن تلك الحادثة ما يلي:" حدث عام 1827، أن نال قنصل الجزائر المسيو ديفال Deval الذي كان في مهمة إيضاحية إلى حسين(داي الجزائر) حول تنظيم أمور(قرض) متأخرة، ضربة مروحة (منشة)مصنوعة من الريش لطرد أو ضرب الذباب. وقد أعتبر ذلك بالنسبة لممثل فرنسا إهانة بالغة، وقد طالب كارل العاشر تعويضاً مالياً واعتذارا، وهذا ما رفضه حسين".(2)
ولكن كيف كان الواقع الموضوعي يعرض نفسه حقاً .. ؟
كانت الجزائر قد جهزت فرنسا، خلال حروب الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وفي عهد الحملة الفرنسية النابليونية على إيطاليا، وفي سنوات التحالفات البريطانية ـ الأوربية، بكميات كبيرة من المواد الغذائية بتوسط التاجران الإيطاليان باسري Basri و بوزناش Busnach، بدون أن تطلب من فرنسا التسديد الفوري، وأعلنت الحكومة الفرنسية لاحقاً في أعوام العشرينات، عن تسديدها للدين ولكن للتاجر الإيطالي، وإنها ليست على استعداد لتسديدها للدولة الجزائرية. وفي ذلك نشب نزاع جزائري ـ فرنسي، وكان القنصل الفرنسي في الجزائر قد تزعزع موقفه بسبب فضائح الفساد كما كان يقال، وبنتيجة الحديث الانفعالي بين الداي حسين والقنصل ديفال، وجه في ختامها الداي المتعجرف ضربة إلى القنصل من مروحة(منشة ذباب)، وكانت هذه (الإهانة الكبيرة لفرنسا) بالإضافة إلى القرصنة الجزائرية المزعومة في البحر المتوسط، والتي كانت قد انتهت منذ أن ضرب الأسطول الجزائري عام 1827 بواسطة السفن الحربية البريطانية ـ الفرنسية، وأزيل نهائياً، إلا أنها ستكون من أهم أسباب هجوم القوات الفرنسية على الجزائر.
نعم ... بسبب ضربة مروحة، التي أستخدمها الفرنسيون كذريعة لإرسال 40 ألف جندي للقتال كما يصفها بحق السياسي النمساوي مترنيخ. أما الأسباب الحقيقية للغزو الفرنسي للجزائر فتكمن في الظروف والعلاقات السياسية والاقتصادية لفرنسا الملكية في عهد كارل العاشر. وكان على البوربونيون الذين رفعوا إلى العرش بعد طرد نابليون عام 1815، كان عليهم مواجهة مشكلات سياسية داخلية كبيرة، وهم في ذلك لم يصطدموا بمقاومة الجماهير الفرنسية فحسب، بل وأيضا بعدم الارتياح المتنامي لدى البورجوازية الفرنسية التي كانت مقيدة بقيود السيادة السياسية لعائلة بوربون وتتطور ببطء شديد.
وقد مثل الاحتلال الفرنسي للجزائر مساهمة في إنقاذ الملكية الفرنسية، ولم تكن(ضربة المروحة) سوى الذريعة لذلك ليس إلا. فيما كانت الشروط السياسية الخارجية لمغامرة كهذه تبدو مناسبة، ولم يكن متوقعاً ردود فعل مهمة من قبل بريطانيا العظمى، روسيا، النمسا، بروسيا، كما لم يكن متوقعاً ردود فعل من الباب العالي بسبب ضعف سلطانهم أو صدور إجراءات جدية ضد الفرنسيين من أستامبول. وعلى الرغم من ذلك، فقد مرت ثلاثة سنوات قبل أن يقرر كارل العاشر " استعادة شرف فرنسا". ففي 14/ حزيران ـ يونية /1830 نزل جيش فرنسي بقوة 37 ألف رجل بالقرب من سيدي فروش على مسافة 23 كم غربي الجزائر بقيادة الكراف دي بورمونت Du Bourmont الذي كان الشعب الفرنسي يكرهه بعمق بسبب خيانته في معركة واترلو عام 1815. وواصلت القوات الفرنسية زحفها بعد ثلاثة أسابيع، 5/ تموز ـ بولية/1830 على الجزائر، وترك الداي حسين البلاد في 23/تموز، ولحقت به القوات الانكشارية.
وعلى العكس مما وعد الفرنسيون من حرية وضمان لممتلكات الشعب الجزائري، فقد قام جنود الكراف دي بورمونت بجرائم وفضائح، وكانت أعمال السلب والنهب وإشعال الحرائق من الأعمال اليومية لجيش الأحتلال.
وفي أوائل المرحلة الأولى من الاحتلال الفرنسي، سقطت عائلة بوربون عن الحكم، واندلعت في باريس ثورة تموزـ يوليو /1830، وجاءت الأوليغارشية المالية إلى السلطة، وحملت ممثلهم لويس فيليب إلى عرش فرنسا، ولقب بالمواطن الملك. وحسم الحكام الجدد في فرنسا قرارهم بعد تردد في بداية الأمر، بتوسيع المغامرة العسكرية التي بدأت من أجل الكبرياء، لكنها تحولت إلى حرب استعمارية توسعية.
نعم ... لقد تمكنوا بعملية بوليسية من أبعاد الداي وقوات الانكشارية الغريبة عن الشعب، ولكنهم لم يتمكنوا أبداً أن يرغموا الشعب الجزائري أن يجثو على ركبتيه.
* * * *
ج : الانتفاضة الشعبية الجزائرية بقيادة عبد القادر :
كانت القوات الفرنسية منذ عام 1830 وحتى عام 1832، قد وضعت المدن الساحلية المهمة مثل الجزائر، بونة، وهران، والمحافظات المحيطة بالجزائر ومناطق ميتيدجا Mitidja تحت سيطرتها العسكرية. وكانت فعاليات المقاومة للقبائل الجزائرية تجري متقطعة لكن دون توقف، وقد مثل الإقطاع الذي مزق البلاد عائقاً للنهوض الوطني الشامل ضد المحتلين الأجانب، فيما عرض البعض من الفئات العليا للإقطاع الجزائري خدماتهم على المستعمرين. وهنا، وجد نداء المرابطين للحرب المقدسة ضد المستعمرين، الاستعداد لدى الفلاحين الجزائريين والبدو ولكن القوى المترددة التي كانت ضد الفرنسيين في البلاد لم تقف موقفاً يسهل قيام جبهة جزائرية موحدة.
وفي هذه الظروف، وبتاريخ 21/ تشرين الثاني ـ نوفمبر /1832، تنادت قبائل منطقة وهران ونصبت المرابط الشاب عبد القادر البالغ من العمر 24 عاماً، الذي ينحدر من قبيلة هاشم، أميراً. وقد استمر عبد القادر في مقدمة شعبه في الانتفاضة المسلحة ليس فقط ضد الاستعمار الفرنسي الذي أوصل البلاد إلى حد الكارثة، ولكن إلى ما هو أبعد من ذلك، من خلال تأثيره على القيم الوطنية للشعب الجزائري.
ولد عبد القادر عام 1808 على مقربة من مسكرة، وهو أبن محي الدين قائد جماعة الأخوان القادرية الدينية. وقد درس عبد القادر في مدرسة تعليم القرآن، ورافق أباه في الأعوام 1827/28 في سفرته إلى الشرق الأدنى حيث قام بالحج إلى مكة، وتعرف هناك على الوهابيين، ثم زار بغداد والقاهرة. وقد تلقى عبد القادر تربية دينية إسلامية صارمة، وأدرك أن عليه أن يعبئ المؤمنين الجزائريين ضد المحتلين الفرنسيين.وكان قنوعاً ومتعلماً وعلى خلق كبير. كما كان عبد القادر عبقرياً في قضايا التنظيم ومحارباً شجاعاً وقائداً موهوباً في ميادين القتال. لذلك كان المستعمرون الفرنسيون يخشونه ويكرهونه، كما أن عفته الشخصية لم تكن موضع نقاش. وكان الإقطاعيون الجزائريون متأثرين بشخصيته وسلطانه، وكذلك الفلاحون البسطاء وأفراد البدو الذين كان عبد القادر المعبر عن مشاعرهم وعواطفهم الوطنية، ولذلك فقد كانوا يقدرونه ويحترمونه غاية الاحترام والإجلال.
وقد تعرف عبد القادر، كمقدمات للنضال والمقاومة الوطنية الناجحة، على ضرورة إزالة التمزقات الإقطاعية. فتمكن في وقت قصير من أن يوسع نفوذه في العديد من القبائل غربي الجزائر. كما تمكن في القتال مع القوات الفرنسية الاستعمارية وقادة القبائل المحليين الخونة في مناطق الجبال الغربية والوسطى من إزالة التمزقات الإقطاعية وخلق دولة مركزية وعاصمتها مسكرة. وفي اتفاقيات 26/ شباط ـ فبراير / 1834 كان على الجنرال الفرنسي ديز ميشيل Desmichel الاعتراف باستقلال المناطق شرقي الجزائر (باستثناء مدن وهران، أرزيف، مستغينم)وبقيادة عبد القادر، الذي كان يدير هذه المناطق، كما كان له قنصلاً في الجزائر يشتري له الأسلحة والمعدات الحربية.
وبعد أن أخل المستعمرون الفرنسيون عام 1835 بالأتفاق المعقود مع عبد القادر، ألحقت الانتفاضة الجزائرية بهم خسائر عسكرية فادحة، وأرغموا القيادة العسكرية الفرنسية على المزيد من التنازلات. وفي اتفاقية تافنا Tafna بتاريخ 30/ أيار مايو/1837 كان على فرنسا الاعتراف بسيادته على ولاية وهران، وكذلك على قسم كبير من ولاية الجزائر وبيليك Beylli وتيتري Titteri.
وكانت الأوضاع العسكرية في شرق الجزائر هي مناسبة أكثر للفرنسيين، ولكن الجماهير الشعبية الجزائرية وبقيادة أحمد بك في قسطنطينة دافعت بمرارة ضد العدو. بيد أن امتناع البكوات قبول قيادة عبد القادر للنضال المعادي للاستعمار والقبول بأجراء التنسيق في أعماله العسكرية، مكَن الجيش الفرنسي من القيام بعمليات ناجحة في شرقي الجزائر، إذ تمكنت القوات الفرنسية في تشرين الأول ـ أكتوبر/1837، من احتلال مدينة قسطنطينة بعد قتال شوارع مرير، فيما هرب أحمد بك في أعقاب ذلك إلى جبال الأوراس حيث تابع من هناك القتال ضد الاحتلال الفرنسي.
وبعد هزيمة أحمد بك، استطاع عبد القادر من أن يعيد سلطانه ونفوذه السياسي إلى مناطق بعيدة في شرقي الجزائر باستثناء القليل من المدن الكبيرة. وحتى عام 1838 كانت كافة المناطق الجزائرية تقريباً تحت سيطرته.
وجعلت النجاحات العسكرية عبد القادر في وضع يمكنه المضي في بناء الدولة الجزائرية التي كانت تبرز وتتكون أثناء القتال. ومن أجل تنفيذ هذا الهدف، فقد ثبت أن هيكلية الحكم والسيادة التي ورثت عن الأتراك، كانت عديمة الفائدة، لذلك أجهد عبد القادر نفسه في بناء جهاز سلطة جديد، وساعدته في مساعيه تلك، الهيبة والسلطان اللتان كسبهما من خلال الصراع العسكري ضد المستعمرين الفرنسيين في كافة أوساط الفئات الجزائرية، وفي إفشال مؤقت للاتجاهات التي كانت بين زعماء القبائل في تكوين زعامات ودويلات، إذ جرد عبد القادر قبيلة ماحزان من الأمتيازات التي كانت تتمتع بها في ذلك الوقت، ووجه بذلك ضربة إلى علاقات التبعية والحماية. كما فرض من خلال تحكيم القرآن، العدالة السياسية والاقتصادية بين القبائل.
قسم عبد القادر المناطق المحررة من الجزائر إلى أربعة، ولاحقاً إلى ثمانية محافظات لإدارتها. ثم عين الموظفين لإدارتها وكانوا على الأغلب من قيادات المرابطين. أما التقسيم الإداري الذي أتبعه، فقد جعل لكل ولاية قائد، والولاية قسمها إلى دوائر، والدوائر بحسب مناطق القبائل، ومناطق القبائل إلى مقاطعات، كان المسئول عنها القائد الإداري والعسكري في وقت واحد.
وأولى عبد القادر الذي كان يهتم شخصياً بمثل هذه، اهتماما كبيراً بتنظيم العمل، وأعتمد في ذلك على تعاليم القرآن ولكن من دون أن يكون جامداً. ومن خلال علماء فاس والقيروان(على سبيل المثال) تمكن من أستحصال المسوغات القانونية للعمل ضد المعارضة المحلية من قادة القبائل، وأن يقيم مؤقتاً علاقات سلمية مع الفرنسيين. فقد أجتهد عبد القادر بحيوية من أجل تحقيق مؤسسة مالية مركزية، فقد كان يعمل من أجل اقتصاد قائم على التوفير في النفقات. وكانت واردات الدولة (وتكلف بها القبائل التي تقدم ولائها للدولة) قائمة بشكل جوهري على الضرائب العادلة والمتساوية: من مالكي الورش، ومن الغرامات الحربية من قادة القبائل المعادية، وكذلك من خلال واردات الملح والتجارة الخارجية، وأخيراً فقد كان سلطان مراكش قد ألتزم بتقديم المعونة المالية للجزائر وبشكل منتظم.
وكانت الموارد المتاحة للدولة الجزائرية، تتفق بالدرجة الأولى على الجوانب العسكرية بسبب المواجهة المباشرة مع الاستعمار الفرنسي ورغم ذلك، فقد سعى عبد القادر وأجتهد لتوفير حاجات السكان من الموارد المعيشية لا سيما في بناء المدارس.
وحاول عبد القادر في كفاحه ضد الغزو الفرنسي على صعيد علاقاته الخارجية، أن يقيم الصلات مع سلطان مراكش، وعدا ذلك فقد عمل على استغلال التناقض البريطاني ـ الفرنسي في مجال البحر المتوسط. وكانت وزارة الخارجية البريطانية مستعدة للعمل على أضعاف منافستها الفرنسية، ولكن مواقفها المؤيدة للجزائر، تسبب في نشوب صراع عنيف مع فرنسا، لذلك فإنها لم تكن مستعدة لدعم عبد القادر، لذلك فقد كان على الأمير الجزائري أن يعتمد على قوة بلاده فقط. وكان قد بدا واضحاً له أن المستعمرين الفرنسيين سوف لن يستمروا طويلاً بالتطلع إلى عملية بناء دولة جزائرية حرة تقوم أمام أعينهم، لذلك فقد أتخذت كافة الإجراءات الصارمة من أجل رفع المعنويات والشجاعة والحماسة للقتال ضد المحتلين الأجانب بين مقاتلي القبائل الجزائرية، وتكوين جيش ذا قوة ضاربة منهم. وكان نواة جيشه يتألف من حوالي 10 ألاف جندي جاهز للقتال، وكان هذا الجيش يتألف أساساً من المتطوعين، عملت الدولة على تسليحه وتدريبه وصرف الرواتب له.
وتجمع حول هذا الجيش حشد عسكري من القبائل بقوة تقارب 50 ألف رجل، ووضع عبد القادر خطة تفصيلية للدفاع عن الجزائر. ففي الساحل والمدن الكبيرة: وهران والجزائر، تركزت عدة وحدات من القبائل، كما قطع اتصالاتها مع الخلف. وفي المناطق المرتفعة شكلت المدن تلمسان، مسكرة، ميليانا، مدية، خط الدفاع الثاني، كما شيد عبد القادر سلسلة من المواقع المحصنة على ساحل المناطق المرتفعة مثل: سيبدو(الواقعة إلى جنوب تلمسان) وسعيدة(جنوب مسكرة) وتقديمة(الواقعة بين مسكرة وميليانا) وبوجهار(جنوب ميدي) وكان يتواجد هناك ورش النسيج الحكومية، ومطاحن البارود، وورش لصناعة الأسلحة كما أسس عبد القادر مصنعاً(مصهراً) لصناعة المدافع. وكانت هناك مطابع لسك العملة في تقديمت التي كانت الأهم من بين تلك المواقع المحصنة.
د : ضرب الانتفاضة واحتلال جديد
كان المستعمرون الفرنسيون يراقبون بريبة البناء المتواصل للدولة الجزائرية، المتقدم سياسياً واقتصادياً برغم كل العوائق. ومن أجل تحقيق كافة خططهم العدوانية في هذا الجزء من شمال أفريقيا، فقد كان عليهم العمل بسرعة وعدم منح عبد القادر الفرصة والوقت في المضي حتى النهاية في عملية البناء التي يقوم بها.
وفي عام 1839، خرقت القوات الفرنسية أتفاق تافنا، ففي 18 / تشرين الأول ـ أكتوبر وتقدمت القوات الفرنسية من قسطنطينة عبر مضيق بيبان باتجاه الجزائر. وكان عبد القادر قد استعد لمثل هذه الفعاليات، ففي ضربة صاعقة مضادة وسريعة، زحفت قواته إلى مناطق ميتيدجة، وجعل الفزع يدب في صفوف الفرنسيين. ولم يكن بمقدور القوات الفرنسية التي كانت قد وصلت إلى قوة 58 ألف رجل، الانتصار على عبد القادر وقواته التي كان يقودها بذكاء.
وفي هذا الوضع، سمي الجنرال بوجياود Bugeaud قائداً عاماً للجيش الفرنسي في الجزائر، وقد باشر بتعزيزات فورية للجيش الاستعماري بقوة 108 رجل، وهنا بدأت مرحلة جديدة من القتال يسميها الفرنسيون الاستعماريون أنفسهم بحرب الإبادة ضد الشعب الجزائري، وبحسب تعبيرات الجنرال بوجيادو في أوامره إلى ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي: " إن الحرب التي نخوضها الآن، هي ليست حرباً قذفنا فيها، والعرب الذين تعود لهم هذه البلاد ليسوا أكثر من موارد بالنسبة إلينا، ونستطيع أن ننتهي منهم، إذن تقدموا وتصوروا أنكم تحصدون الحنطة والشعير".(3)
وكان الجيش الاستعماري الفرنسي يحقق شعار بوجياود هذا في حملة إرهابية ليس لها نظير. ففي غضون عامين فقط: من 1842 و1843، تعرضت غرب الجزائر التي كانت مقراً لدولة عبد القادر إلى إبادة منظمة، كما دمرت بساتين الفواكه، وأحرقت الحبوب في الحقول وفي مخازن الغلال، كما جرى تخريب أنظمة الري والقنوات. وتعرضت النساء والأطفال والشيوخ للقتل بطرق وحشية، فقد بني العديد منهم في الجدران وهم على قيد الحياة، وسويت العديد من القرى مع الأرض. ويستحيل أعطاء صورة حقيقية عن همجية ووحشية جنود بوجياود الاستعماريين، ولكن يمكن القول أن هناك قبائل أبيدت عن آخرها، وقتل كل من له علاقة بالانتفاضة.
ويعبر ماركس وأنجلز عن ذلك بقولهما:" والعرب من الأمم التي كان استقلالها غالياً، وأصبح الحقد أغلى عليهم من حياتهم. إذ كان المحتلون يهدمون البيوت والمساكن ويحرقون المحاصيل في المزارع، وقتل كل تعيس حظ مكث في مكانه ولم يهرب، واستخدمت ضدهم بل غمرتهم كافة أشكال الوحشية المرعبة. وفي هذه الحرب البربرية المنظمة في وحشيتها، مارسوا فيها كل ما هو ضد الحضارة الإنسانية والمدنية المسيحية".(4)
ودافع محاربوا عبد القادر عن أنفسهم بيأس ولكن ببطولة رغم التفوق الضاغط. فقد تحمل الجيش الفرنسي الاستعماري العديد من الضربات المهمة، ولكن مع استمرار الوقت لم يعد بوسع المقاتلين الجزائريين تحمل التفوق الساحق في السلاح وضغط العدو، ففي عام 1842 سقطت العاصمة مسكرة بأيدي العدو، ودمرت المدينة عام 1843 في غياب الأمير عبد القادر الذي واصل القتال ضد العدو انطلاقا من مراكش.
وظلت الهجمات العسكرية للقوات المراكشية المنتظمة ضد الجيش الفرنسي، دون نجاح، كما لم يقبل ولي عهد المراكشي الشجاع مولاي محمد بمقترحات الأمير عبد القادر الذي كان أكثر خبرة وتجربة في تشكيل جبهة موحدة جزائرية ـ مراكشية. وتعرض المراكشيون الذين كانوا تحت قيادة سيئة وقلة تبصر ميداني ـ تكتيكي من قبل مستشاري مولاي محمد إلى هزيمة قاسية في 14/ آب ـ أغسطس/1844 في معركة على نهر إيسلي. وكان السلطان المراكشي قد ألتزم في اتفاقية طنجة 10/ أيلول ـ سبتمبر/1844، بتقديم المساعدة الممكنة للانتفاضة الجزائرية. ولكن بعد احتجاجات فرنسية، تعين على الأمير عبد القادر أن يغادر مراكش ومواصلة نضال لا أمل فيه بما تبقى من جيشه في الجزائر، وثم أستسلم أخيراً في 23/أيلول ـ سبتمبر/1847 للجنرال الفرنسي في لاموريسيراLa Moriciere، وغادر البلاد عام 1852 وبقي حتى وفاته عام 1883 في دمشق. وقد أعترف العسكريون الفرنسيون بالمقاومة البطولية للشعب الجزائري التي قادها الأمير عبد القادر ضد المستعمرين.
كان التفوق العسكري للجيش الفرنسي بالإضافة للحرب الهمجية من أسباب أخفاق النضال ضد الاحتلال الاستعماري وانتفاضة الشعب الجزائري الذي كان يخوض حرب التحرير في ظروف صعبة، تميل فيه القيادات إلى التفرد والزعامة، وكذلك عدم مساهمة سكان المدن في النضال، وأخيرا خيانة أعداد من الإقطاعيين وزعماء القبائل.
وكان عبد القادر العامل الأساسي في النضال من أجل وعي وطني مع البسطاء من أبناء الشعب الجزائري، ولكنه لم يعش طويلاً ليتحقق عمله من أجل أنجاز استقلال الجزائر، إذ كان ضحية المصالح الإقطاعية الأنانية وخاصة زعماء القبائل في شرق الجزائر الذين رفضوا الاعتراف بقيادته وسيادته.
لم تكن الانتفاضة بقيادة عبد القادر من أجل لا شيء، إذ تعد واحدة من أهم ردود الأفعال وأقواها سواء الأفريقية أو العربية ضد الاضطهاد الاستعماري لما قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية، وإن مدى وقوة أشعاعها لم تبق محدودة بالقرن التاسع عشر، ويقف عبد القادر الذي أعتبره الشعب الجزائري بطلاً قومياً في مقدمة نضالات الشعب الجزائري المجيد ضد الاستعمار.
على الرغم من أن هزيمة عبد القادر اعتبرت في سياق التطور اللاحق للحركة من أجل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، هزيمة مرة، إلا أن سرعان ما تبين أن آمال الاستعماريين الفرنسيين في إسقاطهم لدولة عبد القادر نهاية لنضال المقاومة الجزائرية، ليست سوى أوهام، وكذلك في احتلال منطقة القبائل 1851/52 ومناطق واحات صلاح الصحراوية عام 1809 موات Mouat، فيجويج Figuig عام 1901، وتيت Tit عام 1902، فقد أدى كل ذلك لأن تصبح الجزائر بأكملها تحت السيطرة الفرنسية. ومع ذلك لم يكن بوسع الاستعمار الفرنسي أن يقمع إرادة الشعب الجزائري في الانتفاضة. فقد كانت القبائل في الصحراء(لا سيما مساب Mzab) تدير نفسها بنفسها دوماً، وكانت ضد الرضوخ للاستعمار الفرنسي.
وقد هبت خلال حرب التحرير التي قادها عبد القادر في فترة إقامته في مراكش للأعوام 1845/46، انتفاضة في المناطق ما بين وهران والجزائر بقيادة الرعاة بومازا Bu Maza، التي قمعتها السلطات الاستعمارية بوحشية. وكما هبت عام 1854/57 انتفاضة في مناطق القبائل الجبلية. وفي عام 1859 انتفاضة مناطق الحدود الجزائرية ـ المراكشية بوسناسن، وفي عام 1884 في ولد سيدي الشيخ. كما اندلعت أيام كومونة باريس في 14/ آذار ـ مارس/1871، انتفاضة كبرى في وسط الجزائر بقيادة الأمير الإقطاعي محمد المقرني.
لم يكن هذا النضال المعادي للاستعمار، انتفاضات منفردة للقبائل، بل كانت عبارة عن موجات استياء، فثورة الفلاحين الفقراء وملاك أراضي صغار، وحوالي 200 ألف من فقراء الريف ناضلوا سوية مع عمال الريف لمنطقة ميتيدجا ضد سياسة النهب الاستعمارية الفرنسية والإقطاع المحلي. وكان محمد المقرني ينتمي إلى القليل من قادة القبائل الذين انتموا إلى الانتفاضة لحماستهم، وفي استلام دفة قيادة النضال إلى جانب عبد القادر ومن بعده، وكذلك مساهمة العديد من شخصيات حركة الاستقلال الجزائرية المهمة. وقد دامت الانتفاضة أشهر عديدة، ومرة أخرى لجأ المستعمرون إلى أساليب وحشية من أجل السيطرة على الأوضاع. وبموجب بيانات العسكريين الفرنسيين، فإن ضرب ثورة كومونة باريس قد خدمت في أن تكون مثالاً يحتذى به في حملات الإبادة ضد الانتفاضة والمساهمين بها.
هـ : الجزائر تحت السيادة الفرنسية
شكل القمع الوحشي للحكم الوطني الجزائري، ولأي محاولة تفضي إلى هذا الهدف، المقدمات من أجل إخضاع دائمي استعماري لكافة البلاد. ففي 22/ تموز ـ يوليو/1834 أعلنت فرنسا بموجب أمر ملكي، بأن الجزائر هي من الممتلكات الفرنسية، وعينت فيها محافظاً عاماً. وفي السنوات اللاحقة، قامت الإدارة الفرنسية في الجزائر بتغيرات ذات طابع استمراري لم تجد لها شكلاً نهائياً قبل نهاية القرن التاسع عشر، وقد تضمن المرسوم الصادرة في 23/ آب ـ أغسطس/1898 إجازة الحاكم العام كأعلى موظف في الجزائر، يصدر تعينه من رئيس الجمهورية الفرنسية(كان النظام الملكي قد تغير لاحقاً إلى الجمهورية) ويتصل مباشرة بوزارة الداخلية بباريس. ويمتلك الحاكم العام في إطار القوانين الفرنسية الصلاحيات الإدارية العامة ويقف جهاز مدني وعسكري واسع إلى جانبه، كما أن هناك مجلس الولاية في القمة وهو يتولى تعين كبار الموظفين في البلاد من الفرنسيين العاملين على تسيير دفة الإدارة المدنية والعسكرية معاً.
ومن أجل التعامل مع القضايا الاقتصادية، تشكلت عام 1898 منظمة خاصة تهدف وبشكل منظم إلى إخضاع الاقتصاد في البلاد وهي التي أطلق عليها البعثة المالية Delegation Financiere وهي مؤلفة من 48 من ممثلي فروع الاقتصاد الجزائري: البنوك، الصناعات الكبرى، المستوطنين الفرنسيين، وممثلي 21 من الإقطاعيين الجزائريين ـ الفرنسيين وقادة القبائل.
ويمارس موظفوا الإدارة الفرنسية في هذه الهيئة، السيطرة المباشرة، وليس لأحد غيرهم صلاحيات الإدارة. أما ممثلوا الشعب الجزائري فقد كانوا بلا نفوذ أو تأثير. وأسس الجنرال بوجيارود ما أطلق عليه ) Burea Arabe المؤسسة العربية) وهي مؤسسة إدارية فرنسية تمارس صلاحيات غير محدودة وهي تراقب الحياة الاجتماعية بصفة عامة للمواطنين الجزائريين، والتشريع القانوني. وكان التشريع القانوني في الجزائر يفرق بين مواطنين ذوي حقوق ثابتة تامة وكاملة وبين الغالبية من السكان العرب، وفيما كانت حقوق المواطنة للفرنسيين الأجانب فقط. عدا اليهود وفئة ضيقة من ذوي الأمتيازات وكبار الإقطاعيين، كانت الغالبية الساحقة للشعب الجزائري تعامل كرعية مسلوبة الحقوق.
وفي مناطق الشمال الجزائري، حيث كانت غالبية الفرنسيين يقطنون فيها، كانت تدار من قبل إدارة مدنية، أما سائر المناطق الجزائرية الأخرى من الولايات الجنوبية التي كان يقطنها الجزائريون، فقد كانت خاضعة للحكم العسكري الجائر.
وكان أعداد الأجانب، الفرنسيون بدرجة رئيسية في تصاعد مستمر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1833 كان يعيش 8 ألاف أوربي مدني في الجزائر، وفي عام 1856 أصبح عددهم 160 ألفاً، وفي عام 1866 تصاعد إلى 220 ألف، ثم وصل عام 1911 إلى 563 ألفاً، ثم قسمت الجزائر إلى ثلاث مناطق إدارية هي: الجزائر، وهران، وقسطنطينية.
وكان جهاز الإدارة المدني/ العسكري يصل إلى آخر قرية، حيث كانت الحكومة الفرنسية تأمل بأنه خير ضمانة لترسيخ سيادتها الاستعمارية من أجل مواصلة النهب الاقتصادي للبلاد.
وكان المجال الزراعي من الأشكال الرئيسية للنهب الاقتصادي الاستعماري للجزائر. وكان المستوطنون الفرنسيون يروجون باستمرار للدعاية عن دورهم الحضاري في الجزائر، وكان أستغلال الأراضي الخصبة من أولى فعالياتهم. وفي الواقع فأنهم وبعد أن أبادوا ألاف الهكتارات في غضون حرب التحرير التي قادها عبد القادر، وكانت من الأراضي الزراعية المستغلة اقتصادياً، أصبحت هذه المساحات غير صالحة للزراعة. ولكي يتمكنوا من النهب الزراعي، فقد وضعوا نظاماً اقتصادياً وإجراءات إرغامية اقتصادية خاصة وقاموا بالتالي بطرد قبائل كاملة، (لا سيما تلك التي نهضت ضد السلطات الاستعمارية) من أراضيها ومناطقها، وقام الموظفون الفرنسيون بمصادرة مساحات كبيرة من "أراضي الخبز"، وهنا فإن الأمر له علاقة بالاستخدام الاقتصادي للمساحات الزراعية أو كتعاونيات للنفع العام، أو التي كانت مخصصة للمدارس الإسلامية أو الجوامع في ما يشبه الأوقاف، أو في المصادرات اللاحقة للأراضي والملكيات.
كما صادر الموظفون الفرنسيون بعض أراضي الإقطاعيين وفي حالات أخرى من الفلاحين. وعدا ذلك فإن الأراضي التي كانت قبل 1830 تدار من قبل الأتراك والأنكشارية، كانت أراضي حقول، أما الشخصيات الإقطاعية التي كانت مواقفهم مؤيدة للفرنسيين، فقد تركت لهم أراضيهم ولم تصادر.
وكانت الإدارة الاستعمارية تطالب في جميع الحالات تقريباً، الفلاحين الجزائريين والإقطاعيين وقادة وزعماء القبائل وإدارة "أراضي الخبز" بشهادة تشير إلى ملكية الأرض، وكانوا عادة لا يمتلكون مثل تلك الوثائق، لذلك كانت هذه الأراضي تعد وتؤشر "بلا مالك" وبأتباع أساليب الغش والتدليس، كان يجري تمليكها لفرنسيين، وبذلك تتحول إلى أيدي المستعمرين.
وكان الفرنسيون قد امتلكوا حتى عام 1850، ما مقداره 115ألف هكتار من الأراضي الجزائرية الخصبة، ثم تصاعد هذا الرقم إلى 765 ألف هكتار عام 1870، ثم تصاعد مرة أخرى إلى مليون وستمائة وأثنين وثمانون ألف هكتار عام 1900، أما في عام 1911 فقد بلغ إلى مليون و 847 ألف هكتار.
ولحقت من جراء هذه السياسات، أضرار أخرى بالحياة الاقتصادية كنتيجة للتشوه الذي أصاب الزراعة الجزائرية كالزراعة الجماعية للتصدير مثل الفواكه، الخضروات، العنب. ثم امتدت بصورة ملموسة إلى الاحتياجات الزراعية مثل الحبوب الضرورية لحياة السكان. وهنا فإن سؤالاً مثيراً يطرح نفسه في هذا المجال ... ماذا أبقى الفرنسيون للفلاحين والرعاة الجزائريين في هذا البلد الممزق ...؟
ولم يكن الجزء الأعظم من هذه الأراضي الصالحة للزراعة يكفي الجنود الفرنسيين الذين يقاتلون في الجزائر، أو الثوريين الذين أبعدوا عن فرنسا عام 1848، والبورجوازية الصغيرة الديمقراطية الذين أبعدوا إلى الجزائر بعد أن خسروا الحرب مع بروسيا عام 1870/77. ففي أعوام الأربعينات من القرن التاسع عشر، كانت تتراوح مساحة قطع الأراضي من 4 إلى 12 هكتار كمعدل، وفي عام 1878 كان هناك تملك أراضي بحجم 40 هكتار، وفي عام 1900 إلى 400 هكتار، وفي عام 1917 كانت عشرة بالمئة من الأراضي المصادرة للفرنسيين قد غدت ملكيات صغيرة ومتوسطة، أما التسعون بالمئة فقد كانت ملكية مستعمرات كبيرة. وقد منحت الدولة الفرنسية ملكيات أراضي هائلة إلى شركات فرنسية مثل Compagnie Genevoise، وشركة Societe Generale Algerienne.
وكانت السياسة الأحادية الجانب في تمكين كبار ملاكي الأراضي قد أصبحت مركزة في يد الفرنسيين والذين تحولوا إلى السكن في المدن الجزائرية الكبيرة، وقادت إلى توترات اجتماعية كبيرة انفجرت عام 1879 في انتفاضة بورجوازية صغيرة لطفيليات الأراضي من فئات السكان الفرنسيين في الجزائر ووهران وقسطنطينة، ضد الأوليغارشية المالية الفرنسية التي ما برحت تنمو هيمنتها بقوة مع ملاكي الأراضي.
سميت هذه الانتفاضة " الكومونة الجزائرية" وساهم فيها فقراء الفرنسيين من سكان المدن الجزائرية الساحلية، ولم يكن لهذه الانتفاضة علاقة مع حركة التحرر الوطنية الجزائرية، لأن قادة من أطلق على تسميتها "الكومونة" (وهم من الفرنسيون)لم يكونوا على استعداد للاعتراف بحق تقرير مصير الشعب الجزائري ولم يكن الإخضاع الاقتصادي للجزائر محدداً بالقطاع الزراعي فقط، بل أن البلاد ومن خلال التركيز على استغلال الثروات الطبيعية(الكامنة) للبلاد والتي كان يجري تصديرها إلى فرنسا، وكذلك التصدير الفرنسي المتنامي إلى الجزائر، جعل من الجزائر في حالة تبعية استعمارية شديدة لفرنسا.
وقد عزز الفرنسيون الاستغلال الاقتصادي بأبعاد منظم لعناصر الثقافة العربية، فلم تعد هناك مدارس اللغة العربية، وحولت الجوامع إلى كنائس، وتعامل الاستعمار الفرنسي على كافة أصعدة الحياة الاجتماعية بقسوة وعنف، ومارسوا الاضطهاد والقمع حتى في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنهم لم يكن بوسعهم مطلقاً إطفاء مقاومة الشعب الجزائري بصفة تامة.
وكانت أولى المنظمات الوطنية والقومية قد تشكلت في بدايات القرن العشرين، بتأثير الحركة الديمقراطية البورجوازية، وكانت تتألف على الأغلب من الإقطاعيين والليبراليين الجزائريين، وكذلك من الشخصيات الدينية الاعتبارية. ولم يكن وجود منظمات تقودها القوى البورجوازية أمراً شائعاً مألوفاً بعد، والتي مطالبها السياسية تتركز بصفة جوهرية على المساواة في التعامل بين مواطني البلاد والمستوطنين الفرنسيين، بل وأبعد من ذلك في المطالبة بالحكم الذاتي للجزائر من فرنسا.
وكان هناك ضعف جوهري عام يشوب النضال الجزائري من أجل الاستقلال قبل الحرب العالمية الأولى، وكان السبب بالدرجة الأولى، ندرة تكون القيادات النضالية من بين سكان المدن من العناصر البورجوازية والبروليتارية. وبرغم أن التخلف في الهيكل الاجتماعي حتى ذلك الوقت، لم تكن هناك طبقة عاملة حتى قبل نهاية القرن التاسع عشر.
وتجدر الإشارة إلى حقيقة أن الكثير من القبائل كانت تسعى وتنتهج علاقات محافظة قياساً إلى تلك التي كانت سائدة بينهم في مرحلة ما قبل الاستعمار، فقد كانت قيادة النضال الذي يضم في صفوفه الفلاحين وأفراد البدو، كانت قيادته إقطاعية، ومن شخصيات دينية لها توجهات تقدمية وألحقت الضعف بمواقع الاستعمار الفرنسي، ثم تحملت عبأ خلق حركة تحرر وطنية واسعة في المراحل اللاحقة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1) Egretaut, M. : Nation Algerien , Berlin 1958
(2)Blottere, J. : Algerien Editiones et Coloniales , Berlin 1955, S.5
(3) Egretaud, M : a.a.., S.55
(4) Marx – Engels, werke, Bd 14, Berlin 1961, S.102
------------------------------------------------------------------------------------
Kap. X, P.7
Algerien Annexion und nationale Wierstand bis 1014
S. 436 bis 456
Brandt, Jürgen
Al Dabak, Dergham
النضال التحرري للشعب الجزائري
أولاً : التبدلات في العلاقات الاجتماعية
Nimschowisky, Helmut
Al Dabak, Dergham
كتابة : هيلموت نيمشوفسكي
ترجمة: ضرغام الدباغ
استخدمت الإدارة الاستعمارية الفرنسية القدرات الاقتصادية الواسعة وحجم السكان في الجزائر بدون شفقة في خدمة أهدافها الحربية، وبدعم من الأرستقراطية الإقطاعية المحلية، فقد أخضعت الإدارة الاستعمارية 173 ألف جزائري إلى الخدمة العسكرية، وساقتهم مرغمين إلى مختلف الجبهات للقتال من أجل مصالح الرأسمال الاحتكاري الفرنسي، قتل منهم 25 ألفاً، كما أرسلت 119 ألف رجلاً إلى معسكرات العمل الإجباري(السخرة). وقد نهض الفلاحون ضد السوق الإجباري للعمل في مناطق بني شفران في تشرين الأول ـ أكتوبر/1914، وفي مناطق جبال الأوراس في أيلول ـ سبتمبر/1916 في مقاومة مسلحة باسلة.
وكانت سلطات الإدارة الفرنسية الاستعمارية تقوم بتصدير كميات كبيرة من الإنتاج الزراعي بدون الاعتبار أو النظر إلى أوضاع وحاجات السكان مع تصاعد في فرض الضرائب، فيما كان استيراد السلع والبضائع الصناعية والأدوات الاحتياطية والمواد الخام في تزايد، وأسعار السلع الاستهلاكية تتصاعد أيضاً. ومن خلال التضخم البطئ، كانت مداخيل الفلاحين قد تعرضت إلى الهبوط، وفي مطلع عام 1917 و1920/1921 حدثت في بعض المناطق حالات مجاعة(قحط) ووباء التيفوس.
وكان يوجد في الجزائر حتى الحرب العالمية الأولى (عدا بعض ورش التصليح) مشاغل للتبغ ومعامل صغير للبيرة، ولم تكن هناك صناعة تستحق هذا الوصف، أما خامات الحديد في أوفيزا، والفوسفات في كويف، والفلين وأعشاب الحلفاء فقد كانت تصدر كمواد خام بدون تصنيع، وتسبب الاختناق في العلاقات الاقتصادية مع فرنسا في جعل تطور صناعة المناجم مناسباً، وكذلك الصناعات الخفيفة. وتم العثور في منطقة كولمب بيشار، كيناوسا في غرب الجزائر على مكامن للفحم. وتأسست في الجزائر ووهران، وقسطنطينية وعنابة، معامل لتطوير الإنتاج الزراعي بما في ذلك الطواحين ومعامل التعليب. وكان الأمل أن تتحول الجزائر من خلال الاستثمارات التي أسسها المستعمرون، إلى مزرعة فخمة(مستوطنة) وجعلها المكسب الأكبر للبورجوازية الفرنسية، وفي نهاية القرن التاسع عشر، حل مالكو أراضي أوربيون صغار، مهاجرون من خلال جمعيات استيطان، وتم خلق مستوطنات ثرية بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت ثلاثة أرباع الأراضي الخصبة بأيدي البورغديين Borgeudeud وجرماين Germain وفروكر Froger وبلاشته Blachtte ومجموعة جيني فويزة Genevoise وتقدر ب 15 ألف هكتار.
ولم تؤد هذه الفعاليات الاقتصادية إلى تحسين الأوضاع الحياتية للشغيلة الجزائرية ولا إلى إلغاء الصفة الاستعمارية في الاقتصاد وكان المستفيد الأوحد هو الرأسمال المالي والمستوطنيين. وقد أدى موسم الحصاد السيئ عام1919/1920 وعام 1922/1923، إلى اشتداد الأزمة وتخلف الاقتصاد الزراعي الجزائري.
وفي مناطق شيليف خسر الفلاحون 60إلى 80% من مواشيهم، كما أن جزءاً كبيراً من الرعاة والخامسين (باللهجة الجزائرية، وهم صنف من مسـتأجري الأرض مقابل منح صاحب الأرض من الإقطاعيين وكبار الملاكين، خمس المحصول)، والفلاحين الفقراء الذين لحقت بهم اشد الأضرار في مقومات وجودهم وحياتهم، دفعت بهم إلى مرتبة الشحاذين. ولكن السلطات الاستعمارية واصلت سياسة نهب الأرض، فقد قفز حجم ملكيات المستوطنين من 1،847،000 هكتار عام 1910 إلى 2،344،000 هكتار، وقد تراجعت بقوة المساحات المزروعة من قبل الفلاحين الجزائريين، وإلى جانب ذلك، تصاعدت أيضاً عمليات تآكل التربة وتراجعت زراعة الحبوب وتربية الأغنام التقليدية إلى مناطق جنوب البلاد الجافة القليلة الخصوبة.
ومن خلال الضغوط الاقتصادية وأيضاً استخدام القوة خسر الكثير من الفرحين أراضيهم لصالح المستوطنين الأوربيين وإلى كبار ملاكي الأراضي المحليين، تراجع أيضاً أنتاج الحبوب من 20 مليون قنطار عام 1910 إلى 16 مليون قنطار عام 1939، وخلال أعوام 1926 وحتى عام 1928 تحولت ملكية 21،339 هكتار إلى أيدي المستوطنين الأوربيين، وتنامي أعداد البطالة بين السكان في الريف في أعوام الثلاثينات إلى 600 ألف، أو 700 ألف شخص، كما أن الاستخدام المتزايد للآلة في الزراعة دفعت الكثيرين من عمال الريف إلى جيش البطالة، وبدأ الآلاف من الفلاحين بمغادرة قراهم في الريف(منطقة القبائل) وكذلك في مناطق جبال الأوراس، والمرتفعات، لأن الكثير منهم لم يعد بوسعه إطعام عائلته، وقد أتسع هجوم النازحين في الأرياف إلى مناطق المستوطنات ومدن شمال الجزائر. كما أن الحاجة التي كانت في البدء إلى الأيدي العاملة، سرعان ما أنتفت. وللنجاة من البطالة، فقد واصل الكثير منهم هجرته إلى فرنسا، وفي الفترة من 19020 وحتى 1938 كان يعمل هناك (في فرنسا) 617،469 ألف عامل جزائري كأيدي عاملة رخيصة بصورة استغلالية.
ومع تطور الصناعة ووسائط المواصلات، تنامى عدد السكان في المدن، وكان معظمهم من مهاجري الريف الذين لم يحصلوا على أعمال لهم في المدن، أو أعمال دائمية منتظمة، فقد كانوا يعيشون بصفة جماعية في الأحياء القديمة في المدن، أو العيش اضطرارا في بيوت الصفيح على حافات المدن، وتظهر هذه الحقائق أن التناقضات بين الرأسمال الاحتكاري الفرنسي، و البورجوازية الاستعمارية والمستوطنين من جهة، والجماهير المستغلة المضطهدة من الجزائريين من جهة أخرى قد اشتدت واحتدمت.
ثانياً : تأسيس المنظمات السياسية الوطنية ونضالها ضد السيادة الاستعمارية
كان الوعي الوطني لدى الممثلين السياسيين من صفوف البورجوازية الوطنية، والمثقفين في المدن من الفئات الوسطى، والطبقة العاملة والفلاحين يتنامى حيال الاضطهاد الوطني والبؤس الاجتماعي لشعبهم، وكان العائدين من ساحات الحروب قد اكتسبوا التجربة بأن أوضاع الدولة الفرنسية لم تكن سليمة. وكان من بين بحارة الأسطول الفرنسي في البحر الأسود والذين كانوا في نيسان ـ أبريل/1919 في ميناء أوديسا قد أقاموا العلاقات والصلات مع العمال الروس وطالبوا بإيقاف الهجوم والتدخل ضد الاتحاد السوفيتي، العديد من الجزائريين الذين عادوا إلى بلادهم ومعهم أفكار ثورة أكتوبر، كما أحاط الكثير من العمال الجزائريين علماً بالأحداث في روسيا السوفيتية، وأطلعوا على أساليب وأشكال النضال، وعدا ذلك فقد كانت لديهم الفرصة في إجراء مقارنة بين أوضاع بلادهم والعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع فرنسا واستخلاص النتائج والعبر.
وقد أقام شبان جزائريون(من الذين كانت فرص حصولهم على إمكانية الدراسة في فرنسا نادرة) الصلات مع حركات سياسية تقدمية ومع القوى اليسارية البورجوازية والمثقفين الإنسانيين، كما أقاموا الصلات مع ممثلي حركة التحرر المصرية والسورية والتركية والإيرانية. ثم أسسوا في عام 1927 منظمة(اتحاد الطلاب المسلمين لشمال أفريقيا) وقد نشط الطلبة الجزائريون في جامعة الأزهر الإسلامية(القاهرة) والزيتونة(تونس) في نفس المجال وكذلك المشاركون في سفرات الحج إلى مكة ومنهم من عقد هناك الصلات مع الحركات القومية ومع الإصلاحيين الإسلاميين.
وبازدهار الحركة الوطنية في المستعمرات والبلدان غير المستقلة وضعف الاستعمار كنتيجة للمواقف الدولية الجديدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد تنامى الاستياء في أوساط الشعب الجزائري، وكذلك السخط على النظام الاستعماري، وابتدأت الحركة العمالية بالتطور، ومن شواهد ذلك كان الإضراب الذي قام به عمال أحواض السفن والسكك الحديدية 1919ـ 1920، اشتدت الأفكار التقدمية المناهضة للأستعمار والأحتلال.
وكانت الإدارة الفرنسية قد وجدت نفسها عام 1919 مرغمة على أن تقوم الإدارة الاستعمارية في الجزائر ببعض الإصلاحات، إذ رفعت الضريبة المزدوجة والمرهقة التي كانت مفروضة على الشعب الجزائري، ووضعت نظام ضريبي جديد، وكان بإمكان مجموعة صغيرة من السكان (طالما لا يظهرون المعاداة أو أنهم مستسلمون للسلطة الاستعمارية والخدمة في الجيش الفرنسي، وإتقان اللغة الفرنسية والتخلي عن الفرائض الإسلامية) امتلاك الأرض والسكن، وأن ينال حق الانتخاب، وكان هذا يلائم ويناسب بالدرجة الأولى الفلاحين الأغنياء ورجال الأعمال والمثقفين والموظفين، وكانت الأوساط الحاكمة في فرنسا تأمل أن تكسب من هؤلاء دعماً لسلطتها، وقد ناهض المستوطنون هذه الإصلاحات بقوة، إذ قاموا عام 1909 بتأسيس حركة(الجزائر الفتاة) الذين رفضوا مساواة الفرنسيين بالجزائريين.
وقد نجح هؤلاء الموالون للإدارة الاستعمارية في مساعيهم تلك، بأبعاد الأمير خالد حفيد البطل الوطني الجزائري عبد القادر الذي كان قد أنتخب عضواً في برلمان مدينة الجزائر، وكان يعمل سابقاً ضابطاً برتية نقيب في الجيش الفرنسي، ومن أجل ذلك توجه خالد بخطابات مفتوحة والتماسات إلى الجمعية الوطنية، والرئيس الفرنسي يطالب فيها بإلغاء التميز (قانون الولادة) الذي يمس السكان، أي مواطني بلده الذين يمثلهم في البرلمان، وحماية الحقوق الديمقراطية لكافة الجزائريين وفي الحفاظ على تقاليدهم الإسلامية وفرائضهم الدينية واستخدام القوانين والأنظمة السارية في فرنسا وفي الجزائر أيضاً. ورغم أن خالداً لم يثر في طلباته موضوع عائدية الجزائر إلى فرنسا، لكنه أصطدم رغم ذلك بمقاومة مريرة من الفئات العليا وسرعان ما طردته السلطات خارج فرنسا حيث ذهب على مدينة الإسكندرية بمصر، ومنها إلى دمشق حيث توفي هناك عام 1936.
وواصلت(الجزائر الفتاة) فعالياتها في نشاطات(فدرالية المندوبين المسلمين) وهو عبارة عن 150 من النواب المحليين في برلمان محلي(يختص بالشؤون العامة والمالية) وكانوا قد قرروا الاتحاد في 11/ أيلول ـ سبتمبر/1927 تحت رئاسة الطبيب محمد صالح بن جلول والصيدلي فرحات عباس. وكان هذا الاتحاد يضم محامين، أطباء معلمين، موظفين، وكذلك ممثلي البورجوازية الوطنية الذين كانوا قد أنهوا دراستهم في المدارس والجامعات الفرنسية، وكانوا يشعرون بأنهم فرنسيون أكثر مما هم جزائريون، وعن هؤلاء كتب المؤرخ الفرنسي مارسيل أكريتاود Marcel Egretaut " هؤلاء الرجال كانوا مؤقتاً قد فقدوا الثقة والأمل بجزائر مستقلة، وكانوا يعدون اضطهاد الجزائريين أمراً لا يمكن الخلاص منه، وأن الوسيلة الوحيدة لإنقاذ شعبهم من البؤس والشقاء يكمن في قبول فرنسا كوطن، ولذلك كانوا من أنصار الاندماج التام، وكانوا يعتبرون الاستيطان الشامل أمراً يستحق المقاومة(ولكنهم كانوا يتجاهلونه)، كما كانوا يدركون التميز والأضطهاد والظلم للسيادة الاستعمارية، و يشكون للسماء شقاء شعبهم ولكنهم لم يعتقدوا بأن هذا الشعب بإمكانه أن يجد القوة الدافعة وخلقها، من أجل أن ينال حقه في الاستقلال".(1)
ولم يكونوا قادة الفدرالية ليعترضوا على السيادة الفرنسية على الجزائر، وكان فرحات عباس يعتقد بأنه لا يمكن الاعتراف بالشعب الجزائري، فقد أعلن عام 1936 " إنني سوف لن أموت من أجل الوطن الجزائري، لأن مثل هذا الوطن غير موجود، لقد تخلينا دفعة واحدة عن كل الخيالات حول الأرض، وأن مستقبلنا يرتبط بصفة نهائية بالعمل الفرنسي على هذه الأرض".(2)
وقد طالبت (الفيدرالية) إنهاء العمل بالقوانين الاستثنائية لا سيما (قانون مكان الميلاد)، وحماية حقوق المواطنة الفرنسية لكافة الجزائريين وحماية الحقوق الشخصية للديانة الإسلامية والحقوق والواجبات الانتخابية، وبمؤسسة برلمانية جزائرية موحدة، وتمثيل الجزائريين في البرلمان الفرنسي، وإعادة تسليم الجوامع إلى المسلمين، والتوقف عن منع الدروس العربية، وضع برنامج تعليمي مدرسي شامل، المساواة التامة في الأجور بين الجزائريين والفرنسيين، التطور الوظيفي للجزائريين، والتعين في المراكز الإدارية. وكان هدفهم هو تحويل الجزائر من مستعمرة إلى محافظة فرنسية. وكانت هذه الطلبات تعكس مساعي الأغلبية من بورجوازية الجزائر، إذ أن مصالحها الطبقية هي في الاندماج مع البورجوازية الفرنسية. وبرغم الأهداف الإصلاحية "للفيدرالية"، فقد كانت فعالياتهم تحمل طابع القطعية والحسم، وفي توعية الجزائريين بأوضاعهم وبضرورة التغير، وأيضا فقد أدت إلى توسع الأفكار الديمقراطية (المعادية للاستعمار).وكان على قادة الفيدرالية أن يجربوا بأنفسهم بأن الإدارة الفرنسية لم تكن مستعدة بأن تنهي النظام الاستعماري، لذلك فإن جزءاً منهم قد تمكن في نهاية أعوام الثلاثينات من التوصل إلى قناعة بأن الأهداف الديمقراطية لا يمكن تحقيقها إلا عبر النضال الوطني التحرري.
وفي آذار ـ مارس/1926 أسس العمال الجزائريون، المنظمة السياسية L, Etoile Nord Africcaine "نجمة شمال أفريقيا" وكان على رأسها الحاج عبد القادر، وقد سمي الأمير خالد رئيساً فخرياً للمنظمة التي أعلنت أن الدفاع عن مصالح العمال المسلمين في شمال أفريقيا هو هدفها الرئيسي، وبفضل صحيفتهم التي تصدر باللغة الفرنسية باسم "الأمة" فقد تمكنت هذه المنظمة أن تنال بسرعة نفوذاً كبيراً بين الشغيلة الجزائرية في فرنسا.
وفي عام 1927 انتقلت القيادة إلى مصالي الحاج المولود في تلمسان عام 1898، وكان مصالي الحاج خلال الحرب العالمية الأولى جندياً في الجيش الفرنسي، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بقي في فرنسا، وأقام الصلات مع الحزب الشيوعي الفرنسي، وقد أضطر بعد ملاحقة من السلطات على مغادرة البلاد عام 1935 مرغماً، وشارك بنفس الوقت في المؤتمر الإسلامي في جنيف، وبفضل مساعي الشخصية اللبنانية شكيب أرسلان أقام مصالي الحاج صلاته الوثيقة مع الحركة القومية العربية.
وكانت نجمة شمال أفريقيا، أول منظمة سياسية طالبت بإقامة الدولة الجزائرية المستقلة عام 1933، عام 1933ثم بدأت بتوسيع فعالياتها إلى الجزائر بعد أن كانت مقتصرة على فرنسا، وقد عانى قادة نجمة أفريقيا العذاب والمتاعب ضد (إنكار) وجود الشعب الجزائري وطالبوا بتوفير الحريات الديمقراطية وتحقيق إجراءات من أجل تحسين الوضع الاجتماعي للشغيلة.
وفي حزيران ـ يونيو/1936، طالب مندوبون من منظمة النجمة في مقابلة مع وزير الداخلية الفرنسية بإلغاء قانون(مكان المولد) وتأسيس برلمان تمثيلي للشعب الجزائري، وتدريس اللغة العربية في المدارس، ضمان حماية الصحافة والاجتماعات، وكذلك سريان مفعول القوانين الاجتماعية الفرنسية في الجزائر، وقد لاقت منظمة النجمة الانتشار السريع بين العمال والفلاحين والحرفيين والتجار الصغار.
قابلت السلطات الفرنسية هذه الأنشطة بحملات قمع ضد منظمة النجمة، ففي تشرين الثاني ـ نوفمبر/1928 صدر أمر بمنع المنظمة، وفي عام 1933 نهضت من جديد باسم "نجمة شمال أفريقيا المجيدة" وبعد أن منعت في السنوات اللاحقة، أقامت المنظمة الصلات مع الاتحاد القومي لمسلمي شمال أفريقيا، وعندما تعين على هذه المنظمة أن توقف نشاطها، قام مصالي الحاج بتاريخ 11/آذارـ مارس/1937 بتأسيس حزب الشعب الجزائري.
وكانت فعاليات منظمة نجمة شمال أفريقيا والمنظمات التي أعقبتها، مساهمات مهمة من أجل تكوين الوعي الوطني الجزائري وفي تطور حركة التحرير، وبسبب سياسة مصالي الحاج المعادية للشيوعية، والمواقف الضيقة الأفق، قد أدت إلى عزل نجمة شمال أفريقيا والمنظمات التي تلتها عن الحركة السياسية الفرنسية بصفة عامة.
وقد احتلت تأثيرات التعاليم الدينية الإصلاحية والأساتذة الدينيين(العلماء) مكانة مهمة في حركة التحرر الوطنية، وإن عدداً من الطلبة الجزائريين تأثروا خلال دراساتهم في الجامعات الإسلامية في تونس، مصر، سورية، وكذلك في رحلاتهم إلى المشرق العربي التي تعرفوا فيها على الأفكار الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، باشروا بعد عودتهم وقد تأثروا بهذه الأفكار واقتنعوا بها، العمل على التجديد الثقافي للإسلام في الجزائر والسعي من أجل تحقيق تام لروح القرآن، والعمل على تنقية الإسلام من التزوير ومن الانحطاط، فقد كان ينظر إلى المرابطين ونضالهم بين سكان المغرب باحترام، وكانوا غالباً في القرون الماضية من قادوا الانتفاضات ضد الأسبان والبرتغاليين، وأخيراً ضد الفرنسيين من أجل الدفاع عن حرية البلاد. و كان جزء كبير منهم قد عقد الصلات مع السلطة الاستعمارية بعد تأسيس السيادة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، والتي ليس نادراً ما قدمت لهم المكافآت والأراضي.
وقرر العلماء المصلحون الذين كانوا قد أسسوا مختلف المدارس، قرروا في 5/ أيار ـ مايو/1931 تأسيس "جمعية العلماء المصلحين الجزائريين" وكان في مقدمتهم عبد الحميد باديس(قسطنطينة) وطيب العقبي(الجزائر) وبشير الإبراهيمي(تلمسان)، وكان نضالهم ضد الخرافات والعبادات، وكذلك كانت فعالياتها في العناية بالثقافة التقليدية وباللغة العربية، و وصل هذا النضال بتأسيس هذه المنظمة إلى مرحلة متقدمة.
ثم قام المصلحون الإسلاميون بتأسيس الكثير من مدارس القرآن التي بلغ عددها نهاية عام 1936 في ولاية قسطنطينة وحدها 130 مدرسة، وكانت هذه المدارس لأولاد الفلاحين والعمال الحرفيين وصغار التجار، كما أن هذه المدارس لم تكن مقتصرة على تعلم اللغة العربية، ولكنها كانت تشمل أيضاً التاريخ القومي والأدب العربي، بالإضافة إلى عناصر تعليمية أخرى. ولم تكن هذه المرافق التعليمية تحت سيطرة الإدارة الاستعمارية، وكانت تقدم إمكانية ممتازة لتعليم الجيل الشاب ولغرس الوعي فيهم، عن وجود شعب الجزائر، كما أن شعار الجمعية "الإسلام هو ديني والعربية لغتي والجزائر وطني" مثل شعاراً للملايين من الجزائريين، وساهم في الوعي الوطني.
وقد نشر المصلحون الإسلاميون فعاليات عديدة بين الناس، وفي عام 1919 كان أن باديس قد أسس مطبعة عربية، وأصدر المجلات: النجاح، المنتقد، الشهاب، البشائر، ومطبوعات أخرى للجمعية مثل: "السنة" و " الشريعة المطهرة" وكذلك "الدفاع" La, Defense ولكنها كانت باللغة الفرنسية. ودافع عبد الحميد باديس ورفاقه في العديد من المقالات والعروض عن مفهوم وجود الشعب الجزائري، وفي ذلك كان عليهم التنازع مع ما مر ذكره من مفاهيم" فيدرالية المسلمين". وفي عام 1936، كتب أبن باديس: " لدينا أيضاً في التاريخ كما في الحاضر الثابت، بأن الشعب الجزائري المسلم، قد نشأ وتكون ووجد كما تكونت كل شعوب الأرض، وهذا الشعب له تاريخه وله دينه ولغته الموحدة وثقافته وتقاليده، لذلك نقول، إن هذا الشعب الجزائري المسلم ليس فرنسياً، ولا يمكن أن يصبح فرنسياً ولا يريد أن يكون فرنسياً".(3)
وبعد أن عمدت سلطات الاحتلال إلى غلق النوادي الوطنية، أتخذ العلماء من الجوامع منابراً لنشر تعاليمهم من خلال خطباء المساجد. وقد نجح العلماء المصلحون بسحب الكثير من الفلاحين والمضطهدين من عمال الأرياف إلى جانبهم من خلال تصديهم للانحراف وبذلك ألحقوا الضعف بالرجعية، كما ثبت أن تأسيس مدارس القرآن والعناية باللغة العربية كانت من العناصر المهمة في إضفاء الشخصية الوطنية، وكانت الأعمال التي قام بتأليفها مبارك الميلي1929، وأحمد توفيق المدني 1931 عن تاريخ الشعب والأمة تلقى الأضواء على الإنجازات والأعمال الكبيرة التي قام بها الشعب الجزائري، والتي أدت إلى تطور وعيه الوطني.
والحقيقة أن عبد الحميد بن باديس، وهذه لها أهمية سياسية بالغة، قد بذل جهوده في سبيل توحيد كافة القوى الوطنية(بما في ذلك الشيوعيين) في وحدة عمل فعالة، فكان يقيم موقف الحزب الشيوعي الفرنسي بهذه الكلمات:" إننا سوف لن ننسى بأن الحزب الشيوعي كان البادئ بأتخاذ الموقف الذكي والإنساني في العلاقات مع شعوب المستعمرات".(4)
وكان أبن باديس وأصدقاؤه يريدون أن تكون لجمعيتهم بأهدافها الدينية، اتجاهات غير سياسية، كما أنهم كانوا يريدون أن يشكلوا فارقاً بينهم وبين مطالب مصالي الحاج الراديكالية، ولكنهم كانوا يعتبرون أن الاستعباد الاستعماري للبلاد من خلال قوة استعمارية مسيحية أوربية، حالة من عدم الاتفاق والوفاق مع الإسلام، كما هو هضم لحق تقرير المصير الذي هو من الحقوق الطبيعية لأي شعب، ويأملون أيضاً بأن فرنسا ستكون يوماً ما متعقلة ومتبصرة وتعترف للشعب الجزائري مطالبه بالحكم الذاتي على طراز الدومينو البريطاني Dominion واستمروا مقتنعين بهذا الهدف لمرحلة طويلة والوصول إليه بالأساليب السلمية.
وقد برزت فاعليتهم في البعث الإسلامي بشكل موضوعي ضد دعائم الإقطاع، وخلق المقدمات الضرورية للثورة التحررية الوطنية التي هبت في 1/تشرين الثاني ـ نوفمبر/1954. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تتحرك السلطات الاستعمارية ضد فعاليات المصلحين الدينيين ولتحاول بالتالي تأسيس اتحاد علماء محافظين ولتقليص نفوذ القوى الإصلاحية، وعندما برهن هذا التاكتيك عن عدم فاعليته، عمدت وزارة المستعمرات الفرنسية إلى منع هذه الأنشطة عام 1937 وكذلك ألقاء الخطب في الجوامع، ونهض الشعب الجزائري حيال هذا الخرق الظالم للتعاليم الإسلامية في عاصفة من الاحتجاجات.
ثالثاً : تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية والحركة الوطنية من 1936/1939
كان عام 1930 مناسبة للاحتفال الرسمي بمرور مئة عام (قرن) على احتلال الجزائر، والإعلان بأنها فرنسية Algerie Francaise، وعقدت مؤتمرات وتجمعات للإشادة (بما فعله المستعمرون)، ولكن النجاح والتقدم الاقتصادي الجزئي(الذي كان بالدرجة الأولى لمصلحة وفائدة الرأسمال المالي للمستعمر) لم يكن بوسعه أن يغطي البؤس العميق الذي سجنت فيه الإدارة الاستعمارية الفرنسية الشعب الجزائري.
وكانت تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية ذات وقع ثقيل على كاهل الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار الحرفيين وصغار التجار، وفئات أخرى من الشعب الجزائري، ولم يعد يلق الإنتاج الزراعي(العنب بدرجة رئيسية) وكذلك أنتاج المناجم، الطلب المرغوب به في السوق الفرنسية، وخفضت مناجم الحديد والفوسفات من إنتاجها وأوقفته تماماً، ونتيجة لهذه التطورات، فقد الآلاف من عمال المناجم وعمال الأرياف والسكك الحديدية أعمالهم وأرغموا على العمل في الريف عام 1933 ولمدة 12 يوماً وحتى 15 ساعة عمل مقابل 8 إلى 10 فرنك فرنسي، وكان العمال الجزائريون يتقاضون أجوراً سيئة بصفة عامة قياساً إلى زملائهم العمال الأوربيين، كما أن التميز العنصري قد برهن عن وجوده حتى في سياسة الأجور.
وكانت أسعار المنتجات الزراعية قد تراجعت بنسبة 25% كمعدل، كما أن الموسم السيئ لعام 1930/1931 وكذلك 1935/1936 قد أسرع في إفقار جماهير الفلاحين، إذ استدان الكثيرين منهم وفقدوا المقومات الأساسية للوجود والحياة، كما تنامت أيضاً الهجرة من الريف ورزح الحرفيون ورجال الأعمال تحت منافسة قاسية من البورجوازية الأوربية، وتنامت كذلك أعداد جيش البطالة وساد الفقر المرير والجوع والأمراض في القرى ومدن الصفيح.
وأتسع الاستياء في أوساط الشعب الجزائري من الأوضاع القائمة، وأصدرت السلطات الاستعمارية بتاريخ 5/ نيسان ـ أبريل/1935 الأوامر بتشديد العقوبات الصارمة لأي نشاط أو فعالية أو إعلان يمت بصلة إلى المقاومة.
وكان انتصار الجبهة الشعبية في فرنسا نيسان ـ أبريل/1936 يعني فتح المجال واسعاً أمام الحركة الوطنية في الجزائر، وكان ممثلوا الحركة الوطنية يأملون تحقيقاً سريعاً لمطالبهم، وفي 7/ حزيران ـ يونيو/1936 شكلت الفيدرالية الإسلامية والجمعية الجزائرية للعلماء المصلحين وكذلك الحزب الشيوعي وفداً إلى المؤتمر الإسلامي الجزائري، وبذلك حصل للمرة الأولى في الجزائر(وإن لم يدم ذلك سوى عامين) جبهة موحدة للقوى الديمقراطية، وعدا منظمة نجمة شمال أفريقيا، فقد انتمت كافة المنظمات السياسية إلى هذا التجمع، وكان للحزب الشيوعي في ذلك دور متميز.
وفي 20/ تموز ـ يوليه/ 1936 أتخذ المؤتمر قائمة طلبات الشعب الجزائري، إذ طالبوا بالدرجة الأولى، إلغاء كافة القوانين الاستثنائية وصيانة كافة الحقوق الديمقراطية لكافة الجزائريين، وحماية حقوق الشعائر الإسلامية وحقوق الانتخابات العامة وإزاحة العوائق أمام اللغة العربية، وعدم تدخل السلطات في الشؤون الثقافية الإسلامية، والتعليم الإلزامي للأطفال، وتحسين الرعاية الصحية للمواطنين، دعم البطالة. ثم سافر وفد إلى باريس في 23/تموز ـ يوليه/1936 ليسلم طلبات المؤتمر إلى حكومة ليون بلوم.
وتحت ضغط القوى الديمقراطية، لم تجد الحكومة الفرنسية بداً من تقديم بعض التنازلات، وعملياً فإن قانون (مكان الميلاد) لم تعد له الفاعلية التنفيذية، وأجيزت شرعية نقابات العمال، وأدخلت إلى الجزائر بعض الإجراءات الاجتماعية المعمول بها في فرنسا، ولكن الحكومة لم تكن على استعداد لإزاحة النظام الاستعماري، وفي نهاية عام 1936 طرحت مشروع قانون كانت تأمل منه أن تحقق الأمنيات المستعجلة للبورجوازية الجزائرية(مشروع بلوم وفيوليت) الذي كان يرى من خلال شخصيات منتقاة لهم صلات طيبة بين الضباط ونواب الضباط والجنود السابقين في الجيش الفرنسي، كالحائزين على شهادات جامعية، التجار، الفلاحين، ميسوري الحال، الموظفين من الذين عملوا طويلاً في النقابات، الذين لا يؤدون الفروض الدينية الإسلامية لمنحهم حقوق المواطنة الفرنسية، وبذلك فإن حق الانتخاب السلبي والإيجابي الفاعل والخامد كما هو سائد في فرنسا، وكان هذا التخصيص يشمل 20 ألف شخص.
وأعلن أن هذا المشروع الإصلاحي سيتم تنفيذه، ولكن المشروع لم ينفذ، وقد اعتبرت جماعة الفيدرالية الإسلامية أن هذا الإجراء هو خطوة لإلغاء القانون الاستعماري، فيما أتخذ عبد الحميد بن باديس ورفاقه موقف الفتور والتحفظ، وأعلن مصالي الحاج النضال ضد القانون لأنه يحاول أن يلمع وجه الاستعمار الفرنسي وأحداث انشقاق بين صفوف الشعب الجزائري.
وقد جوبه مشروع بلوم ـ فيوليت بمقاومة مرةَ من الرأسمال الفرنسي ومن المستوطنين في الجزائر، وتحدث المحافظ الفرنسي للجزائر في 14/كانون الثاني ـ يناير/1937 ضد مشروع القانون، وقد هددوا بأنهم قد قرروا الاستقالة، وإصابة الإدارة بالشلل في حالة طرح المشروع للمناقشة في البرلمان، وبسبب ضغط القوى الاستعمارية، قامت حكومة بلوم بسحبه، وقد وجد فرحات عباس وقادة آخرون في الفيدرالية الإسلامية أن آمالهم في الحكومة الاشتراكية والقوى البورجوازية اليسارية الفرنسية قد خابت وفشلت، فقد كان عليهم أن يعلموا، بأن ما قاموا بالدعاية له من "الاندماج والتجانس" لم يكن سوى خيال وأوهام، واحتجاجا على رفض الإصلاحات، تخلى في آب ـ أغسطس/1937 النواب من شرق الجزائر عن عضويتهم.
كان انتعاش الحركة الوطنية في أعوام الثلاثينات مرتبطاً بصورة ملحوظة بتصاعد الفعاليات النضالية للطبقة العاملة التي كانت قد بدأت تتشكل، ففي مدن عديدة حدثت التظاهرات الاحتجاجية من العمال العاطلين عن العمل كما في 1935 في سيدي بلعباس ومستغنم، وفي عام 1937 في تلمسان، وقد قام عمال مطرودون من أعمالهم باحتلال المعامل وفي عام 1936 و1937 حدث إضراب للعمال الزراعيين في مناطق متيدجة وفي وديان زمام، وكذلك في مناطق سكيكدا، ووهران، الجزائر، وفي عام 1937 و1939 أضرب العمال في موانئ الجزائر ووهران، مستغانم، ودجيدجيلا وكذلك عمال المناجم في كويف وتيمسريت وسيبادونا، وقد طالب العمال أجوراً أعلى وبتحسين أوضاعهم الاجتماعية، وقد تصدت الشرطة والجندرمة بقوة السلاح ضد الشغيلة، وسقط العديد من القتلى والجرحى.
وقد تركز اهتمام القوى الوطنية والتقدمية على المشكلات الاجتماعية للعمال والفلاحين وفئات الشغيلة الأخرى، وعبأها من أجل الدفاع عن نفسه ضد القوى الفاشية، وهؤلاء كانوا قد نهضوا أيضاً في الجزائر بدعم من العملاء الألمان والفاشية الإيطالية، ونشطت من خلال الانقلاب الملكي الفاشي للجنرال فرانكو غي أسبانيا عام 1936، وحاولوا استغلال استياء وسخط الجماهير لتحقيق أهدافهم، وكانت صحيفة(النضال الاجتماعي) La, Lutte Social قد قدمت مساهمة مهمة في تكوين النضج السياسي للشغيلة من السكان الجزائريين وقبل كل شيء في تطور الحركة العمالية.
وكانت السلطات الاستعمارية قد اتخذت حيال انتعاش القوى الوطنية والاجتماعية إجراءات قمعية جديدة، ففي عام 1937 صدر الحكم على مصالي الحاج بالسجن لمدة سنتين، وفي عام 1938 صدر الأمر بمنع تأسيس مدارس أخرى لتعليم القرآن بواسطة العلماء المصلحين. وفي عشية الحرب العالمية الثانية، كانت القواعد الاجتماعية للحركة الوطنية الجزائرية قد بدأت بالأتساع، وكانت الاتجاهات الإصلاحية والاندماجية قد تراجعت وكانت موضوعياً تخلق المقدمات لنهوض وانتعاش النضال المعادي للاستعمار الشعب الجزائري.
--------------
المصادر
1. Egretaud, M: Nation Algerien, Berlin, 1958, S. 170
2. Abbas, F: La France Clest moi, In : I, Entente Algier, V
3. Tourneau, R: Evolution Polique de, Afrique du Nord Musliman 1920-1961, Paris 1962, S.319
4. Egretaud, M : a.a.o. , S.170
. 2 : Die Befreiungskampf des algrischen VolkesKap
S. 295 Bis 311
Nimschoweski, Helmut
Al Dabak, Dergham
11-06-2015
|
|
|
|
|
|
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي |
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته |
|
|
أحدث الردود |
|
|
|
|
|