من قواعد النصر في القرآن الكريم – القانون الرابع - وكان حقا علينا نصر المؤمنين
د - أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5493
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" ......إن تخطيطنا يجب أن لا يعتمد في انتظار النصر على حجم حشده وقوته فقط، بل أن نجعل مقدار الصلاح الذي نحوزه عاملا أساسيًا، وكلما شاعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة فينا، وزادت نسبة صفاء القلب، وكثر الاستغفار، وتوالت التوبة : كانت خطتنا أقرب إلى النصر في التصور الإسلامي، وأجدر بالوصول إلى غايتها ....."
( المفكر الإسلامي : محمد أحمد الراشد )
الحمد لله رب العالمين، سبحانه سبحانه، هو الذي تكفل بإظهار هذا الدين، ووعد بنصرة المؤمنين فقال في كتابه المبين : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ( الروم :47)، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له اقتضت حكمته أن يديل الإسلام والمسلمين تارة، ويديل الكفر والكافرين تارة أخرى، حيث قال الله عز وجل : {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ( آل عمران :140 )، ولقد قال بعض أهل العلم أن هذا في حالات الحرب، حيث تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون (1)، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله عاش فترة من حياته والمسلمون معه في مكة المكرمة ظروف المحنة وشدة البلاء حتى جاء الله بالنصر والفتح المبين، وعاد المحاربون له مؤمنين به، بل وفي عداد الفاتحين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن آل بيته والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
القاعدة القرآنية الرابعة من قواعد النصر : أن نصر المؤمنين حق على الله أوجبه سبحانه على نفسه :
وهي أيضا قاعدة عقدية عملية في آن، فهي تقرر أن المؤمن الحق ينبغي أن يكون على يقين من أن الله ناصره لا محالة ما دام مؤمنا حقا، فإن تأخر عنه النصر أو تخلف فعليه أن يبحث في حقيقة إيمانه، وهو ما يدل عليه قوله تعالى : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ( الروم :47)، تماما كما جعل الله تعالى نجاة المؤمنين حقا عليه أوجبه على نفسه فقال : {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ }( يونس : 103 )، أي : ثم ننجِّي رسلنا والذين آمنوا معهم, وكما نجينا أولئك ننجِّيك -أيها الرسول- ومن آمن بك تفضلا منَّا ورحمة.( التفسير الميسر )،
ولا شك أن عموم المسلمين في زماننا هذا رغم ضعفهم وذلهم - وخصوصا في العقود الأخيرة وما تشهده من هجمة شرسة على الإسلام والمسلمين ما زالت مستمرة إلى يوم الناس هذا – يتشوقون ويترقبون ويستشرفون النصر على أعدائهم، ظانين أن الله سبحانه وتعالى وعدهم بالعزة والنصر والعلو والسؤدد في كتابه الكريم، حيث جاء ذلك في العديد من الآيات منها قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون:8)، وقوله تعالى : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:479) فهم يتطلعون إلى ذلك وينتظرونه، ولكن هل هذا الوعد بالنصر للمسلمين كان لكونهم مسلمين فقط، دون أدنى مزية لهم سوى أنهم مسلمون، لا شك أن وعد الله حق، وأن الله تعالى غير مخلف وعده، والقرآن الكريم كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا في كتابه الكريم في آية صريحة فقال : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم ، من الخير والصلاح والاستقامة إلى النقيض من هذا، كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضعة، من ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك يُعد منافياً للعدل الإلهي، وكيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل ولا علم ولا جهد ولا أخذ بالأسباب ، وقعدت عن جميع العزائم التي كان يقوم بها سلفها الصالح، وذلك أيضاً مخالفٌ للحكمة الإلهية.
* السياق الذي وردت فيه القاعدة :
ولقد جاءت هذه القاعدة القرآنية الكريمة في سياق قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47)، والمعنى : ولقد أرسلنا مِن قبلك -أيها الرسول- رسلا إلى قومهم مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى التوحيد, ويحذرونهم من الشرك, فجاؤوهم بالمعجزات والبراهين الساطعة, فكفر أكثرهم بربهم, فانتقمنا من الذين اكتسبوا السيئات منهم, فأهلكناهم, ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل, وكذلك نفعل بالمكذبين بك إن استمروا على تكذيبك, ولم يؤمنوا.( التفسير الميسر )،
يقول الشعراوي (1) في معنى الآية : " يعني : يا محمد، إنْ كنتَ تعبت في الدعوة، ولقيت من صناديد قريش عنتاً وعناداً وإيذاءً ومكراً وتبييتاً، فنحن مع ذلك نصرناك، وخُذْ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين، فقد تعرَّضوا لمثل ما تعرضتَ له، فهل أسلمنا رسولنا لأعدائه ؟ إذن : اطمئن، فلن ينال هؤلاء منك شيئاً، ومعنى { فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ... } ( الروم : 47 ) أي : الآيات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلاغ عن الله، ومع ذلك لم يؤمنوا وكذَّبوا { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ... } ( الروم : 47 )، وهنا إيجاز لأمر يُفهم من السياق، فلم يقُل القرآن أنهم كذبوا، إنما جاء بعاقبة التكذيب { فَانتَقَمْنَا... } ( الروم : 47 )، وهذا مظهر من مظاهر بلاغة القرآن الكريم، ثم يقرر القرآن الكريم هذه القضية : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } ( الروم : 47 )، وما كان الله تعالى ليرسل رسولاً، ثم يُسلِمه لأعدائه، أو يتخلى عنه؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }( الصافات : 171-173)، ويقول : ولا ينبغي أن تبحث في هذه الجندية : أصادق هذا الجندي في الدفاع عن الإسلام أم غير صادق؟ إنما انظر في النتائج، إنْ كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة الإيمان فيه كانت مخلصة، وإنْ كانت الأخرى فعليه هو أن يراجع نفسه، ويبحث عن معنى الانهزام الذي كان ضد الإسلام في نفسه، لأنه لو كان من جٌنْد الله بحق لتحقق فيه :{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }، ولا يُغلب جند الله إلا حين تنحلّ عنهم صفة من صفات الجندية،
وهكذا فإن هذه القاعدة تؤكد أن نصر المؤمنين حَقٌّ على الله تعالى، أوجبه سبحانه على نفسه، فهو تفضُّل منه سبحانه، كما يتفضل الموصِي بماله على الموصى له.
* ونلحظ من خلال تدبرنا لتلك القاعدة :
- أن الله تعالى جعل نصر المؤمنين وتأييدهم حقا عليه سبحانه،
- قال " الشعراوي " (3) : " ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفياً لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقاً لك، إلا إذا كان واجباً على غيرك، فحقُّك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي مُوجباً فمَنْ أوجب على الله؟ لا أحد؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه، إذن : فالحق الذي جعله لك تفضُّلاً منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقاً، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقاً واجباً، له أن يطالب الورثة به شرعاً ؛ لأن المورِّث تفضَّل وجعله حقاً له، ويقول : إن واجبنا نحو القرآن الكريم حسن فهمه، وقوة اليقين به، فعلينا أن نحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة والعلم والتعليم لكتاب الله عز وجل، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه، وبكل وعوده، وبكل سننه، وبكل أوامره، وبكل نواهيه ليس شيء يندّ عن شيء : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ( البقرة : 85 )،
- أهمية الاٌيمان واليقين بتلك القاعدة وبغيرها من القواعد :
والله تعالى يقول : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } ( غافر:51 )، فهل ثمة يقين بهذا ؟ وهل هو يقين راسخ ؟ وهل له أثر في الواقع ؟ أم أنه يمر على أطراف الألسنة، وتكاد تنكره العقول، وتكاد تتجافاه أو تتعافاه النفوس، والله - جل وعلا - يقول : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 )، القائل رب الأرباب، ملك الملوك، مَن بيده ملكوت كل شيء، مَن إليه يرجع الأمر كله، وبيده الأمر كله، ويقول - جل وعلا - متفضلاً ممتناً، وهو المستغني عن الخلق والعباد يوجب على نفسه حقا : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 )، وقال تعالى أيضا : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } ( الصافات : 172 – 173 )،
وما دام الأمر كذلك فما بال النصر لا تخفق راياته ؟ ما بال جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدوا غلبتهم ؟ هل في ذلك شك مما جاء في كتاب الله ؟ أم أن ثمة ضعف في اليقين وقبل ذلك كذلك مخالفة لشروط ذلك النصر؟
- أن المطلوب هو حقيقة الإيمان لا مجرد الايمان الصوري :
فالقاعدة تشير بوضوح إلى أن النصر للمؤمنين ( ولم يقل للمسلمين )، فلابد أن يكون طالب النصر مؤمناً بالله ليس إيماناً تقليدياً لا يقدم ولا يؤخر، بل ينبغي أن يكون مؤمناً بالله إيماناً من لوازمه أن يحمله على طاعة الله، وأن يمتنع من خلال هذا الإيمان أن يؤذي مخلوقاً، فالشرط الأول وهو شرط – كما يقول بعض أهل العلم – لازم غير كاف وحده، أن تكون مؤمناً .
فالله تعالى وعد الله المؤمنين، ولم يعد المسلمين (4).. فهل نحن مؤمنون حقاً، هل حققنا أوصاف المؤمنين كما جاءتنا في القرآن الكريم، لقد أخبرنا الحق تعالى أن للمؤمنين أوصافا ذكرها في كتابه الكريم غفل عنها كثير من الناس، ففي سورة " المؤمنون " جاء قول الله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ{10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{11}( المؤمنون )، فأين المؤمنون اليوم من تلك الأوصاف ؟ وهل تحققت بوجه عام فيمن يطلبون النصر وينتظرونه،
وفي سورة الأنفال جاء قول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{4}( الأنفال )،
وفي ذات السورة يقول الحق تبارك وتعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }( الأنفال : 74 )،
ولذلك فإن نصر الله تعالى المبين، و تأييده المستبين، إنما هو لعباده المؤمنين، وأوليائه المخلصين، نعم ؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله تعالى، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه و سلم، ومن هنا فإن تحلي العباد بالإيمان بالله تعالى برهان كبير على أنهم هم المنصورون، و أنهم هم الجند الغالبون ؛ فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، و قاصر عن التمام فإن النصر لهم بحسب ذلك، وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان و التوحيد نجد أن أغلب حروب المسلمين التي بها صارت الغلبة لهم، أو حلت بهم الهزيمة راجع إلى الإيمان قوة و ضعفاً،
فالله تعالى وَعَدَ، ووعْدُهُ حق، وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء -وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء و كماله - و هو قريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، و الله سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد،
ونذكر في النهاية بقول الله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ( هود : 49 )، فمهما تأخر النصر فهو آت لا محالة لأنه وعد الله، فإذا استوفى المسلمون الشروط التي يقررها القرآن الكريم، وانتفت الموانع، تحقق النصر، أما متى يكون ذلك ؟ فالعلم عند الله وحده، القائل : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }( البقرة : 214 )،
وختاما لحديثنا حول هذه القاعدة القرآنية من قواعد النصر التي تسهم مع غيرها من القواعد في تحديد حقيقته وجانبا هاما من جوانب مفهومه الفريد في التصور الاسلامي، يمكن لنا بسهولة أن نقرر أنه لا سبيل إلى استعادة المسلمين لمجدهم السالف، وعزهم السابق، واستحقاقهم النصر علي عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه , وموالاة من والاه , ومعاداة من عاداه , وتحكيم شرع الله سبحانه في أمورهم كلها, واتحاد كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى , كما قال الأمام مالك بن أنس رحمة الله عليه مقولته الشهيرة : " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " , وهذا هو قول جميع أهل العلم، والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله، والصدق في ذلك والتعاون عليه , ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم .
وإلى القاعدة الخامسة بإذن الله تعالى،،،،،،،،،،،،،،
******
الهوامش والاحالات :
============
(1) - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، ( ت : 671 هـ) : " الجامع لأحكام القرآن "، تحقيق أحمد عبدالعليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، ط 2، ج 4، ص : 218،
(2) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، تفسير الآية،
(3) – " نفس ألمرجع السابق "،
(4) - ذهب جمهور أهل السنة إلى أن بين الإسلام والإيمان فرقاً عند الاجتماع في الذكر، فإذا ذكر الإيمان والإسلام في كلام واحد فيراد بالإيمان : الأعمال الباطنة، ويراد بالإسلام : الأعمال الظاهرة، وأما إذا افترقا في الذكر فإنهما يجتمعان في المعنى، فإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وعزا هذا إلى جمهور أهل السنة شيخ الإسلام " ابن تيمية " في المجلد السابع من الفتاوى، وهو موجود في " الإيمان الأوسط "، وكذلك عزاه للجمهور ابن رجب في " جامع العلوم والحكم "، والدليل على هذا حديث جبريل المشهور الذي أخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام فعرفه بالأعمال الظاهرة وذكر له أركان الإسلام الخمسة، وسأله جبريل عن الإيمان في الحديث نفسه فعرفه له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعمال الباطنة وذكر له أركان الإيمان الستة . فهنا لما اجتمعا في الذكر فرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في المعنى، ويدل كذلك عليه قوله تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ( الذاريات : 35 – 36 )، ووجه الدلالة أنه لما ذكر لوطا عليه الصلاة والسلام ومن خرج معه من أهله جعلهم مؤمنين , فهم مؤمنون بالباطن لأنهم مؤمنون حقا، لكن لما ذكر لوطا عليه الصلاة والسلام وأهل بيته وفيهم زوجته جعلهم مسلمين لأنه لم يكن جميع أهل بيته مؤمنين في الباطن، فإن زوجته كانت مسلمة في الظاهر فقط، وكذلك قول الله تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( الحجرات : 14 )، ويدل عليه كذلك حديث ابن عباس في وفد عبد القيس الذي خرجه الشيخان، فدل هذا على أنهما إذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، وإذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، وهكذا نحلص إلى أن الفرق بين الإسلام والإيمان إنما يكون : حيثما ذكرا جميعا فالإسلام أعم، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، أو يفسر الإيمان باعتقاد القلوب والإسلام بأعمال الجوارح، أما إذا ذكر الإٍسلام وحده، أو الإيمان وحده دخل فيه الآخر وصار اسما لاعتقاد القلوب وأعمال الجوارح ونطق اللسان، أنظر :
- انظر :
0 شيخ الإسلام أحمد بن تيمية : " مجموع الفتاوى "، جمع وترتيب : الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه الشيخ محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، المدينة النبوية، بدون تاريخ، ١٤١٢ هـ، ج 7،
0 ابن رجب الحنبلي :" جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا "، تحقيق : شعيب الأرناؤوط و آخر، مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة: الأولى - سنة الطبع: 1411هـ،
************
أ.د/ أحمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: