أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4485
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في عددها الصادر يوم الخميس 8 سبتمبر 2016 نشرت جريدة الصريح ردًّا للسيّد محمد ضيف الله على ما سبق أن نشرتُ في نفس الصحيفة يومي 6 و7 من نفس الشهر حول كتابه "أواخر الزيتونيين" مستخلصا أن نقدي لم يتجاوز الثماني صفحات من الكتاب ولم يتناوله جميعه وهو ما عدّه تعسّفا مني، والحال أن مقالي لم يكن الهدف منه عرض الكتاب بل مناقشة فكرة واحدة نتلمسها في مواقع متعدّدة مرّة ظاهرة وأخرى خفية هدفها إيجاد خيط تواصل ونسَب بين حركة الإخوان المسلمين والزيتونيين، وبما أن المؤلف يرغب في مناقشة كلّ ما ورد في كتابه فليس أمامي إلا الاستجابة لطلبه بإضافة صفحات أخرى وذِكْر ما تغافلتُ عنه سابقا نظرا لأن المساحة المتاحة في جريدة سيارة لا تحتمل المطوّلات، ووعدي له أنني لن أحيد عن الهدف الذي حدّدته لنفسي في مقالي السابق.
قبل الشروع في ذكر مؤيّدات موقفي الذي دافعت عنه ويخصّ محاولة السيد ضيف الله افتعال رابط بين الزيتونيين والإخوان المسلمين من الضروري أن أردّ على ما جاء في مقاله المذكور أعلاه:
1) في حديثه عن مقالي ذهب إلى القول بأن الحكم على كتابه لا يمكن أن يتمّ من خلال ثماني صفحات لا غير وهو ما عدّه تعسفا ومغالطة للقراء ذاكرا أن ذلك ممكن فقط في لجنة مراقبة الكتاب (الصنصرة) التي كنت أرأسها، ولعلمك يا سي محمد ترأست اللجنة منذ أن ألحقت بوزارة الثقافة إلى أن انتقلت إلى وزارة الداخلية وأشرفت على دورات متعدّدة من معرض الكتاب وقمت بعملي على أتم الوجوه إذ حمَيت البلاد من الكتيبات الداعشية بمختلف أنواعها وهو ما يتحسّر عليه اليوم أولائك الذين يتصايحون بسبب إغراق السوق بالمنشورات المتطرفة، وتأكد أنه لو عاد بي العمر مرّة أخرى لما غيرت من قناعاتي ولا من عملي قيد أنملة بل لكنت أشدّ في الحكم على منشورات الإخوان ومن شابههم، فالذي لا تعرفه يا سي محمد أن رقابة الكتاب أيام كنت متحمّلا المسؤولية كانت رقابة سياسية تستهدف المنشورات الداعية إلى القدح في النمط الحضاري الذي ارتضاه التونسيون أو التخفيف من جرائم الإرهابيين والتفتيش لهم عن أعذار، تلك هي المنشورات التي كنت أمنعها ولو كانت متخفية تحت ستار البحث العلمي أو مستندة إلى حماية الجامعة، في هذا الإطار منعت ما استوجب المنع مُصِرًّا على ذلك رغم الوساطات من أعلى مستوى ولم يُسمح برواج هذه الممنوعات إلا بعد إخراجي من وزارة الداخلية في عهد سيّء الذكر علي الشاويش، أنس الشابي يا سي ضيف الله منع ترويج كتاب لعبد الباقي الهرماسي في معرض الكتاب وهو وزير الثقافة الذي تعقد الدورة تحت رئاسته المباشرة لتعلم أن مخاطبك لا يعمل في السر ولا يخشى في الحق لومة لائم، ما ألجأني لذكر هذا الكلام هو حشره لمسالة الرقابة ودوري فيها في محاولة منه لتوجيه القارئ واستدرار عطفه بالإيهام بأنه يتعرض إلى هجمة من رقيب سابق والحال أن الحَكَمَ بيننا هو النص وليس وظيفتي أو اسمي، ففي ردّه لم يتمكن من دحض أيّ من المؤيدات التي ذكرتها وهو ما سيتضح بجلاء فيما يلي.
2) لمّا قلت إن الشيخ الثعالبي لم تكن له صلة بالإخوان المسلمين لم أجانب الصواب غير أن السيد ضيف الله مصرّ على وجودها مستشهدا بنص اقتطع منه الجزء الذي يؤيّد دعواه وأغفل الباقي ليخرج به عن معناه إلى ما يرغب في إثباته، جاء في مذكرات الدعوة والداعية ما يلي: "عَلِم القراء نبأ انتداب حضرتي الأستاذين عبد الرحمان أفندي الساعاتي ومحمد أسعد أفندي الحكيم لزيارة القطر الشقيق..... وقد جاءت الأخبار منهما أنهما وصلا بسلامة الله تعالى بيت المقدس صباح الأحد 5 جمادى الأولى بمعيّة الزعيم التونسي الأستاذ عبد العزيز الثعالبي الذي رافقهما من القاهرة... وهناك قابلا سعادة السيد أمين الحسيني... وردّ الزيارة لهما في المنزل النازلين فيه، ثم غادرا بيت المقدس إلى دمشق فوصلاها...."(1) مستخلصا أن المرافقة ليست من باب الصدفة وأن العلاقة القديمة بين الثعالبي والحسيني هي الأخرى تدلّ على علاقة ما بين الإخوان المسلمين والشيخ، إن المتأمل في الجملة التي نقلها البنا نفسه وأوردناها كاملة يلحظ أنه لم يكن يعلم بوجود الثعالبي مع مبعوثيه إلى القدس إلا بعد وصولهما إليها وإخباره بأنه رافقهما الأمر الذي يُثبت أن المسالة ليست إلا محض صدفة فلو كان لحسن البنا علاقة ما بالزعيم لأطنب الحديث في ذلك ولأخبَر بسفره صحبة مبعوثيه ولما اكتفى بذكره مرّة واحدة فقط بعد وصوله إلى القدس ومن الجدير بالملاحظة أن المعيّة في السفر لا تحتمل إلا معنى المرافقة والصحبة المؤقتة التي تنتهي بانتهاء أسبابها فمعيّة الأكل تنتهي بانتهاء المأدبة والمعيّة في مباراة رياضية تنتهي بانتهاء اللعبة ومعيّة السفر فيما نحن بصدده انتهت بالوصول إلى القدس وافتراق الجماعة، وممّا يؤكد هذا المعنى أن البنا ذكر أن مبعوثَيه اتصلا بأمين الحسيني ولم يذكر أن الثعالبي صاحَبَهُما أو كان حاضرا معهما فلو كان للشيخ الزعيم علاقة أو معرفة أو صلة ما بالإخوان المسلمين لرافق المبعوثين إلى صديق الطرفين مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وحتى عندما زار المفتي مبعوثي حسن البنا في المحل الذي نزلا فيه لم يكن الشيخ الزعيم حاضرا، فمن حيث سعى السيد ضيف الله إلى تسفيه مقالنا أكد ما أراد نفيه.
3) جاء في جريدة الزهرة تاريخ 7 ديسمبر 1947 أن جمعية الإخوان الزيتونيين أرسلت برقية إلى حسن البنا تخصّ فلسطين استلها السيد ضيف الله من سياقها التاريخي وجعل منها دليلا على وجود ثقة وعلاقة بينهما، في تلك الفترة كان النشاط الأساسي للإخوان المسلمين مُتمحورا حول فلسطين وكانت العلاقات متطوّرة بين الجماعة ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وقد انضمّ إليهما عبد الرحمان عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث رأى الثلاثة أن الحكومات العربية يجب أن لا يتجاوز دعمها للقضية الفلسطينية الحدود الدبلوماسية والسياسية على أن تتكفل الجهات الشعبية بتجميع المجاهدين وإرسالهم إلى فلسطين، في 20 أكتوبر 1947 توجّهت أول كتيبة إخوانية إلى الميدان بعد أن درّبها التنظيم السري الذي سيغتال فيما بعد قيادات سياسية مصرية، في هذا الظرف احتلت القضية الفلسطينية مكانا متميزا في اهتمامات التونسيين فعُقدت الاجتماعات الجماهيرية وأعدت قائمات المجاهدين الذين سيذهبون إلى فلسطين وقد كانت جمعية الإخوان الزيتونيين من أنشط الجمعيات فكان من المعقول أن تُرسل الهيئة برقيات إلى الحاج أمين الحسيني باعتباره ممثلا للشعب الفلسطيني وإلى الذين ساندوا فكرة الجهاد والعمل الشعبي فكان أوّلهم عبد الرحمان عزام باشا أمين سرّ الجامعة العربية وثانيهما حسن البنا وما ورد في البرقية يتنزل ضمن هذه الظرفية فقولهم إن الجمعية "تعتبركم اللسان الناطق لها في كافة الأقطار الإسلامية" وهو الجزء الذي اقتطعه ضيف الله من البرقية كعادته في الاقتطاع لا يؤخذ على عمومه إذ وقع تخصيصه بما جاء في أوّل البرقية ذاتها "إن جمعية الإخوان الزيتونيين لتعلن لكم استعدادها التام لما يمليه الواجب في قضية فلسطين"، فمحور الالتزام في حالتنا هذه هو فلسطين والجهاد في سبيل تحريرها فقط أمّا ما استنتجه سي ضيف الله فلا تفسير له سوى اللهاث من أجل إيجاد صلة ولو كانت وهمية ومفتعلة بين الإخوان المسلمين والزيتونيين.
4) لأنني قلت إن الزيتونيين لم يكن لهم وجود في فترة تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي باستثناء اثنين ذهب المؤلف إلى القول أن هنالك أكثر من هذين الاسمين موردا أسماء الغنوشي ومورو واحميدة النيفر الصادقي(2) الذي ذكره خطأ ضمن الزيتونيين في الكتاب(3) وأغفل ذكره في الجريدة، وإمعانا في التعسف يذكر أسماء لزيتونيين لم يكونوا قياديين في حركة الاتجاه الإسلامي ولم يعرف عنهم أنهم من المنتمين لها من ذلك الشيخ محمد الأخوة وأحمد بن سدرين وعبد الرحمان الهيلة الذين ترشحوا ضمن القائمات المستقلة المدعومة من النهضة سنة 1989، وللعلم فإن بعض هذه الأسماء أثارت لغطا كبيرا أحرج الحركة فالشيخ محمد الأخوة في حديثه الشهير في مجلة المغرب أخرج نور الدين البحيري من دائرته التي هي دائرة الإيمان لأنه أمضى الميثاق الوطني الذي اعتبر أن بعض ما جاء فيه هو حرب على الإسلام وطالب بإعادة العمل بأحكام الرق واعتبر المهرجانات الثقافية مفسدة ودعا إلى إعادة النظر في أحكام مجلة الأحوال الشخصية(4) وهو ما دفع رئيس الحركة إلى التفصّي من خطابه واعتبار ما أتى على لسانه لا يعدو أن يكون رأيا شخصيا وفتوى شرعية لا تلزم غيره(5)، نفس الشيء حصل مع عبد الرحمان الهيلة في اجتماع انتخابي في بورصة الشغل حيث أبدى امتعاضه ممّا ورد على لسان رئيس القائمة، الأمر الذي يعني أن الذين ترشحوا في القائمات المستقلة لانتخابات سنة 1989 لم يكن ينظمهم خيط ولا يجمعهم برنامج بل تمثل هدفهم في دعم النظام الجديد ودفعه إلى المزيد من الابتعاد عن السياسة التي انتهجها بورقيبة عدوّهم الألد لذا استغلوا هذه الانتخابات للثأر منه، والمتابع للاجتماعات الانتخابية للقائمات المستقلة أيامها يلحظ أنها تمحّضت لتسفيه منجزات الاستقلال وشتم الزعيم، علما بأن الشيخ محمد الأخوة رحمه الله كان يدرّسنا بمعهد ابن شرف أيام كان الغنوشي هنالك أيضا ولكننا لم نسمع فيما بعد وطوال سنوات كثيرة أن الشيخ كان منتسبا أو داعما للحركة، كل ما هنالك تعاطف شيوخ مع شباب يبدو أنه متديّن لا غير وليس في ذلك ما يفيد أن للزيتونيين يدا في تأسيس أو دعم الحركة الإسلامية مثلما يريد السيد ضيف الله أن يوحي.
هذا فيما يخص الردّ على مقالي أما الكتاب فإنني أعود إليه فيما يلي متصفحا بعض الورقات الأخرى حتى يتأكد المؤلف أنني لست من جماعة هذا على الحساب حتى أقرأ الكتاب.
بورقيبة والإخوان وسيد قطب
تعود معرفة بورقيبة بالإخوان المسلمين إلى الفترة التي رحل فيها إلى الشرق فيما بين 1945 و1948 وهي الفترة التي عرفت فيها مصر نشاطا للتنظيم السري للإخوان المسلمين الذي فجّر واغتال قيادات سياسية رسمية كأحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا وغيرهما، أيامها كان بورقيبة مستقرا في دار الإخوان المسلمين بالحلمية وكان يحضر دروس الجمعة التي يلقيها حسن البنا، يقول الباقوري: "وقد كان في دار الإخوان بالحلمية على يمين الداخل جناح صغير أذكر أنه قد نزل فيه لفترة طويلة من الزمن الأستاذ المجاهد الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية الشقيقة"(6)، مَثَّل سكن الرئيس الأسبق في دار الإخوان المسلمين وحضوره دروس الجمعة لمرشدهم العام فرصة مكنته من التعرّف عن قرب على هذه الجماعة ومن تلمّس خطورة منهجها ووسائلها في العمل السياسي، ولأن بورقيبة يحفظ المعروف لأصحابه فقد أبقي علاقاته الشخصية موصولة مع كل الذين أعانوه ومدّوا له يد المساعدة أيام كان في القاهرة فساعدهم واحتضنهم فيما بعد بل وصل به الأمر إلى حدود إقامة جنازة عسكرية رسمية ودفن محمود أبو الفتح في تونس لمّا رفض عبد الناصر إعادة جثمانه من سويسرا إلى وطنه ليوارى فيه، هذا السلوك نفسه نجده حاضرا حتى مع الإخوان المسلمين كتوفيق الشاوي الذي تدخل لديه من أجل إنقاذ سيد قطب من تنفيذ حكم الإعدام يقول الشاوي: "خرجت من بيروت وذهبت إلى تونس عن طريق ألمانيا وكانت معي زوجتي، استقبلنا بورقيبة شخصيا في قصره وشرحت له القضية وقلت له إن هدفي هو إنقاذ سيد قطب لأني أخشى أن تنتهي المحاكمة بالحكم عليه بالإعدام وهو شخصية فذة ومفكر إسلامي لا يجوز أن يقضى عليه... ولمّا عرضت عليه القضية وجد أنها فرصة للتشهير بعبد الناصر والانتقام منه وأصدر أوامره للصحافة والحزب والبرلمان وكل من في تونس للدفاع عن سيد قطب وكان هذا الدفاع يأخذ في كثير من الأحيان صورة النقد والهجوم على الدكتاتورية الناصرية والاستبداد الناصري"(7) وهو ما تمّ فعلا حيث باشرت وسائل الإعلام سنة 1966 حملة مكثفة ليس دفاعا عن سيد قطب ولكن هجوما على عبد الناصر ونظامه وقد شارك في هذه الحملة عدد من الأسماء المعروفة كالحبيب بولعراس والبشير العريبي والمفتي الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور الذي نشر مقالا في الموضوع في كتابه ومضات فكر، ومن التجني على الحقيقة التاريخية أن نعتبر برقية الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور المطالبة بعدم تنفيذ حكم الإعدام وفق ما ذكر السيد ضيف الله "مندرجة ولا شك ضمن استمرارية التعاطف الذي أبدته الأوساط الزيتونية مع الإخوان المسلمين ولن تطول المدة بعد ذلك لتظهر الحركة الإسلامية التونسية التي كان من بين مؤسّسيها عدد من الزيتونيين"(8) هكذا ينتقل المؤلف بدون مقدمات أو ممهّدات من برقية اقتضتها تعليمات سياسية من رئيس الدولة إلى الاستدلال بها على أنها تمثل تعاطفا زيتونيا مع الإخوان المسلمين ومن ثم دليلا على أن الزيتونيين كانوا من مؤسّسي حركة الاتجاه الإسلامي، ألا يعدّ هذا تعسفا مع النصوص والوقائع واستبلاها للقرّاء؟.
معنى القضاء على النظام الملكي
بإعلان النظام الجمهوري بادرت القيادة الجديدة بإلغاء النظام الملكي والتعامل بما يقتضي الظرف مع المؤسّسات التي كان يستند إليها لإكسابه الشرعية والقدرة على إنفاذ حكمه، هذه المؤسّسات هي التالية:
1) الجامعة الزيتونية التي كانت فروعها منتشرة في كامل أرجاء البلاد ويقف على رأسها مجموعة من كبار الشيوخ ممّن كان لهم تأثير كبير داخل البلاد وخارجها كما مثل طلبتها كتلة لا يستهان بها أدّت أدوارا مهمة في الحركة الوطنية وفي الفضاء الثقافي والسياسي فاتجه الرأي أيامها إلى توحيد التعليم وتعصيره بتفكيك الهيكلة القديمة وإعادة إدماجها ضمن المؤسّسات المستحدثة.
2) توحيد القضاء الذي كان مشتّتا بين جهات مختلفة دعما لقضاء واحد في دولة واحدة.
3) إلغاء الأوقاف والأحباس التي لم يعد وجودها مستساغا مع وجود أنظمة اجتماعية واقتصادية جديدة فضلا عن الفساد الذي استشرى فيها واستحال معه إصلاحها.
هذا البرنامج الذي استهدف تمدين وتعصير المؤسّسات القديمة يبخسه المؤلف حقه يقول: "بعد الاستقلال مباشرة اتخذت الدولة الجديدة عدّة إجراءات استهدفت نفوذ الأرستقراطية الدينية ومصالحها وموقعها في المجتمع ومن تلك الإجراءات توحيد القضاء وإلغاء الأوقاف وإصدار مجلة الأحوال الشخصية..."(9) ترى ألا يحمل هذا الكلام موقفا إيديولوجيا يحاول تطويع الوقائع والأحداث؟ وما القول في من يجعل من إقامة النظام الجمهوري مجرّد استهداف للأرستقراطية الدينية في مصالحها؟ ألا تحمل هذه الفقرة الفصول الكاملة لبرنامج حركة النهضة الذي عرضه نوابها مُنَجَّما في مجلس 23 أكتوبر 2011 في شكل مشاريع قوانين للمساجد والأوقاف؟، بهذا الأسلوب المتخفي تحت ستار البحث يتم الترويج لبرنامج حزب حركة النهضة.
متفرقات
فيما يلي أورد جملة من النوادر والنتف التي جمعتها من الكتاب بهدف إثبات مقصدي الأساسي وهو الرد على قول من قال بوجود ارتباط بين الزيتونيين والإخوان:
ص73، يقول المؤلف عند حديثه عن الزيتونة والاتحاد العام التونسي للشغل بأنه وإن بدا أنهما على طرفي نقيض فإن الالتقاء حصل بينهما: "من جهة ولادة تيار نقابي وطني ومن جهة أخرى ولادة تيار زيتوني ذي توجهات عروبية إسلامية"، فهل هنالك تيار زيتوني غير عروبي وغير إسلامي؟ وهل للزيتونة من معنى خارج العروبة والإسلام؟.
ص138 و139، عند حديثه عن الكتابات والأدبيات التي اطلع عليها الإسلاميون في تونس يقول: "ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ غياب الاطلاع على كتابات الزيتونيين التي كانت والحق يقال بعيدة عن معالجة القضايا المعاصرة"، إن عدم اطلاع الإسلاميين على الكتابات التونسية يعود إلى معاداتهم لكلّ ما هو وطني لصالح ما هو أممي، فهم نبت في غير تربته، مصادر ثقافتهم الوحيدة هي كتابات الإخوان المسلمين يقول راشد الغنوشي: " وأذكر أن أوّل ما قرأته لابن عاشور وهو أهم رمز للثقافة الإسلامية في تونس الحديثة كان في الثمانينات ولم أكن قبل ذلك قرأت كتابا إسلاميا واحدا بما في ذلك الكتاب المرجع لنواة فكرة الإصلاح أقوم المسالك بل كلّ ما قرأته من قبل كان كتابات مشرقية هي التي فتحت لي الطريق إلى الإسلام ولكنها أوقعتني في قطيعة مع تراث الإسلام المحلي"(10)، فتغييب الفكر التونسي خيار بالنسبة للحركة وهو لا يعود إلى بعده عن تناول القضايا المعاصرة كما ذهب إلى ذلك السيد ضيف الله، فالناظر في المكتبة التونسية في الثلثين الأوّلين من القرن الماضي يلحظ بجلاء أن هنالك مجموعة من العناوين التي مثلت وتمثل جماع الشخصية التونسية تناولت أهمّ القضايا الفكرية والسياسية التي شغلت الأمة وما زالت، هذه الكتب هي "تونس الشهيدة" للشيخ عبد العزيز الثعالبي وهو أوّل كتاب سياسي معاصر يتحدث عن الذاتية التونسية وتوقها إلى الحرية و"أليس الصبح بقريب" للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي عرض فيه فلسفته في التربية وسبل النهوض بالتعليم وديوان "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي الذي جدّد فيه اللغة وترك أثره بيِّنا في جيل كامل من الشعراء داخل الوطن وخارجه وكتابَي "العمال التونسيون" و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد وهما المصدران الأساسيان في المسألة الاجتماعية وكتاب "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" للمرحوم محمّد الفاضل ابن عاشور وهو الكتاب الذي وضع فيه الشيخ ركائز الحياة الثقافية ومقدّمة كتاب "ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية" للمؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب في التأريخ الثقافي لتونس، هذه المؤلفات جميعها متاحة وطبعت عشرات المرات ومتوفّرة بصورة دائمة وفي كل الأوقات إلا لمن لا رغبة له فيها كالإسلاميين، كل هذا فضلا عمّا هو مبثوث في الجرائد والمجلات من مقالات ودراسات وقصائد وحوارات، هذه الكتابات تناولت مشاغل العصر وقضاياه وفتحت سبل الاستنارة للنخبة التونسية، أما إذا كان قصد المؤلف من القضايا المعاصرة القضايا التي تناولتها كتابات المودودي وسيد قطب وعبد القادر عودة ومحمد الغزالي وغيرهم فهذه لا تصنّف إلا ضمن الكتب الحركيّة الحزبية التنظيميّة الإيديوليجية التي لا علاقة لها بثقافة الأمة أو قلبها النابض الزيتونة.
ص17، عند حديثه عن المعارضات السياسية بعد الاستقلال يقول: "إن هذه المعارضات تندرج إلى حد ما ضمن ردود أفعال الزيتونيين إزاء ما وقع من تهميش للمؤسّسة الزيتونية" وهو استنتاج غريب لأننا طوال المحاكمات السياسية التي عرفها الوطن في الفترة المتحدّث عنها لم نسمع أن أحد المتهمين طالب بإرجاع التعليم الزيتوني أو عودة الأوقاف والقضاء الشرعي فالمطالب الوحيدة التي رفعوها أيامها كانت منحصرة في الحرية والحق في التنظم بجانب الدفاع عن القضية الفلسطينية وما يتبعها من عروبة وحسّ قومي، لم يكن الانتماء إلى الزيتونة اختيارا لأنه التعليم الوحيد المتاح للغالبية العظمى من شعبنا فجيل الثلاثينات والأربعينات والخمسينات جميعه إلا النزر اليسير درس في الزيتونة المؤسّسة التعليمية الوحيدة التي تغطي كامل أرجاء الوطن لذا كان وقود المحاكمات السياسية طلبتها أو أبناء طلبتها، ألا يعدّ تفسير المؤلف ليًّا لعنق الأحداث وإسرافا في التأويل الإيديولوجي على حساب الموضوعية؟.
عند حديثه عن دخول الشيخين محمد الفاضل ابن عاشور ومحمد الشاذلي بن القاضي إلى الديوان السياسي وإخراجهما منه يقول في الصفحة 58: "ومع أن وجودهما لم يستمر طويلا نتيجة المعارضة التي لقيها ذلك من أعضاء آخرين" ويقول في الصفحة 135: "قبل أن يتمّ استبعادهما بسرعة" مضيفا في الهامش الأوّل من نفس الصفحة: "ممّن أثارت حفيظته تسميتهما في الديوان السياسي الدكتور سليمان بن سليمان" وقد تعمّد السيد ضيف الله إخفاء اسم القيادي الأحرص على طردهما من الديوان السياسي وهو صالح بن يوسف رغم أن سليمان بن سليمان أورد اسمه في مذكراته مضيفا أن الإعجاب والودّ الذي كان يكنه بن يوسف للشيخ الفاضل تحوّل إلى كراهية وعداوة خصوصا بعد موكب إحياء الذكرى الثانية لتأسيس الجامعة العربية حيث قوبل الشيخ بحفاوة منقطعة النظير في حين مرّ دخول بن يوسف غير ملحوظ وهو ما أثار حفيظته(11)، إن الإصرار على إخفاء اسم صالح بن يوسف الذي كان وراء طرد علمين وشيخين من أهمّ وأشهر ما أنجبت الزيتونة علما ووطنية وهما الشيخان محمد الفاضل ابن عاشور ومحمد الشاذلي بلقاضي يستهدف الإبقاء على الصورة المغالطة التي روّجتها الحركة الإسلامية مقدّمة صالح بن يوسف في ثوب المنافح عن الإسلام والداعية إلى العروبة للإيهام بأن لها امتدادا ونسبا يربطها بتونس ورموزها وهو ادعاء لا يمكن إدراجه إلا ضمن المناكفات السياسية والهذر والتهريج، فما هكذا تكون الموضوعية وما هكذا تكتسب ثقة القارئ.
-----------
الهوامش
1) "مذكرات الدعوة والداعية" حسن البنا، المكتب الإسلامي بيروت 1983، ص198 و199.
2) مجلة المعرفة العدد 5 السنة 5، ماي 1979، ص21.
3) أواخر الزيتونيين ص134.
4) مجلة المغرب العدد 147 بتاريخ 14 أفريل 1989.
5) حديث لراشد الغنوشي في جريدة البطل بتاريخ 26 أفريل و2 ماي 1989.
6) "بقايا ذكريات" لأحمد حسن الباقوري، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة 1988، ص56.
7) "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي (1945/1995)" لتوفيق محمد الشاوي، دار الشروق القاهرة 1998، ص403.
8) أواخر الزيتونيين ص134.
9) أواخر الزيتونيين ص16 وكذلك 136.
10) "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس" دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص43.
11) مذكرات سليمات بن سليمان، دار سراس للنشر، تونس 1989، ص230.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: