د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6859
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تمر بلدان الثورات العربية بمرحلة انتقالية، هي من أصعب وأدق فترات تاريخها المعاصر، حيث تبدو الثورات على وشك الاكتمال وحقيقة الأمر لم تخطو تلك الثورات خطوة واحدة على درب التّغيير الثوري المنشود الذي سقط في سبيله شباب وأزهقت من أجله أرواح زكية. إن مؤشرات التّغيير لم تلوح بعد في أفق الشعوب نتيجة الارتجال واللّهث وراء السلطة من شرائح كانت بالأمس القريب منبوذة من طرف الحكّام المخلوعين ومن وحلفائهم المتنّفذين، المتسترين خلف مختلف أجهزة الدولة، ملتحفة بلحاف المشاريع الحداثوية التي رسمت باسم التّنمية الشاملة التي لم تعرف غير التّعثر والاخفاق.
لقد أضعف الانتهازيون الذين استولوا على دواليب الدولة الوطنية واستبدوا بالشعوب، فافقدوها الكثير من الهيبة إلى أن أضعفوا الدولة وأسقطوا المجتمعات في وهم التّقدم وهُم في غفلة عمّا كانوا يفعلون. كان يحدث كل ذلك بمساعدة مباشرة وغير مباشرة من شعوب تميّزت بالرّعونة من ناحية وبتواطؤ ثلّة من مثقفي السلطان الذين تحوّلوا اليوم إلى مثقفي المحطات التلفزية والإذاعية، بعد أن تخيّلوا أنهم من الثوّار، فراحوا يشوّشون على الثورة ويعتمون الرؤى على أصحابها من ناحية أخرى.
إن المتأمل في ما يحسبه البعض إنجازات ثورية تبنتها وسائل الإعلام العامة والخاصة فراحت تنعق بما لا تفهم، في محاولة مفضوحة، أغرقت الرأي العام في إعلام فضائحي إن دلّ على شيء فإنما يدل على نيّة مبيّتة في التّشويش على ما ينفع العباد ويردّ لهم كرامتهم المهدورة وتخلص البلاد من التّبعية المقيتة.
تمضي الأيام دون أن يباشر الحكّام الجدد ملفا واحدا من ملفات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، فخلف كل جدار أزمة ووراء كل شجرة أزمة وتحت كل حجر أزمة وفي أعماق كل نفس إحباط ويأس، أفقدها الأمل في حياة الإنسان الحرّ... في مصر وتونس ملايين الشباب العاطلين عن العمل وأسر تعيش تحت خط الفقر وبيوت لا تجد رغيف خبز تسكت به جوع صغارها. في مصر وتونس اقتصاد معطّل وسياحة مترنحة وصناعة متخلفة وفلاحة عاجزة عن توفير الأمن الغذائي لشعوب تعيش على التّسول الدولي. في مصر وفي تونس تضخم مالي يعصف بالمواطنين. في مصر وتونس صراع على الكراسي وديمقراطية ليس فيها من الديمقراطية إلا انتخابات (نزيهة وشفافة) أتت بسياسويين، مبتدئين، "يتعلمون الحجامة في روس اليتامى"(*) وتغافلوا عن مسؤولياتهم أمام تاريخ لا يرحم.
يسير حكّام اليوم على نفس خطوات أسلافهم المخلوعين، فركعوا أمام أغنياء العالم ومتقدّميه، فقدّموا الوعود للحلف الصهيو- أورو- أمريكي - الإيراني ودخلوا طوعا بيت الطاعة الأمريكية من خلال لقاءات معلنة وأخرى سرّية جمعتهم بممثلين عن هذا الحلف المتآمر عليهم وعلينا جميعا. ألم يسأل هؤلاء أنفسهم ما الذي حوّل من كانوا يصنفون بالأمس على أنهم إرهابيون، منهم من كان مطاردا ومنهم من كان مراقبا ومنهم من اغتيل إلى حلفاء اليوم؟ جميع هؤلاء يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوّة أمام بطش القوى الإمبريالية العالمية التي سمحت له باعتلاء سدّة الحكم بعد سقوط حلفاء الغرب التّقليدين ممن ألقوا بهم في مزبلة التاريخ. لقد خطّط الحكّام الجدد للالتفاف على الثورة وانفردوا بقطف أولى ثمراتها قبل أن تنضج وضحّوا بإرادة أصحاب الحق الثوري الذين للأسف الشديد تنازلوا طوعا عن حقهم في التّغيير الثوري.
جلس الحاكم هنا وهناك مزهوا بفضل غباء شعوب، يسهل انقيادها وراء كل حلم وردي وتنساق خلف وعود طوباوية دون التّثبت من إمكانية تحقيقها من عدمه. تداعب السلطة الجديدة مشاعر الناس بالتلاعب بمفاهيم غريبة على مسامعهم مثل العدالة الانتقالية التي شرع في تفعيلها من خلال لجان وطنية لمساءلة بعض رموز الأنظمة السابقة وفضح سرقاتهم واستغلال نفوذهم في تكديس الثروة والاستحواذ على الجاه... أو تقديم بعض الشخصيات للمحاكمة وتلهية الناس بأحكام لا تغني ولا تسمن من جوع... ثم ماذا حدث؟
هنا في المغرب العربي، تعقد مؤتمرات حزبية على النّمط الفرعوني، تنفق فيها الأموال بسخاء على ضيوف أجانب ومؤتمرين محلّيين إلى حدّ التّبذير الشيطاني، لا أحد يعلم مصدر أو مصادر تميولها. مؤتمرات تعيد إلى الذّاكرة الجماعية لدى التونسيين عبث الحزب الواحد/الحاكم الذي كان يرهب أعين معارضيه وتبهر أبصار مواليه، باستعراض عضلاته المالية التي تبيّن فيما بعد أنها أموال نهبت من خزينة المجموعة القومية (الشعب) ومن أقوات المواطنين. كان من الأجدر أن تصرف تلك الأموال لتحقيق وعود فكانوا قطعوها على أنفسهم، لدفع عجلة مشاريع تنموية منتجة، من شأنها أن تنهض باقتصاد منهك وتساهم في خلق مواطن الشغل و/أو تساعد في التّخفيف من الفقر المستشري في المجتمع، ما لم يسموا بفكرهم إلى مجالات البحث العلمي المنقذة من الضلال. لو ضخّت تلك الأموال في تحقيق أهداف الثورة لأعطت أصحابها شرعية هم في أمس الحاجة إليها، غير أن قصر نظرهم السياسي وضحالة برامجهم، منعتهم من قراءة هشاشة مكانتهم ودورهم السياسيين داخل منظومة الحكم الجديد، فأخذتهم العزّة بالنفس الأمّارة بالسوء ففوّتوا على أنفسهم فرصة ذهبية، يرسّخون بها أقدامهم في السلطة. هنا يقتفي الخلف الحاكم خطوات السلف الفاسد فأنفقوا جبّارين وإذا ما أتيحت لهم الفرصة سيبطشون بمعارضيهم جبّارين.
وهناك في المشرق، تخاض انتخابات رئاسية، الله وحده يعلم كم أنفق فيها ومن أين أتى أصحابها بما أنفقوه من أموال لاغتصاب كرسي الرئاسة، وقد تابعنا على الفضائيات بكل انتباه كيف تدفع الرشاوى الانتخابية في غير استحياء ولا خجل ولا خوف من الله. لقد أخطأ من قال: " أنّ التاريخ لا يعيد نفسه" والغريب أن ما جرى ويجري في صلب الثورات العربية هو من صنع الذين يعدّون أنفسهم على الإسلام ممن نطلق عليهم "المتأسلمون" الذين أعطوا للعالم، متعمدّين صورة مشينة عن المسلمين (ولا أقول الإسلام) من الذين لا يثنيهم تحقيق مآربهم الشخصية على العبث بقيم الدّين الحنيف وتشويه أحكامه. فليعلم العالم، كل العالم (وهو يعلم بلا شك) أنّ المسلم الحقيقي لا يجرؤ أن يتعدّى على حدود الله و/أو التّلاعب بشرعه و/أو أن يتخذ آياته هزوا وهو يقرأ قوله تعالى: "... لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا..."(1).
في يوم 29/07/2012 يخرج علينا السيد وزير المالية التونسي باستقالته من حكومة الترويكا، معللا استقالته بما يمكن اعتباره خيبة أمل رجل العلم في المضيّ بالثورة إلى تحقيق بعض أهدافها. تأتي الاستقالة لتعيد للرجل مكانته في مجتمع الأكاديميين؛ وبقطع النّظر عن الأسباب الخفية لهذا الموقف المشّرف، فإننا نحيّيه بعد أن ثاب إلى رشده وانفصل عن حكومة بدون برامج ولا مخططات، هذا ولا ننسى أن نذّكر بأحد مواقفه التي عبّر عنها على الهواء مباشرة حين قال: " لا أخلاق في السياسية". صرّح الرجل بهذا الكلام وكأنه في ما يشبه الغيبوبة، لم يفكر للحظة أنه مؤتمن على خزينة الدولة التونسية ولم يع خطورة كلامه الذي ينّم على إمكانية عدم تورعه في التلاعب بممتلكات شعب، دفع ثمن تحرّره دماء أبنائه. لا يسعنا إلا أن نرحب بهذه الاستقالة ونهنئ السيد وزير المالية على عودة وعيه كما يعود الدّر إلى معدنه. في نفس السياق نعيد للأذهان استقالة السيد وزير الإصلاح الإداري منذ أسابيع قليلة الذي عبّر عن استيائه من التّضييق المتعمد على مجال عمله. توحي الاستقالة الأولى والثانية بوجود حكومة موازية في الدولة التونسية، تخطط وتقرّر وتترك للواجهة الرسمية من وزراء وكتّاب دولة مسؤولية التّنفيذ. نفس السيناريو القديم أيام الرئيس المخلوع، حكومة ظل على رأسها جيش من المستشرين بمرتبة وزراء، يضعون القوانين واللوائح لترتيب بيت الحكم؛ في مقابل حكومة معلنة قوامها وزراء، عيّنوا لإخراج قرارات الظلام إلى النّور. تحية إلى الرجلين الذين نأيا بنفسيهما عن المساهمة في كتم أنفاس ثورة تنبئ بميلاد دكتاتورية بوجوه وأفكار جديدة.
---------
(*) مثل شعبي تونسي.
(1) سورة البقرة الآية 231
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: