أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3858
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
شنّ السيد هشام قريسة رئيس جامعة الزيتونة هجوما على فضيلة الشيخ عثمان بطيخ بعد البيان الذي أصدره تعليقا على مقترح رئيس الجمهورية بالتسوية في الميراث بين الذكر والأنثى وإلغاء المنشور 73 المتعلق بمنع زواج المسلمة من غير المسلم وذلك في عدد البارحة 12 سبتمبر 2017 من جريدة الصريح تحت عنوان "هل الإفتاء خطة علمية أو سياسية؟"، انقسم المقال إلى قسمين:
القسم الأوّل
تناول فيه طبيعة العلاقة بين المفتي والسلطة ليخلص في النهاية إلى القول: "وانضاف إلى كون الإفتاء أصبح وظيفة مسيّسة، ما تناثر على جانبيه من العلاوات المالية و(الرشوقات) المرغبة للقيام بهذه الوظيفة التي أصبحت مدنّسة" هكذا بجرّة قلم واحدة أصبح شيوخنا الذين توَلوا هذا المنصب على جلالة قدرهم مدنّسون و"يرشق" عليهم صاحب السلطة، هذا الحكم مُجانب للصواب تماما لأن الذي يتأمل سيرة الشيخ عثمان بطيخ ومن سبقه بدءا بالشيخ جعيط الابن وصولا إلى الأب وما بينهما رحمهم الله جميعا وحفظ الشيخ المختار السلامي وأمدّ في أنفاسه يلحظ جيّدا أنهم جميعهم لم يخالفوا الشرع فيما نشروا من فتاوى وحتى من بلاغات صحفية وهي كلها متوفرة والعودة إليها متيسّرة لمن رغب في ذلك، كما أنه لم يبلغنا من الثقات الذين عاشرناهم أن السلطة أمرتهم بإباحة ما حرّم الشرع ولم تحشرهم في خصوماتها السياسية ولم تحجر عليهم فيما ينشرون أو يتخذون من مواقف، فالشيخ محمد العزيز جعيط أوّل مفت للديار التونسية لم يوافق الزعيم بورقيبة وهو في أوج قوّته فيما ذهب إليه من رأي حول الإفطار في رمضان إلا أنه لم ينله من ذلك أي عقاب إلا إذا اعتبرنا إحالته على التقاعد عقابا، أما الشيخ السلامي المفتي الخامس فقد نشر سنة 1988 في مجلة الهداية الرسمية التي تصدر عن الوزارة الأولى مقالا حرّم فيه التبني قال: "وبهذا سُدّ الباب على التبني ممارسة كما قطعت ذيول تلكم الممارسة بردّ الأمور إلى نصابها وقطع الظلم الذي ألفته النفوس حتى استساغته ومنع منعا باتا وحرّم على المتبني وعلى غيره أن يدعو المتبنى بنسب متبنيه"(1) وهو ما يتناقض مع القوانين الجاري بها العمل وممّا يمكن أن يؤاخَذَ عليه لأنه يصبّ في خانة خصوم النظام ويشكك في منجزات دولة الاستقلال ويحرّض على تجاوز القانون إلا أن السلطة لم تجد فيما نشر الشيخ موجبا حتى لمخاطبته في الأمر، والذي نخلص إليه أن المتأمل في سيرة شيوخنا يلحظ أنهم وإن لم يمارسوا المعارضة السياسية العلنية للسلطة كما يشتهي السيد قريسة فإنهم كانوا أوفياء لمهمّتهم ولدينهم ولم يتخلفوا عن قول كلمة الحق في المواقع التي تستلزم ذلك ومرورهم بمنصب الإفتاء يشهد لهم بذلك إذ لم يؤثر عن أي واحد منهم موقف مالأ فيه السلطة بما يخالف الشرع أو تقرّب إليها بما يُعَدُّ من خوارم المروءة مثلما صنع ذاك الذي حُسب على شيوخ الزيتونة ولم يجد حرجا بالترضية على رئيس حزب بقوله عند ذكر اسمه رضي الله عنه وهو ما استنكره الناس جميعا واستهجنوه.
أما الشيخ عثمان بطيخ فإن الخطأ الوحيد الذي ارتكبه في نظر خصومه هو أنه لم يعلن ولاءه لمن جاء بعد أحداث 14 جانفي بل مارس مهامّه وفق ما يقتضي الحياد السياسي والخلق القويم.
منذ أن عُيِّن نور الدين بن حسن الخادمي وزيرا للشؤون الدينية ورغم أنه لا علاقة له بالإفتاء إلا أنه بادر بعرض مقترح لإنشاء مجالس فقهية جهوية بحجة أن الإفتاء الفردي لم يعد له موجب لأن الإفتاء في الشمال هو غيره في الجنوب وفي البرّ هو غيره في البحر وفي أعالي الجبال هو غيره في الحُفر والهدف ممّا ذكر خلق مجالس وهمية من شأنها أن تقضي على مركزية الفتوى بتوزيعها وتفتيتها على الجهات من ناحية ومن ناحية ثانية التخلص من المفتي الذي عيّنه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لأنه فيما ظهر لهم لن يكون طيِّعا ومنفِّذا لرغبات الحكام الجدد(2)، هذه الحملة التي استهدفت تنحية الشيخ المفتي شارك فيها العديد من بينهم السيد قريسة يقول في حديث له أيامها: "دور المفتي كان مجرّد دور تبريري لِما تقوم به السلطة.... ولذلك من يقبل المناصب وخصوصا من له صلة بالشرع هم أناس ليس لديهم برنامج أساسي في التغيير هو قبول للامتيازات مقابل التخلي عن أي دور في الأمة"(3) وبطبيعة الحال لا يقصد بالتغيير تغيير السابع من نوفمبر بل التغيير الذي جاء بالثالوث للحكم (النهضة والمؤتمر والتكتل) لهذا السبب بالذات لا يمكن عدّ الهجائية القريسية الحالية إلا مواصلة لمعركة تنحية الشيخ عثمان بطيخ في فصلها الثاني.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا كلّ هذا العداء والعدوانية تجاه الشيخ عثمان بطيخ؟ لو أجّلنا الحديث عن التسوية في الإرث والفصل 73 نجد أن الشيخ لم يتخذ أثناء توليه هذا المنصب من المواقف إلا ما يتلاءم مع المصلحة الوطنية وفي اتساق كامل مع الشرع ولم يستجب لرغبات الثالوث الحاكم بل رفضها واعترض على بعضها وهو ما صرّح به في السنة الماضية قال: "وأنتم تعلمون أن ضغطا مورس علينا بعد الثورة لمّا صدعنا برأينا حول القتال في سوريا الشقيقة وجهاد النكاح وبينا رأي الشرع وما هي ردّة الفعل التي كانت في تلك الفترة"(4) وتفصيل ذلك فيما يلي:
1) في مسألة تسفير الشباب إلى المحرقة السورية عبّر الشيخ صراحة عن رفضه له ورفضه لجهاد النكاح وضرورة التصدي لهما من طرف الحكومة(5) وذلك في الفترة التي كانت فيها الحملة على سوريا مستعرة وإرسال الشباب هناك بالآلاف.
2) في السنة الماضية دعا رئيس حزب حركة النهضة إلى قبول توبة المجرمين الإرهابيين القادمين من سوريا إلا أن فضيلة الشيخ المفتي صرّح للصحافة بأن هذه التوبة "تقية وخداع"(6).
3) لمّا تولى الشيخ عثمان بطيخ وزارة الشؤون الدينية عزل الأئمة الذين عُرفوا بدعوتهم للتطرف والإرهاب واستغلالهم للمساجد ومنابرها للترويج لأفكار يجرّمها القانون وقد طالت هذه التنحيات البعض من رموزهم كالخادمي والجوادي والبشير بن حسن إلا أن حزب حركة النهضة ونقابة الأئمة التابعة له أقاما الدنيا ولم يقعداها في الجرائد والتلافيز والمذاييع وقد وصل الأمر إلى حدود منع المصلين من أداء صلاة الجمعة في جامع سيدي اللخمي لمدّة شهر كامل في سابقة لم تعرفها البلاد الإسلامية جميعها طوال تاريخها، ونتيجة للضغط السياسي الذي مورس عقب تنحية أئمة التشدد تمّ عزل فضيلة الشيخ وإعادته إلى الإفتاء.
والذي تهمنا الإشارة إليه أن الشيخ بقي ملتزما بالنهج الذي سار عليه أسلافه فلم يخاصم السلطة كما أنه لم يبرّر لها سياساتها بل كان فهمه للشرع والتزامه بأحكامه ومقاصده ظاهرا وجليّا في كل ما نشر بجانب حسّ وطني مُرهف تشعر به في موقفه من تسفير شبابنا إلى المحرقة السوربة أو جهاد النكاح أو ادعاء توبة المجرمين، لهذه الأسباب خاصمه الجماعة وبقوا يتصيّدون له علهم يعثرون على زلّة يتخذونها حجّة للتخلص منه، أما حمدة سعيّد الذي عيّنه الثالوث بعده فيعلم الجميع أنه كان عضوا في لجنة تنسيق التجمع وعضوا في برلمان ابن علي ولم يتجاوز من الناحية العلمية مستوى واعظ معتمدية كما ورد ذلك في جريدة الحرية(7) ورغم هوانه سمِّي مفتيا لا لشيء إلا لأنه قبل أن يكون صوت الثالوث الحاكم فشتم بورقيبة وافتعل الخصومات مع قوى المجتمع المدني إبان كتابة دستور 2014 ومن نوادره التي يذكرها له الجميع قوله: "أنا لست ممثلا لرئيس الدولة أو الحكومة أو الوالي أو أي طرف أنا نائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم"(8) وهو كلام لا يصحّ أن يصدر عمّن ائتمنته الدولة وجعلته مستشارا لها، وقد وصل به الأمر إلى حدود التصريح بأنه: "ليست لديه الإمكانيات لمقاومة الإرهاب"(9) وكأني به يقول للإرهابيين افعلوا ما شئتم ليست لدينا الإمكانيات لكفّ إجرامكم، ومن خلال متابعتي الدقيقة للشأن الديني لا أذكر لهذا المفتي سوى المواقف السياسية المساندة للثالوث أو برنامج تلفزي كرّر فيه ما تعوّدنا سماعه من متواضعي البضاعة العلمية من صغار الوعّاظ أما الفتاوى التي هي وظيفته الأصلية فلا وجود لها ولم يكن لسعيّد من دور سوى تحرير أجوبة عن أسئلة المواطنين التي ينشر بعضها في مجلة الهداية.
القسم الثاني
القسم الثاني من المقال خصّصه السيد قريسة لمسألتي التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم كما يلي:
1) اتهم صاحب المقال الشيخ المفتي بأنه اجتزأ من آية قسما وترك الباقي قال: "إن أسوأ ما في خطابك طريقة استدلالك بكتاب الله لهدم أحكام الله أو بعبارة أخرى ضربك الكتاب بعضه ببعض واستدلالك بأوّل الآية وإعراضك عن آخرها إنما هو لإرضاء المخلوق وإسخاط الخالق" وفي ذلك تجنٍّ واتهام لا سند له لأن الشيخ المفتي في البيان الذي أصدره استشهد بجزء من الآية 228 من سورة البقرة: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" للدلالة على أن العدل مطلب أساسي يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره: "وأوّل إعلان هذا العدل بين الزوجين في الحقوق كان بهاته الآية العظيمة فكانت هذه الآية من أوّل ما أنزل في الإسلام"(10) الأمر الذي يعني أن استشهاد الشيخ المفتي في محله ولم يكن اجتزاء يفسد المعنى أو يضرب الكتاب بعضه ببعض وهو المستفاد من قول الشيخ الطاهر ابن عاشور أما الجزء الآخر من الآية الذي لم يذكره الشيخ المفتي واعتمده السيد قريسة لإثبات فساد الاستدلال فقوله تعالى: "وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ" وبيِّنٌ أن الأفضلية في الدرجة في هذه الآية ليست عامة وفي كل الأحوال والأوقات بل هي محدودة ومنحصرة في العلاقة بين الزوجين لأنها لو كانت عامة لاستعمل تعالى مصطلح الذكر والأنثى ولصحّ عندها سحبها على أنصبة الميراث كما أشار إلى ذلك السيد قريسة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن استعمال المولى عزّ وجلّ لمصطلح الرجل في هذه الآية لا يتناول الذكور جميعهم بل يتناول صنفا محدّدا منهم وهم الأزواج يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: "فالمراد بالرجال في قوله وللرجال الأزواج... والرجل إذا أضيف إلى المرأة فقيل رجل فلانة كان بمعنى الزوج"(11) مضيفا إلى ذلك التفصيل التالي: "وقوله وللرجال عليهن درجة إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم.... وهذه الدرجة هي ما فضّل به الأزواج على زوجاتهم من الإذن بتعدّد الزوجة للرجل.... ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة والمراجعة في العدّة كذلك.... وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شؤون المنزل...."(12) والذي نخلص إليه من كل ما ذكر أن القسم الذي استشهد به الشيخ المفتي لا يعدّ اجتزاء من الآية يفسد معناها وفق ما ذهب إلى ذلك السيد قريسة كما بينا ذلك استنادا إلى مقتضيات الفهم السليم وإلى ما كتب صاحب صاحب التحرير والتنوير(13).
2) في تناوله لمسالة زواج المسلمة من غير المسلم كتب السيد قريسة ما يلي: "إنه لم يكن في كتاب الله شيء أشدّ منعا وأوقع أثرا وأغلظ حرمة من تحريم زواج المسلمة بغير المسلم كتابيا كان أو مشركا" ويواصل حديثه عن هذا النوع من الزواج باعتباره عارا.... في تسيّب لفظي ملؤه المترادفات، والذي يعلمه دارسو المسألة أن القرآن لم يحرّم هذا النوع من الزواج بل اتفق الفقهاء على أن تحريمه تم بإجماع الأمة قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نصّ عليه ومَنَعَه جميع المسلمين إما استنادا منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر"(14) والمتأمل في أقوال الفقهاء المعاصرين التي تناولت مسألة التحريم هذه يلحظ أنها جميعها تستند إلى "إجماع الأمة"(15) وبيّن أن هذا النوع من الإجماع لا يمكن العمل بمقتضاه لأن شروطه غير متوفرة فهو من النوع الذي يسميه الأصولي عبد الوهاب خلاف: "تشريع الجماعة لا الفرد"(16) والجماعة لا يؤمن جانبها لأنها خليط من الرغبات المنفلتة من أي عقال، وحتى يثبت السيد قريسة ما ذهب إليه استشهد بآيتين:
الآية الأولى من سورة البقرة: "وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا" وقد نزلت هذه الآية في المدينة أيام الاختلاط بين المسلمين والمشركين فيها يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدّد آلهة مع الله سبحانه وتعالى.... ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب .."(17) الأمر الذي يعني أن الحكم في هذه الآية لا يشمل سوى المشركين بحيث يخرج أهل الكتاب من مسيحيين ويهود من هذا المنع ورغم ذلك فإن هذه الآية لم تطبّق في حياة الرسول(ص) حتى مع المشركين، فزينب ابنته(ص) كانت متزوّجة من أبي العاص الذي بقي على شركه وحارب المسلمين في بدر وأُسر وافتدته زينب ورغم كل ذلك لم يفرّق الرسول بينهما(18) وهو الأمر نفسه الذي حدث مع مشرك آخر لم يفرّق الرسول بينه وبين زوجته المسلمة، روى الإمام مالك أن: "صفوان بن أمية خرج مع الرسول(ص) وهو كافر فشهد حُنينا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة ولم يفرّق رسول الله(ص) بينه وبين امرأته..."(19) والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هل يصحّ العمل برأي الجماعة المخالف لسنة الرسول وسيرته(ص)؟ وهل يجوز افتعال حكم لا أساس له في الشرع ولا سند بحجة تواطئ الجماعة عليه؟.
الآية الثانية التي استشهد يها السيد قريسة لتبرير قوله بتحريم زواج المسلمة من غير المسلم فهي العاشرة من سورة الممتحنة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، فقد هاجرت زوجة عمرو بن العاص وغيرها من النسوة إلى المدينة ولما طالب الأزواج بإعادتهن نزلت الآية فأبى رسول الله(ص) ردّهن وزوجهن من بعض الصحابة(20)، فالحكم في هذه الآية ليس عاما بل هو حكم خاص بالمهاجرات لأن العبرة بخصوص السبب وليس بعموم اللفظ في هذه الحالة وما يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه قوله عليه الصلاة والسلام "لا هجرة بعد الفتح..." فالهجرة التي انبنى عليها حكم التفريق المشار إليه هجرة خاصة من مكة إلى المدينة ومحدودة زمنا، كانت مطلوبة أيامها ولكنها انقطعت بعد الفتح ونُسخت، ومن ثم فإن الاستدلال بها وتعميم الحكم فيها إلى غيرها ينحرف بها إلى غير ما قصد المشرّع، هذا النوع من التعامل مع الآيات عابه السيد قريسة على فضيلة الشيخ المفتي ظلما وافتراء ولكنه أتاه في أبشع صوره.
ويصل التعسّف مع القرآن منتهاه لمّا يخلط السيد قريسة بين الزنا وزواج المسلمة من غير المسلم ويسحب حكم ذاك على هذا معتبرا أن هذا النوع من الزواج ليس إلا زنا يقول: "بل إنه سبحانه وتعالى أنكر التناسب بين الزنا والإيمان ومنع الاجتماع بينهما في منظومة عائلية واحدة... فإذا كان الدخول بالزنا في منظومة الزواج الشرعي مفسد لها فإن الدخول بالشرك أو الكفر في هذه المنظومة مؤذن بما هو أشد منها فسادا وأشد امتهانا وذلة وصغارا...." هذا الكلام يحمل ضمنا فِرية اتهام السيدة زينب ابنة الرسول الكريم(ص) بالزنا وجرأة على مقام النبوة ممّن لم يعرفوا أقدار أنفسهم فلو كان في الموضوع ما ذكر السيد قريسة لفرّق صلى الله عليه وسلم بين ابنته وزوجها المشرك واضعا بذلك أساسا تشريعيا ولكن الله تعالى أراد خيرا بأمته على غير ما يرغب دعاة التفريق بين الأزواج بحجة استعلاء المسلمة بالإيمان على زوجها المخالف لها في الدين في تشدّد ويبس يستنكره الشرع قال ابن القيم: " فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه"(21).
---------
الهوامش
1) مجلة الهداية مقال "التبني" السنة 14 العدد 2، بتاريخ أوت وسبتمبر وأكتوبر 1988، ص17.
2) حول اقتراح الخادمي وردّ الشيخ المفتي انظر جرائد التونسية والشروق والمغرب بتاريخ 27 جانفي 2012 والشروق في 29 منه.
3) جريدة الضمير بتاريخ 2 فيفري 2012.
4) جريدة الشارع المغاربي بتاريخ 28 مارس 2016.
5) جريدة الصريح 28 سبتمبر 2013.
6) جريدة الصباح 9 ديسمبر 2016.
7) الملحق الديني بتاريخ 8 سبتمبر 1989
8) جريدة المصور بتاريخ 2 جوان 2014 وجريدة المغرب بتاريخ 3 جوان 2014.
9) جريدة الشروق 1 أفريل 2015.
10) تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثاني الكتاب الثاني ص398.
11) نفسه ص396.
12) نفسه ص401 و402.
13) نشرت ثلاث مقالات عن مسألة التسوية في الميراث بين الذكر والأنثى وزواج المسلمة من غير المسلم في جريدة الصريح أيام 15 و22 و26 أوت 2017.
14) تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثاني، الكتاب الثاني، ص360.
15) "أصول الفقه"، محمد أبو زهرة، دار التبليغ للنشر والتوزيع، تركيا، دون تاريخ، ص201، و"الفتاوى" محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة 1981، ط16، ص276.
16) "علم أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف، دار القلم الكويت، ط10 ص50.
17) تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثاني، الكتاب الثاني، ص360.
18) "السيرة النبوية لابن هشام" حققها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، نشر دار القلم بيروت، دون تاريخ، ج2 ص307 و308.
19) "الموطأ"، صحّحه ورقّمه وخرّج أحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1985، ج2 ص544.
20) تفسير التحرير والتنوير، ج28 ص154 و155، انظر كذلك أسباب النزول للواحدي ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي.
21) "أعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم الجوزية، طبعة دار ابن الجوزي، السعودية 1423، ج4 ص334.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: