أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2111
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم يترك أبو القاسم بابا من الأبواب المتعلقة بالوطن حاضرا وماضيا إلا ولجه فهو محقق ومجمعي ومؤرخ وشاعر وكاتب وناقد ومناضل سياسي وناشط جمعياتي الأمر الذي يجعل من الإحاطة بها كلها من باب المستحيلات في هذا الحيّز، لذا رأيت أن أتناول جانبا واحدا يتمثل في درس مصطلحي العروبة والإسلام في فكر المحتفى به خصوصا لمّا نضع في الاعتبار أن هذين المصطلحين مثلا قطب الرّحى في حياتنا الثقافية والسياسية لارتباطهما أوّلا بالسعي من أجل الحصول على الاستقلال وثانيا ببناء الدولة بعد ذلك واللافت للنظر أن نخبة من الزيتونيين الذين تناولوا هاتين المسألتين من جوانب مختلفة قدّموا إضافة لامست العصر وتجاوزت الخطاب النصي السائد، ضمن هذه الفئة يتنزل أبو القاسم فهو زيتوني إلا أنه تفتح على العصر فلم يتمترس خلف النصوص بل تجاوزها إلى رحاب أوسع وهو ما سيتضح لاحقا.
الإسلام الدين والحضارة
في الفترة الاستعمارية مثّل الإسلام والارتباط به حافزا للمقاومة وسبيلا للمحافظة على وحدة الأمة، ظهر ذلك في معركة الزلاج والموقف من المؤتمر الأفخارستي والتجنيس والحجاب وغيرها، بعد الاستقلال لمّا شرعت دولة الاستقلال في القيام بإصلاحاتها الاجتماعية وجدت معارضة من صنف من الزيتونيين رفعوا شعار الدفاع عن الإسلام والالتزام بحرفيّة النصوص دون إعمال النظر فيها، لم يكن المحتفى به من هذا الصنف حيث نلاحظ أنه كان من أوائل من ساندوا تحرير المرأة وذلك بإحياء رموز هذه المعركة فهو أوّل من كتب كتابة علمية عن الطاهر الحداد الرائد المغبون في سلسلة كتاب البعث كما خصّه بالعديد من الدراسات فيما بعد، وهو فضل يذكره له الباحث المرحوم نور الدين سريّب الذي ذكر في مقال له أن أوّل من عرّفه بالحداد هو الأستاذ كرو(1)، لم يكن اختيار المحتفى به الإشادة بداعية تحرير المرأة عملا مسقطا أو معلقا بل هو صادر عن فهم وتصور لكيفية تعامل المسلم مع دينه حيث يفصل بين الدين العقيدة والعبادة وبين المعاملات التي تخضع لِما هو موضوعي من مصالح وأعراف وتقاليد تتغير بتغير الأحوال يقول: "التعامل مع الدين سواء بالنسبة لي أو لإنسان آخر هو موقف شخصي لا ينبغي أن يكون موضوع جدل أو حوار مع الآخرين فكلّ يمارس سلوكه الديني أو غير الديني بحسب قناعاته"(2) وفي جواب عن سؤال نصّه كالتالي: "هل تعتبر الإسلام كنصوص وكتراث بهذا المفهوم جزء مهمّ من مرجعيتك الفكرية والثقافية والسياسية؟ أجاب: السياسة لا البقية نعم فأنا أعتبر الإسلام بنصوصه وتاريخه وحضارته أهم مرجع لكلّ العرب المسلمين أما في الميدان السياسي فلا"(3) والمستفاد مما ذكر أنه يفصل بين الإسلام الدين والإسلام الحضارة ويعتبر أن الأوّل شأن شخصي لا مجال لإدراجه ضمن ما هو عمومي مشترك وهو بهذا يفصل بين مجالي الدين والسياسة وهي المعركة التي تخوضها القوى المدنية منذ بدايات القرن الماضي يقول: "ونحن اليوم كممثلين لتيارات أخرى غير دينية لا نرفض الدين كسلوك شخصي وانتماء حضاري ولكن بقدرها نرفض اعتماد الدين في العمل السياسي واعتباره أحد التوجهات التي يمكن أن يقام بها مجتمع جديد"(4) هذا الإيمان العميق بمدنية المجتمع والدولة والفصل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي نلحظه في كل كتابات كرو وفي تراجمه لكلّ الشخصيات التي عرّف بها من رجال دين أو شخصيات عامة، وحتى في نقده للأب جان فونتان في كتابيه فإنّه لم يلجأ إلى استغلال الدين لتحقيق انتصار على الرجل بل تعامل معه محيّدا الشعور الديني بحيث لم يتناول سوى المواقف السياسية للكنيسة في المؤتمر الأفخارستي مثلا أو في نقل أرشيف معهد الآباء البيض إلى روما سنة 1964(5) ومواصلة في نفس المنهج الذي ارتضاه نجده ينشر مقالا بمناسبة مرور 90 سنة على ولادة الأب أندري ديمرسمان أشاد فيه بموضوعية الرجل وبالدور الذي أداه في التعريف بالثقافة التونسية في مختلف تجلياتها داعيا: "أساتذة الجامعة والوزارات المعنيّة بالخصوص وزارة الشؤون الثقافية وكل من له صلة بالأدب والفكر وكذلك رجال الصحافة والإعلام.. أدعوهم إلى تكوين لجنة تكريم واحتفال تكريما لرجل عالم واحتفالا بمجلة رائدة.. ولِما تميّز به كذلك في كامل حياته وأعماله من حب لبلادنا وتعاطف معها وخدمة لثقافتها وتاريخها ومجتمعها، والغريب هنا أن مؤسسي بيت الحكمة لم يفكروا عند بعثها في اختياره عضوا لمجلسها العلمي؟!"(6) والمستفاد ممّا ذكر أن الدين لدى المحتفى به مسألة شخصية تخضع للإيمان الشخصي ويرفض أن يكون ما هو ذاتي كالإيمان محلا للنقاش أو مقياسا تُحدَّد به مواقف الآخرين أو تعيّر ويحاسبون على أساسها.
العروبة حضارة وسياسة
قبل سفره إلى المشرق ساهم أبو القاسم في نشاط بعض الجمعيات الثقافية والسياسية لعلّ أبرزها فيما يتعلق بموضوعنا جمعية الإخوان الزيتونيين وهي جمعية تأسّست على أنقاض "جمعية التوادد الزيتوني" بعد أن عقدت جلستها العامة يوم 27 نوفمبر 1947 وأسفرت على تكوين هيئتها الجديدة المتركبة من الوالد محمد الصغير الشابي رئيسا وأبو القاسم محمد كرو كاتبا عاما وعبد الرحمان الهيلة كاهية الكاتب العام وكان لهذه الجمعية حضور لافت في الساحة السياسية من خلال الاحتفال بعيد العروبة والاحتجاج على قرار التقسيم جاء في شهادة كرو في مقابلة له مع الدكتور علي الزيدي: "وسجلت الجمعية نشاطات سياسية... كان من أبرزها دعوتها لإضراب 4 ديسمبر 1947 في تونس، وتنظيمها اجتماعا شعبيا كبيرا بالجامع الأعظم للتعبير عن احتجاج الشعب التونسي على قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين الصادر في 29 نوفمبر من السنة نفسها ممّا أدخل الجمعية في منافسة مع الحزب الدستوري الجديد والشيخ محمد الصادق بسيس رئيس (لجنة إغاثة فلسطين) الموالية للحزب المذكور، وزاد تلك المنافسة تنظيم الجمعية للاحتفال بعيد العروبة الثالث أو ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية يوم 26 مارس 1948 وهو العام الذي أحجم فيه الحزب عن الاحتفال بهذه المناسبة حيث أجّرت الجمعية على حسابها قاعة سينما النورماندي (أفريكا حاليا) في تونس، وعقدت فيها اجتماعا وصف بأنه حاشد حضره مئات الطلبة الزيتونيين وشباب المدارس وغيرها وقد كان الاجتماع تحت إشراف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ومشاركة العديد من الشيوخ من أمثال المختار بن محمود والشاذلي بلقاضي والهادي بلقاضي والحبيب بلخوجة ومحمد الصغير الشابي وألقى الشاعر مصطفى خريف قصيدا بالمناسبة كما ألقى العديد من الحاضرين خطبا وكان الطالب أبو القاسم محمد كرو من بين الخطباء"(7) وفي موقع آخر يضيف: "أدركنا الخلاف الذي بدأ يدبّ بين الفاضل بن عاشور والحزب، لأن الفاضل بن عاشور كان عضوا في الديوان السياسي وقد خشي الحزب منه لأن في يديه كانت القوة الضاربة في البلاد وأكبر عدوّ للطلبة الزيتونيين وهو صالح بن يوسف الذي أوعز بضرب الفاضل بن عاشور وفي مارس 1947 احتفل الحزب في جميع أنحاء البلاد بذكرى تأسيس الجامعة العربية، لكنه في 1948 أرسل صالح بن يوسف برقية عبارة عن خمسة أسطر إلى عزام باشا وأصدر تعليمات بمنع الاحتفال إلا أننا احتفلنا نحن الزيتونيين بالذكرى الثالثة وكدنا نحتفل بها في المسرح البلدي إلا أنهم منعونا فاكترينا قاعة النورماندي (مكان أفريكا حاليا) وقمنا بحفل ضخم وكنت عريف ذلك الاجتماع وأكبر الخطباء والشعراء الفاضل بن عاشور والمختار بن محمود ومصطفى خريف ....كان هذا يوم 26 مارس 1948"(8)، حدث هذا قبل سفر المحتفى به إلى المشرق أما بعد عودته إلى الوطن فاللافت للنظر أنه طوال حياته الوظيفية لم يكلف إلا بالوظائف الهامشيّة التي لا ترقى إلى كفاءته تخللتها فترة إبعاده إلى طرابلس وهو أمر مخطط له ذلك أن طبيعة النظام الثقافي والتعليمي الذي أرساه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في تونس بعد الاستقلال يقوم على ربط تونس بالغرب وبفرنسا تحديدا خصوصا على مستوى اللغة وقد كُلّف بهذه المهمة أحد عتاة المسخ محمود المسعدي الذي شنّها حربا شعواء على كل من انتسب إلى الزيتونة أو التحق بالجامعات المشرقية فقضى على نخبها إما بالإبعاد إلى دواخل الوطن أو بالتكليف بوظائف ثانوية(9)، ولم يسلم من ذلك حتى المنتسبون إلى الحزب الدستوري الحاكم(10)، فقضي على الشعبة أ التي كان من المفروض أن تكون العمود الفقري للتعليم الثانوي كما هُمِّشت اللغة العربية وانحصر تعليمها في بعض المواد التي تقوم على التلقين كالنحو والصرف والعروض والتربية الإسلامية أمّا المواد التي تربّي في الإنسان ملكة النقد والبحث والمقارنة والموازنة فقد كانت تدرس بالفرنسية، هذا المشروع النقيض لِما بشر به كرو ودعا إليه منذ أربعينات القرن العشرين واجهه من خلال دفاعه عن اللغة العربية وإشاعة استعمالها والترويج لها والإصرار على ذلك واستغلال كل المنابر أيا كانت حدود تأثيرها، فعبر آلاف الأحاديث الإذاعية وآلاف المقابلات والمقالات وعشرات الكتب استطاع أبو القاسم أن يكون في طليعة الذين حافظوا على جذوة الانتماء الحضاري المتمسك بالهوية اللغوية الوطنية والذاتية التونسية يقول: "عداوة بورقيبة للعروبة والعرب لا أقبلها وندّدت بها، ولعلّي الوحيد في الإذاعة أيام كنت منتجا بها أستخدم كلمة العروبة والعرب والعربي"(11)، وللحقيقة فإن الأستاذ في الفترة التي عرفته فيها ومن خلال كتاباته لم يكن يمارس المعارضة العلنية للنظام ولا التنديد به أو بسياساته فهو إلى المسالمة أقرب حيث كان يبتعد عن القضايا الآنية الحارقة فاهتماماته بالأساس ثقافية وفكرية وحضارية، ورغم تمسك المحتفى به بالعروبة وانخراطه في الدفاع عنها إلا أنه لم يساند صالح بن يوسف في خلافه مع بورقيبة حيث عمل ابن يوسف على استغلال عواطف الزيتونيين لحشد تأييدهم له من خلال إشاعته خطاب العروبة والإسلام واستمالتهم إلى صفّه خصوصا بعد أن تبناه النظام الناصري في هذه المعركة وقف أبو القاسم في صفّ بورقيبة يقول: "كنت أتمعقل مواقف بورقيبة لأن فيها معقولية لكن مواقف ابن يوسف فيها واجب يستجيب للضمير الوطني قبل كل شيء.."(12) الأمر الذي يعني أنه يؤيد بورقيبة من الناحية السياسية التي تُبنى على قاعدة المصلحة ولكن دعوة ابن يوسف إلى العروبة ليست كذلك ولو كانت تلامس المشاعر والعواطف.
وفي تقديره أن الشعوب التي تريد أن تبني شخصيتها الوطنية لا تبنيها على الاعتبارات المتحوّلة والزائلة كالتحالفات والتوافقات بل تبنيها على الثوابت ومن الثوابت اللغة الوطنية(13) لهذا السبب بالذات تتنزل الأهمية التاريخية لصدور سلسلة (كتاب البعث) في إطار التأكيد على الهوية الوطنية.
ومن الجدير بالملاحظة أن العدد الأوّل من كتاب البعث صدر في ظرف تستعدّ فيه البلاد لنيل سيادتها حاملا عنوانا هو في الأصل شعار الخطوة الأولى لبناء دولة الاستقلال فـ"نداء للعمل" وإن كان عنوان كتاب إلا أنه كذلك يؤشر على طبيعة المهام الواجب إنجازها في مرحلة تاريخية يستعدّ فيها الشعب للأخذ بيد مقاديره بنفسه وهو ما دأب النظام الجمهوري الجديد على تسميته بالجهاد الأكبر.
ولا يفوتني في هذا الإطار الإلماع ولو بإيجاز إلى ما يفصل بين البعث الحزب والسياسة والبعث الكتاب المضمون، فرغم أن للأستاذ كرو سابقة الانخراط التنظيمي والتأسيسي في حزب البعث كما ذكر هو المرات المتعددة إلا أن السلسلة التي أسّسها وحملت نفس الاسم لم تكن ملحقة ولا مروّجة لمفاهيم الحزب وأطروحاته الإيديولوجية، والناظر في قائمة (كتاب البعث) ومنشوراته التي بلغ عددها 37 عنوانا يلحظ بجلاء أنها تناولت فنونا ومعارف شتى (تاريخ ونقد أدبي واقتصاد وقانون...) بأقلام كتّاب من مختلف المشارب الفكرية والانتماءات السياسية كالطاهر صفر وعثمان الكعاك ومنير شما ومحجوب بن ميلاد ومحمد المزالي وأحمد رضا حوحو وسليمان مصطفى زبيس ومحمد المرزوقي وغيرهم تناولوا فيها كبرى المشاكل المطروحة إلى الآن على مجتمعاتنا كالمرأة والديموقراطية والعلاقة مع الآخر والانتقال إلى المرحلة الصناعية وضبط المفاهيم وتحديدها منعا لانتشار البلبلة وأوهام السوق... بهدف بناء مغرب عربي لحمته الثقافة وسداه التنوع.
لكلّ ما ذكر نرجح أن (كتاب البعث) يستمد تسميته من الجذر الثلاثي (ب. ع. ث) الذي يعني من بين ما يعني الإيقاظ والحمل على الفعل وحلّ العقال والهبّة والاندفاع والنهوض والتواصي وهي دلالات تجد لها ما يسوّغها في السلسلة ومنشوراتها، ولعلّ دراسة أكاديمية حول هذه السلسلة وظروف نشأتها ومضامينها وكتابها... كفيلة بتمكيننا من رؤية أدقّ وأشمل لتاريخنا الثقافي.
لم يتوقّف نشاط الأستاذ كرو في ميدان النشر باللغة العربية عند حدود السلسلة المشار إليها بل أصدر سنة 1963 مجلة (الثقافة) التي لم تكتب لها الحياة بعد عددها المزدوج الرابع والخامس، لأن صاحب مجلة الفكر بما كان يمتلك من سلطة سياسية وقرب من أصحاب القرار حارب كلّ المجلات الثقافية واستعمل كلّ الحيل والألاعيب للقضاء عليها بحيث لم يُبْق في البلاد سوى مجلته هو فقط، ومن النوادر أن الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم حاول إصدار مجلة ثقافية إلا أنه لم يُمَكَّن من ذلك بعد توزيع العدد الصفر منها.
ذاك هو الوضع الذي كانت عليه الحياة الثقافية في بلادنا وتلك هي الظروف التي كان الأستاذ كرو يتعامل معها للمحافظة على اللغة العربية التي هي قاطرة الهوية الوطنية والذاتية التونسية وذلك بإشاعة الانتماء إلى الوطن وإدامة ذكر رجاله، فالوطن ليس قطعة تراب بل هو جماعة بشرية بالأساس ترتبط فيما بينها بوشائج نسجها التاريخ وصاغها الرجال لذا فالروح الوطنية ليست عَلَما يرفع ولا نشيدا يغنى ولا قصيدا يُتلى بل هي الارتباط الوثيق بصانعي تاريخه والحاملين عبء النهوض به والمنافحين عن ذاتيته والمدافعين عن مصالحه، هذا الارتباط وسمِّه إن شئت الروح الوطنية لا يتأتى إلا بواسطة الإشادة بذكر كل من قدّم عملا صالحا للوطن وكل من ساهم في إحياء روح الانتماء والاعتزاز بأهله، ضمن هذه الرؤية لم يتوقف الأستاذ عن التعريف بالمغمورين من أبناء الوطن وإحياء ذكرهم بنشر المقالات والكتب عنهم فتتالت الدراسات لتتناول أهم رموز النهضة الفكرية والاجتماعية في تونس كخير الدين باشا وعلي الورداني والخضر حسين وعبد الرزاق كرباكة وسليمان الحرائري وابن منظور والتيفاشي والحبيب ثامر... وغيرهم، وبالطبع لم يغفل مسقط رأسه قفصة وأعلامها فخصّها وخصّهم بدراسات تندّ عن الحصر.
ويهمّنا في هذا الإطار الإشارة إلى نقطتين:
أ) عناية الأستاذ كرو بأبي القاسم الشابي حيث نشر عنه موسوعة في ستة مجلدات هي حصيلة عمر كامل من الجمع والبحث والجهد المتواصل الذي لم يترك شاردة ولا واردة عن الشاعر إلا أشار إليها وأوردها، وللحقيقة فإن هذه الموسوعة وإن كان مركزها أبو القاسم الشابي فإنها لا تخصّه وحده بل هي موسوعة عن الحياة الفكرية والثقافية في تونس في النصف الأوّل من القرن العشرين لا غنى عنها لأيّ باحث أو دارس.
ب) الاهتمام بروّاد النهضة الفكرية في المشرق العربي وتأثيرهم في المدرسة التنويرية التونسية، ولعلّ دراسة الأستاذ عن نازلي هانم تتنزل ضمن هذا التصوّر فقد كانت هذه الأميرة قطب الرّحى في صالونها في مصر حيث نبتت أهمّ الأفكار التي ستلعب دورا أساسيا في الحياة السياسية والثقافية وحملها روّاد من جلاس صالونها كقاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول... وهي كذلك في تونس لمّا قدمت وتزوّجت خليل بوحاجب ابن المصلح الكبير سالم بوحاجب أحد أعضاد خير الدين باشا فقد جمعت الأميرة المصرية في صالونها في تونس البشير صفر وعبد الجليل الزاوش وعلي بوشوشة وعبد العزيز الثعالبي ومحمّد الطاهر ابن عاشور... أي أنها أثرت في المجموعة التي عنها صدرت جرائد كالحاضرة والتونسي... وغيرهما وأسّست حركة الشباب التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي وروّجت لإصلاح التعليم الزيتوني وهو في بحثه هذا يثبت لكلّ ذي عينين أن فصل تونس عن إطارها الحضاري واللغوي والتاريخي ليس إلا حرثا في الماء وعملا مآله إلى زوال طال الزمن أو قصر لأن "العروبة ليست هدفا استراتيجيا ولكنها موجودة في الشعور وفي الفكر"(14).
عرفت سي بلقاسم كما كنت أخاطبه في آخر عشرين سنة من وفاته ولم أتوقف عن زيارته إلى آخر أيامه وطوال هذه الفترة كان المرشد والمعين لي لمّا بدأت في التعرف على تراثنا الثقافي الموزّع في الجرائد وفي غيرها فلم يكن يبخل بالمعلومة أو بالكتاب بل كان يتبرع بهما بإفراط ما رأيت له نظيرا، قال الشيخ الطاهر القصار في وصف حال من لا ينتظر جزاء ولا شكورا كسي بلقاسم:
والمرء ترفع ذكرَه آثارُه***فيعيش بين مُمجّدٍ ومعظمِ
-----------
الهوامش
1) "تاريخ المجتمع المحلي وثقافته، الجنوب التونسي نموذجا" ندوة تحت إشراف سالم الأبيض، منشورات اللجنة الثقافية المحلية بجرجيس 2003، ص154.
2) "حصاد العمر" أبو القاسم محمد كرو، نشر دار المغرب العربي ومؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، تونس 1998، ط1، المجلد 6 الجزء2 ص137 و138.
3) المصدر السابق ص138.
4) المصدر السابق ص139 و140.
5) "أبعاد الأب جان فونتان، مجموعة ردود عليه" أبو القاسم محمد كرو، دار المغرب العربي تونس 2002، ط1 ص35.
6) "مستدرك الفهرس التاريخي للمؤلفات التونسية" أبو القاسم محمد كرو، نشر بيت الحكمة تونس 1988، ص135 و136.
7) "الزيتونيون ودورهم في الحركة الوطنية التونسية 1904/1945" الدكتور علي الزيدي، نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية ومكتبة علاء الدين، صفاقس 2007، ط1 ص116.
8) "ذكريات ووثائق" أبو القاسم محمد كرو، دار المغرب العربي تونس 2010، ط1 ص34، عن تنحية الشيخ الفاضل ابن عاشور من الديوان السياسي جاء في مذكرات سليمان بن سليمان، دار سراس للنشر، تونس 1989، ص230 " بأنّ الودّ الذي كان يكنه ابن يوسف للشيخ الفاضل تحوّل إلى كراهية وعداوة خصوصا بعد موكب إحياء الذكرى الثانية لتأسيس الجامعة العربية حيث قوبل الشيخ بحفاوة منقطعة النظير في حين مرّ دخول ابن يوسف غير ملحوظ وهو ما أثار حفيظته".
9) عن جرائم المسعدي في حق الزيتونيين انظر كتابنا "إنصافا للزيتونة والزيتونيين" نشر دار نقوش عربية تونس 2011، خصوصا الفصل الأوّل.
10) "ذكريات وخواطر" لعلي المعاوي، منشورات المعهد الأعلى للحركة الوطنية تونس 2007، ص695.
11) "حصاد العمر م6، ج2، ص184.
12) المصدر السابق م6، ج2، ص137.
13) المصدر السابق م6، ج2، ص159.
14) "حصاد العمر" م6، ج2، ص106.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: