" إن استنفار الأمة كلها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوبها هو من أسباب توبة العاصي ويقظة الغافل وتزكية الصالح " ( الشيخ سفر الحوالي )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين والطاهرين، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أمـا بعـد :
هذه هي القاعدة الثالثة من قواعد النصر والظفر والتمكين كما جاءت في القرآن الكريم، وذلك في سعينا الحثيث نحو تحديد المعالم الأساسية لمفهوم النصر في التصور الاسلامي، والذي يختلف اختلافا جذريا عن مفهومه لدى البشر، فبعد أن ذكرنا القاعدة الأولى : المتمثلة في قوله تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم ..}، والقاعدة الثانية ويمثلها قول الله تعالى : { وما النصر إلا من عند الله }، تأتي القاعدة الثالثة، ويجسدها قول الحق جل جلاله :
وهي قاعدة " عقدية عملية " في الوقت ذاته، يتمثل الجانب العقدي فيما سبق الإشارة إليه في القاعدة الأولى والثانية أي الاعتقاد الجازم بأن النصر من عند الله وحده، وإذا نصر عبده فلا غالب له، وإن تركه وخذله فلا ناصر له، أما الجانب العملي فيتمثل في أن لهذا النصر ثمنا لابد من دفعه، وللمؤمنين دور لابد أن يلتزموا بأدائه على الوجه الأكمل ليتحقق موعود الله لهم بالنصر، وهو أن ينصروا الله تعالى : ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
والمعنى الاجمالي للآية كما جاء في التفسير : " إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله , والحكم بكتابه , وامتثال أوامره , واجتناب نواهيه , ينصركم الله على أعدائكم , ويثبت أقدامكم عند القتال " ( التفسير الميسر )،
يقول " القرضاوي " (1) : " إن هذا القانون يوضح أن الله لا ينصر إلا مَنْ نصره، فمَنْ نصر الله نصره الله، وهو قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء – كما في الآية التي نحن بصددها -، وجاء – في موضع آخر من القرآن الكريم - في صورة الخبر الثابت المؤكد بلام القسم ونون التوكيد في قوله تعالى : { ......وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج40 )، وإنما تتحقق النُصرة من الله تعالي بنُصرة دينه، وإعلاء كلمته، تحكيم شرعه في خلقه، وبهذا جاء في وصف مَنْ ينصرون الله تعالي عقب الآية السابقة قوله تعالي : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ( الحج : 41 )، وقد يُعبَّر القرآن عن نصر الله تعالي بالإيمان، أو الجندية لله تعالي، فمَنْ آمن بالله حق الإيمان فقد نصر الله تعالي، وغدا جنديًا في جيشه . وفي هذا يقول سبحانه : {.....وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 )، ويقول : {......وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } ( الصافات : 173 )،
كيف ننصر الله تعالى ؟:
أشرنا إلى أن هذه القاعدة جاءت بصيغة الشرط والجزاء، فالشرط أن ننصر الله تعالى، والجزاء : نصر الله لنا، وتثبيت أقدامنا، والسؤال الذي كثيرا ما يرد على الذهن هنا هو : كيف ننصر الله تعالى ؟
تعالو لنرى نماذج لما يقوله القرآن الكريم في الاجابة على هذا السؤال :
- ننصره بالإيمان الخالص والعلم النافع والعمل الصالح، والإتباع، حيث نقرأ في خواتيم سورة البقرة قول الله تعالى :
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{286}،
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لما نزلت هذه الآية { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }، قال : دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قولوا سمعنا وأطعنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تبارك وتعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } .... الآية { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، قال : قد فعلت، { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا }، قال قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } ... الآية، قال : قد فعلت، ( قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، تحقيق الألباني : صحيح )،
وفي رواية : " قال الله تعالى :﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ ........إلى أن قالوا ﴿واعف عنا﴾ قال "نعم قد فعلت"، ﴿واغفر لنا﴾ قال الله "نعم قد فعلت", ﴿وارحمنا﴾ قال الله "نعم قد فعلت", ﴿أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾ قال الله "نعم قد فعلت",
من هم هؤلاء؟
إنهم الذين في الآية التي قبلها, الذين توافر فيهم الإخلاص والمتابعة , التوحيد والمتابعة , هم الذين قال الله فيهم ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون﴾، ﴿كلٌ﴾ كل واحد ﴿آمن بالله وملائكته وكنبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله﴾ هذا التوحيد والإخلاص، ﴿وقالوا سمعنا وأطعنا﴾ وهذه المتابعة، ﴿غفرانك ربنا وإليك المصير﴾, هؤلاء لو قالوا انصرنا على القوم الكافرين؛ يقول الله "نعم قد فعلت", لهم النصر ولهم التمكين ولهم الظفر، ولهم الفوز على أعدائهم، وليس لأحد سواهم
- كونوا أنصار الله :
وفي ذات المعنى يأتي قول الله تعالى في خطابه للمؤمنين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } ( الصف : 14 )، فأمر الله المؤمنين أن يكونوا مثل حواريي عيسى عليه السلام، أي أن ينصروا الله تعالى كما نصره الحواريون، ثم بين لنا كيف نصروه فقال الله تعالى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }( المائدة : 111 )،
وقال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{52} رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ ( هذا هو التوحيد والاخلاص ) وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ( هذه المتابعة ) فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{53}( آل عمران )، فالله تعالى يقول لنا كونوا مثلهم, انصروني كما نصروني؛ أنصركم على أعدائكم،
ـ ومن الآيات المؤكده على أن نصرة الله تعالى تكون بالتوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى والبعد عن كل ألوان الشرك، قول الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }( النور :55 )،
ننصره بالإعداد الذاتي والاستعداد لمنازلة الأعداء والأخذ بكافة الأسباب :
قال تعالى : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }( الأنفال : 60 )،
وأمرنا الله عز وجل أن نرفع مستوانا العسكري والصناعي والتكنولوجي إلى أعلى المستويات، وحثنا على ذلك في سورة الحديد، عندما قال سبحانه : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز ( الحديد : 25)، فإذا تخلفنا في مجال العلم والتكنولوجيا، وإذا كنا لا نعرف خواص الحديد، ولا نستطيع أن نصوغ منه سلاحاً ندفع به يد الظلم والغدر عن أنفسنا وأوطاننا، فكيف ننصر الله في هذا العجز ؟
ننصره بالقتال في سبيل الله تعالى :
قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }( البقرة : 216 )، أي : فرض الله عليكم -أيها المؤمنون- قتال الكفار, والقتال مكروه لكم من جهة الطبع; لمشقته وكثرة مخاطره, وقد تكرهون شيئًا وهو في حقيقته خير لكم, وقد تحبون شيئًا لما فيه من الراحة أو اللذة العاجلة, وهو شر لكم. والله تعالى يعلم ما هو خير لكم, وأنتم لا تعلمون ذلك. فبادروا إلى الجهاد في سبيله.
قال تعالى : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }( التوبة : 14 )، والمعنى : يا معشر المؤمنين قاتلوا أعداء الله يعذبهم عز وجل بأيديكم, ويذلهم بالهزيمة والخزي, وينصركم عليهم, ويُعْلِ كلمته, ويشف بهزيمتهم صدوركم التي طالما لحق بها الحزن والغم من كيد هؤلاء المشركين ,
يقول " الشعراوي " (2) : " إن الله تعالى لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }، ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ }، و " الأيد " هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، " وأيَّده " أي قواه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار، ويقول في موضع آخر : " ......إذن فيريد سبحانه أن يربي في نفسونا أنه جل وعلا هو الذي يهزِم، وهو الذي يَغْلِب، مصداقاً لقوله الحق:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }، وقد يقول قائل : لماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار والمشركين؟ أي لماذا القتال، مادام النصر والهزيمة من الله تعالى ابتداءا وانتهاءا ؟، يجيب الشعراوي : لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد نشأت.. ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في " حنين "، وقال بعضهم : لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة أولاً، وبعد أن أعطاهم الحقُّ الدرس التأديبي أولاً.. نصرهم ثانياً، والحق يقول:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً }( التوبة : 25 )، وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائماً؛ لأن الأسباب إنما تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر لقال الأعداء: إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية.
ننصروه بمعرفة فقه السنن الربانية الذي هو الفقه الغائب اليوم والعمل بمقتضاه :
المتدبر للقرآن الكريم يعلم أن ثمة حقيقة أساسية يبرزها النص القرآني، وهي أن الإنسان هو صانع حركة الحياة ضمن السنن الكونية والاجتماعية التي تمثل القوانين التي أودعها الله سبحانه في الكون وفي حركة الإنسان في المجتمع، لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ( الأنفال : 53 )، فالإنسان يتحرك في الحياة من خلال أفكاره، وحركة الأفكار هي التي تمثل حركة الحياة، لأن حركة الحياة هي صورة ما نفكر به، لذلك كله فإن التغيير الذاتي على مستوى الطبائع والأفكار والقناعات، هو قاعدة التغيير الاجتماعي والسياسي.فقضايا الاجتماع الإنساني لا تتغير وتتحول إلا بشرط التحول الداخلي ـ الذاتي ـ النفسي، فالتعاليم القرآنية واضحة في أن لهذا الكون وحياة الإنسان سنناً وقوانين، هي التي تتحكم في مسيرة الكون، كما أنها هي القوانين المسيرة لحياة الإنسان الفرد والجماعة.
إن التفكر في السنن الربانية ( الكونية والشرعية والاجتماعية ) مما حث القرآن على العناية به : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (الروم : 9)، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ( يوسف : 109)، حيث وردت عدة مرات، فنجد في سورة الحج قول الله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } ( الحج : 46 )، فقرن السير في الأرض - وهو إما حسي أو معنوي- بالعقل، وهو موطن الحكمة، بل إن الآيات جاءت أمرا بالسير في الأرض، ولم تقتصر على الاستفهام، فقال سبحانه وتعالى في عدة آيات : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } ( آل عمران : 137)، { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (الأنعام : 11)،
إن قراءة التاريخ والاطلاع على أحوال الأمم الماضية يضيف إلى رصيد التجربة رصيدا علميا من تجارب الآخرين، ولذا قال الشاعر:
ضل قوم ليس يدرون الخبر *** اقرأ التاريخ إذ فيه العبر
وكلما تعمق الإنسان في رؤية الماضي من خلال السنن الكونية والشرعية، كان أكثر قدرة على وضوح الرؤية في المستقبل، ضمن الضوابط الشرعية والعقلية.
ولقد علمنا الاسلام إن أعقل العقل أن نعرف سنة الله في الوجود , سنة الله لا تتخلف ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، قال تعالى : {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }( الأحزاب : 62 )،
وقال تعالى : {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }( الفتح : 23 )، أي : سنة الله التي سنَّها في خلقه من قبل بنصر جنده وهزيمة أعدائه, ولن تجد -أيها النبي- لسنة الله تغييرًا.
إن الوعد بالنصر والتمكين للمؤمنين سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضى الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة، ولكنها مرهونة بتقدير الله يحققها كيف يشاء وحين يشاء، ولقد تبطئ آثارها الظاهرة ولكنها لا تختلف أبدًا، وقد يدركها البشر وقد لا يدركونها، ولكنه الوعد الذي لا يتخلف، يُخلص الجند، وتتجرد الأمة فتكون غالبة منصورة، مهما وُضعت من عوائق وقامت من عراقيل في طريقها، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد وقوى الدعاية، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله والذي لا يخلف، ولو قامت كل قوى الأرض في طريقه وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ.
وأَن سنة النصر لا تتخلف متى استوفت الشروط من الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ،
إن معرفة السنن لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله وتوحيده، فإنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله تعالي: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل وإحداث التوبة والاستغفار، وترك ما أوجب حلول المصيبة وهذا خير في حد ذاته، لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي وضعف الإيمان، وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
- ننصر الله بإحسان الظن بالله والثقة فيه :
إن من أكبر أسباب النصر: إحسان الظن بالله عز وجل، والثقة في حكمته ورحمته، وأنه ناصرهم لا محالة، وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه وكادوا له: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا. ألا وإن من أسباب النصر: إدراك أن العاقبة للمتقين بكل ما تعنيه من معنى وشعور، فإن وعد الله لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، وإن تأخر وأبطأ فلحكمة يعلمها الله، فقد يتأخر النصر «لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد ولم يتم تمامها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا.
وقد يتأخر النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد، وقد يتأخر النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، وقد يتأخر النصر لتزيد الأمة من صلتها بالله وهي تعاني وتتألم وتبذل، وقد يتأخر النصر؛ لأن الأمة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها، وقد يتأخر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، وقد ينخدع به البعض لعدم إدراكهم لزيفه وفساده، وقد يتأخر النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير، فلو انتصرت حينئذ للقيت المعارضة، من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يتأخر النصر، فتتضاعف التضحيات والآلام مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية " (3)
- ننصره بكثرة الذكر والوفاء بعهده :
فالله تعالى يقول:{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }( البقرة : 40 )، ويقول جل ذكره : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }( البقرة : 152 )، يقول " الشعراوي " رحمه الله : " فإذا وفيت بالعهد أوفى الله، وإذا ذكرت الله ذكرك، وإذا نصرت الله نصرك..والحديث القدسي يقول : " ......وإن تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "، هكذا يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا أن المفتاح في يدنا نحن، فإذا بدأنا بالطاعة. فإن عطاء الله بلا حدود، وإذا تقربنا إلى الله تقرب إلينا، وإذا بعدنا عنه نادانا، هذا هو إيمان الفطرة، ويقول أيضا : وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال :{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }( محمد : 7 )، إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه (4)
- وختاما نقول : أن النصر الذي تبحث عنه الأمة وتنتظره في زمن عز فيه النصر، وطال ترقب المسلمين له، هذا النصر – كما تشير هذه القاعدة القرآنية وتؤكد – لن يتأتى إلا بعد أن تأخذ الأمة الخطوة الأولى بأن تنصر الله تعالى بنصرة دينه وشرعه ومنهجه والعمل به وتجسيده واقعا في الحياة،
فالاسلام يهتف بنا أن من نصر الله نصره الله، ومن تولى الله تعالى تولاه الله عز وجل، ومن حفظ الله حفظه الله، ومن آمن بالله حق الإيمان تولى الله الدفاع عنه، وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا غلام ! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام و رفعت الصحف " ( قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 7957 في صحيح الجامع )،
فلنحافظ على فرائض الله يحفظنا الله تعالى، ولنحافظ على سنن رسول الله ينصرنا الله دائماً وأبداً، ويجعل أمرنا مرفوعاً ودعاؤنا مجاباً، وكل أمورنا كما نريد ونبغي لأنه قال في قرآنه الكريم: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)،
..............وإلى القانون الرابع بإذن الله تعالى،،،،،،،
****************
الهوامش :
=======
(1) – يوسف القرضاوي : " جيل النصر المنشود "، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1992م، ص ص : 6 – 7،
(2) - محمد متولي الشعراوي : " مرجع سبق ذكره "، ص : 1164
(3) - حسن بن محمد الشريم : " ولو يشاء الله لانتصر منهم - وجوب بذل الاسباب لطلب النصر "، الكتيبات الاسلامية، دار ابن الاثير، الرياض، (د.ت)،
(4) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج 1، ص : 44،
***********
أ.د/ أحمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: