أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7153
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يشهد الوطن هذه الأيام تصاعد موجة من العنف المُمنهج المنظم الذي يظهر في كل مرّة في شكل ووقت محدّدين مرّة في كلية آداب منوبة وأخرى في اجتماعات نداء تونس وثالثة في النزل والحانات... إلا أن الغريب في الأمر أنها انتقلت هذه الأيام لتطال الأموات والعصائد في مشاهد غريبة كل الغرابة، حيث لم أتصوّر أن يصل الأمر بالبعض من أبنائنا إلى هذا الحدّ من الاستهانة بأسلافهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تربوا عليها، كل ذلك بِوَهم الدفاع عن العقيدة والقضاء على الشرك والحال أن الأمر بالمعروف إن صحّت تسمية فعلتهم بالمعروف لا تكون إلا بالمعروف.
جهيمان العتيبي الوهابي الثائر
في البدء نقول إن هذه المسألة لا تناقش على المستوى العقدي، فالوهابيّة وإن كانت لها وجهة نظر في القبور والأولياء إلا أنها اليوم تمثل الجهاز الإيديولوجي للدولة السعودية وبيّن أن سياسة الدول لا تبنى على العقائد بل على المصالح فأنّا تكون المصلحة يُؤسّس للمواقف وتُعقد التحالفات ويُموّل الدعاة خدمة لهذا النظام أو ذاك، فجهيمان العتيبي تلميذ ابن باز وأحد وجهاء المذهب الوهابي قتل صحبة 450 من أنصاره في الحرم المكي سنة 1979 وأهيلت عليه سجف النسيان لا لشيء إلا لأنه عارض حكم آل سعود واعتبره غير شرعي واللافت للانتباه أن الذين يروّجون للوهابية يغفلون ذكره ولا يحتجون به أو برسائله باعتباره رأيا ضمن المذهب فضلا عن أنه قاد لأوّل مرّة انشقاقا مذهبيا ومعركة ضد الدولة كانت ساحتها الحرم المكي ففي رسالة له عنوانها"الإمارة والبيعة والطاعة وحكم تلبيس الحكام على طلبة العلم والعوام" تحدّث مطوّلا عن استخدام النظام السعودي لعلماء المذهب الوهابي قال:"وقد رأينا حينما ننصحهم أنهم يحتجون علينا بالشيخ عبد العزيز بن باز وأمثاله فنقول من المعروف عن الشيخ حفظه الله وعافاه ممّا هو فيه أن إنكاره غالبا إنما هو جواب عن سؤال إذا سئل أما أن يبادر إلى إنكار المنكر مع أنه ركن من أركان الدولة فذاك لو أنهم أبقوا مكانته عالما يعلم الناس الخير لكن إنما هو الآن موظف إداري ويخدعونه بـ (أبونا) و(والدنا) و(شيخنا) وغير ذلك من اطراءات المنافقين، وإنما يأخذون منه ومن علمه ما وافق أهواءهم فإذا خالفهم بالحق لم يتحرجوا من مخالفته وردّ الحق وهو يعلم ذلك جيّدا، نسأل الله أن يزيدنا وإياه بصيرة. ونحن نعلم أنهم إنما جعلوا في هذه المنزلة الشيخ ابن باز وأمثاله ممن يثق الناس بدينهم وعلمهم اختاروهم من غير المبصرين لئلا يروا كثيرا من المنكرات... ونعتقد أن أهل العلم سبب الشر للحاكم والمحكوم لأنها لا تجتمع ولا تتفق طائفة حق وطائفة باطل ويسيرون صفّا واحدا ولا تعمل أحدهما على إزالة الأخرى إلا بوجود من يجمع بينهما وذلك بمداهنة من فوقه والتلبيس على من تحته، فإن أراد شخص أن ينصح المحكوم قالوا ما أنت بأعلم من الشيخ فلان صاحب المنصب الفلاني، وإن أراد أن ينصح الحاكم قالوا عندنا من هو أعلم منك. وعلى هذا استقام حكم أكثر الدول. وامتازت دولتنا بقسط وافر من هذا التلبيس منها ومن علمائها والتي تسمي نفسها اليوم بدولة التوحيد وإنما وحّدت بين صفوف المسلمين والنصارى والمشركين وأقرّت كلا على دينه كالروافض وقاتلت من قاتل المشركين الذين يدعون عليا والحسين، وقد حاربت كذلك عبادة القبور والقباب وأرست قواعد عبادة الريال...".
ولأن المسألة الوهابية اليوم خرجت من نطاق العقيدة والدين وانزاحت إلى خدمة أغراض وأهداف سياسية لا تخفى إلا على عمي البصر والبصيرة يتحاشى دعاة الوهابية حتى مجرّد ذكر جهيمان العتيبي الذي اغتيل وصودرت رسائله وحوصرت أفكاره بقوّة المال وضعف الرجال ومن الجدير بالملاحظة أن الدكتور رفعت سيد أحمد نشر 11 رسالة لجيمان سنة 1988 عن مكتبة مدبولي في حوالي 480 صفحة تحت عنوان "رسائل جهيمان العتيبي قائد المقتحمين للمسجد الحرام بمكة".
مفتي العصيدة
بعد أحداث 14 جانفي وبعد أن اختلط الحابل بالنابل طلع علينا البعض ممّن يدعون العلم بالدين فلبسوا جبيبات ووضعوا كشيطات على رؤوسهم واحتلوا المنابر وتجرّؤوا على الفتيا وخلطوا الدين بالسياسة، وقد وصل الأمر بأحدهم إلى القول بأنه "يفتي" بأن الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل مؤخرا محرّم شرعا دون أن يستند في ذلك إلى أي دليل شرعي حيث اكتفى بترديد أقوال خصوم الاتحاد من رجال السياسة، فالتساهل في خلط الدين بالسياسة والتجرئ عليهما وإضاعة التخوم بينهما تفسدهما الاثنين معا ودليلنا على ذلك أن الإفتاء بحرمة الاضراب شرعا يمكننا أن نحوّلها إلى إفتاء بوجوبه استنادا إلى القاعدة الفقهية التي تنص على أنه إذا ما تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما، وهل أعظم فسادا في الأرض من استشراء العنف والحرابة والتقاتل بين الناس بما يهدّد الوطن في وحدته والمجتمع في أمنه.
هذا التلاعب الذي ابتدأنا نلحظه في بلادنا فيما يُنشر أو يصدر عن هذا الطرف أو ذاك تحت ستار الدين وصل إلى حدود من السفه غير مسبوقة من ذلك أن أحدهم أفتى بتحريم العصيدة فصحّ فيه الوصف بأنه مفتي العصائد الأمر الذي لبّس على بعض خلق الله ودفعهم إلى التجرئ على مقامات الأولياء بالهدم والإحراق بتعلة أنهم يشذبون العقيدة مما ران عليها من مظاهر الشرك وفاتهم أن العقائد مستقرّة في وجدان التونسي منذ أربعة عشر قرنا ولم تنل منها عوادي الزمان لأنهم شعب مستقر ومن استقراره وثباته صنع الأنظمة والبناءات والعادات التي تحفظ التواصل بين الأجيال وهو أمر تفتقده الوهابية التي هي دين البدو الرحّل ممّن لا يثبتون في مكان لهذا السبب بالذات كانت مساهمتهم في مختلف المظاهر الحضارية التي نجدها عند مختلف الأمم منعدمة، فكيف ننتظر ممّن لا مدينة للأحياء لديه أن يرعى مدينة لأمواته؟.
يحترم التونسيون قبور موتاهم ويعتنون بمقامات أوليائهم لأنهم شعب أصيل يحفظ لكل من ساهم بجهد مهما ضؤل الحق في أن يبقى له شاهد وعلامة تدل على أنه قد مرّ ذات يوم بهذه الأرض وساهم مع غيره في صنع تاريخها، والأكيد لدينا أن زيارة أضرحة الأولياء وقبور الأسلاف لا مدخل للشرك فيها لأنها تستهدف توطيد رابطة الإيمان وتنقية القلوب وتهذيب النفوس وإفراد المعبود بالذكر فلو لم يحفظ الله البيت الحرام بضبط شعائر الحج وتفصيل القول فيها لتجرّأ هؤلاء الأجلاف الرحّل على الكعبة المشرّفة وهدموها كما صنعوا مع قبور الصحابة وغيرهم بدعوى محاربة الشرك وهم في الواقع إنما يفسدون في الأرض ويصحّ فيهم قوله تعالى:"وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" صدق الله العظيم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: