قوانين النصر – القانون الثاني – وما النصر الا من عند الله
د - أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3797
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" المؤمنون يستمدون زادهم من ربهم أولاً، و من دينهم ثانيا، ومن دعم أهلهم واخوانهم ثالثًا وينتظرون النصر "
( الشهيد : أحمد ياسين )
************
الحمد لله رب العزة رب العالمين، ولي التمكين للدين، الملك الحق المبين، خير الناصرين، وأحكم الحاكمين، لا إله إلا هو يقص الحق وهو خير الفاصلين، مجّدَ نفسه في كتابه بامتلاكه وحده لأسباب النصر والتمكين، فقال : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ( الاعراف : 197 ) وقال تعالى : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ( آل عمران : 126 )، وصلى الله وسلم على نبيه محمد إمام المرسلين، المقطوع بنصرهم من رب العالمين في قوله سبحانه : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } ( الصافات : 171 – 172 ) ورضي الله عن الصحابة أنصارهم والمهاجرين، الذين تجردوا من العلائق جادين، فخرجوا من أهلهم وديارهم ينصرون الله ورسوله حتى سماهم الله بالصادقين،
أما بعد :-
ذكرنا في الحلقة السابقة أن القرآن الكريم تضمن العديد من القواعد والقوانين المتعلقة بمفهوم النصر وحقيقته في المنظور الاسلامي، وعرضنا للقانون الأول الذي تضمنته الآية الكريمة : أولى هذه القوانين الله عز وجل يقول : {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ( آل عمران : 160 )، وهي قاعدة عقدية في المقام الأول تؤسس لعقيدة راسخة مؤداها أن المصدر الحقيقي للنصر، والسبب الحقيقي للنصر هو إرادة الله تعالى، فإذا ما نصر عبدا أو جماعة فلا غالب له /لها، وإن يخذا عبدا ويكله إلى نفسه وإلى قوته فلا ناصر له على الاطلاق، فالمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله تعالى،
وبينا كذلك أن هذه القاعدة لا تعني أن الانسان لا دور له، في العمل والاعداد والأخذ بالاسباب، وغيرها من الأسباب المادية التي رتب الله تعالى النصر عليها في ضوء القاعدة التي نحن بصددها، فالاساس العامل الرباني، ثم يأتي دور الانسان،
وفي نفس المعنى، وفي ذات السياق العقدي تأتي القاعدة الثانية تأكيدا للقاعدة السابقة :
القاعدة الثانية : ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ﴾ :
وهي أيضا قاعدة عقدية : أي أن الذي يملك النصر وحده هو الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم في تدبيره وفعله،
وردت هذه القاعدة في القرآن الكريم مرتين : الأولى في آل عمران : { .....وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }( آل عمران : 126)،
والثانية : في سورة الأنفال : { ......وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }( الأنفال : 10 )،
وتضمنت هذه القاعدة أسلوب الحصر والقصر (1)، فحصرت النصر وقصرته على أنه من عند الله وحده،
وفي هذه القاعدة بشرى للمؤمنين، وطمأنة لهم كأنه يقول : إن نصركم أيها المؤمنون من عند الله وحده الذي هو أرحم الراحمين، والذي فضله ونصره وتوفيقه أقرب إليكم من حبل الوريد، وكلما ازددتم له قربا بطاعته والاستجابة له، والتزام أوامره واجتناب نواهيه، وكلما تقربتم إليه بتحقيق عبوديته، أزداد النصر والفلاح والفوز قربا إليكم.
قال أبو جعفر محمد بن جرير " وما النصر إلا من عند الله "، يقول : وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم , لا بشدة بأسكم وقواكم , بل بنصر الله لكم , لأن ذلك بيده وإليه , ينصر من يشاء من خلقه " إن الله عزيز حكيم "، يقول : إن الله الذي ينصركم، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه " عزيز " لا يقهره شيء , ولا يغلبه غالب , بل يقهر كل شيء ويغلبه , لأنه خَلَقَه، حكيم في تدبيره ونصره من نصر , وخذلانه من خَذَلَ من خلقه , لا يدخل تدبيره وهنٌ ولا خَلل. أهـ.(2)،
وما دام النصر هو من عند الله وحده، ومادام الله هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمةُ في قَدَرِه والإحكام، فعندما يتبرأ الناس من حولهم وقوتهم ويلوذون بحول الله وقوته، وعندما تنقطع بهم الأسباب، وتوصد دونهم جميع الأبواب في وجوههم، فعند ذلك ينزل النصر، وهذه قضية عقائدية تكررت مرات عديدة في القرآن الكريم، وفي تاريخ المسلمين،
ففي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد تلك القاعدة وتلح عليها، وتصيح بنا أن النصر من عند الله وحده، ومن ذلك نذكر :
قول الله تعالى : {......وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء .....} ( آل عمران : 13 )، فمن شاء الله أن يؤيده بنصره أيده، ومن شاء أن يكله لنفسه أوكله لنفسه وما كان له أن ينتصر إلا بمشيئة الله،
وقوله تعالى : {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }( الأنفال : 26 )، أي يوم بدر،
وقول الله تعالى : {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }( الأنفال : 62 )،
وقوله عز وجل : { ......يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }( الروم : 5 )،
وقوله تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }( هود : 113 )، أي : وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم, ويتولى أموركم.
وقوله : {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً }( الكهف : 43 )،
وقوله : {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ( الأنبياء : 77 )،
وقوله : {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } ( الحج : 15 )،
وقوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }( العنكبوت : 10 )،
وقوله عز وجل : {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ }( الصافات : 116 )،
وانظر كيف أن القرآن يخبرنا أن الله تعالى يقذف الرعب في قلوب الطغاة والجبابرة وجنودهم، فتميد الأرض وتهتز مت تحت أقدامهم في الوقت الذي يثبت فيه المؤمنين، قال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} ( الأنفال : 12 )،
وهكذا تعلمنا تلك القاعدة أن النصر في نهاية المطاف هو من عند الله وحده، فعلى المؤمنين ألا يعتمدوا على ما معهم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبهم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه، ولهذا قال { من عند الله العزيز } فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الأوقات على المسلمين إدالة غير مستقرة "(3).
***********
الهوامش والاحالات :
============
(1) - وهو أسلوب لتوكيد الكلام وتثبيت الغرض منه وازالة الشك، وأداة الحصر هي هنا هي : ( ما، وإلا ) فهما من أدوات الحصر، ومن أسلوب الحصر، وأساليب الحصر كثيرة ومنها : ( إنما، وتقديم ما حقه التأخير .....وغيرها )، ومن الأمثلة على ذلك :
- قول الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }( الذاريات : 56 )، وفائدة أسلوب الحصر هنا دليل على أن الله لم يخلقنا إلا لغاية واحدة وهي العبادة وعدم الإشراك،
- وقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }( الأنبياء : 107 )، حصر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في كونها رحمة للعالمين ومن ما سوى الله تعالى،
- وقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ......} ( الحجرات : 10 )، وكأنما يقول لنا تعالى :إن الأخوة الحقيقية لا تحصل إلا بين المؤمنين.
وكما في الحديث : " إنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ "، فنجد أن (أكْلَ الذئبِ من الغنم) حُصِرَ في القاصية دون غيرها.
وهكذا
(2) - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م، تفسير الآية،
(3) - عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي : " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان "، تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، 1420هـ - 2000م، ص : 146،
**********
أ.د / أحمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: