كيف كانوا وكيف أصبحنا – 3 – الفاروق عمر ومحاسبة النفس
أ.د/ أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3705
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
- محاسبة النفس ومراقبتها ،
- من قواعد المعاملات الانصاف من النفس ، والرجوع إلى الحق ،
- فضيلة العفو ،
- من صفات الامام العادل ،
- مقومات العلاقات الإنسانية ،
- مبدأ سيادة القانون ،
=====================================
حياة الفاروق عمرعامرة بما أطلق عليه أحدهم بالعُمريات والنورانيات ذات الأثر البالغ في التربية الإسلامية التي تستهدف صلاح الحياة واستقامتها ،وإيقاظ الهمم والسمو بها ،
وتلك العُمرياتهى نسمات من صنيع الإيمان حين يباشر بشاشة القلوب المؤمنة ، فيحيلها إلى أنهار فياضة بعطاء الخير ، ونور البصيرة ، وذاخرة بالمواقف الفريدة ، والدروس النافعة ، والعطاء المتجدد ،
كيف لا ونحن أمام عمر رضي الله عنه ، وما أدراك ما عمر (1) ، إنه واحد من أصحاب القلوب الحية السليمة ، وحياته بعد الإسلام نموذجا يحتذى للمؤمن الحق ، الذي تمكن الإيمان من شغاف قلبه ، فاستقامت نفسه على الحق ،
وفي هذه الحلقة نعيش مع نموذج حي من نماذج عمق الإيمانوصدقه ، وقوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، والحرص على إيقاظ النفس وتزكيتها امتثالا لأمر الله تعالى في قوله : ، وتعهدها بالمحاسبة والتهذيب والمراقبة والإصلاح ، نموذج من نماذج الرجوع الى الحق ، والانصاف من النفس :
يقول الأحنف بن قيس (2): " كنت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معى، فأعنى وانصرني على فلان فقد ظلمنى.. وجار علي ، فرفع عمر درته التي كانت يؤدب بها الناس وخفق بها رأس الرجل وقال له : تدعون أمير المؤمنين وهو معرَّضٌ لكم، مقبلٌ عليكم ، ( أي وهوفارغ لا يشغله شيء ذي بال ) حتى إذا شغل بأمر من أمور المسلمين أتيتموه : أعنى .. أعنى.....
فانصرف الرجل ، كاسف البال ، غضبان أسفاً، وما هي إلا لحظات حتى صاح عمر فيمن حوله : على بالرجل ( أي إيتوني بالرجل ) ،
فلما عادالرجل ، ناوله عمر مخفقته وقال له : خذ واقتص لنفسك منى !!فتعجب الرجل ، فقال عمر : امتثل ما أقوله لك؛ واقتص لنفسك مني بما ضربتك وآذيتك !!
قال الرجل : لا والله ، معاذ الله أن أقاصصك يا أمير المؤمنين، ولكن ادعها لله ثم لك، قال عمر: ليس هكذا العفو إما أن تدعها لله إرادة ما عنده من الثواب والآجر، أو تدعها لي فأعلم ذلك، قال الرجل: بل ادعها لله، ....وانصرف ، هل توقف الأمر عند هذا الحد ؟ كلا ،قال الأحنف : وعدت مع عمر إلى بيته فصلى ركعتين ثم جلس يحاسب نفسه ويقول:
- ابن الخطاب.؟ كنت وضيعاً فرفعك الله ، وكنت ضالاً فهداك الله ، وكنت ذليلاً فأعزك الله.. ثم حملك على رقاب الناس ، فجاءك رجل يستعديك فضربته ، فجاءك رجل يستنصر بك على ظالمه فضربته؟ فماذا تقول لربك غداً إذا أتيته)؟!!
وأضحت هذه المقولة هي ً نشيد عمر الدائم كلما جد له موقف يرى أنه تجاوز فيه فيردد قائلا : " كنت وضيعاً فرفعك الله، كنت ضالاً فهداك الله، كنت ذليلاً فأعزَّك الله، فماذا تقول لربك غداً؟ "
قال الأحنف: فجعل عمر يعاتب نفسه في ذلك معاتبة، ظننا أنه من خير أهل الأرض.(3)
هذا هو إسلامنا، وتلك هي حقيقته وقيمه وأخلاقه ،وهؤلاء هم سلفنا الصالح ، وتلك كانت أخلاقهم ومعاملاتهم في ضوء مباديء الإسلام وقيمه السامية ، فهل بين المبادئ والمذاهب والأديان كالإسلام في روعته وجلاله ، وواقعيتهومثاليته ، وهل بين رجالات الأمم وقادتها وزعمائها كأسلافنا العظام ، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام ،
وما من عاقل يحاول أن يجري مقارنة بين ما كانوا عليه ، وما صرنا إليه اليوم ، إلا وسيهتف بلسان الحال والمقال : أين الثرى من الثريا ، وأين حضيض الغبراء من سمو الجوزاء ،
إنها واقعة قصيرة في ظلال الإسلام ، وفي رحاب الايمان الحق ، تجلي لنا – بلغة العصر – مبدأ سيادة القانون ، ومدى احترامه وتعميم تنفيذه، وتبين لنا كيفية شمول تطبيقه على الخاص والعام على السواء ، من غير تمييز بين حاكم ومحكوم، ولا تفريق بين غني وفقير، ولا بين شريف ووضيع ، ولا بين وزير وغفير ، الكل سواسيه ، أمام منهج الله وأحكام شريعته ، فها نحن نرى في هذه اللمحة العمرية، نرى رئيس الدولة وقائدها وزعيمها الفاروق عمر قاهر كسرى وقيصر ، يحمله اجتهاده على تأديب شخص من رعيته، فيضربه على رأسه، ثم يتبين لأمير المؤمنين أنه أخطأ في الاجتهاد ، وجار في حكمه، فلا يمنعه شيء من أن يعلن ويعترف على رؤوس الأشهاد أنه قد أخطأ، اعترافا بالحق ورجوعا إليه ، ثم لا يقف عمر عند حد الاعتراف بالخطأ، حتى يتجاوزه إلى الرجوع عن الخطأ، وإلى التكفير عنه، وأي رجوع هو؟ وأي تكفير؟ يقول عمر للرجل وقد ناوله درته التي ضرب بها رأسه: " أيها الرجل امتثل ما أقوله لك، واقتص لنفسك مني، بما ضربتك وآذيتك ، ولا يمنعنك من ذلك مانع "، فيقول الرجل محترماً مكرماً للحكم الأبوي الرحيم " معاذ الله أن أقاصصك يا أمير المؤمنين "، ولم يتركه عمر حتى نال منه العفو ، وتحلل من جوره وظلمه ، فيرجع عمر إلى نفسه موبخاً لها ومؤنباً " يا عمر كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً وذليلاً فهداك وأعزك الله، تضرب رجلاً مستنصراً بك على ظالمه، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟".
ياله من درس بليغ ، ما أحرانا أن نتعلمه من عمر الفاروق ، في زمن عز فيه العدل والإنصاف ، وسادت فيه الأثرة والأنانية ، وتيسرت فيه سبل التمادي في الباطل ، وصعبت – وربما استحالت – فيه سبل الرجوع إلى الحق ، حتى أضحت حياة الناس جحيما لا يطاق ،
- ولعل من المناسب هنا أن نشير إلى أن هناك العديد من القيم الهامة التي يجسدها هذا الموقف ، كقيم العدل والمساواة ، واحترام كرامة الانسان ، والصفح والعفو ، والرجوع إلى الحق ، .......وغير ذلك من القيم التي رسخها وأكد عليها الإسلام الحنيف ، ولعل من أهم ما نتعلمه من هذا الموقف " قيمة الإنصافُ " ، وأثرها في العلاقات الإنسانية ، والانصاف من النفس يشتمل على أمرين :
الأول :قهرها على أن تؤديَ ما أُمرت به وتجتنب ما نُهيت عنه ، وهذا في حقوق الله تعالى ،
والآخر :يتعلق بحقوق المخلوقين ، وهو أن يعطي الناس من نفسه ما يُحب أن يُعطوهُ من أنفسهم ، وفي حديث عبد الله ابن عمرو وهو عند أحمد ومسلم من حديث طويل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ" ، من ذلكم إنجاز الوعد والوفاء بالعهد والبر والصلة والبشاشة وغير ذلك ، وهي خصلةٌ جامعة ،
-والإنصاف من النفس خصلة عظيمة، ومنقبة كريمة، وخلق شريف لا يصح أن يفوت أحداً منا حظه منها، وهي صفة قل من يتحلى بها، وأكثر الخلق كما ترون على المكابرة والمعاندة، فلو أخطأ أحدهم خطأ مثل الجبل لأنكر وعاند، أما المؤمنون الذين يريدون كمال الإيمان فإنهم ينصفون من أنفسهم ، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان : الإنصاف من نفسه ، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم "، ( صحيح البخاري ) ،
وفي هذا الصدد يؤكد " الحوالي " على مجموعة من الحقائق نوجزها فيما يلي : (4)
- أن الإنصاف من النفس من الإيمان، وهذا تؤكده سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صعد المنبر وقال: " أيها الناس! من كان له مظلمة فليأخذها " ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالرحمة، وعلم الناس العدل والإحسان، وجاء بهذا الدين العظيم الذي لا يظلم في ظله أحد ولو كان كافراً، وأبعد ما يكون عن الظلم هو دين الإسلام وشريعته التي تأبى إلا العدل مع كل أحد، وفي ذلك يقول تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }( المائدة :2 ) ، ومن تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة الكرام يجد أن الواحد منهم كان ينصف من نفسه، ولا يكابر في خطأ أخطأه، وكان الواحد منهم إذا فعل ما ينبغي أن يعتذر منه في معاملة مع أي أحد فإنه يعتذر عن ذلك، بل ربما كان الواحد منهم محقاً،
- أن الإنصاف من النفس من أخلاق أهل النفوس العالية التي يجب أن يتربى عليها شباب الدعوة في كل زمان، فيجب أن تكون هذه من الخلال التي لا تفارق الإنسان، وأن يجتهد في إرغام نفسه عليها؛ لأنها صعبة وشاقة، ولولا مشقتها ما جعلها عمار رضي الله تعالى عنه بهذه الدرجة وبهذه المنزلة، فكم يصعب على الإنسان أن يقول: نعم أخطأت أو تجاوزت أو قصرت، ولكن هنالك من الناس من أعطاه الله تبارك وتعالى هذا الخلق العظيم سجية وجبلة، وطبعه عليه، فمن جعل الله تعالى جبلته كذلك فليحمد الله، فإن الله عز وجل قد أعطاه أمراً عظيماً، قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }( فصلت :35 ) ، فصاحب هذه الخصلة من ذوي الحظ العظيم، وإن لم يكن كذلك فليجاهد نفسه على أن يكون منهم بقدر المستطاع؛ ليحقق كمال الإيمان.
- إن مما يعين الإنسان على اكتساب هذه الصفة أن يتذكر أنه ما منا أحد إلا وفيه عيب، وما منا أحد إلا وفيه تقصير، وهكذا فطر الله تبارك وتعالى البشر، وقد جُعل المؤمن مرآة أخيه، فالواجب عليه أن لا يتمادى في خطئه إذا نصح، أو في ذنبه مهما كان، وعليه أن يرجع ويستغفر، ولهذا لم يثن الله تبارك وتعالى على أوليائه الصالحين بأنهم لا يذنبون؛ لأن (كل بني آدم خطاء)، وكل واحد منهم معرض للذنب، ولكنه أثنى عليهم بقوله: (( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[آل عمران:135]، فكون العبد يذنب أو يخطئ ويقصر فهذا أمر لا بد منه، ولكن الإصرار على الذنب هو المشكلة، ولذا فعلى المرء أن يكون منصفاً.
- ومع أن هذه العبارة أكثر ما تطلق مع الخلق فإنه من الواجب أيضاً أن يكون الإنسان منصفاً من نفسه في تعامله مع الله عز وجل، فيجب عليه أن يراجع نفسه، وأن ينصف من نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، وإذا لم تكن معاملتك بالإنصاف فإنك لست على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فإن من هديه صلى الله عليه وسلم العفو والصفح والإحسان والإنصاف ولو من نفسه أو من الأقربين، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صاحب الفضل على العالمين أجمعين، ولا حق لأحد عليه، ولم يحدث أنه صلى الله عليه وسلم أخطأ في حق أحد أو أساء إلى أحد، بل كان صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا الإنصاف، وكان يعلم أصحابه ذلك،
- أنه لا يجوز لمن قد أخطأ وقصر واعتدى أن يدافع عن نفسه، ويبرر لها الخطأ وينفيه عنها أو يستكبر عن سماع الدعوى ضده
- أن الصحابة الكرام بلغوا الغاية في الإنصاف وفي العدل، وبهذا العدل أقاموا دولة الخلافة العظيمة التي عم نورها المعمورة شرقاً وغرباً، وبهذا العدل أقبل الخلق على دين الله أفواجاً، وأصبح الناس يتحاكمون إليهم، ويهربون من ظلم أقربائهم وذويهم وملوكهم إلى ظل هذا الدين، وحكم المسلمين الذي يجدون فيه العدل والحق ،
- وها نحن اليوم نرى كيف أن حقوق الإنسان أضحت اليوم من القضايا الهامة على المستوى الدولي ، حتى صدرت بشأنها المواثيق الدولية التي أصبحت ملزمة لشتى دول العالم ، وكثر الحديث عن تلك الحقوق في المحافل الإقليمية والدولية ، ومع ذلك ما زالت تلك الحقوق ضائعة مهدرة، ولا سيما بالنسبة للإنسان المسلم في كل مكان في أرجاء المعمورة ، أما هذا الدين الحنيف فإنه بلغ الغاية في ذلك ،
وختاما نقول أن الإنصاف من النفس خصلة عظيمة، ومنقبة كريمة، وخلق شريف ، وقيمة إسلامية سامية ، لا يصح أن يفوت أحداً منا حظه منها،
وها هو جبار الجاهلية وعملاق الإسلام الفاروق عمر وهو أمير للمؤمنين ، يضرب لنا أروع الأمثلة في التمسك بهذا الخلق في تعامله من الرعية ،
***************
الهوامش والحواشي :
============
(1) – هو أمير المؤمنين عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ( 40 ق هـ - 23 هـ / 584 - 644 م ) بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، يُكنى أبا حفص ، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهاجر معه ، وشهد المشاهد ، وجاهد بين يديه حتى أعز الله به الدين، وظهرت كلمة المؤمنين ، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنن، وأحد أصهار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن كبار علماء الصحابة وزهادهم ، يضرب بعدله المثل ، يجتمع نسبه مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الجد السابع ، ويجتمع معه من جهة أمه في الجد السادس ، وكان في الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم ، وله السفارة فيهم ، ينافر عنهم وينذر من أرادوا إنذاره ، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين ، فقوي به المسلمون ، قال ابن مسعود : "كان إسلام عمر فتحا، وكان هجرته نصرا، وكانت إمامته رحمة، وما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم " ، وصحب عمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد إسلامه، فأحسن صحبته، وبالغ في نصرته، ووقف حياته على المدافعة عنه والذود عن الإسلام. وشهد الوقائع ، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يستشيره في كثير من الأمور، وقد أثر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : "عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان". ولقبه بــ "الفاروق" وكناه بأبي حفص ، بويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر (سنة 13 هـ) ، وفي أيامه واصلت الجيوش العربية الفتوحات التي بدأت في عهد أبي بكر، فتم فتح الشام والعراق، وافتتحت القدس والمدائن ومصر والجزيرة، حتى قيل: انتصب في مدته اثنا عشر ألف منبر في الإسلام. وهو أول من اتخذ ديوانا لضبط المال، وعمل إحصاء للمسلمين، وفرض العطاء لهؤلاء، مبتدئا بأزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم أهل السابقة. وأول من استقضى القضاء، ووضع للعرب التاريخ الهجري، وكانوا يؤرخون بالوقائع ، وأمر بإنشاء معسكرات للجند، أصبحت فيما بعد مدنا زاهرة، كالبصرة والكوفة والفسطاط. ينسب إليه كثير من أحكام أهل الذمة الذين حرص على عدم إرهاقهم. وعرف بشدته في الحق، ومخافته من الله، وحرصه على العدل، والعمل على خدمة رعيته. وكان يحاسب ولاته على أعمالهم ويحصي عليهم أموالهم. ولما طلب منه الصحابة قبل وفاته أن يستخلف، جعل الخلافة في ستة ، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم : عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ، وأوصى بأن يشهد عبد الله بن عمر ألا يكون له من الأمر شيء. قتله أبو لؤلؤة فيروز الفارسي (غلام المغيرة بن شعبة) غيلة بخنجر في خاصرته وهو في صلاة الصبح في المسجد، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليال. له في كتب الحديث 537 حديثا ،
أنظر : -
- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني : " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء " ، دار الكتاب العربي – بيروت ، ط4 ، 1405هـ ، ج1 ، ص : 38 ،
- ابن الأثير " الكامل في التاريخ " ، دار صادر ، بيروت ،1979 م ، المجلد الثال، ص : 39 ،
(2) – هو الأحنف بن قيس الضحاك التميمي (3 ق هـ - 72 هـ / 619 - 691 م) ، والأحنف لقب له لحنف كان برجله ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا، ولم يره ، روي أنه قال: بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان، إذ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي، فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى، قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيًا إلى بني سعد، فسألوني عن الإسلام، فجعلت أخبرهم وأدعوهم إلى الإسلام، فقلت: إنك تدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسنًا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اغفر للأحنف ، فكان الأحنف يقول: فما شيء أرجى عندي من ذلك، يعني دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الأحنف أحد الحلماء الدهاة الحكماء العقلاء، يعد في كبار التابعين بالبصرة ، وتوفي الأحنف بن قيس بالكوفة في إمارة مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، ومشى مصعب في جنازته ، ومن كلام الأحنف : " في ثلاث خصال ما أقولهن إلا ليعتبر: ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما ، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع إليه ، يعني الملوك ، ولا حللت حبوتي (1) إلى ما يقوم الناس إليه " ،
أنظر : - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي ( ت : 463هـ) : " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " ، تحقيق : علي محمد البجاوي ، دار الجيل، بيروت ط1 ، 1412 هـ - 1992 م ، ج1 ، ص : 145
(3) - أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر ( ت : 571هـ) : " تاريخ دمشق " ، تحقيق : عمرو بن غرامة العمروي ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1415 هـ - 1995 م ، ج44 ، ص : 291 ،
(4) - سفر الحوالي : " ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي " ، دار الكلمة ، الرياض ، السعودية ، الطبعة الأولى 1420 هـ / 1999 م ،
---------
أ.د/ أحمد بشير ، جامعة حلوان ، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: