أحمد الحباسى - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5058
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ليس ممنوعا على الكاتب أن ينقل رأيه بصراحة، بهذا المعنى فأنا لا أقدر فرنسا و لا حضارتها و لا تاريخها و لا مستقبلها، فرنسا في نظري تبقى دولة استعمارية نكلت بالشعوب العربية و لا تزال و هي شريكة فاعلة أو صامتة على كل المجازر التي نفذتها الصهيونية و الامبريالية في الدول العربية و بالذات في فلسطين المحتلة، و إلى أن أذهب إلى القبر ستظل كلمات الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول رنانة في وجداني حين نادى قطعان المستعمرين الفرنسيين في الجزائر بالقول ‘ الجزائر فرنسية، الجزائر ستبقى فرنسية ‘، هذا فقط يكفى حتى لا أغفر أبدا لفرنسا بالرغم أن الموضوع يهم جزائر المليون شهيد، بالطبع استقلت الجزائر غصبا عن فرنسا كما استقلت تونس و المغرب لكن الجرح بقى نازفا و سيبقى طالما رفضت أنظمة فرنسا الحاكمة الاعتذار الصريح عن كامل الحقبة الاستعمارية .
يقول ابن خلدون أن الإنسان مدني بطبعه، بهذا المعنى فالدول أيضا مدنية بطبعها إن صح التعبير، و فرنسا دولة متقدمة في عدة مجالات و من المنطقي أن نتجه للتزود من هذه العلوم و هذه الحضارة بالقدر الذي يكفينا و بالقدر الذي لا يضر بمبادئنا و قيمنا الإسلامية، لكن و كما يحصل مع بعض المهاجرين فان بهرج تلك الحضارة بإمكانه أن يغرهم و يدفعهم إلى نسيان أصلهم و فصلهم فيتحولون في لحظة من الزمن من أصحاب قيم و مثل إلى متسكعين على رصيف صالونات اللهو و العبث، لذلك لا يزال هناك صراع جدلي بين فكر يرفض مجرد الالتصاق الطبيعي بهذه الحضارة و بين الذين يراهنون على الانغماس في هذه الثقافة لحين الاكتفاء الذاتي خاصة بعد أن تأخر ركب الحضارة العربية و اختفى على الأنظار منذ نكبة الأندلس و ما تبعها من سقوط في سفوح الاقتتال الداخلي، و قد تابعنا منذ أسابيع رجوع هؤلاء و هؤلاء إلى حلبة الجدل الساخن حول ارث بورقيبة و كونه من قدم هذا الشعب قربانا للفرنسة على حساب لغة الضاد و مزايا التشبع بلغة القرآن .
لا شك أن الذين يرفضون خط سير بورقيبة لهم أعذارهم المنطقية بعض الشيء، فليس سهلا على البعض القبول بالانزواء وراء دولة عنصرية استعمارية مهما تحولت نياتها السيئة إلى نيات حسنة في الظاهر على الأقل، لكن بورقيبة و في رده على هؤلاء يشير أنه ليس مطلوبا من هذا الشعب أن ينصهر في الثقافة الفرنسية بل المطلوب فقط هو ‘ احتساء’ ما يمكن من هذه الثقافة و العلوم و الصناعة لحين وقوف تونس على رجليها بدون عكاكيز الحاجة للمادة الفرنسية في أي ميدان، طبعا لا يقبل المعارضون بهذا الطرح حتى و إن بدا على قدر كبير من المنطق و الموضوعية لان هؤلاء المعارضين همهم الوحيد هو إثقال تاريخ بورقيبة بكل المساوئ حتى لا تتعرى زئبقيتهم الفكرية و ضحالة توجهاتهم الحضارية و عدم قدرتهم على ملائمة أفكارهم السطحية مع متطلبات عصر السرعة و عصر العولمة و عصر الفضاء الافتراضي .
لم يكن بورقيبة ملاكا و لا شريرا، بل مجرد فاعل في تاريخ تونس قدم ما كان يراه صالحا في تلك الفترة التي تبعت خروج الاستعمار الفرنسي تاركا تونس خاوية على عروشها كما يقال، و لقد حاول بورقيبة أخذ كل شيء بطرف دون أن يتنازل في الأساسيات و ليس صحيحا بالمرة أن بورقيبة قد سعى لتغريب الشعب التونسي على حساب التعاليم الدينية و متطلبات الشريعة، و لان المواطن في تونس قد ولد حرا طليقا و بإمكانه أن يختار فلم يكن هناك مانع أن يختار بين ‘الاتصال’ بالحضارة الفرنسية أو البقاء منعزلا عائشا على ‘ الإرث’ العثماني أو قصص ألف ليلة و ليلة، و بورقيبة هنا لم ينصب المشانق للذين هجروا ثقافة فرنسا لإتباع ‘دين’ الوهابية أو جهالة الإخوان من زمن حسن البنا إلى زمن محمد بديع ، فقد عمل بورقيبة بالقاعدة القرءانية الذهبية ‘ لكم دينكم و لي ديني ‘ و ترك حرية الاختيار للضمائر و للعقول، و حتى الذين يتهمون بورقيبة بغلق المساجد يدركون اليوم بعد أن عرتهم عديد الشهادات التاريخية الموضوعية بأن حبل الكذب قصير و بأن هذه العادة الإيهامية بالجريمة لم تعد تنطلي في عصر النت .
إن مكانة اللغة الأجنبية في المجتمعات العربية مهمة باعتبارها وسيلة للفهم و التفكير و التأمل و الإبداع و التواصل، و حتى نتواصل مع العالم و نفهم حركة التغيير الحضارية لا بد من حذق اللغات الأجنبية الأخرى، باعتبارها الوعاء الأساسي و الوحيد الذي نجد فيه ثقافة المجتمعات الغربية و هويتها، و لان هناك سؤال يطرح نفسه باستمرار يتمحور حول حدود لغة الضاد و قدرتها على الصمود في وجه الحرب المشبوهة التي تخوضها الدول الغربية و بالذات أنصار الثقافة الفرنسية فقد باتت الحكومات العربية ووزارات التعليم و الثقافة مدعوة إلى الانخراط في حرب إدماج هذه اللغة العربية في شبكات التواصل الاجتماعي و الإكثار من المواقع و المعاجم الالكترونية و الترجمات من و إلى اللغة العربية حتى تصبح العربية لغة العصر الحديث بامتياز، هذه هي الحرب الحقيقية التي يجب على المثقفين و أهل الاختصاص خوضها علميا لإثبات ساق اللغة العربية بين اللغات العالمية، و الذين يظنون أن الحروب تخاض بالعكاظيات و الاتهامات السليطة لا يمكنهم التفطن إلى أن عهد البكاء على الأطلال قد ولى فالشعوب قدرها أن لا تعيش على الماضي مهما كانت سلبيات أو ايجابيات هذه الإرث الثقيل .
إن صراع الوجود العربي اليوم هو صراع لغات و حداثة و تقدم و ليس حربا تقودها عقول متخلفة متكلسة تريد من الشباب العربي أن يبقى حبيسا لتاريخ عربي مليء بالانتكاسات المتتابعة و الحروب البينية القذرة، فالقران نفسه لغة حضارة بامتياز لكن العيب ليس فيه بل في كثرة من هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى و كثرة من بائعي الدين المزيف الذي نرى ‘ثمراته’ الدموية في سوريا و العراق، فلا أحد يجبر أحدا على الزواج بالثقافة الفرنسية و لا أحد يجبر العرب على إتباع منزلقات غير محمودة العواقب لكن لا أحد أيضا يريد إقناع المتابعين بأن جماعة بول البعير قادرون على إطفاء ظمأ الشباب العربي الطامح في النهل من العلوم الحديثة، و عندما نفتح نافذة الفضاء الافتراضي فلن يقدر هؤلاء ‘الإخوان’ المتشبعون بلغة الفضيلة الزائفة و بحروف الضاد المعتلة على منع عقولنا من البحث في مجاهل العلوم الحديثة و خفايا المستقبل المتطور، فقد سئم العرب ركوب البغال و سماع لغة التهويل و الترهيب، لقد ولى عصر الصنصرة الفكرية، ولى إلى غير رجعة و العرب اليوم قادرون بشيء من العقلانية العلمية و الرغبة الجادة في البحوث المتطورة على نحت مستقبلهم حتى لا يعيش أبناءهم في جلباب فرنسا أو جلباب الإخوان .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: