د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7466
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كنت أحضر ندوة نقاشية تتناول تحليل الأحداث التي يشهدها العالم العربي، فعلى الرغم من مرور مدة غير يسيرة(نسبياً)، إلا أني لاحظت أن الانفعال ما يزال للأسف يسيطر على الأفعال وردود الأفعال، وبالرغم من الدروس المريرة، فلا يزال للأسف هناك من يكون اعتقاده بطريقة لا ترتقي للآليات المرحلة الراهنة، ويعجزه انفعاله وتشنجه عن استخلاص الدروس من التجارب.
يحلو للبعض أن يطلق على الأحداث الدائرة في ساحات مختلفة من الوطن العربي بتسميات شتى، ولكني أحسب للأسف أن معظمها بعيد عن الواقعية، وبعيد جداً عن العلمية كأن يطلقوا عليها: ثورة، انتفاضة، حركة، وبالطبع لكل من هذه التسميات قوانين وقواعد وشروط، وبالتالي فالأمر أبعد ما يكون عن تسميات عشوائية منطلقة من عواصف الكبت أو الإعجاب بالفعل البطولي، إلا إذا شئنا المبالغة، والمبالغة التي تبعدنا للأسف عن التقييم العلمي، وعن مستحقات الأحداث.
قلنا إعجاب، نعم.... فنحن ابتداء لا نخفي إعجابنا بشجاعة الشباب والرجال والنساء الذين خرجوا للساحات يتحدون أنظمة طغيانية، استسهلت قمع الجماهير عقود طويلة، فأسست أنظمة وأجهزة قمعية خال لهم أن هيهات تفلت أعنتها من أيديهم، ثم استصغرت شأنها بأن لم تحسب لها أي حساب في ردود الفعل. و لوجود مهرجين وجوقة المداحين ومحرقي البخور في حاشية الطغاة ما يساعدهم في تأليه ذواتهم، أنظمت إليهم فئة من احترفوا تأجير رؤوسهم فصاروا يخترعون نظريات في الطغيان والتفرد، حتى صار الظلم والطغيان مؤسسة، وأقتنع الكثير بما فيهم بعض من ضمائر حية، أن للطغيان فوائد، وأن مناكفة الطغاة لا تجلب سوى المتاعب.
بيد أننا هنا معنيون بتحليل ظاهرة اتسعت وضربت عاصفتها أكثر من ساحة عربية، ولابد من اللجوء إلى مناهج التحليل العلمي، وبغير ذلك فإن الأمر سيصبح ضرب من كتابات إنشائية. وحفلة شتائم وسباب الكثير منه بذئ لا طائل منه، فالحركة هي غير الانتفاضة، والانتفاضة هي غير الثورة، وأعتقد أن الحذر واجب في إعطاء حق كل صفة، ويحق لنا أن نعبر أيضاً عن قلقنا حين نرى حشود كبيرة تعمل بعفوية، لا مخطط عمل لديها، يسهل إثارتها والتسلل إلي ذروة أمواجها. بل وليس نادراً أن سمعنا أصوات تنادي بالأنفصال، وأخرى ترفع شعارات طائفية.
وهكذا فالذين توجهوا لساحات وميادين التحرير في تونس ومصر واليمن وليبيا، خليط بين وطنيين شرفاء يريدون أن يوقفوا مهزلة الأنظمة التي لا تنتهي، وبين ساخط، ومن هو منتم لأحزاب وحركات ويدرك ما يريد، وبين من هم ساعون في كل موكب، ولكن هناك أيضاً مندسون، أو من يعمل بموجب مهام مكلف بها، نعم أطاحت الحركات بقضها وقضيضها لأنظمة دكتاتورية وأخرى على الطريق، ولكن من غير المعلوم عما ستسفر النتائج النهائية وعلى أية مراسي سترسو.
سأحاول جهدي في أضيق صورة، أن أفي بمتطلبات تشخيص علمي لما يحدث، والتنبؤ على ضوئها بالمستقبل:
1. الغرب الذي يضع ومنذ زمن طويل (ربما بعد تأميم النفط وحرب أكتوبر / 1973) الخطط التفصيلية للسيطرة على الشرق الأوسط، درس الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية المكونة لهذه المجتمعات، وبنى خططه التفصيلية على أساس تشخيص نقاط القوة وهي قليلة للأسف، أو غير مستثمرة، ونقاط الضعف وهي كثيرة، وبدأ يصيغ استراتيجيته بالتدخل، ويخطط لتحالفات براغماتية، سرية وعلنية للوصول لأهدافه، ووجد أطرافاً مستعدة للعمل دون هوادة في تطابق للمصالح، دولاً وشخصيات، وهيئات.
2. خلت الأحداث من قيادات مركزية لها، وبالتالي صعوبة إدارة دفة الحركة.
3. اختفاء الأسماء المعروفة، أو الشخصيات السياسية التي لها تاريخ، يمكن من خلالها تقدير التوجهات السياسية.
4. موقف دول الغرب من الحركات، وتطور الموقف وتبلوره، والتصعيد والتراجع بدرجة التأييد يمثل درجة نفوذها في تلك الحركات، أو كسب مواقع نفوذ تأمل بالحصول عليها.
5. ضمت ساحات الحركات قوى سياسية معروفة وأخرى مجهولة(نسب لها صفة الشبابية)، واتصفت بالأعداد الجيد، بل الممتاز في بعض الحالات، ومؤشرات على إنفاق مالي كبير.
6. مؤشرات بأرجحية كبيرة تشير لتدخلات أجنبية مباشرة وغير مباشرة، تمثل في حجم الإعلام الخارجي، والتدخل السياسي الذي بلغ في بعض الحالات مستوى مجلس الأمن وحلف الناتو، والاتحاد الأوربي، ناهيك عن المواقف الثنائية والمتعددة الأطراف، ومداخلات بمستوى رؤساء الدول العظمى.
7. في العديد من الساحات لم تسفر النتائج حتى الأولية منها لصالح الغرب، كتونس ومصر الذي أسرع وأبدى امتعاضه عندما رفضت تلك الحركات استقبال مندوبة أمريكية.
من جميع هذه الملاحظات، وربما غيرها، نصل لنتيجة جوهرية، هي تمثل القاسم المشترك الأعظم، ودونه فإن احتمالات العودة إلى المربع الأول متوفرة دائماً:
لماذا يميل العقل والنظام السياسي العربي للفردية والاستفراد، وهو ما يقود للدكتاتورية والطغيان ..؟
من المؤكد أن أسباب ذلك متعددة، داخلية منها وخارجية، بعضها بفعل عوامل خارجية، وأخرى توارثها النظام العربي، لم يستطع أن يتجاوزها في تطوره المعاصر بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك انقطاع الفكر السياسي العربي عن التطور خلال قرون عهود الحقب العثمانية، وإذا كانت تركيا الحديثة قد تمكنت تداركها، حيث أرست أسس لنظام جديد، لم تتمكن الأقطار العربية التي دخلت مرحلة جديدة من الاستعمار البريطاني والفرنسي، والنفوذ والهيمنة الأجنبية منه، ولم تتخلص منها ليومنا هذا، أن تنجز مهمة تطوير فكر سياسي / دستوري حديث يضع أسس دول حديثة مؤسسة على خصائص مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
الديمقراطية التي يروج لها الغرب في بلداننا، ليست سياسية فقط، متمثلة بآليات الانتقال السلمي للسلطة السياسية، بل هي مجموعة من نظم وقواعد اقتصادية في جانبها الأعظم، ونجد أن الفكر العربي الإسلامي قادر بجدارة أن يصيغ مبادئ وقوانين وقواعد فكرية / سياسية / اقتصادية، نجدها الأكثر ملائمة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية لأنها نابعة من صميم معتقداته، وحاجاته، وهنا تكمن مهام علماء السياسة والاقتصاد العرب في وصياغة نظريات تتفاعل فيما بينها وتتكامل لتؤدي في نهاية المطاف إلى نظرية حكم عربية إسلامية تحل فيها هذه الإشكالية التي ما برحت تمثل الثغرة الأخطر على الأمن القومي العربي.
الفكر العربي الإسلامي لم يكن يوماً منغلقاً على ذاته، بل هو متفاعل مع تجارب من يحيط به، وتجارب وأفكار غيره من الشعوب، ولكن العبقرية العربية عرفت كيف أن تصيغ ذلك في إطار ومحتوى عربي إسلامي ليكون ملائماً لبيئتنا وحاجاتنا، ومهمة علماء السياسة العرب المعاصرين هي في بلورة فكرية سياسية / قانونية معاصرة.
مع الانتفاضة لا الفوضى المنظمة المصدرة من أمريكا...!
مع الثورة التي نسير فيها لتقدم أمتنا ...!
لنرمم بيتنا ونسد ثغراته، ولكن دون أن ننسى تحصين مداخله ...!
لتكن قراراتنا نابعة عن تفكير عميق، ودراسة وفحص لمستودعاتنا، قبل الغضب والانفعال ...!
على قوى التحرر العربية أن تعيد ترتيب صفوفها، وتعيد فحص خططها الاستراتيجية...!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: