سفيان عبد الكافي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7525
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الفصل ما بين الدين والسلطة الحاكمة
إن النّظرة الجديدة في المسار التكنوقراطي من أجل التنمية هو استيعاب الديانات والتوجهات المختلفة، ولهذا هو ليس مسارا يدعو إلى التّعامل مع دين معين او إيديولوجية خاصة، فهو يتبنّي المتعارف عليه ويبني على الموجود.
وبما ان الدين في تونس هو الإسلام (بنسبة تقارب 100%)، فإننا نتعامل معه و نسلّم به على أنه دين الدولة ومصدر التشريع و مأتى العرف.
فالتكنوقراطية مبدؤها في التشكّل هوالإنطلاق من قاعدة معطيات المجموعة البشرية الموجودة في الرقعة التي توجد بها هذه المجموعة، ولا تتشكل قمة هرميتها إلا على اساس شكل قاعدتها، ولهذا قيام حركة تكنوقراطكية في تونس يجب بالضرورة ان ينطلق مما هو موجود في القاعدة و يحترمه.
والقاعدة هو الدين الإسلامي واللغة العربية، ومن هذا المعطى تصاغ التقنيات الملائمة بين الهوية والحداثة.
لذلك فإن التكنوقراطية كمنهج في العمل السياسي لا تتبني الدفاع عن الدين وكذلك لا تتجنّد للتصدي له، بل تأخذ منحى مبتكرا في هذا الخصوص، إنها تتبني مشروعية الاستقلال الديني كمؤسسة مستقلة قائمة بذاتها، كما القضاء، وتتعامل مع ما تفرزه هذه المؤسسة/ السلطة من تصورات من خلال المنتسبين إليها من العلماء المستقلين في تعبير صريح عن احترام هذه المنظومة واحترام اختصاصها و مجال نشاطها وتدخلها، طالما أن "التخصّص" هو جوهر التوجه التكنوقراطي. فعلماء الدين المستقلين (المعتدلين) هم أولى بالخوض في الأحكام الدينية، باعتبارهم أدرى بما فيها من احكام - وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال- ، ولكن هذا لا يعني أن هذا الالتزام هو تسليم مطلق بما يأتونه من اجتهادات، فالحرام بيّن والحلال بّين، ولكن هو إلتزام بما يحقق النهضة والتنمية والملاءمة بين كل عناصر التعامل في الحياة السياسية وعلاقة الشعب بالدولة.
والقوانين المصاغة (النابعة من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية) لابد ان تمر ضرورة على صوت الشعب (كغيرها من القوانيين الوضعية) من خلال مجلسه النيابي حتى ولو كانت مشاريع القوانين المقترحة هي فتاوي نابعة من هذه المؤسسة الدينية.
والمسار التكنوقراطي العلمي يحترم الحرية والإستقلالية ويطالب بالموضوعية والشمولية، ويطلب من كل طرح سياسي مقدّم (مهما كان منبعه الإديولوجي) ان يكون طرحا شاملا، فلا يقدم حلا لمعضلة ويتغاضى عن أخرى، بل يُطالب المسار التكنوقراطي كل التيارات ببرنامج تعامل واضح وكامل وشامل لكل القضايا والمعطيات وضرورة توقع تفاعلاتها مع كل القضايا المعاصرة في مختلف المجالات الاجتماعية والإقتصادية والثقافية والفنية والفكرية والسياسية.
إن النظرة التكنوقراطية حائلا امام وصول رجل السياسة بسلطته إلى الدين، ولكنها لا تمنع الدين من الوصول إلى رجل السياسة سواء له سلطة أو بدونها، فالنتيجة تختلف كثيرا ما بين ان يصل رجل السياسة وفي يده السلطة إلى الدين ومابين ان يصل الدين إلى رجل سياسية بيده سلطة، فالأولى تثير والثانية تكبح، لأنها تعزز فيه الضمير والخوف من قوة الحساب الخفية.
الفكر التكنوقراطي يؤمن بأن الدين قد اكتمل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) ( من الآية الثالثة من سورة المائدة) فالدين الإسلامي كفيل بأن يدافع عن نفسه، وهو مكتمل وباق ومحفوظ بفضل عناية الاهية كما نفهم من عبارة صريحة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الآية 9 من سورة الحجر)، وبهذا فليس الدين بحاجة لحافظ له بحكم بقاء النص القرآني على مدار هذه القرون كما هو لم يتلف ولم يصب بزيغ أو تحريف. فالدين اليوم محتاج إلى بلورته في مؤسسة اكثر مما هو في حاجة إلى ادلجته.
إن بقاء المؤسسة الدينية في منظومة غير مؤطرة ومحدد تجعل من السياسي الممسك بالسلطة يستحوذعليها بسهولة ويحولها إلى أداة لخدمة مصالحه وتمكن سلطانه ومنها يمر نحو الإستبداد، سواء بالتفسخ أو بالتطرف والتاريخ يظهر لنا العديد من النماذج لهذا الزيغ.
لكن الاشكال هو في وصول السياسي للدين وبيده السلطة واستخدامه لصالحه حتى يظهر في ثوب الحاكم بأمر الله فيتطرف او يصد عن سبيل الله فيتفسخ.
وهنا نشير ان امكانية تحيين التشريع السماوي في الأرض مباشرة من عند الإله انتهت بانتهاء العلاقة الحوارية السماوية الأرضية التي زالت بانتقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رفيقه الأعلى ولم يبقى بين يدينا إلا ما انزل الله وتجديده يحكمه العلم والبحث والاجتهاد، ولم يتعمق الشرع في القضايا الإنسانية وسكت عن الكثير وترك هذا الأمر للناس باعتبارهم هم اعلم بامور دنياهم، هذا إلى جانب ان هناك قضايا معاصرة لم تظهر ولم تعرف زمن نزول الوحي.
ولهذا يعتبر التوجه التكنوقراطي انه صار حتميا البحث في قضايا الأصالة والحداثة، ويبحث عن تصورات منتجة ومفيدة للإنسان داخل هذه المؤسسة الدينية المظبوطة تتماشى والفطرة والقوانيين التي جبلت عليها هذه الحياة حتى نحافظ على بقاء هذه المجموعة البشرية ولا تضمحل ، والعبرة بالنتيجة الإجابية المكتسبة...
وللوصول إلي هذه الإجابية تفصل التكنوقراطية الإعتقادات في ممارسي السلطة وتعتبرها أمر فردي ذاتي وإحساس داخلي في الفرد ليس من حق احد ان يحاسبه عليه الا إذا تشكّلت تفاعلاته على الواقع السياسي وظهر نتاجه فعليّا.. وجب وقتها- إذا كان النتاج سلبيا- و ضع كامل المسار الذي قاد إلى تلكم النتائج تحت مجهر الدراسة والتقييم قبل الحسم فيه والمحاسبة.
التوجه التكنوقراطي لا يُدخل هذه السلوكات والمفاهيم الدينية في العمل السياسي، لأن تطوير الدولة والمنافسة على الحكم هو كعمل مجموعاتي الغرض منه دنيوي وليس أخرويّا إلاهيّا، ولهذا هو لا يتكلم باسم الله ولا باسم الدين، لأن العمل السياسي ليس لله والغرض من الحركات السياسية هو طلب الدعم الشعبي والجماهيري والوصول إلى رضاء الشعب.
اما على المستوى الشخصي للسياسي التكنوقراطي فهو يحتفظ بهذه العلاقة لنفسه وهو مسؤول عنها لوحده في علاقته بخالقه، وهو حرّ في اعتقاداته لأن المحاسبة هي في منهاج العمل والنتيجة العملية وليس في نيته وايمانه وتوجهاته.
فمبدأ الإلتزام بالممارسات الدينية هي امر ذاتي وعلى المسلم ان يفهمها جيدا لأنها متعلقة بالقضية الإيمانية (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)( الآية 65 من سورة النساء) بمعنى ان المسلم في تصرّفاته الدينية مطلوب منه الإخلاص في عمله لله والرضى بما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال حكم الله، ويسلم به، ولا يجد في نفسه الحرج، فان تحرج واعترض فقد نفى عن نفسه الإيمان، وبالتالي يحرم من المجازاة المرتقبة.
وهذا التسليم العقائدي لا يفرض بسلطة القانون أو بهيبة الدولة. ولكن في الممارسة الحياتية الجماعية داخل مجموعة بشرية فيها خليط من الإيديولوجيات المختلفة تكون الحدود والضوابط دوما واضحة المعالم، ولكن مع ذلك فإنه لا يسمح بالحد من الحريات و الحقوق الفردية التي خلقت معنا ولا الإعتداء على الفطرة وقوانيين الطبيعة التي تحمي بقائنا وتناسلنا.
وهذا لا يعني انّنا في التوجه التكنوقراطي نمنع السياسي من ان يستمد برنامجه من التوجه الإيديولوجي الديني ويستلهم منه برنامجه السياسي، بل هذا متاح وكل له حرية اختيار الإيديولوجية التي يراها صالحة له بحكم ان التكنوقراطية تستوعب جميع الإيديولوجيات ولكن فقط تقف صدا اذا كانت هذه الإيديولوجيات المطروحة مهما كان مصدرها تهدد السلم الإجتماعي ومدنية الدولة او العرف القانوني القائم او الفطرة البشرية السليمة، وتصد كل ما من شانه ان يؤسس للصنمية والرمزية على مختلف اشكالها سواء السياسية بتواجد الزعيم الأوحد الملهم أو العقائدية التشيعية أو الإيديولوجية الفلسفية.
ولهذا لا نخاف على الدين من الساسة طالما لم يصله السياسي وفي يده السلطة الفارضة وطالما بقي الدين في قالبه المؤسساتي المحكوم بآليات التسيير وقوانينه المدنية.
فلا نعتقد أن هناك دولة دينية أو دولة لا دينية، بل نعتقد بوجود سلطة دينية او سلطة لا دينية، لأن الدولة كيان غير مادي وهي عبارة عن مجموعة مسالك في دوائر مختلفة ومنظمة، والسلطة هي التيار الذي يمر عبر مسالكها، ولهذا في الدول المدنية والديمقراطية ينادي بمدأ فصل السلط واستقلالها تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا ودينيا، ليمر تيار السلطة عبرهذه الدوائر دون تماس ودون التعرض لخطر الصعق، وبالتالي يتشكل مجال تجاذب وترابط يجمع كل كيان هذه المجموعة البشرية كالبنيان المرصوف في تعايش سلمي وتكامل وامن ونماء.
ولهذا تعتمد تصورات النهج التكنوقراطي في استقلال المؤسسة الدينية باخراجها من منظومة السلطة التنفيذية والحكومة، حتى لا يفعل الخطاب الديني النابع من السلطة في خدمة الحكومة سواء بالإفراغ والتفسخ او بالتزمت والرجعية.
فلا نريد ان نرى وزارة للشؤون الدينية وإنما نرى فقط هيكلا مدمجا داخل الوزارة الأولى يربط ما بين المؤسسة الدينية والحكومة للتنسيق الإداري معها، اي كتابة دولة للشؤون الدينية كأقصى حد.
ومن هنا ندعو إلى انشاء الهيئة العليا للشؤون الإسلامية يترأسها مفتي الديار التونسية، وهي هيئة متكونة من علماء المسلمين في تونس، يتجمعون في عاصمة الحكم المركزي، ويكون لها فروع جهوية و محلية في المعتمديات.
وتتكون هذه الهيئات المحلية والجهوية والمركزية من اعضاء منتخبين من طرف المنتسبين إليها، والانتساب يكون بشروط علمية ومعرفية، بمعنى ان يكون للمنتسب شهائد علمية في الميدان الديني والإسلامي ويكون عارفا بالقرآن والسنة والحديث ومؤهلا لفعل الإفتاء، لتحمّل مسؤولية الإفتاء في الناس عند الإقتضاء، وكل من يرغب في دخول هذه الهيئة عليه ان يمر بامتحانات حقيقية في هذا الشان. هذا بالنسبة لمن تكوّن واخذ شهادة في العلوم الإسلامية في ما مضي، واما في المستقبل فهي تتولى بنفسها تكوين الجهة الفقهية العلمية في الدين الإسلامي في الدولة.
والشرط الآخر هو ان يكون مستقلاّ لا ينضوي تحت أي حزب وله سيرة شخصية فوق كل الشبهات، فكل منتسب لهذه الهيئة يمثل صورة الإسلام والشكل الدعوي في تونس وحتى في العالم، ولهذا عليه ان يترفع عن محارم الإسلام، وهو محدود باخلاقه على خلاف المواطن العادي، لأنه يمثل قدوة ومصدر ثقة يؤمّنه المسلم على دينه واسراره ويستفتيه عندما يغيب عنه الحل ويستعصي عليه الرأي، وان تورّط عالم الدين في قضية محرمة حتى ولو كان شرب الخمر فيعزل بأمر من السلطة القضائية، فهذه الهيئة بالنسبة إلى المسلم مصدر ثقة ولابد ان يجد في اهلها كل ما يبعد الشبهات وإلا فلن يستجيب له ولن يستثيقه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*2* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ*3*) (الآية 2 و3 من سورة الصف).
تطبق هذه الشروط بكل تشدد على منتسبي الهيئة العليا للشؤون الإسلامية لأنهم هم من سيكونون أئمة المساجد والمفتين وهم من سيدرسون المنهاج الإسلامي في الهيكلة المدرسية ومن سيكون مترشحا وناخبا لتمثيل المؤسسة الدينية المستقلة في تسيير جميع امورها وتنفيذ كل سلطها وصلاحياتها.
أما الأشخاص العاملون في هذه الهيئة من عملة وإداريين فلا تنطبق عليهم هذه الشروط لأنه لا يحق لهم الترشح ولا المساهمة العلمية والفقهية والفكرية وإنما هم عملة في هذا القطاع فحسب كأي قطاع عادي في الدولة وفي الوظيفة العمومية.
المنتسبون لهذه الهيئة من الأئمة كلهم يعملون براتب واجر في كامل تراب الجمهورية وفي السلك التعليمي الخاص بالدين ومن ضمن مقراتهم ومراكزهم المساجد الجامعة او مقرات ومكاتب ادارية، وحسب التقسيم الذي نتصوره يجب أن يكون هناك مسجد جامع ومكتب لهذه الهيئة العليا للشؤون الإسلامية في كل مكان يوجد فيه عمدة ( على حسب التقسيم الإداري في السلطة في نمطه الحالي حتى يظهر شكل آخر)، كما يمكن ان يكون هناك اكثر من مسجد جامع في هذه المناطق الترابية ولكن المكتب هو مكتب واحد في حدود العمادة.
ومن هذه التفرعات الترابية (المساجد او المقرات) يتجمع منتسبو الهيئة على صعيد محلي اي المعتمديات ويكون هناك مركز محلي لهذه الهيئة، ومن المحلية ايضا يتجمع على صعيد جهوي لتكون مركزية الولاية ومراكز الولايات يتجمعون ليكوّنوا الإدارة المركزية في العاصمة وهو مقر المفتي العام للديارالتونسية في الجمهورية.
وتكون الانتخابات فيها من مترشحي هؤلاء العلماء دوريا كل 5 سنوات ولا يمكن لأي كان أن يتولى رئاسة هيئة وطنية أو جهوية لأكثر من دورتين سواء كانتا متواصلتين او منفصلتين وبالتالي لا نجد مفتيا للديار التونسية يبقى في هذا المنصب لأكثر من 10 سنوات ونفس الشيء بالنّسبة إلى المناصب المحلية والجهوية لا يمكن البقاء لأكثر من دورتين ولكن يمكن التدرج في المراكز مثلا اذا شغل عالم منصبا محليا يمكنه أن يترشح لمنصب أعلى جهويّا أو وطنيّا ولا يعتبر بالدورات الماضية، ويمكن ايضا النزول من الوطني إلى الجهوي شرط ان لا يكون قد اتم حقه في شغل هذه المناصب لدورتين سواء متتاليتين أو منفصلتين في المستوى الواحد، اي كل فرد له حق الترشّح لشغل المنصب في دورتين في كل مستوى من التنظيم الجهوي والمحلي والترابي والوطني.
هذه المؤسسة تتولى وحدها تسيير الدعوة الدينية والإرشاد الديني الحقيقي المعتدل حتى تحول دون دخول التطرف الديني والإرهاب لبلدنا ولا تبقى البلاد عرضة كذلك للتفسخ الديني والتهميش ولا يبقى الخطاب الديني في يدي كلّ من هب ودب أو في يد السلطة توجهه نحو التطرف او التفسخ، خاصة وأن الخطاب الديني اصبح بعيدا عن العلمية والواقعية، واختلطت فيه مظاهر الدروشة والأسطورة والوثنية نتيجة لما ركزه الاستعمار في حقبته المظلمة، وحتى الفعل الدعوي كان مسيسا في ما بعد الإستقلال، لهذا وجب اليوم الحث على تفعيل البحث الإسلامي بكوادر متكونة فعليا وليست مسقطة باي شكل من الأشكال، فالجامعة والمناظرات هي محك التقييم، ولابد لنا ان نصل في يوم من الأيام إلى اعادة انتاج انموذج من العلماء كالشيخ الجليل الفاضل بن عاشور الذي قارع وناطح أعتى العلماء وبقيت مؤلفاته إلى اليوم مرجعا هاما في الدراسات الإسلامية، فهذه البلاد التي انتجته قادرة على انتاج نسخ منه، لتبقى مباحث الإسلام تقارع اعتى المباحث العالمية في ظل الحداثة والتطور.
فإن كانت لك أيها المواطن المسلم المؤهلات التامة العلمية والمعرفية والسلوكية، فلك ان ترشد الناس، وان كنت من المتطفلين فلا سبيل لك لبث الخطاب الديني وهذا هو المبدأ المقصود به ان نحول دون وصول سلطة السياسي للدين ونسمح للدين بالوصول لرجل السياسة.
هذه المؤسسة الدّينيّة لها استقلالية تامة وتتولى تسيير كل ما يتعلق بالدين وتعليمه والإفتاء فيه وتسطّر البرامج الدينية طوال فترة التكوين الدراسي في جميع مراحل الدراسة داخل مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وقد يختلف شيوخ الإفتاء في امر ما، والفيصل هو التصويت لأنه لا تجتمع الأمة على ضلالة، وهذا هام، فالضلالة بتزكية دينية مصيبة كبرى.
ولتكون هذه المؤسسة فعالة عليها ان تصد كل توجه حزبي يريد الإستحواذ عليها أو على أماكن نشاطها وفروع تمويلها او اعتمادها مطيّة لتمرير افكاره المختلفة أو حتى معاداتها (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الآية 125 من سورة النحل) هذا هو روح الإسلام والدعوة والتبليغ.
ولتتمكن هذه المؤسسة الدينية من القيام بدورها على احسن وجه ولا تبقى ترزح تحت ضعط اي سلطة لابد من ان تأخذ استقلالية مالية وإدارية وأكاديمية.
وعلى هذا الأساس تموّل مزانيتها بالتنسيق مع الدولة وكتابة الدولة للشؤون الدينية، وكذلك لها مداخيلها الخاصة من الموارد المذكورة في الإسلام، وهي الصدقات والزكاة، التي عليها ان تشرف على إنفاقها في أهدافها الحقيقية ونحن نفصل ما بين الصندوقين لأن مصاريف الزكاة محددة وصرف اموالها ليس شاملا كما الصدقات، ولهذا وجب ان يكون هناك صندوقان منفصلان لأن المواطن يؤمّن هذا الجهاز على أمواله.
ولتفعيل صندوق الزكاة، يربط ركن الحج بإبراء الذمة من ركن الزكاة، فلا يستطيع المسلم ان يتقدم لفريضة الحج والعمرة، إلا ذا كان لديه شهادة في براءة ذمة من صندوق الزكاة، وعليه ان يقدم سندات البراءة على الأقل لمدة خمس سنوات، ومن لا زكاة عليه يقدم ملفه لهذا الصندوق لياخذ البراءة.
وهنا نود أن نشير إلى نقطة هامة حول فصل الزكاة عن الضرائب، فالزكاة هي حق الله على العباد، ولها مصارفها المحددة، فلا يمكن ان ننفقها في اغراض حديثة مثل بناء المسارح أو الملاعب وغيرها، فهي إتاوة يطلبها الله وهو يعاقب من لم يات بها.
وأما الضرائب فهي حق الناس على الناس، ميزانية تتقاسمها المجموعة البشرية تحت ضوابط لتمويل آليات الإدارة والتنمية التي تعود بالنفع على كل فرد من هذا الشعب باختلاف دينه وايديولوجيته سواء بطريقة مباشرة في استخلاص الرواتب والمصاريف الخاصة بكينونة الدولة او في المشاريع المختلفة وتنمية البنية التحتية، أي تؤخذ من الناس وتعاد إلى الناس في قالب مشاريع وخدمات إدارية لتركيز سيادة الدولة ومؤسساتها، وتعاقب الدولة من لم يات بها لأنها وقود كينونتها.
وكما ان صندوق الصدقة هو صندوق جامع لكل المشاريع الخيرية التي يتضمن محتواها إنفاقا يرتجى منه التقرب إلى لله بأي شكل من الأشكال، وبالتالي ليس لأي احد حقّ جمع الأموال في هذا الصدد المتعلق بالتقرب إلى الله كما تفعل منظمات اخرى وأشخاص معنويون أو افراد، حيث يعتمدون هذه الوسيلة ليأخذوا اموال الناس ، وكذلك حتى نمنع ظاهرة التسول، وكل محتاج يتقدم لهذه المؤسسة ليقدم ملفه وهي تعطيه من هذه الأموال، ونحفظ ماء الوجه للمواطن المحتاج من ذل الوقوف على ابواب الناس وذل السؤال وهذا من حقوق الإنسان وكرامته ولابد من صيانتها.
فهذه الصناديق طريقة عملية للتصدي لمن يتخذ من التسول مهنة ويتحيّل على المواطنيين مستغلا رأفتهم ورحمتهم.
وكل ملف يقدم من طرف مواطن محتاج لابد من الرد عليه من طرف هذه الهيئة وإن حصل تلاعب يمكن ان يرفع المواطن شكوى لدى القضاء الذي يعاقب كل متلاعب بهذه الأموال.
ثم لابد من مراجعة جديدة لمشروعية الأوقاف التي حلت في زمن بورقيبة، فهي لها فائدة خيرية ومدخول متواصل يستغل للحد من ظاهرة الفقر، ويكون طبعا تحت إشراف وملكية هيئة الشؤون الإسلامية وإذا ما تبين ان هناك وقفا ما يتعارض مع تطور عمراني أو مشروع تنموي في المستقبل يمكن حله، وارجاع امواله لأصحابه او يعود للدولة بحكم التقادم، لقد مولت الأوقاف الحركة التحريرية زمن الإستعمار وعادت بالفائدة لتونس ولهذا لا نجد مبررا لمنعها ووقفها.
كما أن هذه الهيئة مثلها مثل أي وزارة تناقش ميزانيتها أمام مجلس الشعب ويناقش برنامجها وعملها عند عرض الميزانية الدورية، وكذلك يمكن ان تطلب للاستجواب بطلب من المجلس او السلط القضائية او الحكومة ويمكن للمجلس ان يصوت بحجب الثقة عن هذه الهيئة وبالتالي يحل مجلسها وتقام انتخابات اخرى ويحرم اعضاء المجلس القديم من الترشح وتوجه إليهم بطاقة توبيخ خاصة إذا قامت بتلاعب مادي او خرجت عن دورها المستقل وتحزبت او دعمت جهة ما باي شكل مما يدخل في باب الفتنة والتفرقة ويؤثر في السلم الاجتماعي.
وكل المشاريع الخيرية التي تدخل في الباب الديني تتكفل بها هذه الهيئة وحتى الأشخاص الذين يقومون بجمع أموال لبناء مشروع خيري ما كالمدارس والمساجد والمستوصفات يجمعون الأموال بتفويض من هذه الهيئة داخل صندوق الصدقات باسم هذا المشروع ويمكن ان تدعم هذه المؤسسة باموال مما جمعته ومن اموال الصدقات والزكوات اذا كان المشروع يدخل في ابواب الصرف الشرعي ويمكن ان تؤخذ اموال من الدولة او مؤسسات اخرى.
أما الصناديق الخيرية الأخرى التي لا تدخل في الباب الديني وليس لها ارتباط بهذا الجانب فللدولة أحقية الترخيص لها او رفضها وفقا لما تراه من فائدة او ما تدرأ به من شبهة.
وتخضع الهيئة العليا للشؤون الإسلامية لمحاسبة مالية وتدقيق محاسبي كما الدولة عموما من خلال المدققين والمحاسبين الذين يقع اختيارهم كل مرة وفقا لما هو معمول به في الوزارة الأولى.
كما تهتم هذه الهيئة بالتعليم الديني ولهذا لابد من ان ندخل الجامعة الزيتونية تحت اشرافها واشراف اساتذتها والحصول على برنامج تعليمي فقهي في كل المجالات الدينية، اما المجالات الأدبية وحتى التي تتناول البحوث الإسلامية فهي تبقى في المؤسسات التعليمية التابعة لوزارة التعليم العالي، فهذه الهيئة تحصر تعليمها في الفقه وكل المجالات المتعلقة به والعلوم التي تدخل في باب العلوم الشرعية الصحيحة خاصة ومن اهمها الفقة والحديث والتفسير والمباحث الإسلامية المختلفة المتعلقة بالإسلام والحداثة وتشجع على ذلك وترصد جوائز تشجيعية لدعم البحوثات الإسلامية وتنشر الثقافة الاسلامية الحقيقية...
كما تتبنى هذه الهيئة جمعية المحافظة على القرآن الكريم وتعليم القرآن، ووحدها تفتح برامج الدروس الدينية وتحفيظ القرآن في المساجد والمدارس العامة والخاصة وتشرف عليه وفقا لقواعد صحيحة وتكرس لهذا اناسا مقتدرون واكفاء في هذا المجال.
كما تتبنى المنابر الدينية التي تعقد في المساجد من خلال ائمتها وخاصة في مواسم العبادة المختلفة، وتتولى شؤون المساجد وتتعهدها بالعناية والتنظيف وغيرها من المستلزمات وتعيين المؤذنين وأئمة الصلوات الخمس وتتولّى صرف اجورهم وكل مستحقاتهم الإجتماعية، وتهتم بامور الدعوة الإسلامية وتمثيل تونس في هذه المنظمات العالمية المرتبطة بالشؤون الإسلامية وهم من يختارون من يمثل تونس ويكون منهم ومن منتسبيها غالبا وليس اختيارا من الحكومة.
والباب الهام والأخير الذي يدخل في اختصاصها هو تنظيم موسم الحج، وهي من تشرف عليه، خاصة في الفرز في حالة القرعة، أو في حالة التعيين، وتعلن عن مناقصات للشركات السياحية والمقاولين الذين يريدون ان ينظموا حملات الحج والعمرة وتضع المواصفات والمقاييس الخاصة بذلك وتتأكد منها وتضع ممثلين عنها في هذه الشركات وتنسق مع الدولة كل المجهودات التي تحمي الحجيج والمعتمرين في البقاع المقدسة وخاصة في الجانب الصحي والجانب الأمني.
وكذلك تتولى تنفيذ الهدي والذبائح للحجاج وتأخذ منهم الأموال وتضمن ذبحها هنا بالطرق الشرعية في تونس وتعد ان يتم ذلك في ساعة معينة حتى يمكن للحاج ان يتحلل. والحقيقة انه لا ندري مصيرالأموال التي تدفع من طرف الحجاج هناك في البقاع المقدسة في باب الهدي، وهل ان الذبح يقع اولا يقع وهل هو في الوقت أو في غير الوقت وكما ان هناك العديد من الذبائح توجه إلى فقراء العالم فمن باب اولى ان نوجه ذبائح حجاجنا إلى فقراء بلادنا، ان لم يكن هناك ما يمنع.
هذا هو المسار التكنوقراطي في الدين بالنسبة إلى تونس... نهتم بالإسلام كدين للدولة، نحترم طقوسه وأعياده وتشارك الدولة في احياء مناسباته وتأمينها في جو ملائم. ولكن دون تأثير أو توجيه، لأن السلطة التكنوقراطية اوكلت هذه المهمة لثقات لهم باع و دراية،، ولن تكون الحكومة أكثر دراية من هذه الهيئة. فكما دعت التكنوقراطية إلى ان تدار الدولة بإطارات كفئة في المجالات المختلفة، فالإدارة الدينية ايضا وجب ان تدار بإطارات كفئة، قادرة على اتخاذ القرار الصحيح ولا تتأثر بالتوجهات السياسية.
التكنوقراطية تحرص فقط على العلمية والكفاءة فهي السكة التي يسير عليها قطار الدولة والمؤسسات،، فإن اختلت أو تباعدت أو قطعت، خرج القطار عن سكته وحلت الكارثة.
فالناظر في فلسفات الفتوحات الإسلامية على امتداد التاريخ القديم يتبيّن كيف ان الناس دخلوا في الإسلام افواجا ليس بسبب عرض الإسلام عليهم واكتشافه، بل بسبب ان الفاتحين حرروا هذه الشعوب في مرحلة اولى واعطوهم حريتهم ثمّ عرضواعليهم الإسلام، ولم يعرض الإسلام عليهم شرطا للتحرير وكان اختيارهم سواء بالدخول او الخروج نابعا من حرية تحصلوا عليها وليس من حاجة او ضغط، ونحن اليوم في تونس تحصلنا على حرية وداخل هذه البوتقة من الحرية يتجلى العرض الإسلامي لا اكراه في الدين، وهذا القانون الإسلامي لا معنى له في ظل غياب حرية حقيقية ليقف الفرد بكل وعي ينظر ويختار، والإسلام سهل وبسيط وواضح وهو مراع لقوانين الطبيعة والفطرة، لا يتعدى على الملكية ولا يهمش الحرية.
في ظل هذا المسار التكنوقراطي وتأطير المؤسسة الدينية واعطائها استقلاليتها لا نخاف من الدين ولا نخاف عليه....
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: