أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5898
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نشرت مجلة 30 دقيقة في العدد 199 المؤرّخ في 30 مارس 2017 تحت عنوان لافت للنظر يحمل اتهاما لا يجوز أن يوصف به الإنسان إلا بوجود أدلة لا تقبل الدحض أو النقض كما يلي "الحزب الدستوري يتهم الشيخين الطاهر والفاضل ابن عاشور بالخيانة" استنادا إلى وثيقة تاريخية عنوانها: "المؤامرة التي نسجها الطاهر ابن عاشور وابنه الفاضل ضد الشعب التونسي أو تمثيل قلاوي مراكش بتونس" وقد قدم لذلك محمد ضيف الله باستهلال حمل هو الآخر موقفا سياسيا يتمثل في اتهام الزعيم بورقيبة بأنه استعان بالأب والابن الموصومين بالخيانة بعد الاستقلال لتوطيد حكمه.
في بيانهم الأخير الصادر يوم 9 أفريل 2017 اعترف 60 مؤرخا بأنه "من باب الأمانة فإنه لم تصدر خلال الستين سنة الماضية أوامر أو توجيهات بكتابة التاريخ أو بتدريسه بالجامعة التونسية في هذا الاتجاه أو ذاك أو بالتركيز على هذه الشخصية أو تلك أو على فترة دون أخرى" غير أنه بعد أحداث جانفي 2011 اتجه بعض الباحثين والدارسين ربما تطوُّعا منهم إلى تقديم الخدمات للوضع الجديد من خلال استخدام بعض الأحداث التاريخية في الخصومات السياسية الآنية من ذلك إحياء الخلاف البورقيبي اليوسفي والنفخ فيه لتصفية خصوم سياسيين بعينهم وقد وصل الأمر بالبعض إلى حدود التجرئ على النصوص بتزويرها ونشرها على غير حقيقتها فضلا عن اتجاه البعض الآخر إلى الانحراف بها عن معانيها التي تدلّ عليها إلى غيرها من المعاني المغايرة لإثبات موقف سياسي لا وجود له إلا في رأس من افتعله، فيما يلي نتناول الوثيقة والتقديم بالدرس لاستخلاص ما يجب.
التجنيس
يقول ضيف الله في حديثه عن العلاقة بين الحزب الدستوري وبعض شيوخ الزيتونة بأن بعضهم: "تحوم حولهم بعض الشبهات ومن ضمنهم شيخ الجامع محمد الطاهر ابن عاشور في علاقة بفتوى التجنيس"(1) هذه التهمة روّجتها جهات متعدّدة منذ ثلاثينات القرن الماضي وبقي الناس يتناقلونها إلى يومنا هذا دون أخذ بعين الاعتبار ما اكتشف من وثائق جديدة من شأنها أن تصحّح ما تواتر وممّا ساعد على ترويجها الحسابات السياسية لدى بعض الأطراف من بينها مساندة الشيخ للجنة صوت الطالب الزيتوني التي قاومت حكومة شارك فيها الحزب الحرّ الدستوري وهي حكومة محمد شنيق التفاوضية ثم الخلاف البورقيبي اليوسفي الذي انخرط فيه قسم من الزيتونيين في صف ابن يوسف عداء منهم لإصلاحات دولة الاستقلال كتوحيد التعليم والقضاء ومجلة الأحوال الشخصية، هذا الإصرار على اتهام الشيخ بهذه التهمة الشنيعة لم يتوقف وتتم العودة إليه كلما أثيرت مسألة العروبة والإسلام أو الزيتونة والصادقية أو بورقيبة وابن يوسف كما هو الشأن حاليا وها أن ضيف الله يعود إليها رغم وجود ما يفيد نفيها تماما، ففي تقرير رسمي أرسله المقيم العام مونصرون إلى وزير خارجية فرنسا بتاريخ 29 أفريل 1933 روى ما حدث في الاجتماع الذي عقده المجلس الشرعي يومي 3 و4 أفريل 1933 لإصدار فتوى تتعلق بموقف الشرع من دفن المتجنس في مقابر المسلمين بعد توبته يقول عن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بعد الحديث عن الحنفي الشيخ محمد بن يوسف: "وأمّا أعضاء الدائرة المالكيّة فإنهم لم يجيبوا بنفس ذلك التأكيد ذلك أنهم أضافوا إلى الشهادتين شرطا آخر فأعلنوا أنه يتعين