المقاومة العربية ضد الاحتلال الاستعماري الإيطالي في ليبيا
د - لوثر راتمان / ترجمة: د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 8092
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المقاومة العربية ضد الاحتلال الاستعماري الإيطالي في ليبيا
بروفسور دكتور : لوثر راتمان - ترجمة: د. ضرغام الدباغ
هذا الفصل مستل من موسوعة تاريخ العرب باللغة الألمانية(سبعة أجزاء)، الفصل الرابع / الجزء الثاني، ص429 ـ 436، برلين : 1975
أنجزه : فريق عمل من العلماء والمستشرقين
وهذا الفصل من تحرير : بروفسور دكتور : لوثر راتمان
ترجمة : د. ضرغام الدباغ
Geschichte der Araber
Teil 2
Kap. 4
S. 429 - 436
Autorenkollektiv unter Leitung von
Prof. Dr. Luther Rathmann
Berlin 1975
المقاومة العربية ضد الاحتلال الاستعماري الإيطالي في ليبيا
تعد ليبيا بمحافظاتها: طرابلس الغرب، برقة في الشرق، ومنطقة صحارى فزان في الجنوب، واحدة من أكبر أقطار أفريقيا، وعندما أحتلها الأتراك عام 1556، أصبحت بذلك جزءاً من الإمبراطورية التركية.
وكانت تبعة ليبيا للباب العالي تحت حكم العائلات الانكشارية، قرة منلي 1711ـ1835 تبعية محددة بالضريبة السنوية. وعندما خشي السلطان التركي محمد الثاني عام 1835 من توسع السيادة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر والقيام بحملة عسكرية لمهاجمة ليبيا عبر تونس، قام بإزاحة العائلة الحاكمة هناك(قرة منلي) وأخضع ليبيا في إدارة مركزية مباشرة تابعة لأستامبول، ونصب عليها حاكماً معيناً.
وقد نهضت قبائل ليبيا بقيادة الوحدات المسلحة للطائفة الإسلامية المتزمتة السنوسية في مناطق الواحات (برقة)، ولم تبق تحت السيطرة سوى المدن ومناطق الأسواق على سواحل البحر المتوسط حيث بقيت تحت سيطرة المعسكرات التركية، وقد ثبت هنا في ليبيا أيضاً، تداعي الإمبراطورية العثمانية وعدم اقتدارها على مواجهة الشعوب التي تم إخضاعها، وعجزها أيضاً على مقاومة نوايا الاستعمار في التوسع والاحتلال للقوى الرأسمالية.
وكانت الإمبريالية الإيطالية المرشح الرئيسي من بين اللصوص الاستعماريين الهادفين إلى استعباد ليبيا، التي حدث تكوينها النهائي فيما كانت القوى الرأسمالية الأخرى قد أنهت تقاسم العالم فيما بينها. وأكسبت هذه الحقيقة الرأسمال الإيطالي، مع اشتداد تعمق التناقضات الداخلية بعدوانية شديدة. وما كادت الإمبريالية الإيطالية تشهد ولادتها، حتى بدأت وبدعم خاص من الدبلوماسية الألمانية التي كانت تأمل في ذلك أن تجعل إيطاليا ضد فرنسا، وأن تساهم معها في اضطهاد واستغلال شعوب غريبة. وقد كتب فلاديمير لينين بهذا الخصوص قائلا " الثورية... الديمقراطية، تلك التي ناضلت البورجوازية الثورية الإيطالية في تحررها من الاضطهاد النمساوي، إيطاليا غاريبالدي، قد بدأت بالتحول أمام أعيننا نهائياً إلى إيطاليا التي تظلم شعوباً أخرى..؟ أي إيطاليا ولدت ..؟ رجعية مقيتة، بورجوازية قذرة يسيل لعابها من أجل أن يسمح لها اقتسام الغنائم".(1)
ولم يلاقي سعي إيطاليا نحو اصطياد المستعمرات في النجاح إلا قليلاً، حيث كانت فرنسا قد احتلت تونس قبل ذلك، كما كانت بريطانيا العظمى موجودة بقواتها في وادي النيل. وكانت بعض الحملات الاستعمارية الاستكشافية ضد إثيوبيا عام 1887 قد سحقت بالقرب من دوغلي Dogeli، وفي عام 1896، أمام عدوة Adua. ومنذ ذلك الحين تركزت الحملات الاستكشافية العدوانية للإمبريالية الإيطالية، وبموافقة كافة القوى العظمى الأوربية في الاستعداد لحرب ليبيا واحتلالها، والتي كانت آخر ولاية عثمانية في شمال أفريقيا لم تكن قد سقطت بعد ضحية للجوع الاستعماري للبورجوازية الأوربية.
وعندما أفرز الصراع الفرنسي ـ الألماني عام 1911 حول مراكش أزمة دولية استدعت انتباه الحكومات الأوربية، قررت الرأسمالية المالية الإيطالية وبدعم من الفاتيكان(استثمر بنك روما Banco di Roma أكثر من 300 ألف دولار في ليبيا) القفز إلى أفريقيا. وقد كتب السفير النمساوي ـ الهنغاري في روما البارون ميري Merey إلى حكومته في فيينا حول الدور السياسي الاستعماري للفاتيكان، قائلاً " أن الضربة الأكريليكية القوية، حول احتلال طرابلس، هي بالمناسبة أيضا من مزايا بنك روما، والذي كانت كافة أسهمه تقريباً بأيدي الجهات الروحانية وكذلك الدور الذي تلعبه في احتداد الصراع.
وأخيراً لم يعد سراً تعاطف الفاتيكان الشخصي للعملية، وقد ظهرت أيضاً هذه التمثيلية الباهرة التي جرت في أغلب أجزاء البلاد: " أمراء الكنائس يسبحون بحمد الراية الإيطالية، ويلقون الخطابات التي يصفون بها احتلال طرابلس من قبل إيطاليا شيئاً يقرب من الإرادة الإلهية ".(2)
وعندما لم تلبي تركيا الإنذار بتنفيذ المطالب الإيطالية التي قدمت بتاريخ 28/أيلول ـ سبتمبر/1911 بالانسحاب من ليبيا، أعلنت ايطاليا الحرب على الباب العالي، ونزلت القوات الإيطالية على السواحل الليبية، واحتلت مدينة طرابلس ورؤوس نقاط أخرى في منطقة الساحل وطردت المعسكرات التركية.
ويصف فلاديمير لينين هذه الغزوة باعتبارها" أنها حرب الطغيان الاستعماري لدولة (متحضرة) في القرن العشرين "(3) التي حدثت بسبب " جشع الرأسمال الإيطالي ومدراء المال الذين يحتاجون إلى سوق جديدة، والنجاح للإمبريالية الإيطالية"(4)
وتوجه المحتل الإيطالي إلى المواطنين العرب الليبيين كمحررين من الطغيان التركي بالنداء التالي: " تصرفوا كأخوة كما جاءوا إليكم هم إليكم بالمشاعر الأخوية، مع أمنيات ودية وأوامر صارمة، بالحفاظ على حقوقكم والنظر إلى ديانتكم بشكل مقدس، وكذلك إلى نسائكم، أنهم جاؤا إلى هنا لحمايتكم أنتم ونحن، من عدو مشترك. لتحيا إيطاليا، ليعيش الملك "(نص رسمي)(5)
ولكن الواقع العملي الاستعماري كشف القناع سريعاً عن الوعود الجوفاء, كديماغوجية مقدسة، وعلى السؤال: أي حرب كانت هذه..؟ والإجابة هي :" إنها مجزرة حضارية بصفة تامة، إنها إبادة للعرب بواسطة الأسلحة الحديثة، وقد عوقب 3 ألاف عربي بالموت، وأبيدت عوائل كاملة، وشرد النساء والأطفال. وإيطاليا هي أمة متحضرة.... وإيطاليا هي بالطبع ليست بأفضل أو أسوء من البلدان الرأسمالية الأخرى، أنهم جميعاً سواسية عندما تحكمهم البورجوازية التي لا تتوانى عن إقامة المذابح، وعندما يكون ذلك واجباً، فأنهم يفعلون ذلك ولا شيء يردعهم عنه".(6)
ولكن العرب لم يكونوا مستعدين لكي يستبدلوا العبودية الاستعمارية التركية بأخرى إيطالية، وهكذا ابتدأت المقاومة العربية ضد العدو القوي المتفوق بما لا يقاس عدداً وسلاحاً، مباشرة بعد الغزو الإيطالي وانسحاب المعسكرات التركية. وتعد المقاومة العربية في ليبيا ضد السيادة الاستعمارية الإيطالية من أبرز التقاليد ذات القوة التعبيرية لحركة الاستقلال العربية، ولكن المعلومات ضئيلة عن تاريخ ومفردات هذا النضال.
ويكتب شاهد العيان، الباحث الألماني التقدمي الخبير بالشؤون الأفريقية كوتلوب أدولف كراوزة Cottlob Adolf Krausse عن طرابلس التي كانت أشبه ما تكون بالكوة الإخبارية للصحافة للأنباء التي تتعلق بالاحتلال الإيطالي لليبيا، ويكاد يكون الوحيد الذي يتنبأ بالمعلومات التي تصل إلى أوربا، والتي أصبحت مدخلاً لأعمال المؤرخين.(7)
والمعلومات التي نثبتها من قبلنا والمستقاة من كبار الأخصائيين والمهمين، كالقنصل العام لإمبراطورية النمسا ـ هنغاريا في طرابلس فون كفياتكوفسكي Von Kwiatkowski، تمنحنا نظرة عميقة إلى الفعاليات المعادية للاستعمار التي أبداها السكان العرب الليبيون.(8)
وتكاثفت المقاومة العربية في 23/ تشرين الأول ـ أكتوبر/1911 في انتفاضة فقراء مدينة طرابلس، وعبثاً حاولت السلطات الاستعمارية من خلال الاعتقالات الجماعية والإعدامات أن تثبت السلطة، وبذلك كان شهر عسل الحملة الإيطالية قد أنقضى، ثم حلت موجة مقاطعة السلع والبضائع الإيطالية في جميع أرجاء البلاد. أما المعسكرات الإيطالية في: طرابلس، مصراتة، بنغازي، درنة، طبرق، فقد كانوا يجدون أنفسهم في الشهر اللاحقة أمام استعادة احتلال المدن، كما كانوا باستمرار تحت وطأة الهجمات المسلحة لمقاتلي البدو.
وقد فرض حصار شديد على كافة المدن التي أحتلها الإيطاليون. وأتخذ المقاتلون العرب أفضل أشكال التنظيم، إذ لم تستطع قوى الجيش الإيطالي الذي بلغت قواه إلى 55 ألف رجل في نهاية عام 1911، ألحاق هزيمة حاسمة بالمقاتلين العرب المعبأين في ثلاث مجاميع بقوة تربو في مجموعها إلى 25 ألف مقاتل. بل وتمكن المقاتلون العرب في 21ـ 28 / كانون الثاني ـ يناير /1912 من إلحاق هزيمة منكرة بالقوات الإيطالية في الضواحي القريبة لمدينة طرابلس، ولم تنجح المدينة بأسرها من السقوط إلا بوصول قوات نجدة حالت دون ذلك.
ولم تتخلى الدعاية التركية في تلك الأشهر عن المحاولة في أن تضم هزائم الإيطاليين إلى نجاحاتها. ويكتب ضابط نمساوي برتبة ملازم، كان يقوم بمهام الاستطلاع لمصلحة الأركان العامة لقوات تحالف المركز(ألمانيا والنمسا وتركيا) في مناطق العمليات، إلى مسؤولية في فيينا عن حقائق الموقف قائلاً:" لا يلعب الضباط الأتراك إلا دوراً بسيطاً قياساً إلى ما يفترض عليه، وإن جميع المعارك في الواقع تقاد من قبل السكان المحليين... وإذا كان لتركيا أن تخرج منتصرة من هذه الحرب، فإن سكان بنغازي لا يرتضون بأي صورة الرضوخ للظلم التركي، بل أنهم سيسعون إلى الأنظمام لمصر ".(9)
وعندما اندلعت أزمة البلقان، واحتدمت الأوضاع الداخلية في تركيا، اضطرت من جراء ذلك إلى قبول اتفاقية السلام الموقعة في بخارست بتاريخ 18/ تشرين الأول ـ أكتوبر / 1912 والتنازل عن ليبيا. ومع ذلك كانت إيطاليا مرغمة على إبقاء 100 ألاف رجل كجيش استعماري يرابط في تسع مدن ساحلية محددة تقع على مرمى السفن الحربية الإيطالية. ويختم القنصل العام لإمبراطورية النمسا/المجر تقريراً أرسله إلى حكومة بلاده يعرض فيه " أن استذكار غير مرضي للشهور التسعة المنصرمة يتضمن ألقاء الضوء على المستقبل أيضاً، لقد أصبح العرب الذين يوجه الإيطاليون إليهم الشتائم، مقاتلين شجعان لا يهابون الموت، منضبطين نسبياً، يدافعون بقوة عن كل بوصة في الأرض التي يعرفون خفاياها، والمسافة تستغرق ساعتين للوصول من هنا إلى فزان، الجميع مستعد للقتال، والحرب ضد الإيطاليون هو ثواب يعادل السفر إلى مكة(يقصد الحج ـ المترجم) هكذا قال عربي عجوز ".(10)
في الولايات العربية المشرقية للإمبراطورية العثمانية، اشتعلت نيران المقاومة الناجحة للشعب الليبي حماسة كالتي حدثت في الانتفاضة القومية الوطنية لأحمد عرابي عام 1881 في مصر، ففي حلب وبيروت واللاذقية، صيدا، القدس، كما حدث ذلك في القاهرة والإسكندرية ولا سيما في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وكانون الثاني / يناير وذلك في إظهار التضامن العربي. ولم تستطع السيادة الأجنبية بعد قرون أن تثني آمال الشعوب العربية التي تعرضت إلى الاضطهاد من قبل قوى استعمارية في الخروج ببلدانها من حالة العبودية إلى مستقبل حر في بلد عربي موحد.
استمر النضال التحرري العربي في ليبيا بعد استسلام تركيا. وقد كتب لينين عام 1912 حول ذلك:" إن الحرب في الواقع مستمرة، إذ أن القبائل العربية في داخل القارة الأفريقية البعيدة عن الساحل لم ترتضي الخضوع وسوف تستمر عملية التحضر طويلاً بواسطة الحراب والرصاص وحبال المشانق واغتصاب نسائهم ".(11)
وفي الواقع فإن المقاومة ضد الاستعمار لم تنتهي قط، واستمرت حتى عام 1915 ضد الاستعمار الإيطالي، وهكذا فقد أنجزت لاحقاً لا سيما بعد تحقق الاستقلال الشكلي عام 1951 ضد محاولات شركات النفط الإمبريالية، التخلص من الإرث الاستعماري للفاشية الإيطالية، وكذلك من التخلص من بعض قوى الإقطاع التي جحدت لماضيها المعادي للإستعمار واصطفت مع الإمبريالية.
هوامش البحث
ـــــــــــــــــــــ
(1) Sämtliche werke, Bd, 18, Wien – Berlin 1929 . S. 389 Lenien, W. I. :
(2) Österreichische Staatsarchiv, Abt, Haus, Hof und Staatsarchiv, Wien. Unveröffentlichte Akten des Politischen Archiv des Ministeriums des Äußeren Österreich – Ungarns x11 Türkei voll 308
(3)Lenien, W, I, : Bd. 19, Berlin 1962, S.20
(4) Ebenda
(5) Zitiert von Krause, G.A, in Berliner Tageblatt, Nr 591 23/10/1911
(6) Lenien, W. L,: werke, Bol. 18, Berlin 1962, S.239
(7) Sebald, P, Malam Cotlob A. Kund Werk eines antikolonialistisch gesinnten Afrika Wissenschaftler unter Bedingung des Kolonialismus, Diss, Leipzig 1966
(8) Österreichische Staatsarchiv, a. a. o, Vol. 366-371
(9) Ebenda. Vol., 371
(10) Ebenda,
(11) Lenien, W. I, : Werke, Bd, 18, S. 229
26-11-2012
|