على المتجنِّس عند حضوره لدى القاضي لا فقط النطق بالشهادتين بل أيضا التصريح في نفس الوقت بأنه يتخلى عن الجنسية التي اعتنقها.... وزاد أحد أعضاء المجلس الشرعي من المالكيّين (يقصد الشيخ محمد العزيز جعيط) على ذلك قوله ينبغي أن تتمثل توبة المتجنس في الإقلاع عن الامتيازات التي تحصّل عليها بموجب جنسيته الجديدة...... وبناء على ذلك فإنه يتعذر علي قطعا استغلال الجوابين الذين هما الآن بين أيدينا فلو كانا مماثلين للفتوى الحنفية لكنت توليت نشرهما ولكن نصّ الفتوى المالكية يجعل من المستحيل الإقدام على نشرهما..."(2) هكذا يثبت بما لا يدع مجالا للريبة أو الشك أن المجلس الشرعي اعتبر المتجنس مرتدا تنسحب عليه أحكام الردّة جميعها وهو ما يستوجب في حال التوبة والرجوع عنها النطق بالشهادتين أمام القاضي وقد أضاف المجلس الشرعي المالكي شرطين آخرين إضافة إلى النطق بالشهادتين وهما:
1) التخلي عن الجنسية التي اعتنقها.
2) ردّ كل الامتيازات التي تحصّل عليها بموجب الجنسية الجديدة، لمّا قدمت الفتوى للشيخ محمد العزيز جعيط للإمضاء كتب بهامشها : "إني الممضي أسفله يرى أن هذه التوبة لا يصحّ قبولها إلا إذا تأيّدت بما يحقّق صدقها وذلك بتصريح من تجنّس أنه ندم على التلبّس بهذه الجنسية وتخلى عنها ونبذها وسعى في التفصّي عنها بالطرق الممكنة وتخلى عن الفوائد المنجرّة عنها" وأمضى تحت ما كتب بالطرّة(3).
هكذا ظهر الحق بعد نصف قرن من الاتهام الباطل لشيخ الشيوخ الذي وجد نفسه بين حجري رحى السياسة والأغراض الشخصية.
واللافت للنظر أن السيد ضيف الله بعد إطلاقه هذه التهمة سارع إلى إضافة اتهام منقول مفاده تآمر الأب والابن مع الاستعمار ضد الشعب التونسي ومن ثمّ إلصاق تهمة الخيانة بهما، ولكنه في آخر تقديمه ينفي قوله السابق: "ولا أدلّ اليوم من عدم صحّة هذه الدعوة من استعانة بورقيبة بالأب والابن معا إذ بوّأهما بعد الاستقلال مكانة هامة في المؤسّستين الدينية والتعليمية"(4) وهو ما يرسّخ في ذهن القارئ أن الأب والابن مقدوح في وطنيتهما كما يثير الشكوك حول صدق الزعيم في استعانته في بناء الدولة بمثل هذين الملوَّثين في عرضهما وفي الحالتين وصلت الرسالة السياسية القادحة في الطرفين.
الوثيقة بين الأصل والمنشور
الوثيقة الأصل عبارة عن كراس يتكوّن من عشر صفحات لا تحمل أي معلومة عن كاتبها أو ناشرها أو طابعها أو الجهة التي تقف خلفها غير أن دراستها تفيد:
1) بأن الجهة التي تقف خلفها هي "كتلة الدفاع عن المطالب الوطنية" التي تأسّست لمواجهة "صوت الطالب الزيتوني" سنة 1951.
2) أما تاريخ تحريرها وتوزيعها فيقع بعد احتفالات عيد الشغل في غرة ماي 1951 التي شارك فيها جماعة الكتلة و قبل يوم 28 جوان 1951 تاريخ إحالة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور على الراحة لأن الوثيقة تتحدث عن أولائك الذين "ما كادوا يجهرون بدعواتهم حتى وجدوا أمامهم قوة مقاومة رأسها وقائدها الأعلى شيخ الجامعة الزيتونية"(5) ويقصدون الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور قبل تنحيته.
3) تصف الوثيقة وزارة شنيق التفاوضية بأنها "الوزارة الشعبية المؤيّدة"(6) وهي الوزارة التي شارك فيها الحزب الحرّ الدستوري التونسي ممثلا في شخص أمينه العام صالح بن يوسف الأمر الذي يؤشر على أنها تدافع عن خيارات الحزب وخطته السياسية في التفاوض مع الاستعمار.
4) تحمل الوثيقة نفسا عدائيا لصوت الطالب الزيتوني ولكلّ من وقف في صفه أو سانده في المطالب الإصلاحية التي تقدم بها إلى الوزارتين الكعاكية والشنيقية، إذ لم يسلم من أذاها وتشنيعها أحد بدءا بالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وانتهاء بابنه الشيخ الفاضل مرورا بالشيخ الشاذلي بن القاضي ومحمد البدوي وبعض مديري الفروع الزيتونية.
5) في نشره للوثيقة تعمّد السيد ضيف الله إضافة ما من شأنه أن يغيّر المعنى وبيان ذلك أنه ورد في الصفحة الأولى من الوثيقة الأصلية عند وصف لجنة صوت الطالب بأنها: "لجنة مجرّدة من كل النزعات الحزبية والعائلية" وذلك بعد حديث طويل عن محاولة "العائلة العاشورية... والفاضل ابن عاشور.. وبعض أذنابه"(7) الاندساس فيها لتغيير وجهتها، إلا أن هذه الجملة تتغيّر في النشرة الضيفيّة لتصبح كما يلي: "لجنة كانت مجرّدة عن كل النزعات الحزبية والعائلية" بإضافة لفظ كانت وهو ما يغيّر المعنى ليصبح تدخل العائلة سببا في القضاء على استقلالية اللجنة التي كانت سابقا مجردة عن... وشتان بين المعنيين.
كتلة الدفاع عن المطالب الزيتونية
تأسّست الكتلة في مدينة صفاقس في 4 فيفري 1951 بصدور لائحة عن اجتماع عدد من الطلبة غير أن أعضاء لجنة صوت الطالب الزيتوني في صفاقس شكّكوا في هذا المؤتمر الأمر الذي دفع بعلي الزيدي إلى القول: "ممّا يجعلنا نتصوّر أن هذا المؤتمر كان قد تمّ في طيّ الكتمان ولم يحضره بالتالي إلا عدد محدود من الأفراد دون أن تجري انتخابات كالتي تحضر للمؤتمرات الطلابية العادية أو الاستثنائية"(8)، هذا الكيان الوليد يقف وراء نشوئه طرفان أساسيان:
1) الحزب الحرّ الدستوري التونسي الذي خطط لإنشاء الكتلة بعد فشله في احتواء لجنة صوت الطالب الزيتوني كما صنع مع باقي المنظمات القومية وهو المعنى الذي صاغه الزعيم بورقيبة في رسالة له توجه بها من القاهرة إلى صالح بن يوسف قال: "ولعل تكوين فرقة زيتونية يكون لها أن تقف في وجه صوت الطالب الزيتوني أمر مستحسن ولكن في الوقت الراهن ينبغي السعي إلى جذب القادة واستهوائهم بامتداح مطامحهم..."(9) يقول الشيخ محمد البدوي في وصف العلاقة بين الديوان السياسي وصوت الطالب وأسباب الخلاف ومآلاته: "فقد ساندنا الديوان عندما عجز عن زحزحة مصطفى الكعاك وأخذ مكانه في الحكومة المزدوجة ... فلما أزحناه نحن وانفتح له باب المشاركة في الحكم كشر لنا عن أنياب قواطع وسلقنا بألسنة حداد.."(10).
2) الشيخ محمد الشاذلي النيفر رئيس الشعبة الدستورية لمنطقة السيّدة بالعاصمة(11) الذي تزعم الكتلة بدعم من الحزب الحرّ الدستوري كما أنه كان مدعوما بنيفريّين آخرين هما محمد الصالح النيفر رئيس جمعية الشبان المسلمين جاء في بيان صادر عن طلبة الفرع الزيتوني بصفاقس ما يلي: "إن طلبة الفرع الزيتوني بصفاقس المجتمعين بالجامع الكبير عند منتصف يوم الأربعاء الجاري (1951) قصد النظر في قضيتهم المقدمة يحتجّون بكل قواهم على الاعتداءات الفظيعة التي قام بها رئيس جمعية الشبان المسلمين الذي قدم صحبة جماعة من سذاج القوم ومن السكارى لضرب الطلبة وإيقاظ نار الفتنة"(12) أما النيفري الثاني فهو الشيخ علي النيفر عمّ الشيخ الشاذلي(13) الذي سيحلّ محلّ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تسيير المشيخة بعد إحالة الأخير على الراحة سنة 1951 وهو ما جعل من الخلاف من جهة الكتلة خلافا عائليا له امتدادات من بينها وقوف بعض النيافرة كالشيخين البشير وإبراهيم يقفان ضد الإصلاح(14) وهم في حقيقة الأمر يقفون ضد بقاء الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في مشيخة الجامع الأعظم، هذه العداوة التي يحملها الشيوخ النيافرة للشيخ ابن عاشور كانت معلومة للعامة والخاصة وقد حاول الحزب الحر الدستوري استخدامها لمّا أشيع أن المجلس الشرعي أفتى بجواز التجنيس لإضعاف الشيخ وتشويهه، يقول ضيف الله: "حاول بورقيبة التأثير على بعض المشائخ الغاضبين من آل النيفر خاصة واجتمع بعدد منهم وقد عبروا له حسب روايته عن معارضتهم لفتوى ابن عاشور واعتزامهم إصدار فتوى مضادة غير أنهم ما لبثوا أن أنكروا ما ورد في ذلك اللقاء"(15) والذي يهمّنا من كل ما ذكر أن الشيوخ النيافرة الأكثر حضورا في الزيتونة مثلوا رأس حربة ضد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عند توليه المشيخة سنتي 1932 و1945.
وحتى يتمّ التخلص نهائيا من تأثير صوت الطالب الزيتوني اتجه الحزب بعد تأسيس الكتلة إلى السعي لاستبعاد مناصري الصوت من الشيوخ فعُيِّن الشيخ علي النيفر لتسيير المشيخة والفروع نيابة عن الشيخ الطاهر الذي أحيل إلى الراحة أمّا إدارة المدارس فقد كلف بإدارتها الشيخ الشاذلي النيفر بدلا عن الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي في نفس الفترة وبيِّن أن التحكم في إدارة المدارس يُمَكِّن من الضغط على الطلبة المناوئين ويمنع عن صوت الطالب بعض مصادر قوته ممثلة في قربه من المشيخة والمنافع المتأتية من إدارة المدارس يقول محمّد الخبو في شهادته: "ودعموه (يقصد الشاذلي النيفر) بالعديد من الطلبة الدستوريين ليساعدوه على تطهير جميع المدارس من العصابات الطلابية المناوئة للحزب ثم تكليفهم كمشائخ قيمين لإدارة المدارس والمبيتات الطلابية، وقد كان لي شرف التعاون على ذلك مع مجموعة من المناضلين من بينهم الرفقاء المرحومون المبروك صلبلب وعمر شاشية والعجمي السائب ومحمد بن يوسف الورداني"(16) هذه السياسة التي انتهجها الشيخ الشاذلي النيفر يصفها عبد القادر قمحة في قوله: "وقد استقدم هذا المدير الجديد عصابات من أتباعه إلى إدارة المدارس وهي المدرسة السليمانية التي هي في نفس الوقت مسكن للطلبة قصد إخضاعهم بالقوة عندما عارضوا في تسميته وهذه العصابات مقيمة في تلك المدرسة طول النهار... وهي تحتك بالطلبة الصغار وتختلط بهم وفيها من هم من ذوي السوابق العدلية ومن المدمنين على شرب الخمر... ثم عمد هذا المدير الجديد إلى إرسال حملات تفتيشية إلى مدارس الطلبة من هذه العصابات... وبعد أن اطمأن المدير على منصبه وثبته بمثل هذه الوسائل أخذ في الانتقام من الطلبة بإخراج العناصر البارزة منهم من مساكنهم وإسكان مناصريه بدلهم..."(17) بعد حوالي 40 سنة يروي الشيخ محمد البدوي بمرارة ما صدر عن الشيخ الشاذلي النيفر في جريدة الفجر التي جمعتهم الاثنين على صفحاتها يقول: "والحمد لله أخيرا وليس بآخر أن مدّ في أنفاسي حتى أرى فاروق المدارس الزيتونية يصدق عليه المثل السائر الذي يقول من مدح وذم فقد كذب مرتين" وفي الهامش كشف شخصية فاروق المدارس بقوله: "نُزعت إدارة المدارس الزيتونية من المصلح الكبير الشيخ الشاذلي بن القاضي وأسندت لعبد (الشيخ الشاذلي النيفر) ذلك المعبود (يقصد الحبيب بورقيبة)، وكان الحيّ الزيتوني قد أنجز وتشاكس فيه متشاكسون وكان فاروق مصر قد دعا نفسه ملك مصر والسودان فنُحِّي عنهما معا وقال هذا الشيخ العابد أنا مدير المدارس والحيّ الزيتوني أيضا فلقبناه بفاروق المدارس للتنظير ووحدة المصير.."(18) هكذا تتفق الروايات جميعها على أن الشيخ الشاذلي النيفر لعب دورا محوريا في الصراع بين الصوت والكتلة فهل يكون هو كاتب هذه الوثيقة؟
من كتب "المؤامرة التي نسجها...."
نسب ضيف الله هذه الوثيقة للحزب الحر الدستوري لأنها تعبر عن سياسته وخطته في الخصومة مع صوت الطالب الزيتوني غير أنها وإن كانت كذلك فإنني أستبعد أن تكون صادرة عن هيكل حزبي رسمي لسببين اثنين:
1) افتتحت الوثيقة بالقول: "من نظر في تاريخ العائلة العاشورية وجده مفعما بالمكائد والأدوار الشيطانية الصريحة الرامية إلى القضاء على هذا الشعب المسكين على مذبح مصالحها الخاصة ونهمها المادي"(19) هذا الأسلوب في الكتابة لم نألفه في بيانات الحزب إذ لم يسبق له أن عرض بعائلة كاملة بجانب إطلاق أوصاف لا نجدها في أدبيات الحزب كالأدوار الشيطانية والقضاء على الشعب والصور الإبليسية وضعفاء العقيدة.... وغير ذلك من الألفاظ التي لا تحمل أي مضمون سياسي بقدر ما هي شتائم ومحاولة للتشويه.
2) هذه الأوصاف المذكورة أعلاه تناقض سياسة الحزب مع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور والشيخ محمد الفاضل ابن عاشور فبالنسبة للشيخ الأوّل كتب الزعيم بورقيبة في رسالة له موجهة إلى صالح بن يوسف حول تنحية الشيخ قال: "وإذا عارض المقيم العام في عزل الشيخ ابن عاشور فيجب رفع النقاب عن المناورة وللقيام بذلك هنالك وسيلة واحدة هي أن يطرده الباي علانية... وفي صورة ما إذا قام المقيم العام بإظهار معارضة جدية... بذلك يجد الشيخ نفسه مفتضح الحال باعتباره رجل الإقامة العامة وهكذا سواء حصل الفشل أو حصل النصر نكون نحن قد ربحنا الصفقة وصفّينا الجوّ"(20) أما الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور فيقول في شأنه: "من أجل ذلك توقعت منذ عودتي من القاهرة سنة 1949 خطورة هذا المشكل فحاولت العمل على إبطال تأثير الفاضل ابن عاشور بل عمدت إلى استمالته والاستحواذ عليه مستغلا ما يكنّه لي شخصيا من الاحترام وذلك قصد حرمان الشق الديني من الرأس المفكرة والفاعلة الوحيدة التي لهم في البلاد التونسية"(21) بعد كل هذا هل يعقل لقيادة حزب تفكر بهذا المستوى الرفيع من الذكاء والحيطة وتعمل من أجل الوصول إلى الاستقلال أن تكتب بيانا في منتهى الوضاعة كالذي نحن بصدده، واللافت للنظر أنه بعد أيام قليلة من الحصول على الاستقلال وتأليف الحكومة يوم 14 أفريل 1956 كتبت جريدة الصباح في عددها المؤرخ في 24 منه ما يلي "استقبل الرئيس الأستاذ الحبيب بورقيبة أمس فضيلة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بحضور وزير المعارف الأمين الشابي وكان موضوع المقابلة إحاطة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور علما بعودته بصفة رسمية إلى منصب شيخ الجامع الأعظم وفروعه وتكليفه بإدخال تحوير جديد على نظام الجامعة في خصوص برامج التعليم" في تلك الفترة كان بورقيبة أقوى شخصية في البلاد والحاكم بأمره بحيث لو لم يكن مقتنعا بأن ظلما حاق بالشيخ بتنحيته من المشيخة وإساءة بالغة تعرّض لها باتهامه بما لا علاقة له به لما بادر بعد عشرة أيام فقط من استلامه السلطة رسميا بإصلاح خطأ كانت له أسبابه السياسية.
استنادا إلى ما ذكر أعلاه عن الشيخ الشاذلي النيفر وأعوانه من النيفريين في مختلف مراحل الصراع بين صوت الطالب وخصومه أرجّح أنه هو الذي كتب وثيقة المؤامرة وما يؤكد فرضيتي هذه أن الشيخ البدوي في مذكراته قال: "وقد تفتقت أذهانهم المغرضة على عجائب وغرائب ما انفك أثرها يعيش في أذهان الكثير منهم إلى حد الساعة رغم الارتقاء المرموق في سلم العلم والمعرفة والحظوة والسلطان فمن أساطيرهم المشهورة إثارة شبهة واهية إزاء قضية لا نعرف مداها من الصحة تتمثل في وصم العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وهو أيامها شيخ الجامع الأعظم وفروعه بأنه عميل للاستعمار الفرنسي... وقد أفتى له بالتجنيس..."(22) وبيِّن أن الارتقاء في سلم العلم والمعرفة والحظوة والسلطان لم يتصف بها من جماعة الكتلة سوى الشيخ الشاذلي النيفر وإن لم يكشف الشيخ البدوي الاسم علنا فلأن خصمي الأمس التقيا سنة 1990 في معركة خاضاها معا لإعادة التعليم الزيتوني والتلميح في هذه الحالة يغني عن التصريح.
--------
الهوامش
1) مجلة 30 دقيقة ص4.
2) "البيئة الزيتونية 1910-1945 مساهمة في تاريخ الجامعة الإسلامية التونسية" المختار العياشي، تعريب حمادي الساحلي، دار التركي للنشر، تونس 1990، ص272 و273.
3) "فتاوى شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط" دراسة وتحقيق محمد بن إبراهيم بوزغيبة، مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، الطبعة الأولى 1994، ص189 و190.
4) مجلة 30 دقيقة ص4.
5) الوثيقة الأصلية ص5.
6) الوثيقة الأصلية ص2.
7) الوثيقة الأصلية ص1.
8) "تأريخ النظام التربوي للشعبة العصرية الزيتونية (1951-1965)" د.علي الزيدي، منشورات مركز البحوث في علوم المكتبات والمعلومات عدد 16، تونس 1986، ص88.
9) "الحبيب بورقيبة يؤسّس الدولة الجديدة" نشر بيت الحكمة، تونس 1986، ج1 ص383.
10) جريدة الفجر بتاريخ 17 نوفمبر 1990،ص6.
11) ندوة "حول الزيتونة: الدين والمجتمع والحركات الوطنية في المغرب العربي" أعدّها للنشر عميرة علية الصغير، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2003، دراسة "النضال الزيتوني في الخمسينات من خلال أحداث 15 مارس 1954" لسمير البكوش، ص371.
12) جريدة النهضة بتاريخ 17 مارس 1951، نقلا عن تأريخ النظام التربوي لعلي الزيدي ص153.
13) النضال الزيتوني لسمير البكوش ص372.
14) تأريخ النظام التربوي لعلي الزيدي ص101.
15) "بورقيبة والزيتونة" مقال منشور في ملحق خارج السلسلة رقم 2 لجريدة المغرب بتاريخ 7 أفريل 2012، اعتمد ضيف الله فيما ذكر على جريدة لاكسيون بتاريخ 20 أفريل 1933.
16) جريدة الصريح بتاريخ 14 أوت 2010، نفس المعنى نجده في النضال الزيتوني لسمير البكوش ص374 كذلك في دراسة بعنوان "الطلبة الزيتونيون والدستور الجديد (1950-1952)" لمحمد ضيف الله منشورة في المجلة التاريخية المغاربية العددان 71-72 شهر ماي 1993، ص441.
17) جريدة النهضة بتاريخ 11 نوفمبر 1951 نقلا عن تاريخ النظام التربوي لعلي الزيدي ص144 و145.
18) جريدة الفجر بتاريخ 12 ماي 1990 ص18.
19) الوثيقة الأصلية ص2.
20) الحبيب بورقيبة يؤسّس الدولة جديدة ج1 ص380.
21) المصدر السابق ص384.
22) جريدة الفجر بتاريخ 8 ديسمبر 1990 ص5.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: