|
صيدلية القرآن (3) وأفوض امري الى الله
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 28429
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين، وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله قائد الغر الميامين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد :
فحديث اليوم عن التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وعلاج المكر والكيد،
* القرآن وقصة مؤمن آل فرعون :
لقد جاءت قصة "مؤمن آل فرعون" مفصّلة في القرآن الكريم في سورة "غافر"، التي سميّت أيضا :" سورة المؤمن " إشارة له، وهو رجل من آل فرعون وخاصّته (1)،
(1) – قيل في بعض التفاسير أن مؤمن آل فرعون هو ابن عمه،
وهو نموذج من النماذج الخالدة في طريق الإيمان والدعوة إلى الله، والتوكل على الله، وتفويض الأمر لصاحب الأمر جل جلاله، إنه مؤمن آل فرعون الذي نِا في أجواء الكفر والضلال، وتربى في مناخ القهر والجبروت والاستبداد، وتفتحت عينيه على أعتى أنواع الشرك والعناد والتمرد على الله يوم أن رأى وسمع فرعون الجبار يعلنها عالية مدوية على مرأى ومسمع من شعبه المسكين المضطهد المقهور، يعلنها فرعون بكل صلف وغرور وكبرياء وعمى قلب كما سجلها عليه القرآن الكريم إلى يوم القيامة : {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى }( النازعات : 24 ) الذي لا رب فوقه ، فالأمر أمري، والحكم حكمي، والقضاء قضائي، قاتله الله وعليه من الله ما يستحق، فهذا شأن كل الفراعين في كل زمان ومكان، ويعلنها تارة أخرى فيقول : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }( القصص : 38 )، والمعنى : وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة , فأشْعِل لي - يا هامان- على الطين نارًا , حتى يشتد , وابْنِ لي بناء عاليًا، لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته , وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين المفترين،
وأعلنها تارة ثالثة في كلمته التي تسيل كبرا وغرورا وبجاحة وافتخارا وهو يصيح في عظماء قومه وكبراؤهم : {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }( الزخرف : 51 )،
ونعود إلى الرجل الصالح، إلى مؤمن آل فرعون الذي يعد واحدا من الرجال الذين خلدهم القرآن الكريم إلى يوم القيامة، بسبب موقفه من دعوة موسى عليه السلام الذي رأى فيها طوق النجاة له ولقومه من غضب الله وسخطه وسوء عذابه، فلقد آمن بما جاء به موسى عليه السلام من عند الله تعالى، آمن وكان يكتم إيمانه في أول الأمر، لكنه أعلنه بعد ذلك بلا خوف من فرعون ولا وجل، ودعا قومه إلى الإيمان بموسى مثله وجادلهم وحاورهم، وبذل في ذلك جهدا جهيدا، محاولا إفهامهم وإقناعهم، فلم يفهموا ولم يعقلوا، وفي دعوته لقومه أخلص لهم النصيحة، وجادلهم بالتي هي أحسن، وسلك معهم طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وحاول إقناعهم بكل السبل، فقعد لهم القواعد، وأسس لهم الأسس، وساق لهم من الحكم والمواعظ والحقائق الواضحة الجلية ما من شأنه أن يزيل شكهم، وينير بصائرهم، ويزيل الغشاوة من على قلوبهم، ولكن هيهات هيهات، ومن ذا الذي يمكنه أن يهدي من أضل الله ؟ لا أحد يستطيع ذلك مهما أوتي من فصاحة البيان ومهارة الإقناع، ولقد علمنا القرآن، وعلمتنا سنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم أن للهداية أهلاً اختصهم الله تعالى بها، وإلا فاقرأ قول الله تعالى : " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " ( يوسف :103)، وتأمل قوله جل جلاله : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }( آل عمران :20 )، واقرأ قوله أيضا : { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ }( الشورى : 48 )،، وإنها لحقيقة قرآنية واضحة جلية، سجلها القرآن الكريم في مواضع عديدة بلغت حولي (12) إثنى عشر موضعا، جميعها تؤكد أنه لا يملك الهداية القلبية للإيمان إلا الله تعالى، نعم فلقد قست قلوبهم، وعميت بصائرهم، وحق في القوم قول الله تعالى : {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }( النساء : 88 )،
وقوله تعالى : {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }( الأعراف : 178 )،
وقوله عز وجل : {مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }( الأعراف : 186 )،
وقوله جل شأنه : {.............وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }( الرعد : 33 )،
وقوله تبارك وتعالى : {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً }( الإسراء : 97 )،
وقوله عز من قائل : { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }( الكهف : 17 )،
وقوله سبحانه : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }( الزمر : 23 )،
وقوله تقدست أسماؤه :{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }( الزمر36 )،
وقوله : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ }( الشورى : 44 )،
وقوله : {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }( الشورى : 46 )،
- إن مؤمن آل فرعون - كما جاءت قصته في القرآن الكريم - يعطينا نموذجا رائعا في ماهية الدعوة إلى الله تعالى وكيفيتها وآدابها وقواعدها، التي ينبغي لكل عامل في مجال الدعوة والتربية والإصلاح والتوجيه والتغيير الإيجابي وبناء الإنسان المسلم أن يعيها، فهي مجموعة من المباديء والقواعد والتوجيهات التي لا مناص من الإسترشاد بها إن أردنا تغييرا حقيقيا في واقعنا المتأزم المعاصر،
سياق القصة كما جاءت في القرآن الكريم :
جاءت قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر، حيث يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) }( غافر )،
إن الخطوط العريضة لقصة مؤمن آل فرعون كما عرضتها الآيات السابقة يمكن لنا أن نوجزها في جملة من النقاط البارزة فيما يلي :
- مكانة موسى ابن عمران : أن الآيات الكريمة تحدثنا عن موقف من مواقف نبي الله موسى عليه السلام، في دعوته لفرعون الذي طغى وتجبر واستعلى في الأرض، نعم إنه نبي الله موسى بن عمران، وما أدراك ما موسى بين الأنبياء والرسل عليهم صلوات ربي وتسليماته، إنه واحد من أولي العزم من الرسل، ووهو الذي أثنى عليه رب العزة والجلال في العديد من المواضع في القرآن الكريم، وإن أردت على ذلك شاهدا ودليلا فاقرأ وتدبر قول الله تعالى مخاطبا إياه في كتابه الكريم : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }( طه : 39 )، أي وألقيت عليك – يا موسى - محبة مني، فصرت بذلك محبوبًا بين العباد , ولتنشأ وِتربى على عيني وفي حفظي ورعايتي، وقال تعالى فيه أيضا : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }( طه : 41 )، أي وأنعمتُ عليك - يا موسى - هذه النعم اجتباء مني لك, واختيارًا لرسالتي , والبلاغ عني , والقيام بأمري ونهيي، وقوله تعالى : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }( الأعراف : 144 )، إني اخترتك على الناس برسالاتي إلى خلقي الذين أرسلتك إليهم وبكلامي إياك مِن غير وساطة, فخذ ما أعطيتك مِن أمري ونهيي, وتمسَّك به, واعمل به, وكن من الشاكرين لله تعالى على ما آتاك من رسالته, وخصَّك بكلامه، فتلك وغيرها أوسمة إلهية، ونياشين ربانية تزين صدر موسى عليه السلام إلى يوم القيامة،
- سلح الله موسى بالآيات وسلطان مبين لتدل على صدق نبوته : لقد أرسل الله تعالى موسى عليه السلام بآياته العظيمة، الدالة على حقيقة ما أُرسل به , وحجة واضحة بيِّنة على صدقه في دعوته , وبطلان ما كان عليه مَن أُرسل إليهم، وهم فرعون وقومه، قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً }( الإسراء : 101 )، إنها تسع معجزات واضحات شاهدات على صِدْق نبوته وهي كما قال بعض أهل العلم : العصا ( التي تتحول إلى ثعبان حين يلقيها بأمر الله )، واليد ( التي يضمها إلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء أي مِنْ غَيرِ مَرضٍ ولا بَأْسٍ، والتي ضرب بها البحر فانفلق بإذن ربه )، وجاءت هاتان المعجزتان في قول الله تعالى : {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ }( الأعراف : 107 – 108 )، وأيضا في قوله تعالى عن العصا : {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}، والسنون ونقص الثمرات، قال تعالى {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ...}، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكلها جاءت في قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}، إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا. وجعل بعضهم الجبل بدل «السنين» وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}[7/171]، ونحوها من الآيات، وقال بعضهم : وقال بعضهم: الآيات التسع المذكورة هي: العصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة (1)،
(1) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1983م، ج21، ص : 50،
- أرسله الله إلى فرعون وهامان وقارون : ثلاثة من عتاة البشر وجبابرتهم، فرعون ملك " مصر" , وهامان وزيره , وقارون رجل الملايين وصاحب الأموال والكنوز التي لا تعد ولا تحصى ( وقارون وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل، إلا أنه مالأ فرعون ووقف في صفه ) , فأنكروا جميعا رسالته واستكبروا , وتمردوا عليه وعاندوه وآذوه وكذبوه واتهموه بكل نقيصة فقالوا عنه : إنه ساحر كذاب , في زعمه أنه أُرسِل للناس رسولا ؟، واتهموه بذلك دفعاً لقومهم حتى لا يؤمنوا به، وهكذا بلغ بهم الإجرام أن رموه بقاصمتين : السحر والكذب، وذلك حماية لمصالحهم، وحرصا على مكانتهم، وخوفاً من تغيير الوضع عليهم، ولقد جاء ذكر هؤلاء الثلاثة الذين أرسل إليهم موسى في موضع آخر في سورة العنكبوت، حيث يقول الحق تبارك وتعالى : {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ }( العنكبوت : 39 )، أي فلم يستجيبوا لدعوة موسى ولكنهم أستعلوا عليه وتعاظموا في الأرض , واستكبروا فيها , ولم يكونوا ليفوتوننا , بل كنا مقتدرين عليهم، وهو ما حدث بعد ذلك حيث تجلت قدرة الله عليهم بأن أغرق فرعون وهامان وجنودهما، وخسف بقارون وقومه الأرض فابتلعتهم بأمر ربها، وسبحان مالك الملك والملكوت،
- تمادى المدعوين في صلفهم وغرورهم وطغيانهم واستبدادهم : إذ لما جاء موسى فرعون وهامان وقارون بالحق والصدق من عند الله عز وجل، وجاءهم بما يثبت بالدليل القاطع أنه رسول الله إليهم، فأراهم المعجزات الظاهرة البينة الواضحة الجلية مِن عند الله عز وجل، كان رد فعلهم على ذلك أنهم لم يكتفوا بمعارضتها وإنكارها وتكذيبها , ولم يكتفوا باتهام موسى بالسحر والكذب، ذهبوا أبعد من هذا فقالوا لجنودهم ومعاونيهم : اقتلوا جميع أبناء الذين آمنوا معه , لتستأصلوا شأفتهم وتقضوا عليهم، واستبقوا نساءهم أحياء للخدمة والاسترقاق وتماديا في الامتهان والإذلال،
- من السنن الربانية والقانون الإلهية النافذة : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }، أي أن تدبير أهل الكفر ومكرهم وكيدهم ومؤامراتهم على أهل الصلاح والتقوى، لن يجدي نفعا، ولن يحقق لهم غرضا، وما هو إلا في ذَهاب وهلاك، وخسران وضياع وبطلان (1)، وتلك سنة ربانية ماضية في كل زمان ومكان لا تتغير ولا تتخلف، قال الجزائري في ( أيسر التفاسير ) : وهو عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه (2)، قال ( القشيري ) رحمه الله : " كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه ( أي خلق الله ) في وقته، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته، إذ لم يقل أحد غيره صراحة : " ما علمتُ لكم من إله غيري "، فأرسل الله تعالى أخصَّ عباده وأكرمهم ( في وقته ) إلى أخسّ عباده، ثم إن فرعون سعى في قتل موسى، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله، ولكن كما قال تعالى : {وما كيد الكافرين إلا في ضلال}، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً، ما وقع فيها غيرُ حافِرها، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه " (3)،
(1) – قال صاحب البحر المديد : " فإنهم باشروا قتلهم أولاً، ( أي قبل ميلاد موسى عليه السلام ) فما أغنى عنهم ذلك شيئا، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه ( فظهر موسى عليه السلام بل وتربى في قصر فرعون الذي كان يريد قتله صغيرا )، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، فلم يعلم فرعون ومن معه أن كيدهم ضائع في الكَرّتين، أنظر : - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " البحر المديد "، دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ، ج6، ص : 456،
(2) - جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير "، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط5، 2003م، ج4، ص : 527،
(3) - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " مرجع سبق ذكره "، ج6، ص : 458،
قال ابن عاشور في التحرير : " في قوله تعالى : قالوا اقتلوا .... وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه، ففعل قالوا ( بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة : قال قائل )، لأن المقصود قوله بعده : { وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ }، وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم، وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي وُلد موسى في زمنه، وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة الأعراف : ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ( الآية، ثم بقوله : ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد ( ( الأعراف : 133 ) (1)
(1) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير "، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م، ج24، ص : 123 – 124،
- تمادي فرعون في التمرد والإجرام والطغيان : فاتخذ قراره بقتل موسى عليه السلام ليتخلص منه نهائيا، وأعلن قراره على أشراف قومه قائلا : دعوني واتركوني أقتل موسى، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا رسولا, فيمنعه منا , إن كان صادقا، وراح يبرر لهم قراره بالقتل فقال : إني أخاف ( إن لم أقتله وأخلص البلاد منه ) أن يُبَدِّل دينكم الذي أنتم عليه , ويغير عقيدتكم ( والتي هي قائمة على عبادتهم له وللأصنام لتقربهم إليه )، فهو يزعم أنه يخاف عليهم بعد أن يغلب عليهم موسى أن يدينون بدينه، أو أن يُظْهِر في أرض "مصر" الفساد بالقتل والتخريب وبث الفتن بين الناس ونحوه، وهو ما يفسد عليهم دنياهم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينهم بالكلية، وجاء في ( البحر المديد ) : " وكان ملَؤه أي ( ملؤ فرعون ) إذا همَّ بقتله كفّوه، وقالوا : ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ، وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك، وكان قوله تمويهاً على قومه، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله، ولولاهم لقتله، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل، وقوله : {وليَدْعُ رَبَّه} تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه، ولكنه أخوف ما يخافه " (1)، وقال ابن عاشور : " وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمورعلى ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فساداً إذ ليست لهم حجة لدينهم غيرالإِلف والانتفاع العاجل (2)
(1) - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " مرجع سبق ذكره "، ج6، ص : 457،
(2) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور :" مرجع سبق ذكره "، ج24، ص : 124،
والقاري للقصة المتدبر للآيات يجد تلك المعاني متمثلة بوضوح لا لبث فيه في تلك الكلمات النيرة، والعبارات الوضاءة، وأنظر إلى أهم ما قاله هذا المؤمن – التقي النقي الورع - لقومه كما بين القرآن الكريم :
1- القاعدة الأولى : بيان وإنكار : حيث قال لهم بمنتهى الحكمة والعقل والمنطق :{أتقتلون رجلا أن يقول ربيّ الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟}( غافر : 28 )، مالكم يا قوم، أين عقولكم، أين بصائركم، أين أفهامكم، والله إن أمركم لعجيب، وإن صنيعكم لمنكر، فكيف تستحلون قَتْلَ رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله (2)
(2) - " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " نفس هذه الكلمة التي سجلها القرآن على لسان مؤمن آل فرعون لقومه، قالها الصديق أبو بكر رضي الله عنه في بداية إسلامه دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة صناديد قريش، كما جاء في الحديث عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال : " سألت ابن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر ( الصديق ) رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ؟ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ ( غافر : 28 )،
( قال الألباني : انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من ( صحيحه ) وصرح في بعضها بـ " عبد الله بن عمرو بن العاص " )، أنظر : محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح السيرة النبوية "، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، ص : 148،
, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة، والآيات الساطعة، والحجج اللامعة والمعجزات الظاهرات الباهرات مِن ربكم على صِدْق ما يقول؟
2- القاعدة الثانية :{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا}.
3- {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب* مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد}.
4- {يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد* يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد}.
5- {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد* يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}.
6- {ويا قوم مالي أدعوكم الى النجاة وتدعونني الى النار* تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم الى العزيز الغفّارْ.
7- ثم ختم نداءاته لقومه قائلا لهم:{ فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري الى الله إنّ الله بصير بالعباد}.
8- فكانت عاقبة هذا الرجل: النجاة، وكانت عاقبة آل فرعون: الخسران، كما قال الله تعالى:{ فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب }.
سيدنا جعفر الصادق : وعجبت لمن مُكر به ( أو خاف مكر الناس به ) ولم يفزع إلى قول الله : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } [ غافر : 44 ]
فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } .
ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى، لأن المكر هو : تبييت من خصمك لشرّ يصيبك، بينما أنت تقف يجانب الحق، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق، وهذا هو المكر السّيء، ويقابله مكر حَسن، ولذلك يقول الحق : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ]
إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه، هذا اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر : افطنوا إلى هذه، فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على الله لأنه سبحانه العليم، الخالق، المُربّي، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف هذا التبييت، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو مكر ضعيف، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها .
شعر أن مؤامرة تحاك ضده
إذا الإنسان خاف من المكر وفوض أمره إلى الله عزوجل يقيه الله سيئات الماكرين،
** وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُـمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْـفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الاَخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ
يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي بعثه {وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} أي على جهل بلا دليل {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه {لا جرم أنما تدعونني إليه} يقول حقاً ؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله {لا جرم} حقاً. وقال الضحاك {لا جرم} لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا جرم} يقول: بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد {ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاَخرة} قال مجاهد: الوثن ليس له شيء, وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر, وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الاَخرة, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ؟ * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} وقوله: {وأن مردنا إلى الله} أي في الدار الاَخرة فيجازي كلاً بعمله ولهذا قال: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم {وأفوض أمري إلى الله} أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم {إن الله بصير بالعباد} أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى: {فوقاه الله سيئات ما مكروا} أي في الدنيا والاَخرة, وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الاَخرة فبالجنة {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم, فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً, وهذه الاَية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً}.
ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الاَية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, من زعم ذلك ؟» قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئاً من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة» ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته «القبر كقطع الليل المظلم, أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً, أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق» وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم «لا» قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا أيضاً على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الاَية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الاَية دلت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البزرخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الاَتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الاَية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امراة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم, فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور» وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر, وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به.
وقد يقال إن هذه الاَية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه, وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً وقال قتادة في قوله تعالى: {غدواً وعشياً} صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم, وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤوا, وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش, وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها, وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه «ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن مدرك الحارثي حدثنا عتبة ـ يعني ابن يقظان ـ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى» قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال: «إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك» قلنا فما إثابته في الاَخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عذاباً دون العذاب» وقرأ {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسناداً غير هذا. وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم, قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سوداً فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها, فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل, وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
وقال (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل و يرجي التوبة بطول الأمل بقول في الدنيا.. نحوه مع مغايرات كثيرة وزيادات ونقيصة.
[ 551 ]
يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين، يظهر شيمة الصالحين ويبطن عمل المسيئين، يكره الموت لكثرة ذنوبه ولا يتركها في حياته، يسلف الذنب ويسوف بالتوبة، يحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم، يبغض المسيئين وهو منهم، يقول لم أعمل فأتعنى بل أجلس فأتمنى، يبادر دائبا ما يفنى ويدع أبدا ما يبقى، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي، يرشد غيره ويغوي نفسه وينهى الناس بما لا ينتهي ويأمرهم بما لا يأتي، يتكلف من الناس ما لم يؤمر ويضيع من نفسه ما هو أكثر، يأمر الناس ولا يأتمر ويحذرهم و لا يحذر، يرجو ثواب ما لم يعمل ويأمن عقاب جرم متيقن، يستميل وجوه الناس بتدينه ويبطن ضد ما يعلن، يعرف لنفسه على غيره ولا يعرف عليها لغيره، يخاف على غيره بأكثر من ذنبه ويرجو لنفسه أكثر من عمله ويرجو الله في الكبير و يرجو العباد في الصغير فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، يخاف العبيد في الرب ولا يخاف في العبيد الرب. - يعجبني من الرجل أن يرى عقله زائدا على لسانه ولا يرى لسانه زائدا على عقله. - ينبغي لمن عرف [ شرف ] نفسه أن ينزهها عن دناءة الدنيا. - يكرم السلطان لسلطانه والعالم لعلمه وذو المعروف لمعروفه والكبير لسنه (1). - يستدل على إيمان الرجل بلزوم الطاعة والتحلي بالورع والقناعة (2). - ينبغي لمن عرف الله سبحانه أن لا يخلو قلبه من خوفه ورجائه. - ينبغي لمن عرف دار الفناء أن يعمل لدار البقاء. - ينبغي لمن رضي بقضاء الله أن يتوكل عليه. - ينبغي لمن عرف الاشرار أن يعتزلهم. - ينبغي لمن عرف الفجار أن لا يعمل عملهم. (1) في الغرر 2 مثله مع تقديم وتأخير. (2) في الغرر 1: بالتسليم ولزوم الطاعة، 2 - يستدل على عقل الرجل بالتحلي بالعفة والقناعة، فكأن المصنف جمعهما في حكمة واحدة.
[ 552 ]
- ينبغي للعاقل أن يكتسب بماله المحمدة ويصون نفسه عن المسألة. - يبلغ الصادق بصدقه ما لا يبلغه الكاذب بحيلته. - ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل مخاطبة الطبيب المريض. - ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال وسكر القدرة وسكر العلم وسكر المدح وسكر الشباب فإن لكل ذلك ريحا خبيثة تسلب العقل وتستخف الوقار. - يستدل على الادبار بأربع : سوء التدبير، وقبح التبذير، وقلة الاعتبار، و كثرة الاغترار. - يستدل على الايمان بكثرة التقى و ملك الشهوة وغلبة الهوى. - يسير الرياء شرك. - يسير الظن شك. - يسير الغيبة إفك. - يسير الشك يفسد اليقين. - ينبغي للعاقل إذا علم أن لا يعنف و إذا علم أن لا يأنف (ويهتم بأمر المعاد فكم من ذاهب ما عاد والله بصير بالعباد) (1). - يا أيها الناس اقبلوا النصيحة ممن نصحكم وتلقوها بالطاعة ممن حملها إليكم و اعلموا أن الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلا أوعاها للحكمة ومن الناس إلا أسرعهم إلى الحق إجابة و اعلموا أن الجهاد الاكبر جهاد النفس فاشتغلوا بجهاد أنفسكم تسعدوا و ارفضوا القيل والقال تسلموا وأكثروا ذكر الله تغنموا وكونوا عباد الله إخوانا تفوزوا لديه بالنعيم المقيم. - يا أيها الناس إلى كم توعظون فلا تتعظون وكم قد وعظكم الواعظون و حذركم المحذرون وزجركم الزاجرون و بلغكم العالمون وعلى سبيل النجاة دلكم الانبياء المرسلون وأقاموا عليكم الحجة وأوضحوا لكم المحجة فبادروا العمل و اغتنموا المهل فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب (2) ولا عمل وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. - يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من (1) ما بين القوسين لم يرد في الغرر. (2) يجوز فيه الرفع والنصب.
[ 553 ]
غضبت له فإن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك ولو أن السماوات والارض كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منهما مخرجا فلا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لاحبوك ولو قرضت منها لامنوك. - يا عبيد الدنيا العاملين لها إذا كنتم في النهار تبيعون وتشترون وفي الليل على فرشكم تتقبلون وتنامون وفيما بين ذلك عن الاخرة تغفلون وبالعمل تسوفون فمتى تفكرون في الارتياد ومتى تقدمون الزاد ومتى تهتمون ليوم المعاد. - ينبغي أن يستحيي المؤمن إذا اتصلت له فكرة في غير طاعة. - ينبغي أن يتداوى المرء من أدواء الدنيا كما يتداوى ذو العلة، ويحتمي من لذاتها وشهواتها كحمية المريض. - ينبغي أن يكون علم الرجل زائدا على نطقه وعقله غالبا على لسانه. - ينبئ عن عقل كل امرئ ما يجري على (1) لسانه. - يستدل على المحسنين بما يجري لهم على ألسن الاخيار من حسن السيرة والفعل. - يستدل على المروة بكثرة الحياء و بذل الندى وكف الاذى. - يسير الدنيا يفسد الدين. - يسير الدين خير من كثير الدنيا. - يفسد اليقين الشك وغلبة الهوى. - يسير الحق يدفع كثيرا من الباطل (2). - يستثمر العفو بالاقرار أكثر من استثماره بالاعتذار. - يبتلى مخالط الناس بقرين السوء ومداجاة العدو. - يحتاج ذو النائل إلى السائل. - يحتاج العلم إلى الحلم. - يحتاج الحلم إلى الكظم. - ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الظلم. - يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم. (1) في الغرر: ما ينطق به. (2) في الغرر 14: كثير الباطل.
[ 554 ]
- يشفيك من حاسدك أنه يغتاظ عند سرورك. - يستدل على فضلك بعملك وعلى كرمك ببذلك. - يغلب الاقدار على التقدير حتى يكون الحتف في التدبير. - يجري القضاء بالمقادير على خلاف الاختيار والتدبير. - يعجبني أن يكون الرجل حسن الورع متنزها عن الطمع كثير الاحسان قليل الامتنان. - وقال (عليه السلام) في وصف المنافقين: يمشون الخفاء ويدبون الضراء قولهم الدواء وفعلهم الداء العياء، يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء، يتوصلون إلى الطمع باليأس ويقولون فيشبهون، ينافقون في المقال ويصفون فيموهون
وبعد .. أيها الأحبة فلقد آن الأوان بعد ما رأينا هذه المآسى أن نفيئ جميعاً إلى منهج الله، وأن نكفر بمنهج الشرق الملحد، ومنهج الغرب الكافر.
إذ لا سعادة فى الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى منهج الله بعد الله أحرقنا لفح الهاجرة القاتل، وأرهقنا طول المشى فى التيه والطلام.
وها هو الإسلام لازال يعرض نفسه كمخلص للبشرية كلها من كل أمراضها وعللها لأن هذه الحياة البشرية من خلق الله ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح
من صنع الله.
وأخيراً أردد مع مؤمن آل فرعون:
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ( )
اللهم أرزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ورضواناً، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة ولا تحرمنا الزيادة أنت ولى ذلك ومولاه وصلى الله على نبينا محمداً وعلى آله وصحبيه أجمعين.
الرجل امسك بالسيف و النبى نائم صلى الله عليه وسلم وقال "من يمنعك منى؟؟" ها يا محمد لا أحد يقدر الآن يمنعك منى , فقال له النبى "الله الله الله" ثلاثا فوقع السيف من يده ثم لما أصبحوا قال لهم النبى الخبر فما عاقبه و اجلسه بجواره ...أخذه النبى صلى الله عليه وسلم-الرجل كان سيقتله- لم يقل لهم أرأيتم هذا الرجل اليوم كان يريد أن يفعل كذا وكذا خلصوا عليه اجعلوه عبرة للمعتبرين ...ما صنع ذلك صلى الله عليه وسلم
قال: لم يعاقبه وجلس...ولكن الشاهد فى جزء "من يمنعك منى ؟" قل أنت ماذا تفعل وقتها؟ سيف فوق رأسك ...سيكون حالك (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أى حاجة:) ماشى صح عشان بس ننضبط نحن لن نصل لهذه المعانى...بس يعنى لو حصل هذا الموقف خلاص اللى أنت تريده خذ كل شىء
وقد كان سيدنا جعفر الصادق يثور القرآن ويلتمس من القرآن أدويه لكل أمراض بني الإنسان ومن ضمن التثوير قال: "عجبت لمن أَ بتلي بأربع لماذا لا يفزع إلي أربع؟ عجبت لمن أَبتلي بالخوف .لماذا لا يفزع إلي قول الله .حسبي الله ونعم الوكيل. فإن الله تعالي قال فيمن قال هذا﴿ الذين قال لهم الناس.إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.فزادهم إيماناً.وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.فإنقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء﴾ وعجبت عمن أبتلي بالغم والهم لماذا لا يفزع لقول الله تعالي﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين﴾؟ فإن الله قال فيمن قال هذا﴿ فإستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين﴾ وعجبت لمن مكر به لماذا لا يفزع إلي قول الله تعالي﴿ وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد.فوقاه الله سيئات ما مكروا.وحاق بآل فرعون سوء العذاب﴾؟ وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها. لماذا لا يفزع إلي قول الله تعالي﴿ماشاء الله لا قوة إلا بالله﴾ فإن الله قال فيمن قال هذا﴿فلولا إذ دخلت جنتك فقلت ماشاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولدا.فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك﴾ " وأنت عندك الدعاء ! عندك أدعية الهم (دعاء يونس) وقد نصح الإمام(الألبيري) إبنه فقال له"إذا لم يفدك العلم شيئاً .فخير منه أن لو قد جهلته.فتقوي الله رأس الأمر حقاً وليس بأن يقال لقد علمته. وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ.فليتك ثم ليتك ما فهمته. فنادي إن سجدت له إعترافاً. بما ناداه ذو النون بن متي!" وقد قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- " دعوات المكروب لا إله إلا أنت .لاإله إلا الله الحليم العظيم . لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم" وقال رسول اله -صلى الله عليه و سلم- "ما من مسلم يصيبه هم ولا غم ولا حزن فيقول اللهم أنا عبدك .إبن آمتك .ناصيتي بيديك .ماضٍ في حكمك .عادل في قضائك .أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك .أو علمته أحداً من خلقك.أو إستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وغمي وحزني.إلا أبدل الله عزوجل همه فرجاً وغمه فرحاً" وفي الدعاء والذكر لا بد أن تتواطآ حركة القلب مع حركة اللسان لتفهم ماذا تقول؟ ولابد أن تحاول أن تحيي قلبك بكل كلمه تقولها . فمن جملة الأسباب التي تؤدي إلي راحة البال (الدعاء)..
روي عن جعفر الصادق أنه قال : عجبت لمن ابتلى بأربع كيف يغفل عن أربع : عجبت لمن خاف قوما كيف لا يقول : حسبي الله ونعم الوكيل والله تعالى يقول : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء "، وعجبت لمن أعجب بأمر كيف لا يقول : ماشاء الله لاقوة إلا بالله . فإن الله يقول : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء الله لاقوة إلا بالله " . وعجبت لمن مُكر به كيف لا يقول " وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " . فقد قال الله بعدها " فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" . وعجبت لمن أصابه همٌّ وكرب كيف لايقول : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فقد قالها يونس وقال الله بعدها " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " .
خمس بشائر للمكروب:
روي عن الحسن البصري انه قال : عجبا لمكروب غفل عن خمس،وقد عرف ما جعل الله لمن قالهن،قوله تعالى)ولنبلونكم لخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)[البقرة:155-157].
وقوله تعالى :(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء..)[آل عمران:173-174].
وقوله :(.. وأُفَوَّضُ أمري الى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا..)[غافر:44-45].
وقوله(وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين)[الانبياء : 87-88].
وقوله(وما كان قولهم الا ان قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين،فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)[آل عمران:147-148].
وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : من لزم قراءة هذه الآيات في الشدائد،كشفها الله عنه،لأنه قد وعد،وحكم فيهن بما جعله لمن قالهن،وحكمه لا يبطل،ووعده لا يخلف.
الباب الذي لا يغلق في وجه سائل:
قال تعالى) وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)[البقرة:186].
لا كاشف للضر،ولا دافع للهم الا الله سبحانه وتعالى،فيجب ان نصدق مع الله وان ننطرح بين يديه،ونسأله من قلوب مؤمنة،وأنفس موقنة) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله..)[يونس:107]،وقال تعالى(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده..)[فاطر:2].
والله سبحانه يحب أن يُسأل وُيرغب إليه في الحوائج،ويُلَح في سؤاله ودعائه،ويغضب على من لا يسأله،ويستدعي من عباده سؤاله،وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤالهم من غير أن ينقص من ملكه شيء،والمخلوق بخلاف ذلك كله،يكره ان يُسأل،ويحب أن لا يسأل،لعجزه وفقره وحاجته.
ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه،ويظهر لك فقره،ويواري عنك غناه،وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار،ويظهر لك غناه،ويقول: ادعني أستجب لك.
وقال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه،ويجعل دونها حجابه،وعليك بمن بابه مفتوح الى يوم القيامة،أَمرَك أن تسأله وَوَعَدكَ أن يجيبك.
فينبغي للمظلوم أن يفوض أمره إلى الله ويقول: "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد"، ويكثر من قوله: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعليه أن يكثر من الدعاء على من ظلمه ويبشر بالخير؛ فقد أخذ الجبار -جل جلاله- بإجابة دعوة المظلوم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
*عجباً من أربع ....!!
يقول جعفر الصادق رضي الله عنه : عجبت لأربعة كيف يغفلون من أربع ..
*عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله ( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) والله سبحانه وتعالى يقول ( فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر )
* وعجبت لمن أصابه غمّ كيف يغفل عن قوله الله ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) والله سبحانه يقول : ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )
* وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) والله سبحانه يقول: ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء )
* وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن ( وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) والله سبحانه يقول
( فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب )
فادعي أخيه وألحي في الدعاء بالليل والنهار فلن تخيب دعواتك ..
الغافلون الأربعة :
قال الإمام جعفر الصادق عجبت لأربعة كيف يغفلون من أربع :
عجبت لمن ابتلى بالخوف كيف يغفل من قوله الله تعالى : " حسبنا الله ونعم الوكيل "
وعجبت لمن ابتلى بمكر الله به كيف يغفل عن قوله تعالى : " وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " .
وعجبت لمن ابتلى بالضر كيف يغفل عن قوله تعالى : " ورب إني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين "
وعجبت لمن ابتلى بالغم كيف يغفل عن قوله " ولا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
التفويض( ): وكلته أي فوضته ووكلت أمري إلى الله أي فوضت أمري إلى الله( )، ويمثله قوله تعالى( ) (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
أي (اسلم أمري إلى الله وأتوكل عليه)( )، ويبدو ان هذا المعنى هو الأقرب لان معظم كتب الفقه( ) الحنفية والشافعية والحنابلة قد اعتمدت عليه.
)ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار[41] وتدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار[42] لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار[43](
صفحة : 3758
أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطي من غرض إلى غرض وأنه سيطرق ما يغاير أول كلامه مغايرة ما تشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقى باستدراجهم في درج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئا جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظته إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليم، وهو كلام آيس من إستجابتهم لقوله فيه )فستذكرون ما أقول لكم(، ومتوقع أذاهم لقوله )وأفوض أمري إلى الله(، ولقوله تعالى آخر القصة )فوقاه الله سيئات ما مكروا(. فصرح هنا وبين بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.
والاستفهام في )ما لي أدعوكم إلى النجاة( استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي )وتدعونني إلى النار( فجملة )وتدعوني إلى النار( في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال: ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاما عن عل أو حال ثبت للمجرور باللام وهي لام الاختصاص ، ومعنى لام الاختصاص يكسب مدخولها حالة خفيا سببها الذي علق بمدخول اللام نحو قوله تعالى )ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض( )ما لي لا أرى الهدهد( وقولك لمن يستوقفك: ما لك? فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.
وتركيب: ما لي ونحوه، هو كتركيب: هل لك ونحوه في قوله تعالى )فقل هل لك إلى أن تزكى( وقول كعب بن زهير:
ألا بلغا عني بجيرا رسـالة فهل لك فيما ويحك هل لك فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.
وجملة )تدعونني لأكفر بالله( بيان لجملة )وتدعونني إلى النار( لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى: تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإلهية.
ومعنى )ما ليس لي به علم( ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه بعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.
وعطف عليه )وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار( فكان بيانا لمجمل جملة )أدعوكم إلى النجاة(. وإبراز ضمير المتكلم في قوله )وأنا أدعوكم( لإفادة تقوي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي.
وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف )إلى( وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معمول في هذه الآية أربع مرات ب)إلى( ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقة الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل )تدعونني لأكفر بالله وأشرك به(، وربطه بما هو ذات بحرف إلى في قوله )أدعوكم إلى النجاة( فأن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله )تدعونني إلى النار( وقوله )وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا( الخ، لأن حرف )إلى( دال على الانتهاء لأن الذي يدعو أحدا إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقاده صحته بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت استعارة مكنية وتخييلة وتبعية، وفي )العزيز الغفار( استعارة مكنية، وفي )أدعوكم( استعارة تبعية وتخييلية.
صفحة : 3759
وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين )العزيز الغفار( لإدماج الاستدلال على استحقاقه الإفراد بالإلهية والعبادة، بوصفه )العزيز( لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه.
وجملة )لا جرم أن ما تدعونني( بيان لجملة )تدعونني لأكفر بالله(.
وكلمة )لا جرم( بفتحتين في الأفصح من لغات ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لابد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل لك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون: لا ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا جر بدون ميم ترخيما للتخفيف.
والأظهر أن )جرم( اسم لا فعل لأنه لو كان فعلا لكان ماضيا بحسب صيغته فيكون دخول )لا( عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء.
والأكثر أن يقع بعدها )أن( المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف )في( ملتزما حذفه غالبا. والتقدير: لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة.
وتقدم بيان معنى )لا جرم( وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى )لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون( في سورة هود.
وما صدق )ما( الأصنام، وأعيد الضمير عليها مفردا في قوله )ليس له( مراعاة لإفراد لفظ )ما(.
وقوله )لا جرم أن ما تدعونني إليه( إلى قوله )أصحاب النار( واقع موقع التعليل لجملتي )ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار( لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها. وتحقق إذن أن المرجو للإنعام في الدنيا والآخرة هو الرب الذي يدعوهم هو إليه. وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليله لأنهم سيظهر لهم قريبا أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنه المتصرف في الآخرة.
ومعنى )ليس له دعوة( انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعا لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهد. فهذا من باب لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وقولهم: ليس ذلك بشيء، نافع، وبهذا تعلم أن دعوة مصدر متحمل معنى ضمير فاعل، أي ليست دعوة داع، وأن ضمير له عائد إلى ما الموصولة، أي لا يملك دعوة الداعين، أي لا يملك إجابتهم.
وعطفت على هذه الجملة جملة )وأن مردنا إلى الله( عطف اللازم على ملزومه لأنه إذ تبين أن رب موسى المسمى )الله( هو الذي له الدعوة، تبين أن المرد، أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء.
ولو عطفت مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها، ولكن عدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماما بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غير باحث سامعها على ما ترتبط به، لأن الشيء المتفرغ على شيء يعتبر تابعا له، كما قال الأصوليون في أن جواب السائل غير المستقل بنفسه تابع لعموم السؤال.
وكذلك جملة )وأن المسرفين هم أصحاب النار( بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة )وأن مردنا إلى الله لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقب هم الكافرون بالله.
فالإسراف هنا: إفراط الكفر، ويشمل ما قيل: إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام. والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام. والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يخاطبهم إذ هم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله )هم أصحاب النار( يفيد قصرا ادعائيا لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين، وهذا لحمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبيء أو ملهم وإلا فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة.
صفحة : 3760
)فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد[44]( هذا الكلام متاركة لقومه وتنهية لخطابه إياهم ولعله استشعر من ملامحهم أو من مقاطعتهم كلامه بعبارات الإنكار، ما أيأسه من تأثرهم بكلامه، فتحداهم بأنهم إن أعرضوا عن الانتصاح لنصحه سيندمون حين يرون العذاب إما في الدنيا كما اقتضاه قوله )إني أخاف عليكم يوم التناد(، فالفاء تفريع على جملة )ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار(.
وفعل )ستذكرون( مشتق من الذكر بضم الذال وهو ضد النسيان، أي ستذكرون في عقولكم، أي ما أقول لكم الآن يحضر نصب بصائركم يوم تحققه، فشبه الإعراض بالنسيان ورمز إلى النسيان بما هو من لوازمه في العقل ملازمة الضد لضده وهو التذكر على طريقة المكنية وفي قرينتها استعارة تبعية.
والمعنى سيحل بكم من العذاب ما يذكركم ما أقوله: إنه سيحل بكم.
وجملة )وأفوض أمري إلى الله( عطف على جملة )ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار(، ومساق هذه الجملة مساق الانتصاف منهم لما أظهروه له من الشر، يعني: أني أكل شأني وشأنكم معي إلى الله فهو يجزي كل فاعل بما فعل، وهذا كلام منصف فالمراد ب)أمري( شأني ومهمي.
ويدل لمعنى الانتصاف تعقيبه بقوله )إن الله بصير بالعباد( معللا تفويض أمره معهم إلى الله عليم بأحوال جميع العباد فعموم العباد شمله وشمل خصومه.
وقال في الكشاف قوله )وأفوض أمري إلى الله( لأنهم تواعدوه اه. يعني أن فيه إشعار بذلك بمعونة ما بعده.
و)العباد( الناس يطلق على جماعتهم اسم العباد، ولم أر إطلاق العبد على الإنسان الواحد ولا إطلاق العبيد على الناس.
والبصير: المطلع الذي لا يخفى عليه الأمر. والباء للتعدية كما في قوله تعالى )فبصرت به عن جنب(، فإذا أرادو تعدية فعل البصر بنفسه قالوا: أبصره.
)فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب[45] النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب[46]( تفريع )فوقاه الله( مؤذن بأنهم أضمروا مكرا به. وتسميته مكرا مؤذن بأنهم لم يشعروه به وأن يكون فر من فرعون ولم يعثروا عليه.
و)ما( مصدرية. والمعنى: سيئات مكرهم. وإضافة )سيئات( إلى )مكر( إضافة بيانية، وهي هنا في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف لأن المكر سيء. وإنما جمع السيئات باعتبار تعدد أنواع مكرهم التي بيتوها.
وحاق: أحاط. والعذاب: الغرق. والتعريف للعهد لنه مشهور معلوم.
وتقدم له ذكر في السور النازلة قبل هذه السورة.
ومناسبة فعل حاق لذلك العذاب أنه مما يحيق على الحقيقة، وإنما كان الغرق سوء عذاب لأن الغرق يعذب باحتباس النفس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويرعبه هول الأمواج وهو موقن بالهلاك ثم يكون عرضه لأكل الحيتان حيا وميتا وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يذكرون به بين الناس.
وقوله )النار يعرضون عليها غدوا وعشيا( يجوز أن يكون جملة وقعت بدلا من جملة )وحاق بآل فرعون سوء العذاب(، فيجعل )النار( مبتدأ ويجعل جملة )يعرضون عليها( خبرا عنه ويكون مجموع الجملة من المبتدأ وخبره بدل اشتمال من جملة )وحاق بآل فرعون سوء العذاب( لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملا على موتهم وموتهم يشتمل على عرضهم على النار غدوا وعشيا، فالمذكور عذابان: عذاب الدنيا عذاب الغرق وما يلحق به من عذاب قبل عذاب يوم القيامة.
ويجوز أن يكون )النار( بدلا مفردا من )سوء العذاب( بدلا مطابقا وجملة )يعرضون عليها( حالا من )النار( فيكون المذكور في الآية عذابا واحدا ولم يذكر عذاب الغرق.
وعلى كلا الوجهين فالمذكور ي الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة فذلك هو المذكور بعده بقوله )ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب(.
صفحة : 3761
والعرض حقيقته: إظهار شيء لمن يراه لترغيب أو تحذير وهو يتعدى إلى الشيء المظهر بنفسه وإلى من يظهر لأجله بحرف )على(، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يعقل ومنزلا منزلة من يعقل، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب عرضت الناقة على الحوض ، وحقه: عرضت الحوض على الناقة، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف )ويوم يعرض الذين كفروا على النار(. وقد عد علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ومثلوا له بقول العرب: عرضت الناقة على الحوض. واختلفوا في عدة من أفانين لكلام البليغ فعدة منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور، وقال القزويني: إن تضمن اعتبار لطيفا قبل وإلا رد.
وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال: عرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير. ولعل أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب: عرضت الناقة على الحوض، قلب، ويقال: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به. وخرج في الكشف آية الأحقاف على قولهم: عرض على السيف.
ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تشاهد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وهو ما يبينه حديث إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة .
وقوله )غدوا وعشيا( ناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو من هاذين الوقتين.
وقوله )ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب( هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب )أدخلوا( بهمزة قطع وكسر الخاء. وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء على معنى أن القول موجه إلى آل فرعون وأن آل فرعون منادى بحذف الحرف.
)وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار[47] قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد[48]( يجوز أن يكون )إذ( معمولا ل)اذكر( محذوف فيكون عطفا على جملة )وأنذرهم يوم الآزفة(، والضمير عائدا إلى )الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان( وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استوفي ذلك عاد الكلام إليهم. ويفيد ذلك صريح الوعيد للمشركين بعد أن ضربت لهم الأمثال كما قال تعالى )وللكافرين أمثالها(، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالى )إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا( الآية في سورة البقرة، وقوله )قالت أولاهم لأخراهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار( الآية في سورة الأعراف.
ويجوز أن تكون )وإذ يتحاجون( عطفا على جملة )ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب( لأن )إذ( و)يوم( كليهما ظرف بمعنى حين ، فيكون المعنى: وحين تقوم الساعة يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء الخ.
وقرن )فيقول الضعفاء( بالفاء لإفادة كون هذا القول ناشئا عن تحاجهم في النار مع كون ذلك دالا على أنه في معنى متعلق )إذ(، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن برهان، وحكاه عن أصحابه البصريين. وضمير )يتحاجون( على هذا الوجه عائد إلى )آل فرعون( لأن ذلك يأبه قوله )وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم( وقوله )أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات( ولم يأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه السلام فيعود ضمير )يتحاجون( إلى معلوم من المقام وهم أهل النار.
والتحاج: الاحتجاج من جانبين فأكثر، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها.
الثقة بالله أيها الأحباب الكرام هي خلاصة التوكل على الله وهي قمة التفويض إلى الله،
((وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))غافر44
الثقة أيها المسلمون هي الإطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك .
الثقة هي التسليم المطلق للملك جل وعلا، هي الإستسلام لله عز وجل .
فهو الأعلم بما يصلحنا وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ))الملك.14
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئاً دون الله؛ يعني في طاعته واجتناب معصيته
وقال بعض السلف: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء والفقر إليه في كل شيء والرجوع إليه من كل شيء.
الثقة بالله تعالى هي التي لقتّها الله تعالى أم موسى بقوله تعالى :
((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ))القصص 7
إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وينطلق به الموج إلى ما شاء الله .
لكنه أصبح في اليّم في حماية الملك جل وعلاورعايته وما كان جزاء هذه الثقة العظيمة :
قال تعالى : ((فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ))القصص 13
من أدعية النوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ :«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهم أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ؛ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ».
قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: «لا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» ( ).
ندب النبي في هذا الحديث إلى النوم على طهارة، ومن فوائد ذلك:
- أن من نام على طهارة ثم مات مات طاهراً، قال مجاهد رحمه الله: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما:"لا تبيتن إلا على وضوء؛ فان الأرواح تبعث على ما قبضت عليه"( ).
- إجابة الدعاء؛ لحديث أبي أمامة قال: سمعت رسول الله يقول: «من أوى إلى فراشه طاهرا لم ينقلب ساعة من الليل يسأل الله شيئا من خير الدنيا و الآخرة إلا أعطاه إياه»( ).
- أنه أصدق للرؤيا.
- وأبعد عن تلاعب الشيطان به.
وأما حديث : «من بات على طهارة ثم مات من ليلته مات شهيدا» فموضوع.
قوله : «أسلمت نفسي إليك»
أي : جعلت نفسي منقادة لحكمك،والنفس هنا الذات.
«ووجهت وجهي إليك»:
المراد الإخلاص، فكل عملي إنما أريد به وجهك الكريم، ولا يقبل عمل إلا إذا أخلص فيه صاحبه.
«وفوضت أمري إليك»
اعتمدت وتوكلت عليك، ومن فوض أمره إلى الله كفاه، قال تعالى :ومن يتوكل على الله فهو حسبه( )، وقال عن مؤمن آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فقال الله : فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ( ).
«وألجأت ظهري إليك»
استعنت بك، وذكر الظهر لأن الاعتماد يكون عليه، قال : «وإذا استعنت فاستعن بالله»( ).
«رغبة ورهبة إليك»
رغبة أي في رِفدك ( )، ورهبة من عذابك، وفيه رد على من يقول: لا أعبد الله طمعا في جنته ولا خوفا من ناره، والله قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا( ).، وقال في ذكره لصفات المؤمنين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ( )، وقال عن أنبيائه :إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ( ).
«لا ملجأ ولا منجا»
الأصل لا ملجأ ولا منجا، ويجوز : لا ملجأ ولا منجأ بالهمز، أو لا ملجا ولا منجا بتركه فيهما.
والكتاب المشار إليه القرآن، أو الكتب.
والفطرة: الدين القويم .
وأعظم فائدة نستفيدها من هذا الحديث أن الأذكار توقيفية، فليس لأحد أن يستبدل لفظا مكان آخر، أو أن يأتي بجديد، فكل هذا محدث لا يقبله الله تعالى.
النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ 40: 41- 46 كان يدعوهم الى عبادة رب السموات وَالْأَرْضِ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ الضَّالِّ الْمَلْعُونِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 40: 41- 42 ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ نَفْعٍ وَلَا إِضْرَارٍ فَقَالَ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 40: 43 أَيْ لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا وَلَا حُكْمًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَيْفَ تَمْلِكُهُ يَوْمَ الْقَرَارِ وَأَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَيُمِيتُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم الى النَّارَ.ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ بِقَوْلِهِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 40: 44 قال الله فَوَقاهُ الله سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا 40: 45 أَيْ بِإِنْكَارِهِ سَلِمَ مِمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ باللَّه وَمَكْرِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا أَظْهَرُوا لِلْعَامَّةِ مِنَ الْخَيَالَاتِ والمحالات التي ألبسوا بِهَا عَلَى عَوَامِّهِمْ وَطَغَامِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ وَحاقَ 40: 45 أَيْ أَحَاطَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا 40: 45- 46 أَيْ تُعْرَضُ أَرْوَاحُهُمْ فِي بَرْزَخِهِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً عَلَى النَّارِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ 40: 46 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْلِكْهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ وَإِزَاحَةِ الشُّبَهِ عَنْهُمْ وَأَخْذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ فَبِالتَّرْهِيبِ تَارَةً وَالتَّرْغِيبِ أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمن مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ 7: 130- 133 يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ ابْتَلَى آلَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ قَوْمُهُ مِنَ الْقِبْطِ بِالسِّنِينَ وَهِيَ أَعْوَامُ الْجَدْبِ الَّتِي لَا يُسْتَغَلُّ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا يُنْتَفَعُ بضرع وقوله وَنَقْصٍ من الثَّمَراتِ 7: 130 وَهِيَ قِلَّةُ الثِّمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 7: 26 أي فلم ينتفعوا ولم يرعوا بَلْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ 7: 131 والخصب ونحوه قالُوا لَنا هذِهِ 7: 131 أَيْ هَذَا الَّذِي نَسْتَحِقُّهُ وَهَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِنَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمن مَعَهُ 7: 131 أَيْ يَقُولُونَ هَذَا بِشُؤْمِهِمْ أَصَابَنَا هَذَا وَلَا يَقُولُونَ فِي الْأَوَّلِ إِنَّهُ بَرَكَتُهُمْ وَحُسْنُ مُجَاوَرَتِهِمْ ولكن
النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
[غافر: 41 - 46] كان يدعوهم إلى عبادة رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الذي يقول لشئ كُنْ فَيَكُونُ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ الضَّالِّ الْمَلْعُونِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)
ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْبُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ نَفْعٍ وَلَا إِضْرَارٍ (3)
فَقَالَ (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)
أَيْ لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا وَلَا حُكْمًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَيْفَ تَمْلِكُهُ يَوْمَ الْقَرَارِ * وَأَمَّا الله عزوجل فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَيُمِيتُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ فَيُدْخِلُ طَائِعَهُمُ الْجَنَّةَ وعاصيهم إلى النَّارَ.ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ بِقَوْلِهِ (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
قال الله (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)
أي بإنكاره سلم (4)
مما أصابهم__________(1)
خصال السمو الإيماني.
قال النبي صلى الله عليه وآله في ازدياد الإيمان واستكمال حقيقته : ‹‹لا يكمل عبد الإيمان بالله حتى يكون فيه خمس خصال: التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والصبر على بلاء الله، إنه من أحب في الله، وأبغض في الله، ومنع لله، فقد استكمل حقيقة الإيمانْ››، فالنبي صلى الله عليه وآله ذكر خمس خصال للسمو الإيماني:
الأولى: الاتكال على الله تعالى.
إنّ الإنسان مهما جدَّ كادحاً يعلم أنّ نهاية المطاف بيد الله تعالى، فيتوكل عليه ويكل الأمر له، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159)، فمن توكل على الله تعالى وعمل جاداً، فقد سار في الطريق القويم، فغير المؤمن قد يعمل لكنه إذا لم تتحقق النتائج لعمله يصاب باليأس، أما المؤمن حتى وإنْ لم تتحقق ثمار عمله حالاً، لكنه يعلم أنّ الله تعالى سيحقق له ثماراً طيبة من حيث لا يشعر، ومن جوانب لا يعيها، وذلك لتوكله على الله تعالى وارتباطه به.
الثانية: التفويض إلى الله.
قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(غافر:44)، التوكل غير التفويض، إذ أنّ التوكل إيكال الأمر إلى الله تعالى، بينما التفويض جعل كل أموره آتية منه وراجعة إليه، وذلك أنه لا يعلم الحِكم المترتبة على كل أموره، فيفوض ذلك إلى الله، كما في المصائب، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }(البقرة:156).
الثالثة:التسليم لله.
إنّ المؤمن يعمل ويتعب ويُسلم أموره لله تعالى، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(الأحزاب:22).
الرابعة: الرضا بقضاء الله تعالى.
إنّ الأعمال التي يقوم بها المؤمن قد تتحقق بعض ثمارها اليوم، وبعضها غداً، وبعضها بعد عدة من السنين، ولا يعي الإنسان سلسلة التأثير في الأمور الكونية، فالترابط بين أجزاء الكون والحكم والمصالح لا يعلم بها إلاّ الله تعالى، والمؤمن لا يسعه إلا الرضا بقضاء الله.
وقال مؤمن آل فرعون: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النَجاة وتدعونني إلى النَار (41) تدعونني لأكفر باللَه وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَار (42) لا جرم أنَما تدعونني إليه ليس له دعوةِ في الدَنيا ولا في الآخرة وأنَ مردَنا إلى اللَه وأنَ المسرفين هم أصحاب النَار (43) فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى اللَه إنَ اللَه بصيرِ بالعباد [غافر: 41 - 44].
تفويض الأمر لله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفويض الامر لله
ما أجمل أن يلجأ العبد الي الله ليستخيره في أمور دينه ودنياه ويطلب منه المشوره والرأي، فهو عالم الغيب ومن بيده مقاليد الأمور .. وإن نظرة العبد القاصرة لا تستطيع أن تقطع في أي أمر بالخير أو الشر .. يقول المولي تبارك وتعالي علي لسان نبيه:
" وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " الأعراف
ولكن الأجمل من ذلك أن يستسلم العبد تماماً إلي مولاه وخالقه ويفوض أمره اليه ويوكله في تدبير شئونه ويقف بين يديه وقفة العبد الضعيف الذليل وهو يقول
" يارب ..فوضت أمري اليك، يا حي يا قيوم يا من بيده مقاليد الأمور دبر لي فإني لا أحسن التدبير "
ويترك نفسه تماما لقدر الله يوجهه كيفما يشاء وكما يشاء ... فماذا تتوقع حينها ؟
ماذا تتوقع حين يدبر لك ملك الملوك شئون حياتك، هل يستطيع أحد من البشر مهما بلغت حنكته وفطنته أن يدبر ويخطط أفضل من الله ملك الملوك؟
الإجابة معروفة مسبقا والنتيجة محسومة، اذاً فلماذا الهم والحزن؟ و لماذا الأرق والتوتر ؟
اتركها لله ... وقل " فوضت أمري الي الله "
قلها وأنت تشعر بكل حرف فيها، ودع ما يثقلك من حمول خلف ظهرك ... ونم قرير العين مرتاح البال فلقد فوضت أمرك الي المهيمن ...
يقول ابن القيم في مدارج السالكين في درجات التوكل:
الدرجة السادسة :
استسلام القلب لله وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعته.
الدرجة السابعة :
فهي التفويض: وهي إلقاء العبدِ أمورَه كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً، لا كرهاً واضطراراً. والتفويض هو روح التوكل ولبّه وحقيقته.
الدرجة الثامنة:
فهو الرضا بقضاء الله وحكمه، وليس أجمل من موقف سيدنا ابراهيم لما ترك السيده هاجر وابنها في مكه هناك و ولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر و تعلقت بثيابه و قالت : يا إبراهيم أين تذهب و تدعنا هاهنا و ليس معنا ما يكفينا؟!، فلم يجيبها, فلما ألحت عليه و هو لا يجيبها قالت له : آلله أمرك بهذا ؟، قال : نعم، قالت : فإذن لا يضيعنا...إنتهى الكلام.
**~~~...حقاً اللهم دبرى لى أمرى فإني لاأحسن التدبير ....~~**
منقوول للفائدة
اللهم إنى فوضت أمرى إليك
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) .
( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .
سلم الأمر إلينا نحن أعلم بك منك ...
سلمت أمري إليك يا رب .
شكوت أمري إليك يا رب .
وإذا شكوت إلى ابن آدم فإنما = تشكو الرحيم إلى من لا يرحم
أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ؟!
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
( الشاعر الكبير عمر أبو ريشة رحمه الله )
عنوان الخطبة عناصر القوة للمسلم اسم المدينة القصيم - بريدة, المملكة العربية السعودية
رقم الخطبة 3213 اسم الجامع جامع حي سلطانة
التصنيف الرئيسي وسائل التربية, أحوال القلوب التصنيف الفرعي
تاريخ الخطبة تاريخ النشر 2/10/1432 هـ
اسم الخطيب سليمان بن حمد العودة
أهداف الخطبة
عناصر الخطبة عناصر القوة : الإيمان الحق بالله- صدق التوكل على الله- تفويض الأمر إلى الله تعالى– الدعاء .
نسخة للطباعة نسخة للتحميل أرسل إلى صديق اكتب رأيك اتصل بنا أضف إلى السلة قيم المادة
1 2 3 4 5 3.18 [284 صوت]
الحمد لله جل في علاه، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها المسلمون: هناك حقيقة يؤكدها القرآن الكريم في أكثر من موضع، ويشهد بها واقع الناس في كل زمان ومكان، ألا وهي: كثرة الخبيث في الأرض، وزيادة أعداد المفسدين، وندرة الإيمان، وقلة المؤمنين.
يقول تعالى: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة: 100] ويقول جل ذكره: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، ويقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وقال تعالى:(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سـبأ:20]، وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سـبأ: 13].
قال عليه الصلاة والسلام حين سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وفي الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمس" متفق عليه.
وعن الزبير بن عدي قال: "أتينا أنساً فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم"، رواه البخاري.
هذه الكثرة للفساد والمبطلين، والقلة لأهل الصلاح والتقوى واليقين لحكمة يعلمها الله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس:99].
والغفلة عن حكمة الله وتقديره في هذا الكون، قد تضعف معها بعض النفوس أحياناً، وقد ينظر المرء أحياناً إلى الفساد يسري في الأرض سريان النار في الهشيم، وإلى المفسدين تتاح لهم من الفرص ما لا تتاح للخيرين… هنا ربما وهن عزم المسلم أو ساورته بعض الشكوك في طريقه إلى الله، ولربما أساء الظن بربه، أو قلل الأدب مع خالقه، فقال بلسان حاله أو مقاله: ولماذا يمكن المفسدون؟ وكيف تكون الغلبة للكافرين، والذلة والتشرذم من نصيب المسلمين؟ والله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولو فتش في نفسه وفي حال إخوانه لوجد من الضعف وعدم الجدية في حمل هذا الدين، ما سبب هذا الواقع المهين، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والمهم أن نتعرف على الأسباب التي تجعل من الضعيف قوياً، ومن القلة ذات أثر فاعل، وإن شئت فقل: ما هي عناصر القوة للمسلم؟ إن أول عناصر القوة: الإيمان الحق بالله، وذلك الإيمان يربي النفوس على عدم الخوف من أحد مهما كان، إلا الله والحد القهار:(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
لقد تحدى السحرة بهذا الإيمان فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 72-73]، وبالإيمان صرح الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويحث على اتباع المرسلين: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يّـس: 25-27]، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8]، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني: صدق التوكل على الله، فمنه يستجلب النصر، وبه يدفع الضر، ومع التوكل عليه وحده يبطل كل كيد ويعيش المتوكل قرير العين، متحدياً كل أحد. وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قص الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس:71]، فهو لا يبالي بهم ولا بقوتهم وكيدهم، ولا يخاف معرتهم، وإن كانوا أشداء أقوياء، ما دام متوكلاً على الله، آوياً إلى ركنه.
وفي النموذج الثاني قال تعالى عن هود عليه السلام: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 54-56]، إنه بالتوكل على الله يتحداهم أجمعين ودون تأخير، ويقول: فكيف أخاف من ناصيته بيد غيره، وهو في قهره وقبضته؟
عباد الله: إن الإيمان الحق يستلزم التوكل على الله: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس:84].
جاء في الأثر: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله".
أما العنصر الثالث من عناصر قوة المؤمن: فهو تفويض الأمر لله بعد عمل الأسباب الممكنة شرعاً، ولا بد لمن فوض أمره إلى الله أن يهديه ويقيه، ودونكم تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر: 44-45].
أيها المسلمون: ويكتسب المؤمن قوة وحماية وأمناً من خلال دفاع الله عنه (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38].وهذا هو العنصر الرابع من عناصر القوة… ومن يستطيع إلحاق الضرر والأذى بمن يتولى الله الدفاع عنه، كلما أجلب الناس عليه…؟!
وكفاية الله لعبده المؤمن عنصر خامس من عناصر قوته، وإن خوف بمن دونه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36].
ولا تستطيع قوة من البشر -مهما بلغت- أن تلحق بعبد ضرراً لم يكتبه الله عليه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
بل يجعل الله تعالى من نفسه محارباً لمن عادى وليه المؤمن: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، وهل يقوى على حرب الله أحد؟
ومما يقوي المؤمن ضعف سلطان الشيطان عليه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 99-100]. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الاسراء:65].
ومحبة الخلق للمؤمن رصيد يسليه ويقويه ويؤنسه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96].
وصبره على الضراء، وشكره على السراء، فوق ما فيه من تقويته فهو يفوت الفرصة على كل من أراد بالمؤمن سواءً أو فتنة، وهذا الصنف لا تتعلق نفسه بعطاء الدنيا، ولا تضجر للبلاء: "عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
وما أجمل قول القائل:
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى ومن رجا الله كان حيث رجا
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح: 5-6]، ولن يغلب عسر يسرين، كما قال العلماء. اللهم اجعلنا من الصابرين، ومن أهل الإيمان واليقين، أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: ومن عناصر قوة المؤمن وأسلحته التي يحتمي بها الدعاء، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
والله تعالى هو المدعو عند الشدائد، والمرجو عند النوازل: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه) [الاسراء: 67]، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عندآية النمل هذه عن وهب بن منبه قال: "قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: (بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه)".
كما نقل عن الحافظ ابن عساكر الحكاية التالية عن رجل قال: "كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلت: لاخبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب، فسلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر، وواد عميق، وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني، ففررت من بين يديه فتبعني، فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل، فقمت أصلي، فارتج علي القرآن، فلم يحضري منح حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه: افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62] فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده، فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً".
أيها المسلمون: وكذلك الله يكفي ويشفي ويجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدائد والمحن، وقد يغتر الجاهل بقوته، أو يتمادى في جوره وطغيانه حيث أمهله الله، فإذا به يأخذه على حين غرة، ومن حيث لا يحتسب، ومن نماذج السوء فرعون، فحين بلغ به الطغيان قال: أنا ربكم الأعلى، ونادى في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، وسخر بموسى ومن معه من المؤمنين فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وجعله عبرة للمعتبرين، (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف: 55-56].
وكذلك قارون الذي ناءت بحمل مفاتيح كنوزه أولو العصبة من أصحاب القوة… وقال متطاولاً مستكبراً: ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78] فكانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:81].
إن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وركن إليه، وأن القوي يضعف وتهن قواه إذا تجبر وطغى.
وينبغي أن يقدر المسلمون أن صلتهم بالله مصدر قوتهم وعزتهم، وأن بداية سقوطهم ضعف صلتهم بالله وتنكرهم لشرعه، واعتمادهم وتوكلهم على غيره.
يا أخا الإسلام: وإياك إياك أن تستوحش من سلوك طريق الخير لقلة السالكين، أو تغتر بسلوك طريق الشر لكثرة الهالكين، فأنت سترد على الله فرداً، وإذا كان لا يغني في موقف العرض الأكبر الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد… فكيف يغني اعتذارك بتقليد من سواهم!!
إن مما يسلي المؤمن ويسري عنه أن غربة اليوم والثبات على الحق عاقبتها جنات المأوى، كذا أخبر المصطفى: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" أتدري من هؤلاء الغرباء؟ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي رواية: "يصلحون ما أفسد الناس" فأصلح نفسك إذا فسد الزمان وساهم في إصلاح غيرك، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، اللهم احفظنا واحفظ لنا، اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك، والعمل بسنة نبيك… واجعلنا ممن يرد حوضه، وينال شفاعته، ولا تجعلنا ممن يذاد عنه وعنهم، يقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
التفويض ] :
أ ــ معنى < التفويض > لغة :
< التفويض > مصدر من باب التفعيل، يقال :
< فوض إليه الأمر : أي رده إليه > .
ويقال : < فوض إليه الأمر : سيره إليه، وجعله الحاكم فيه > .
ومنه قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : ( وأفوض أمري إلى الله ) .
فمعنى التفويض في الشيء لغة :
التوقف فيه وعدم الحكم عليه لا نفياً ولاإثباتاً، وردالحكم عليه إلى الغير
ليحكم فيه .
فالمفوضُ للشيء يكون غير المثبت له، ولا نافياً بل يكون جاهلاً بالحكم عليه
ونسبة التفويض إلى آخر بأن فلاناً مفوض لكذا معناه : أنه جاهل بالحكم عليه،
غير مثبت له ولا ناف له هذا لغةً .
ب ــ معنى < التفويض > في اصطلاح السلف :
التفويض في باب صفات الله تعالى عند السلف هو التفويض في الكيف فقط،
دون المعنى، فالسلف كانوا يعرفون معاني الصفات، ويفوضون علم كيفيتها
إلى الله تعالى، فيكون الكيف هو المجهول عندهم لا المعنى،
فكانوا مثبتين للصفات لا مفوضين لها، وهذا هو التفويض الحق الذي ندين
الله تعالى به، ونصوص السلف في ذلك متواتره، منها المقالة الربعيةُ، والمالكية
التي سارت كالمثل السائر :
[ الاستواء معلوم والكيف مجهول ] .
ج ــ التفويض عند الماتريدية :
التفويض في صفات الله تعالى عند الماتريدية هو التفويض في معانيها
وكيفيتها وجهلهما جميعاً، ونفي ماتدل عليه نصوصها، وتلاوتها دون فهم
نعانيها، وجعلها متشابهات كالحروف المقطعة، وتقويلهم السلف إياه،
فهم معطلة جاهلة مجهلة . أ . هـ [عداء الماتريدية للعقيدة السلفية ] 2/ 152
---
حيث قيل (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (غافر: 41، 42)
ومع كل ذلك نرى أن آية غافر جاءت كختام لهذه الرحلة رحلة الإنذار الممزوج ولو قليلاً بالتبشير، رحلة التهديد بيوم الحساب وما فيه من أهوال لقوم كذبوا فقيل لهم في الختام (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44)
ما يقال إذا خُوِّفَ بالأعداء من شياطين الإنس و الجنّ
14- قال الله ( :(((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (( [آل عمران:173].
ما يقال إذا مكر به الأعداء
15- قال الله ( : ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(( [غافر:44 ].
ما يقال إذا طلبه الأعداء ليقتلوه
16- قال الله ( : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ((( [القصص:21].
ما يقال إذا توجه إلى طريق أو إذا اشتبهت عليه الطرق
17- قال الله ( : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ(( [القصص:22].
ما يقال عندما يكثر عدد الأعداء و يقل عدد المسلمين ويستبطئون النصر
18- ( رب إني مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) [اقتباس من الآية 10 من سورة القمر].
19- إذا خاف بعضُ المسلمين من كثرة الكفار أو قوتهم ذكّرهم أهل العلم والإيمان بقول الله ( : ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ((( [البقرة :248].
20- قال الله ( : ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(( [البقرة :214].
ما يقال عند رؤية جموع الكفار
21- قال الله ( : (( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ(( ([الأحزاب:22] . ويزدادوا إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا .
شعار المسلمين إذا خافوا أن يُبيّتهم الكفار
22- ((حم~ لا ينصرون .
ما يقال إذا تسلّطَ الكفارُ على بلدٍ و استضعفوا المسلمين فيه
23- قال الله( ( : ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (((( وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(( [يونس:85-86]. ويكثرون من الصلاة والعبادة .
ما يقال عند الغزو والاستنصار بالله تعالى
24- اللّهُمَّ أَنْتَ عَضُدُنا، وَأَنْتَ نَصيرُنا، بِكَ نحولُ وَبِكَ نصولُ وَبِكَ نقاتِل .
ما يقال إذا كثرالجيش لئلا تعجبهم كثرتهم
25- اللَّهُمَّ بِكَ أُقَاتِلُ،} وَبِكَ أُحَاوِلُ {، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
ما يقال عند الفزع أو اقتراب شرّ الكفار
26- لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ .
ما يقال إذا خاف قومًا
27- اللّهُمَّ إِنا نَجْعَلُكَ في نُحورِهِم، وَنَعوذُ بِكَ مِنْ شُرورِهمْ .
ما يقال إذا حاصروا المسلمين و أرادوا قتلهم
28- اللَّهُمَّ اِكْفِنَاهمْ بِمَا شِئْتَ .
الدعاء على الكفار إذا مزقوا كتب المسلمين أو استكبروا
29- اللَّهُمَّ مَزِّقْهُم كُلّ مُمَزَّق .
ما يقال إذا شغل الكفار المسلمين عن طاعة الله (
30- مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً .
ما يقال عند دخول قرى الكفار والإغارة عليهم
31- اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ [خَيْبَرُ]، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. ( يرفع يديه و يقولها ثلاثا ) .
الدعاء على من يسبُّ المسلمين و يؤذيهم
32- اللَّهُمَّ سَلِّطْ عليه كلبًا من كلابك.
33- اللَّهُمَّ عليك بـ[الكافرين] (ثلاثا)، اللَّهُمَّ عليك بـ ]فلان وفلان منهم يسميهم [ . ( فيعم ثم يخص ) .
التخريج
11- يَثْبُت المؤمنون، و يذكرون الله ( كثيرًا عند لقاء العدو كما أمر الله (، ويقدمون أعمالاً صالحة قبل الغزو والقتال، قال البخاري في صحيحه (6 / 24 فتح الباري) : " باب عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم " وأثر أبي الدرداء وصله ابن المبارك في كتاب الجهاد (5) وابن أبي عاصم في الزهد ( ص 136) والدينوري في جواهر العلم .
ويتوب المجاهدون إلى ربهم من ذنوبهم فإنها من أعظم أسباب الهزيمة، قال الله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) سورة آل عمران (155)
12- قالها المؤمنون من بني إسرائيل عندما برزوا لجالوت و جنوده فنصرهم الله (، قال الله عزوجل : (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252} ) سورة البقرة .
13- قال الله ( : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( [آل عمران146-148].
14- قال الله ( : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175} ٍ( سورة آل عمران .
وروى البخاري في صحيحه (4197) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
15- قالها مؤمن آل فرعون بعد أن نصح قومه فأبوا أن يقبلوا منه وأرادوا أن يمكروا به فنجاه الله عزوجل، قال الله تبارك و تعالى : ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ {45}((( سورة غافر.
16- قال الله ( : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([ سورة القصص:21] . 17- قال تعالى : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ( [ سورة القصص:22].
18- قال تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام و دعائه : ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ {9} فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ {10} فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12} وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ {14} وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {15} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {16} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {17} ( سورة القمر .
19- قال تعالى : ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( سورة البقرة (249) . 20- قال الله ( : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ( (سورة البقرة:214).
21- قال الله ( :((وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً(( ([الأحزاب:22]. وما وعدهم الله عزوجل به هو ما
ذكره في آية البقرة (214) كما قال قتادة رواه ابن المبارك في الجهاد (73) وسنده صحيح، وورد عن ابن عباس بسند ضعيف
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله:
يا مسلم يا عبد الله..
يا من سيناديك الحجر والشجر بلسان الحال أو بلسان المقال: - بكليهما نؤمن ونصدق - يا مسلم يا عبد الله..
جفف دمعك، واجبر كسرك، وارفع رأسك..
وأعلم أن الأيام القادمة لك لا عليك..
وأن المستقبل لدينك لا لدين غيرك..
وأن العاقبة للمتقين..
وأعلم أيضا أن مع الصبر نصراً..
وأن مع العسر يسراً..
وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل..
وأن الله ناصرك ما دمت ناصره..
ومعك ما دمت معه..
وهاديك إلى سبيله، ما دمت مجاهداً في سبيله..
" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين"..
"فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد"
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الشجاعة في الحق
وكل شجاعة في المرء تغني ** ولا مثل الشجاعة في الحكيم
معشر الإخوة :
بهذا الخُلق نصر الإسلام على يدي أبي بكر رضي الله عنه يوم الردة .. والإمام أحمد رحمه الله يوم المحنة ..
وإن لم يسر نجل السري بسيره ** فلا بدع إن طال العدى إنه دعي
هذا الخُلق هو الذي ترجم معنى لا إله إلا الله في قلب عبدالله رضي الله عنه ابن رأس النفاق أبي .. حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبيه ودعاه .. فخمر أنفه وقال : غبر علينا ابن أبي كبشة إليك عنا فقد آذانا نتن حمارك .. فغضب عبدالله لله .. وفي ظلال قول الله .. ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ ) .. أتى رسول الله وقال : يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى ودين الحق لإن شئت لآتيتك برأسه .. حاله :
وإني لأرجوا أن أنال بقتله ** من الله أجرا مثل أجر المرابط
فقال صلى الله عليه وسلم : ..... لا ...... ولكن بر أباك وأحسن صحبته .. والحال :
فما البحر الخضم يعاب يوما ** إذا بالت بجانبه القرود
.. .. .. .. .. .. .. .. ..
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي حرك الغيرة في قلب الشيخ المحاربي .. حين رأى منكرا على الحجاج لا يسعه السكوت عليه .. فأنكر عليه وهو يستشعر أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .. فقال له : أسكت وأغرب والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب بها وجهك ..
فقال الشيخ بعزيمة جبارة لو ** حملت أحدا لما شعرت له بكلال
سبحان الله إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله .. ولا والله الذي لا إله إلا هو .. لغضب الأمير أهون من غضب الله .. ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ) ثم مضى .. وحاله :
فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ** ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل
وما أنا ممن تقبل الضيم نفسه ** ويرضى بما يرضى به كل مائق
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي جعل عبادة في فتنة القول بخلق القرآن يصدع ويقول : كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .. ثم كان حجة يفهم من يقول بذلك القول .. حين دخل يوما على الواثق وقال : يا أمير المؤمنين أعظم الله أجرك في القرآن ..!! قال : ويلك القرآن يموت ..!! قال : يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت .. ثم موه عليه ومخرق .. قال : بالله يا أمير المؤمنين من يصلي بالناس التراويح إذا مات القرآن ..
فأعاد الحر منهم حائرا ** وثنا منهم المنطيق مفحما
سيرت سفنهم في بحره ** فهوت في قعره والتطما
سدت الطريق وأغص بالريق ويئس من الساحل الغريق ..!!
وإن رغمت أنوف من أناس ** فقل يا رب لا ترغم سواه
وما كانت كِلام السيف يوما ** لتبلغ مثل ما بلغ الكلام
.. .. .. .. .. .. .. .. ..
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي جعل دعاة القيم يزدرون حطام الدنيا وينظرون بشفقة ورثاء لمن يلهث ورائها كخادم لسيده ..
تراه يشفق من تضييع درهمه ** وليس يشفق من دين يضيعه
حداه في درهمه أعز عندي من وحيد أمه كل المنى في ضمه وشمه .. فرفعوا أصواتهم إنما هذه الحياة الدنيا متاع .. من هؤلاء شاعر مسلم شجاع استنفر فوجب عليه النفير .. لما سمع يا خيل الله اركبي وبالجنة ابشري .. خرج مجاهدا في سبيل الله أمسكت به زوجته وهي تبكي وتقول : كيف تخرج وتتركني ..؟! إلى من تدعني ..؟! فكر وتأمل ورأى أن لا عذر له فولى وهو يغالب عواطفه .. يقول :
باتت تذكرني بالله قاعدة ** والدمع ينهل من شانيه سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ** كرها وهل أمنع الله ما فعلا
فإن رجعت فرب الكون أرجعني ** وان لحقت بربي فابتغي بدلا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني ** أو ضارع من ضنا لم يستطع هولا
ثم مضى شجاعا آثر الله ورسوله والدار الآخرة وجعل الدنيا دابة يركبها يستخدمها ولا يخدمها حداءه ..
اختر لنفسك منزلا تعلوا به ** أو مت كريما تحت ظل القسطل
موت الفتى في عزة خير له ** من أن يعيش أسير طرف أكحل
فيا أيها الممثلون . . . و يا أيها المستهزئون ها نحن ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى الضياع والاستهزاء والسخرية والنار ولكن لا جرم أنما تدعوننا إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ {41} تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {42} لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ غافر 41 ـ 44]، إذًا {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [الشورى: 47]. واحذروا من عذاب الله فإنه وإن تأخر لإمهالكم فلا تكثر عليكم سيئاتكم {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [هود: 8].
سألكم بالله أهذا حق أمتكم عليكم، وهذا هو الوفاء لها ولبلادكم ولولاة أمركم الذين وضعوا في أعناقكم أمانة؛ فخنتم الأمانة، وضيعتم حق الله تعالى وحق ولاة أمركم عليكم وأنتم تنتسبون إلى أعظم ملة، وتحملون أشرف ديانة، ولكن هداكم الله وردكم للصواب .
أخيرًا أيها الناس جميعًا ثقوا بنصر الله وإن تسلط الأعداء في الخارج أو في الداخل وكما يجاهد الكفار بالسنان فجاهدوا المنافقين باللسان والبيان { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } [التحريم.: 9]،ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، واعلموا أن العاقبة لدين الله والنصر لأوليائه وإن استبطأنا ذلك فهذه طبيعة البشر { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة.: 214]
يا معشر الإخوان سيروا وأبشرُوا *** وثقوا بنصر الواحد المتفردِ
سيروا على نهج الرسول وصحبِهِ *** لا تعبأوا بالآثم المتمردِ
ولتعلنوها للبرية كلِّها *** إنا بغير محمد لا نقتدِي
لا نطلب الدنيا ولا نسعى لها *** الله مقصدنا ونعم المقصدِ
ليس المناصب همَّنَا ومرادَنَا *** كلا ولا ثوب الخديعة نرتدِي
إنا لنسعى في صلاح نفوسِنَا *** بعلاج أنفسنا المريضة نبتدِي
ونحب أن نهدي البرية كلَّها *** ندعو القريب قبيل نصح الأبعدِي
وبواجب المعروف نأمر قومَنَا *** ونقوم صفًّا في طريق المفسدِ
سدَّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وتقبَّل من الجميع،وحفظ الجوارح، وأصلح القلوب، وجمع الكلمة، ووحَّد الصف، وهدانا إلى الطريق المستقيم، وأتم علينا النعمة، وزادنا أمنًا وتوفيقًا.
الرحمة بالمدعوين
النموذج الثالث: مؤمن آل فرعون.
وهو الذي انبرى محاميا عن موسى -عليه السلام- ومرغبا فرعون وقومه في الاستجابة لدعوته، ومرهبا لهم من مخالفته والاعتداء عليه بالقتل، في بيان طويل وجدال قائم على الحجة والبرهان والعاطفة والرحمة.
فعندما سمع فرعون يستأذن ملأه -وليس استئذانه منهم إلا لخداعهم وإظهار أنه يرجع إليهم في الأمور المهمة- قائلا: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وسمع موسى -عليه السلام- وهو يستعيذ بربه -الذي لا ملجأ له سواه- كما قال الله تعالى عنه: { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } خرج ذلك الرجل المؤمن رضي الله عنه من صمته وهو من آل فرعون -فدافع عن موسى ودعا فرعون وقومه إلى اتباعه والبعد عن إيذائه، كما قال تعالى: { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ
بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } [إلى هنا تظهر رحمة الرجل المؤمن بموسى -عليه السلام- حيث يحذر قومه من قتله بسبب يقتضي مناصرته والاستجابة له، وهو أنه يقول ربي الله، ثم يفترض أنه إما أن يكون صادقا -وهذا هو الذي يعتقده هذا المحامي- وإما أن يكون كاذبا -حسب زعم فرعون وملئه- فإن صدق فسيكون قتلهم له ومحاربة دعوته وبالا عليهم، وإن كذب فتركهم له لا يضرهم ويتحمل هو كذبه، وفي نصحه هذه رحمة بهم، ثم يظهر رحمته بهم بأنهم يحزرون الملك وهذا الملك لا يبقى مع الظلم بل سينزل بهم بأس الله فإذا نزل بهم فلا ناصر لهم، وفي هذا غاية النصح لهم والرحمة بهم].
{ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ }{ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [وفي هذا تخويف لهم من عقاب الله في الدنيا، وذلك رحمة بهم].
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ }{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [وفي هذا تحذير لهم من عقاب الله لهم في الآخرة، وهو من رحمته بهم]
.إلى قوله تعالى { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [وهذا يعارض قول فرعون: { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } .. كما سبق]..
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ }{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }{ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ }{ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ }{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ } [الآيات من سورة غافر: 26-46].
ما أصعب كلمة الحق أمام الطغاة الفراعنة، وكثيرا ما يكون أناس يؤمنون بالحق الذي يكفر به الطغاة الفراعنة، ويودون أن يؤمن به أولئك الطغاة الفراعنة من أهل الباطل وأتباعهم، ولكنهم لا يجرءون على الجهر بذلك، فيؤمنون بالحق في أنفسهم ويكتمون ذلك الإيمان، خوفا من جبروت الطغاة الفراعنة وليس عليهم شيء في ذلك الكتمان اضطرارا، ولكن الإيمان عندما يقوى والرحمة بالطغاة وأتباعهم عندما تشتد، وكذلك الرحمة بأهل الحق المهدَّدين بالقتل والأذى، يأبى ذلك الإيمان أن يبقى في الصدور فيظهر في الأفعال والأقوال، وتتضاءل قوة الطغاة الفراعنة في نفوس المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، فيصدعون بالحق رحمة بالداعي المغلوب وبالمدعو المعاند، وهذا ما حصل من مؤمن آل فرعون رضي الله عنه وأرضاه وأكثر في قصور الطغاة الفراعنة من أمثاله، وهكذا يكون أهل الحق رحماء فيما بينهم ورحماء بغيرهم، بخلاف أهل الباطل فالغالب فيهم أن تكون الرحمة منزوعة من قلوبهم، وبخاصة فيما يعارض مصالحهم -ولو كانت تلك المصالح ظلما صريحا- وبخاصة مع أهل الحق فإن الغلظة والقسوة تكون ملازمة لهم في معاملتهم.
أهل الحق يدعون أهل الباطل إلى الحق وينصحونهم بترك الباطل رحمة بهم، وأهل الباطل يحاربون أهل الحق وينابذونهم العداء، ويخرجونهم من ديارهم، ويفتنونهم في دينهم بالضرب والرجم والحبس والقتل، تجبرا عليهم وقهرا وإذلالا لهم وقسوة عليهم.
والتاريخ البشري والقرآن العظيم والواقع المعاصر كلها تدل على ذلك.
ولو أردنا تتبع ذلك الظلم والقسوة والقهر التي تباين الرحمة وتنافيها، من القرآن الكريم وكتب السنة، والتاريخ والواقع المعاصر، لاحتاج ذلك منا إلى كتاب مستقل، فلنذكر نماذج من القرآن الكريم ونشير إلى شيء من الواقع للربط بين أهل الباطل في القديم والحديث.
سبق أن أهل الحق تلازمهم صفة الرحمة في أغلب الأوقات -هذا إذا كانوا من غير الأنبياء، وغير الأنبياء ليسوا بمعصومين، أما الأنبياء فلا تفارقهم سجية الرحمة- وأما أهل الباطل فالأصل أنهم غير رحماء، فإذا ما وجدت عند بعضهم بعض معاني الرحمة، فالغالب أنها تتعلق بتحقيق مصالح لهم.
ومن مستلزمات القسوة عند أهل الباطل اعتداء القوي على الضعيف.
وهكذا فمحبة الخير للناس تجرى من المؤمن مجرى الدم من العروق، ولذلك فلسان حاله ومقاله يردد ما قاله مؤمن من آل فرعون:(يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) "غافر:38-43".
فما الذي يمنعك من أن تذكر بآية بينة, أو سنة هادية أو قصة هادفة, وقد تكون هذه الساعة هي ساعة قيامتك, أو ساعة رحيل وانتقال من تذكر فتلقى ربك على عمل صالح وتكون بذلك قد بلغت الرسالة, وأديت الأمانة, ونصحت لإخوانك وأمتك, وأعذرت نفسك بين يدي ربك بالبلاغ وعساها توافق ساعة إجابة, والدال على خير كفاعله, ولأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، وحسبك أن تقوم مقام الدعوة وتستن بسنن الأنبياء و المرسلين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) "الأنعام:90", فاحذر من إضاعة الحقوق, ولا تبخل بهذه الساعة, فإن الله أحق أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر, وأنت ممن يحب أن يطاع الله في الأرض, وأن يكثر عدد المطيعين, ولو قرض لحمك بالمقاريض ونشرت بالمناشير, فابذلها ولا تبالي سواء كانت بالليل أو بالنهار, فلك في نبي الله نوح أسوة حسنة (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا).
اتهم نفسك
من فقه الدعوة
-عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِه ِفَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنُوهُ فَو َاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ 0رواه البخاري
القرطبي : فجعل له حُرمة الأخوة؛ وهذا يوجب الشفقة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ
بيان ..
هذان النصان الجليلان الصحيحان من مشكاة النبوة فيهما توجيهات عظيمة لمعشر الدعاة الذين أخذوا على أنفسهم الدعوة إلى الله على المنهج النبوي الصحيح ومن ذلك :
***- أن على الداعية أن يتقي الله في المدعو فلا يجانب العدل في تقويمه وينظر إلى الجانب السيئ في ذلك المدعو فحسب بل يجب عليه أن يحفظ حقوقه ولا يغمطها ويظهر الحسن الذي فيه ويذكره به مهما بلغ تقصيره فالموازنة بين الحسنات والسيئات عين العدل
***- ينبغي على الداعية أن تكون بينه وبين المدعو المقصر مساحة قرب وتلاطف تجعل المدعو يتفيأ ظلال ذلك الداعية من هجير المعصية والغفلة ويستعين بحنوه وعطفه واحتواءه له حتى لا يستفرد به الشيطان الرجيم فيوغل به في الضلالة والغي، فلقد كان ذلك الصحابي رضي الله عنه وأرضاه على ما فيه من تقصير يجلس مع النبي عليه الصلاة والسلام جلسة الحبيب مع حبيبه يؤانسه ويضاحكه0
***- على الداعية أن يحذر جموح العاطفة وغلوها في الحكم على المدعويين وأن يحكم بالحق لا غيره، وحماسته للحق وغيرته على الدين لا تبيح له الجور وتجاوز الحق في حكمه على الآخرين
***- من منطلقات الدعية وأدبياته في الدعوة إلى الله الشفقة والرحمة بالمدعو فهو يحرص على هدايته وإرشاده للخير ويجتهد في ذلك
***- على الداعية أن يحرص في أساليبه الدعوية على المصلحة وتكميلها وينأى عن حصول المفسدة أو تقليلها حتى يحقق سمو الهدف من دعوته
***- من الحكمة في الدعوة إلى الله تشجيع المدعو بإظهار الجوانب الإيجابية فيه وتذكيره بها واستغلالها للرجوع بالمدعو إلى جادة الحق والصواب ,,
المصدر: منتدى الرائد الدعوي للدعاة المتميزيين(موقع ناصح)
===========
قاعدة التدرج بالإنكار
ويكفينا لتبيين هذه القاعدة أن نذهب بجولة مع مؤمن آل فرعون، لنرى كيف تدرج بالإنكار على قومه درجة درجة؛ حتى يفصح لهم بالنهاية عن إيمانه الذي يكتمه، كل هذا بأسلوب يمتلئ بالذكاء، ودقة متناهية بالتدرج بالإنكار
جولة مع مؤمن آل فرعون..
وبعد قرار فرعون بقتل موسى عليه السلام بقوله (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنه أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر 26]
ورد موسى عليه السلام (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر 27]. هنا قام رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، ليدافع عن موسى وليرد كيدهم عنه بأسلوب ذكي، وبتدرج مدروس متقن. وبفقه الإنكار عميق، في جولة مع أصحاب القرار مع الطغاة، بحوار قد قسمه إلى أقسام، ودرجات وأخذهم معه درجة درجة، لكي يستوعبوا ما يريد، ويقروا ما يريد إنكاره عليهم
الدرجة الأولى : تضخيم المنكر
يقول سيد رحمه الله ((إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) [غافر 28] فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة))
فلا بد للداعية المنكر للمنكر أن يبدأ بتضخيم المنكر! وتبيين قبحه، بمقارنته بالمعروف، حتى يكون ذلك داعيا لأن تعافه النفس. ومثال ذلك في القرآن الكريم، تقبيح صورة المرابي بأنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وغيرها في القرآن كثير. ومن أمثلة هذا الأسلوب في السنة، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في من يعطي العطية ثم يرجع فيها ((مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء يعود إلى قيئه فيأكله)) رواه مسلم
يقول الإمام ابن حجر ((ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم ما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة)) ومثال ذلك في الحديث كثير
الدرجة الثانية : تبيين أدلة الإنكار
ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة ((ربي الله)).. يقولها ومعه حجته وفي يده برهانه: (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) [غافر 28].. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى - عليه السلام - ورأوها، وهم فيما بينهم وبعيدا عن الجماهير - يصعب أن يماروا فيها
فلا بد للداعية عندما يقوم بعملية الإنكار أن يصطحب معه أدلة تثبت أن ما يقوله هو الحق، وأن ما ينكره هو المنكر، لأن الناس لم يعتادوا الرضوخ والابتعاد عن مناكرهم بمجرد النهي الحاد المتشنج الخالي من الأدلة والبيانات
الدرجة الثالثة : افتراض أسوأ الفروض
((ثم يفرض لهم أسوأ الفروض، ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية تمشيا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه).. وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته، وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال))
الدرجة الرابعة : احتمال صدق الداعية
ومهما ألبس الطغاة أصحاب الحق من الاتهامات الباطلة، ومهما كثر تصديق الناس للطغاة فيما يدعون إله، وعلى افتراض أن يكون ذلك الداعية كاذبا، يبقى احتمال، وإن كان ضئيلا أن بعض ما يدعو إليه صاحب الحق صوابا. يقول سيد ((وهناك الاحتمال الآخر. وهو أن يكون صادقا، فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه: (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) [غفر 28]. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمالا في القضية فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام))
الدرجة الخامسة : التهديد العام غير المخصص
ثم يهدد في طرف خفي، وهو يقول كلاما ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم. (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر 28]. فإن كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون. فيصيبكم هذا المآل)). وأجمل شيء في هذا الأسلوب أنه تهديد غير مباشر، فالنفوس تأنف التهديد المباشر، ولا تحب أن تلتقي حول من يهددها. أو يرغمها على شيء معين خاصة إذا كان بشرا مثلهم. لذلك ربط هذا التهديد العام بالله، وليس بشخصه كإنسان، مما يخفف وطئة النفور، ويجعل ذلك التهديد مستساغا ومؤثرا لأنهم كانوا يعتقدون بالآلهة وبما تقوم به من نفع وضرر، ولكنهم ما كانوا يوحدون
الدرجة السادسة : التذكير بنعم الله والتحذير من نقمته
((وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفا بعقاب الله، محذرا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هو فيه من ملك وسلطان، مذكرا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) [غافر 29] إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض، فهم أحق الناس بأن يحذروه. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله (فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) ليشعرهم أن أمرهم يهمه. فهو واحد منهم ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص)). ومن أسوأ الأخطاء التي يقع بها كثير من الدعاة في طريق نهيهم عن المنكر، أنهم يشعرون من يخاطبونهم بأنهم أطهر منهم. وأنهم مستثنون من العذاب والانتقام الإلهي. ومثال ذلك قولهم ((أنتم كذا وكذا)) وقولهم ((سينتقم الله منكم)) وقولهم ((سيعذبكم الله في ناره))، هذه التحذيرات المباشرة دون أن يشرك الداعية نفسه معهم، من شأنها أن تكون مدعاة للتنفير، وجالبة للنقم على ذلك الداعية مما يصعب عليه مهمته في الإنكار وكسب الأنصار
الدرجة السابعة : إظهار خوفه على قومه وتذكيره لهم بمصارع من قبلهم
وذلك في قوله تعالى على لسانه (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد) [غافر 30 - 31] وذلك مثل ما يقوله بعض الدعاة لمن يريدون الإنكار عليهم ((لولا حبنا لكم ما نصحناكم)) أو قولهم ((لولا خوفي عليك وحرصي على ابتعادك عن النار لما نصحتك)) وغيرها من العبارات التي تترك في نفس صاحب المنكر شيئا من الطمأنينة والثقة بمن ينكر عليه، تجعله أكثر قبولا للنصيحة والإنكار مما لو كانت خالية من تلك العبارات
الدرجة الثامنة : التخويف بيوم القيامة
وذلك في قوله تعالى على لسانه (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [غافر 32 - 33]
يقول سيد رحمه الله ((وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف، وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.. فالتنادي واقع في صور شتى وتسميته ((يوم التناد)) تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار))
والكلام عن الغيب محبب للنفوس، لأن النفوس تحب أن تتعرف على ذلك الغيب بطبيعتها وحبها للاستطلاع، وحرصها على معرفة الذي سيحدث لها بالمستقبل، ولهذا السبب يذهب الكثير من الناس من الذين لا يعرفون حرمة تصديق من يدعي معرفة الغيب، يذهبون إلى العرافين وقارئي الكفوف والفناجين ليخبروهم كذبا عما سيحدث لهم بالمستقبل. ولعل هذا سبب من الأسباب التي جعلت القرآن والسنة تسهبان في تفصيل مواضيع الغيب من الجن والملائكة والقبر، وما يجري فيه من نعيم وعذاب والقيامة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها وغيرها من أمور الغيب وذلك ليكون منهجا ومنبعا للدعاة ليغترفوا من هذه البضاعة المحببة للنفوس لعلها تهتدي حينما تسمعها وتاريخ الدعوة يخبرنا أن كثيرا من المهتدين كان سبب هدايتهم سماعهم عن امر من أمور الغيب خاصة إذا أحسن الداعية عرضه لهذه المواضيع واختار لها وقتا مناسبا
الدرجة التاسعة : التذكير بالحوادث المماثلة في زمانهم
وذلك قول الله تعالى على لسانه (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) [غافر 34]
فينتقي صورا من التاريخ القريب لأذهان قومه، تتماثل مع معصيتهم التي يريد إنكارها، ولا يوفق لهذا الفن من الإنكار إلا من أكثر من قراءة كتب التاريخ، وقصص القرآن الكريم، وعرف كيف ينتقي الوقت المناسب ليقارن بين منكر يراه ماثلا أمامه لا يدري مقترفه ماذا سيحدث له وبين منكر قديم يماثله. في قالب قصة حدثت لفرد أو جماعة في التاريخ القديم أو القريب وماذا فعل الله بهم من عقاب، ويكون الحدث أوقع في للقلب كلما كان قريبا من زمانه
ختام المحاورة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله وهو طريق الرشاد وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة، وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذرهم عذاب الآخرة، وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان))
(وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار. لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) [غافر 38 - 44]
كسب القلوب..
هناك درجة قبل هذه الدرجات كلها جعلت آل فرعون يستمعون لهذا الداعية، ويحظى هو بإنصاتهم إليه. ربما تكون هذه الدرجة هي القرابة وربما درجة قريبة منها، ولكن لا بد للداعية الذي لا تربطه مع صاحب المنكر هذه الصلة أن يكون هو صلة جديدة معه يكسب بها قلبه ثم يبدأ بعد ذلك بالإنكار بأسلوب المحب والمشفق على من يحب، ولقد صدق تلميذ الإمام البنا الوفي عبد البديع صقر، عندما طلب من الدعاة الذين أرادوا انتهاج هذا الطريق ألا ينسوا أن يضعوا في أول مفكرتهم ((إن أسلوب التحدي ولو بالحجة الدامغة، يبغض صاحبه للآخرين فيجب التلطف لأن كسب القلوب أولى من كسب المواقف))
وبعد كسب القلوب يبدأ التدرج المدروس، وهذا ما وضحته عائشة رضي الله عنها للتابعي الثقة يوسف بن ماهك عندما قالت له ((إنما نزل أو ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل ((لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. وإني لجارية ألعب (لقد نزل بمكة على محمد بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)) رواه البخاري
وعائشة رضي الله عنه تبلين للدعاة هنا قاعدة جليلة في التدرج بالإنكار بما بدأ به القرآن من الترغيب والترهيب والرقائق حتى إذا ما صلبت الأعواد وقوت القلوب جاءت مرحلة البناء..
المصدر: شبكة الدعوة
=============
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى - عليه السلام - بالقتل، قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ... } ثم يقول زيادة في التكتم: {... وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ... } فقد قدم الكلام على احتمال كذبه على الكلام على احتمال صدقه زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[28]} [سورة غافر].
وكأنه يقول: موسى صادق؛ لأنه مهتد، ولو كان كاذبًا لم يكن مهتديًا، فاستدل باهتدائه على صدقة، ثم قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ[30]مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ[31]وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ[32]يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[33]}[سورة غافر].
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله، والمحاربة لدين الله {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[36]أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا... [37]} [سورة غافر].
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه، وليكن ما يكون، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[38]يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ[39]}[سورة غافر].
ثم يقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ[41]تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ[42]لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ[43]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[44]}[سورة غافر].
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله: فهي سلوك الموعظة الحسنة: والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
قضاءٌ وقدر
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد:22] فليعلم مَن جَهِل، وليدرِ مَن غفل، جف القلم، رُفعت الصحف، قُضي الأمر، كتبت المقادير: { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [التوبة:51] { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [الأعراف:89] { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173] { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } [غافر:44].
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
سهرت أعين ونامت عيونٌ في شئون تكون أو لا تكونُ
إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكونُ
واسمع إلى العامي ذي الفطرة الصحيحة يقول:
لا تِشْتِكِ يا واحداً باتْ مهمومْ تَرى الفرح عندِ اقترابِ الحزام
وانْ كان عِيْنَك خالفتْ لذة النومْ إنتَ تنام وخالقك ما ينام
{ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك }.
إن هذه العقيدة إذا رسخت في نفسك، وقرَّت في ضميرك، صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل الوقائع جوائز وأوسمة، و{ مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ مِنْه } فلا يصبك قلق من مرض، أو موت ابن، أو خسارة مالية، أو احتراق بيت، فإن الباري قد قدَّر، والقضاء قد حلَّ، والاختيار هكذا، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب غُفر.
هنيئاً لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخِذ المعطي القابض الباسط، { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23] ولن تهدأ أعصابك، ولن تسكن بلابل نفسك، ولن تذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاقٍ، فلا تذهب نفسك حسرات، لا تظن أن بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح، على رغمي ورغمك سوف يقع المقدور، وينفذ القضاء، ويحل المكتوب { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف:29].
استسلم للقدر قبل أن تطوَّق بجيش السخط والتذمر والعويل، اعترف بالقضاء قبل أن يداهمك سيل الندم.
إذاً: فليهدأ بالك إذا فعلت الأسباب، وبذلت الحيَل، ثم وقع ما كنت تحذر، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع: { ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل }.
واسمع إلى الجوائز وإلى الأوسمة وإلى الأُعطيات للصابرين المحتسبين: صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله يقول: { ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة }.
وقال سبحانه في الحديث القدسي الصحيح: { من ابتليتُه بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر عوَّضتُه عنهما الجنة }.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه قال: { إذا قبض ابن العبد المؤمن قال الله لملائكته وهو أعلم: قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا: نعم.
قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.
قال: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد }.
وانظر إلى الأولياء كيف يصبرون على المقدور: هذا عروة بن الزبير يسافر سفراً طويلاً من المدينة إلى الشام، عروة الذي كان كان يختم القرآن كل أربعة أيام، عروة الذي يقوم ثلث الليل، عروة الذي كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، عروة البحر الذي قال عنه الزهري : لا تكدره الدِّلاء.
سافر إلى الشام ؛ ولكنه كان سفراً بعيداً شاقاً حتى إنه قال بعد السفر: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [الكهف:62] سافر معه ابنه محمد، وذهب إلى هناك، ونزل في بيت، وأصابته الآكلة في رجله، فوصلت قدمه، فأرادوا بتر القدم فصبر، فسرت إلى الساق فأرادوا بتر الساق فصبر، فسرت إلى الفخذ، فقرر الأطباء بتر فخذه، وقدموا له كأساً من الخمر وهو الولي العالم الصادق الزاهد، فقال: [[ أأشرب خمراً؟ قيل له: ليذهب عقلك؛ لئلا تجد ألماً، قال: والله لا أشربها، كيف أُذهب عقلاً منحنيه ربي؟! كيف أرتكب محرماً؟! ولكن إذا دخلتُ في صلاتي، فسوف أنسى ألمي، فاقطعوا رجلي ]] فكبَّر واسترسل في صلاته، وسافرت روحه إلى الملكوت العليا، كما قال الأول:
إذا كان حب الهائمين من الورى بسلمى وليلى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالَم الأعلى
وبتروا رجله، وأغمي عليه، واستفاق ليقول أول كلمة، وينبس بأول جملة، فيقول: [[ اللهم لك الحمد، إن كنتَ أخذتَ فقد أعطيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ فقد عافيتَ ]] قال له الناس: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد ؛ فإنه بينما كانت تُقطع رجلُك ذهب إلى اسطبل الخيل فرَفَسَتْهُ فرس فمات، فعاد مرة ثانية ليبعث رسالة حارة إلى الحي القيوم المتفضل سبحانه ليقول: [[ اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا، أعطيتني أربعة أعضاء وأخذتَ عضواً، وأعطيتني أربعة أبناء وأخذتَ ابناً، فأنت المتفضل صاحب الجميل ]].
والمرأة السوداء، صح الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى وإذا هي تَصْرَع وتمرض وتتكشَّف، يعيث بها المرض، ويزلزلها ويقلقها، تضطرب منه، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يَعرض عليها الخيار، وهي أمة سوداء؛ لكنها مؤمنة بالله، مسلمة بالقضاء والقدر: { إن شئتِ دعوتُ الله لكِ فكافاكِ، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولك الجنة، قالت: بل أصبر وأحتسب، لكن ادعُ الله لي ألا أتكشَّف } قال عطاء: [[ من أراد أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى هذه المرأة السوداء ]] .
أهمية الاعتصام بالله والتوكل عليه
روى البخاري وغيره في الصحيح وزاد الإسماعيلي في روايته: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم -سيد المتوكلين- خرج إلى الصحراء في غزوة يجاهد في سبيل الله, وفي الظهيرة تفرق أصحابه تحت الشجر ينامون، كل وضع رداءه لينام, وأخذ صلى الله عليه وسلم الشجرة الكبيرة فنام تحتها وخلع ثوبه وعلقه في الشجرة وبقي في إزار، فلما نام عليه الصلاة والسلام -ولكن كما يقول شوقي :
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
أي: إذا لاحظتك عناية الله فنم ملء عينك, ونم ملء جفونك ولا تخف { نام صلى الله عليه وسلم فأتى مشرك من المشركين فاخترط سيف الرسول عليه الصلاة السلام صلتاً بيده, وأيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام, والرسول صلى الله عليه وسلم مضطجع أمامه، فيقول المشرك: من يمنعك مني؟ قال: الله! فاهتز المشرك خوفاً ورعباً وسقط السيف من يده, فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم السيف وأجلس المشرك، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، كن خير آخذ، قال: عفوت عنك } فأسلم الرجل ودعا قبيلته للإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في حديث قدسي يصححه بعض العلماء: { وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري أحد إلا زلزلت الأرض من تحت قدميه } فالذين يتصلون بغير الله جبناء وسفهاء, ولا يملكون شيئاً حتى ولو خططوا وملكوا ورصدوا ولو حاولوا فالقدرة قدرة الله, اسمع إلى الله تعالى وهو يقول: { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف:79-80].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام ولكل مسلم: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } [الفرقان:58] لأن الله لا يموت أما سواه فيموت، الأنداد, والأضداد, والهيئات, والمنظمات, والكيانات كلهم يموتون، والمطلوب منا ألا نخف إلا من الله، قال بعض المفسرين: إذا أردت أن تكون أشجع الناس فلا تخف إلا من الله, ومن خاف من غير الله, خوفه الله من كل شيء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران:159].
وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2] والتوكل فسره أهل العلم فقالوا: أن تفوض أمرك إلى الله، كما فعل موسى عليه السلام, أتى إلى البحر والعدو من ورائه فقال بنو إسرائيل: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء:61] قال موسى: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء:62].
وكما فعل عليه الصلاة والسلام في الغار يوم قال لـ أبي بكر : { لا تحزن إن الله معنا } فنجاه الله.
وكما فعل الصالحون من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ويفعله الدعاة دائماً، أن تفوض أمرك إلى الله, قال تعالى: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } [غافر:44-45].
وقال تعالى: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [فاطر:43].
ويقول تعالى: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30].
وقال تعالى: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142].
ويقول تعالى أيضاً: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل:26].
لا تهولنكم الأنظمة الكافرة, والكيانات الصادة عن منهج الله, ولو عظمتها أجهزة الإعلام, ولو ذكرت قواها, فإنها تبور أمام قوة الواحد الأحد.
ورأيت ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله ذكر دعاء موسى عليه السلام في سيناء يوم سجد وقال: "اللهم إليك المشتكى, وأنت المستعان, وعليك التكلان, ولاحول ولا قوة إلا بك".
وذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى عليه السلام يوم أن كشف الغطاء عن البئر، ثم عاد إلى الظل قال: يا رب مريض فقير غريب جائع -موسى فيه أربع صفات هي: أنه فقير، ومريض، وجائع وغريب- فأوحى الله إليه: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والجائع من لم أكن أنا مطعمه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه.
وقال ابن القيم في الفوائد : "من توكل على الله أكسبه عشيرة بلا عشيرة".
التوكل على الله
أولها: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ إليه، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } [غافر:44-45].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ لرسوله: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [الزمر:36] وكل من هو دون الله فهو تحته، ودونه، وأضعف منه، فلا مقارنة.
الناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم لا في حياتهم، إنهم يكونون أجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله، إن قضية الوظائف، والمناصب والموائد، والجاهات والشارات استعبدت البشر، إنها تستعبد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً لا يقول كلمة الحق: { تعس عبد الدينار تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة } إن محمداً عليه الصلاة والسلام، أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه.
ولكن: طال الأمد، وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إنهم يخافون من البشر أكثر من رب البشر!! فكم يخافون؟ وكم يجبنون؟ وكم تصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط، يتعرض لوظيفته أو لمنصبه أو لدخله ورزقه، ولا يرزق ولا يخلق إلا الله!! { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } [الفرقان:3].
إن قصة الهجرة يتجلى فيها التوكل كأحسن ما يتجلى في أي صورة، يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار، لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انفجر من الغار .
فمن يمنعه عليه الصلاة والسلام؛ أين موكبه؟ أين أقواس النصر التي تحف بالناس؟ أين الجنود المسلحة التي تحمي جماجم الناس وأرواحهم وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود معه ولا حراسة، لا سلاح، ولا مخابرات، ولا استطلاع!
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
فيقول أبو بكر : { يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام -والتبسم في وجه الموت أمرٌ لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد عليه الصلاة والسلام:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
يتبسم عليه الصلاة والسلام- ويقول: ما ظنك يا أبا بكر ! باثنين الله ثالثهما } هل يغلب الثلاثة، أم تكون الدائرة على غير الثلاثة؟ إذا كان الله الثالث، فمن هو المغلوب؟ من هو خاسر الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول: لا تحزن إن الله معنا، بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم عليه السلام، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليَّ حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173] فصارت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد أن ينطق اللغة، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، وحرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب! إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، فيعطيه الله درساً في التوحيد والتوكل: { قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] نواصي العباد بيديه، ورءوس الطغاة في قبضته، ومقاليد الحكم بيمينه، لا يتصرف متصرف إلا بقدرته.
ثم يأتي سراقة ويطارد محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت، فيقول: يا محمد! اكتب لي أماناً على حياتي.
أنت الآن محمي وأنا مهدد، بالله لا تقتلني، فقد فر من الموت وفي الموت وقع، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن يتبسم: { يا سراقة ! كيف بك إذا سورت بسواري كسرى؟ } أين كسرى؟ إنه امبراطور فارس، ودكتاتوري الشمال، المجرم السفاك.
فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، أهذا يستولي على إمبراطوريات الدنيا؟! أهذا يلغي مملكة العالم، وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه؟ وبالفعل تم ذلك، ودكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان:
وما أتت بقعةٌ إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
و خالد في سبيل الله مشعلها و خالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
وعن وهب بن منبه وقد ذكر ذلك ابن كثير وغيره -: أن الله عز وجل يقول في الحديث الصحيح القدسي: { وعزتي وجلالي، ما من عبد اعتصم بي، فكادت له السماوات والأرض، إلا جعلت له من بينهن فرجاً ومخرجاً } أسمعتم؟! من الذي يقسم؟ الله! { وعزتي وجلالي ما من عبد اعتصم بي، ثم كادت له السماوات والأرض ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما من عبد اعتصم بغيري، إلا أسخت الأرض من تحت قدميه }.
فالأذلاء الحقراء هم الذين يعتصمون بغير الله، والخونة العملاء هم الذين يلتجئون لغير الله، أما المؤمنون الشجعان فهم الذين يفوضون أمرهم إلى الله قال تعالى: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } [غافر:44-45].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر:36].
وقال تعالى: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [آل عمران:174].
وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرددها كثيراً، ويقرأها، ويتأملها، وأن يعيش معها، ولكن تعالوا الآن لنعيش مع مفرداتها، وجملها الرائعة البديعة، التي هي تثبت -صراحةً- أن هذا القرآن ما كان له أن يُفْتَرى من دون الله، ومن غير الله ما يُسْتَطاع، وأن من معجزاته أنه ما يُنْظَم على نفسه، ولا يُوْصَل إلى قدره، ولا يُرَتَّل مثله أبداً، لا من شاعر، ولا من كاتب، ولا بليغ، ولا خطيب، أو عالم، أو مفكر.
هذه أدمعي قد سكبتها وهذه كلماتي قد سطرتها
هذه أدمعي قد سطرتها لك، لا أشكو إلاَّ إلى الله، فالشكوى إلى الله وحده وأفوض أمري إلى الله، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، ولكن لتعلم ويعلم من أحبهم في الله، من مشائخي الأفاضل والدعاة والقضاة، حفظهم الله للإسلام، وسدد خطاهم.
تقول: ونفع بهم الأمة، نعم هذه إنني قد بُحَّ صوتي، فما عاد يقوى على الصراخ -معذرةً الخط فيه رداءة قليلة، يمكن من المعاناة- أبثها إليكم هذه أمانة الكلمة، بحتُ بها لتعلموها، ولأحملكم إياها، لتلقوا الله بها غداً يوم القيامة، وقد علمتم حالنا ووضعنا ومآسينا.
ماذا أنتم فاعلون لنا؟ ماذا تقدمون لنا؟ كلام ! محاضرات ! ندوات ! دروس ! أشرطة ! أين الحل الإسلامي ؟! أين إنقاذ المرأة ؟! كُن الصحابيات إذا اشتكينَ وجدن لهُنَّ ملجأ بعد الله وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، فكان صلى الله عليه وسلم يحل لهنَّ مشاكلهن، فمن يحل مشاكلنا ؟!
والله يا شيخ: إنني أخاف في بعض الأحيان أن أكفر بكلمةٍ من قهر تخرج من فمي من غير إرادة، أو حتى هاجس يدور في خلدي لما أعانيه.
ثم قالت: أليس الإسلام رحمة؟ أين رحمة الإسلام ؟! -أستغفر الله- لا زال الإسلام رحمة، وسوف أجيب عن هذا إن شاء الله، حتى لا أقطع رسالتها.
فلو لم يكن إسلامٌ ما استطاع والدي وغيره استعبادي وحرماني من الزوج والأبناء، لا حرمه الله نار جهنم وسعيرها -أستغفر الله- أن أسخط أعترض على قضائه وقدره، ولكنه القهر ثم القهر، ثم القهر!!
شيخي الفاضل: إن شئت فاقرأ رسالتي على حضورك، لا، اقرأها أسألك بالله أن تقرأها؟! فانظر أيهم يقبل القدوم لإنقاذي وإنقاذ أخواتي من المئات اللواتي عشنَ وضعي ومأساتي ومعاناتي!!
فأين الشباب الذين يبحثون عن زوجات ملتزمات ؟! وإن شئت فاقرأ للعبرة والعظة، وإن شئت ورفضت أن تقرأ معاناتي على الناس فمزقها والقها في سلة المهملات، وأضف إلى معاناتي معاناةٍ أخرى، لكن أعلنها من على منبرك، منبر محمد عليه الصلاة والسلام، منبر الإسلام صرخةً مدوية لتحرير الفتيات، أو ارفعها إلى سماحة الوالد القدير الشيخ عبد العزيز بن باز، لينظر في موضوعنا عاجلاً، أو حادث من تريد من أهل الخير، من الفقهاء، من العلماء، من المشايخ، من أهل الحل والعقد.
ثم تكلمت بسطرين، ثم تقول: هي أمانة قد حمَّلتها إياك كتبتُ أنا وغيري كثيرات، وها نحن باكيات شاكيات، والله المستعان، لا تنسونا من دعائكم .
أسأل الله أن يفرج كربتنا.
هذه هي الرسالة قرأتها أمامكم وحذفتُ منها ما استطعت أن أحذف، لكني لم أزد عليها حرفاً واحداً، وهي بخطها، وهي أمامي هنا، والحقيقة أنها رسالة مذهلة، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأنا أضعها بين أيديكم لما جعل الله فيكم من خيرٍ وإيمانٍ وحكمة، ويعلم الله ليست بغريبة عليَّ لما أسمع من الهاتف من معاناة أمهات، وبنات، وأخوات، ومن رسائل واستفسارات وأسئلة، تبين وخاصةً ممن يخالط الناس، ويسمع لمئات الرسائل، وآلاف الأسئلة، تبين أن في المجتمع شريحة، لا يسمعون ولا يفقهون، ولا يعقلون، ولا يتدبرون ولا يعون.
تبين أن عندنا في المجتمع أناس، نزع الله من قلوبهم الرحمة، أقولها بكل صراحة من هذا المنبر، وأنا مسئول عما أقول، لا رحمة، ولا إخاء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد:22-23].
أين يمضي بنا الفساق لو سرنا وراءهم
لو تأملنا فإن هذه الحقيقة الواعظة قوية في تأثيرها، جاءت في كثير من المواقف فأدت دورها، وأثرت تأثيراً عظيماً حتى فيمن كان من الطغاة أو المتجبرين، أو كان من الأثرياء المسرفين، فإن حقيقة نهاية الحياة، وإن المرد إلى الله حقيقة عظيمة لو أننا نوقن بها حقاً، ونحسن عرضها والتذكير بها لوجدنا خيراً كثيراً.
ألسنا نسمع ونقرأ قصة مؤمن آل فرعون وهو مؤمن واحد في بيئة كافرة، ومع طاغية جبار، كان يجابههم بهذه الحقيقة ويذكرهم بها: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ } [غافر:41] { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } [غافر:42].
قولوا ذلك للناس، قولوا لكل من يعصي: إنما ندعوك لخيرك، إنما نكلمك لمصلحتك، إنما يحرقنا حبنا لك، وغيرتنا عليك، وإشفاقنا عليك، ورغبتنا في أن نسلم من سخط الله عز وجل وغضبه! ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى أين تريدون أن تقودوننا إذا سرنا وراء الفسقة والفجرة فضلاً عن الكفرة الذين لا يؤمنون بالله عز وجل؟! أين سنمضي إذا سرنا وراء مذاهب الأرض من شرق أو غرب؟ أين سنمضي وراء السلوكيات المنحلة المنحرفة، والفنون الماجنة الداعرة؟! ما الذي سنصل إليه؟! هل سنحقق قوة لأمتنا؟ هل سنتقدم بين الأمم في العلم؟ هل سنقود الأمم بقوة سواعدنا وأسلحتنا، أم أننا سنهز الوسط، ونجيد الرقص، ونكثر الغناء؟ حتى أصبح لكل عدد من مواطني العرب في بلاده عدد كاف من المغنين أو المغنيات أو الراقصين والراقصات.
لابد أن نقول: ما لنا ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى المصير الذي لا فائدة فيه ولا نفع في الدنيا، ولا يكون موضع أمل بنجاة ورحمة في الآخرة، نسأل الله من فضله.
ثم يمضي قائلاً: (( لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))[غافر:43] هذه حقائق القرآن الواعظة المذكرة، نسأل الله عز وجل أن تنزل من قلوبنا منزلاً في الادكار والاعتبار، ومنزل القبول والعمل بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ين الرجال؟ أين أولو الغيرة؟ أين أصحاب الحمية؟
أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟
صار هم بعضهم -للأسف- أنه يحضر هذا المجلس ثم يشرب شاهي وقهوة، ويقلب كف على كف ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لا حول ولا قوة إلا بالله تقولها بعد أن تبذل الأسباب، بعد أن يشغل قلبك فتسجد في الليل وأنت تبكي تقول: اللهم أمتي أمتي، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولهذا ذلك الذي آمن من قوم إسرائيل من قوم فرعون ماذا قال؟
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } [غافر:29] ولهذا قال في خاتمة كلامه: { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } [غافر:44].
أيها الناس: تحركوا! وليشغلنا على الأقل الهم في البداية، لأنه إذا دخل هذا الهم في القلب وصلحت هذه المضغة، صلح الجسد كله، فتجده إما متكلماً أو كاتباً أو ناشراً أو موزعاً أو طارقاً للأبواب، أما إذا فسدت هذه المضغة، فتجده يصد، ويقول للداعية: ماذا تفعل؟ الفساد أكبر منك، يا أخي! ما تستطيع أن تفعل شيئاً، ويأتي المريض الثاني فيقول: الحمد لله نحن بخير، نحن أفضل من غيرنا، ولكن الخطأ باقٍ، والمنكر يبقى منكر، والربا من الموبقات، والزنا من المحرمات، والفواحش من أسباب هلاك الأمم، لابد أنك ترضى بهذا وتصدق هذا، ولهذا زينب لما قالت: { أنهلك وفينا الصالحون!؟ } فينا صالحون الحمد لله، يتبجح بها بعض الناس، فينا الحمد لله أهل الصلاة، أهل المساجد، والصائمون والمتصدقون نعم، لا نشك بهذا، ولكن قال: { نعم إذا كثر الخبث } ما الهم الذي تحمله؟
أسألك بالله أيها الأخ الكريم! هل همك لا زال -بعد هذه الكلمات- في أثاث سوف تشتريه بعد أيام؟
أم لا زال همك في شهادة سوف تحصل عليها بعد أشهر؟
أم همك لا زال في سفر سوف تسافره بالصيف؟!
أم همك لا زال في سيارة سوف تركبها بعد أيام؟!
همك بم يا عبد الله؟!
ما الهم الذي تحمله؟
نعم.
لا تنسى نصيبك من الدنيا، ولكن لا تطغى عليك الدنيا: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء:77] .
عدم التوكل على الله سبحانه
السبب الخامس: وهو يمنع كثيراً من الناس عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويصيبهم بالضعف والفتور وهو: عدم التوكل على الله:-
يعتمد على أسبابه، يظن أنه إذا دعا اهتدى الناس! لا يا عبد الله! الأمر كله معلق بالله جل وعلا، أسمعت بمؤمن آل فرعون؟! فرعون كان في قصره مؤمن، كتم إيمانه، وخاف، لكن لما اجتمع فرعون والحاشية وكان هو موجوداً، واتفقوا على قتل موسى، هذا الرجل ما استطاع كتمان الإيمان، فأظهر إيمانه وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } [غافر:28] أتفعلون هذا الفعل في رجل يدعو إلى الله جل وعلا؟! أتسجنون هذا الرجل؟! ما جريمته؟! ألأنه دعا إلى الله جل وعلا تطردونه، وتضربونه، وتقتلونه، وتستهزئون به؟! هذا المؤمن الداعية إلى الله جل وعلا ما تحمل وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [غافر:28].
وأخذ يجادلهم، وأخذ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويناقشهم، ويقنعهم بالدعوة إلى الله، وبصحة هذا الدين، وفي النهاية ماذا قال؟ { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [غافر:44] قال: ستذكرون هذا الكلام، وأنا أفوض أمري إلى الله، ومتوكل على الله جل وعلا، أنا فقط عليَّ البلاغ، ومتوكل على الله.
قبل قليل قال لهم: { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } [غافر:29].
عباد الله: يقع زلزال في خمس ثوانٍ فيدمر جميع البيوت، هذا جندي من جنود الله، فهذه ريح أرسلها الله على قوم عاد سبع ليالٍ وثمانية أيام دمَّر الله القرية كلها، حتى إنه كانت الريح تأخذ الواحد منهم إلى أعلى السماء ثم تطرحه على الأرض فينفصل الرأس عن الجسد.
العجوز كانت تختبئ في البيت من شدة البرد، ريحٌ صرصر بارد، تجلس في البيت فتغلق الباب على نفسها، وتشعل النار، فتموت من البرد وهي في بيتها.
وسمعتم بذلك الرجل، الذي قتل، وقد قدمنا قصته أول المحاضرة، هل أرسل الله عزَّ وجلَّ جيشاً؟! هل أرسل الله ملائكة؟! هل أرسل الله عزَّ وجلَّ عباداً له؟!
لا يا عباد الله! انظر ماذا قال الله عزَّ وجلَّ: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } [يس:28] ما أنزل الله ملائكة.
ماذا فعل الله؟!
{ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [يس:29] صيحة واحدة، جندي من جنود الله جل وعلا: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر:31].
توكل على الله، وفوض أمرك إلى الله جل وعلا، وإياك إياك أن تعتمد على حساب الماديات، تعتمد على حولك وقوتك ونشاطك وذكائك! لا يا عبد الله.
انظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، رمي في النار بالمنجنيق، شهر كامل يجمعون الحطب لحرق إبراهيم، فلما جمعوا الحطب وأشعلوا النار، يمر الطير من فوق النار فيسقط من حرارتها، إبراهيم ما استطاعوا أن يأتوا إلى النار فيقذفوه فيها، بل رموه بالمنجنيق، فلما كان في الهواء جاءه جبريل في اللحظة الأخيرة، قال: ألك إليَّ حاجة؟ -جبريل ينقذه الآن- فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما سقط في النار، قال الله جل وعلا: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء:69-70].
توكل على الله أيها الداعية، لا تقل: أنا بقوتي وبنشاطي وبعملي سوف أكره الناس جميعاًَ! لا يا عبد الله! { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس:99] ما تستطيع يا عبد الله!
إذاً توكل على الله تبارك وتعالى.
أما المؤمنون من أهل مصر، فربهم أعلم بهم، وهو كفيل بأن يقيهم العذاب، حيث وعدهم بالنصر كما وعد رسله، ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا، إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47 الروم )، ووعدهم بالنجاة كما وعد رسله، قال تعالى ( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ، إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا، وَالَّذِينَ ءَامَنُوا، كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103 يونس ) .
وبعد جدال طويل، لمؤمن آل فرعون، مع أئمة الكفر من قومه، في حوار يمتد من الآية 28 في سورة غافر وحتى الآية 44، يقول لقومه : ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا، وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)، وكذلك سيفعل الذين من بعدهم، عندما يسمعون بأمر هذا الكتاب، فسيُمارون ويُكثرون من الجدل الجدال، ليُثبتوا أن هذه السورة، لم تكن بأي حال من الأحوال بشأن مصر، وما يجري في مصر، وما ذلك بمنجيهم من العذاب، فالأولى بهم أن يُصلحوا ما فسد من أمرهم، ويعودوا إلى ربهم .
(فصل)
قال بعض العلماء عجبت لمن بلي بالضر كيف يذهل عن أن يقول "ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين وأوفى الواعدين (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ(.
وعجبت لمن بلي بالغم كيف يذهل عن أن يقول (لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
والله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين وأوفى الواعيدن (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ(.
وعجبت لمن خاف شيئًا كيف يذهل عن أن يقول "حسبي الله ونعم الوكيل" والله تعالى يقول (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ(.
وعجبت لمن كيد في أمر كيف يذهل عن أن يقول "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد".
والله جل وعلا يقول وهو أقدر القادرين (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا(.
وعجبت لمن أنعم الله عليه نعمة خاف زوالها كيف يذهل عن أن يقول "ما شاء الله لا قوة إلا بالله".
وعجبت لمن تعسرت عليه أموره كيف يذهل عن تقوى الله وهو سبحانه يقول (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(.
وعجبت لمن بلي بضيق الرزق والهم والكرب كيف يذهل عن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والله جل وعلا يقول (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ(.
وعجبت لمن بلي بالذنوب كيف يذهل عن الاستغفار والله جل وعلا يقول (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا(.
وعجبت لمن احتاج إلى أمر ديني أو دنيوي كيف يذهل عن الدعاء والله يقول (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( (الآية) اهـ.
شعرًا:
قُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ واقْصُدْ مُهَيْمِنًا
وقُلْ يَا عَظِيْمَ العَفْوِ لا تَقْطَعِ الرَّجَا
فَيَا رَبِّ فاقْبَلْ تَوْبَتِي بِتَفَضُل
فإِنْ أَنْتَ لَمْ تَعْفُو وأَنْتَ ذَخِيْرَتِي
حَقِيْقٌ لِمَنْ أَخْطَأ وعَادَ لِمَا مَضَى
ويَبْكِيْ عَلَى جِسْمٍ ضَعِيْفٍ مِنَ البِلَى
رَجَوْتُ إِلَهِي رَحْمَةً وَتَفَضُّلاً
يَرَاكَ إِليْهِ فِي الدُجَى تَتَوسَّلُ
فأَنْتَ المنَى يَا غَايَتِي والمُؤَمَّلُ
فَمَا زِلْتَ تَعْفُو عَنْ كَثِيْر وتُمْهِلُ
لِمَنْ أَشْتَكِي حَالِي ومَنْ أَتَوَسَّلُ
ويَبْقَى عَلَى أَبْوَابِهِ يَتَذَلّلُ
لَعَلَّ يَجُودُ السَّيِّدُ المُتَفضِّلُ
لِمَنْ تَابَ مِنْ زَلاتِهِ يَتَقَبَّلُ
اللهم عافنا من مكرك وزينا بذكرك واستعملنا بأمرك ولا تهتك علينا جميل سترك وامنن علينا بلطفك وبرك وأعنا على ذكرك وشكرك الله سلمنا من عذابك وآمنا من عقابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التفويض .. (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله) أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني ..قال اين مسعود : (إن أشد آية في القرآن تفويضاً" ومن يتوكل على الله فهو حسبه" )، قال ابن القيم رحمه الله نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضى بعده"من وجهة نظر الدين والتوحيد"، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضى بالمقضي بعد الفعل فهذا إنسان قائم بالعبودية فعلاً)..ولذلك انظر إلى دعاء الاستخارة: واقدر لي الخير حيث كان كله ثم رضني به..فالتوكل إذاً على الله تفويض قبل وقوع المقدور ورضى بعد وقوع المقدور..
ذكرتم أن التوكل الصحيح هو ما جمع بين التفويض وبين فعل السبب - سؤالي ذكر بعض أهل العلم كابن رجب رحمه الله حالات القصص عن السلف الصالح مفادها بأنهم فوضوا قلوبهم إلى الله فوصلوا إلى درجة من التوكل بحيث لم يحتاجوا إلى فعل السبب، واستدل بحديث ابن عباس وقال هي رتبة الخواص ؟
لا، لا سنة إلا بحركة ولا إيمان إلا بتوكل، ولا توكل إلا بفعل السبب، كما قاله غير واحد من السلف، فعل السبب من التوكل، التفويض أمر آخر ويفوض يصبح مفوضا أمره إلى الله وهي عبادة قلبية عظيمة ?وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ? أما التوكل فهو فعل للسبب أولا ثم تفويض الأمر إلى الله، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وإن كان عده بعض العلماء من الضعيف قال رجل للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟ قال (بل اعقلها وتوكل) (اعقلها) فعل السبب، ثم قال (وتوكل) بواو العطف لأنه يشمل، الأول داخل في الثاني، يعني (العقل) بعض (التوكل) لأنه فعل السبب، و هذا لا شك أمر ظاهر .
والتوكل على الله سبحانه وتعالى من أعظم المقامات؛ مقامات الإيمان، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب جل وعلا، والتوكل على الله معناه: أن يفعل السبب الذي أُمر به، ثم يفوض أمره إلى الله جل وعلا في الانتفاع بالأسباب. وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله جل وعلا كما قال سبحانه في ذكر مؤمن آل فرعون ?وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ?[غافر:44]، وهذا التفويض إلى الله جل وعلا عمل القلب خاصة؛ يعني أن يلتجئ بقلبه، وأن يعتمد بقلبه على الله جل وعلا في تحصيل مراده، أو دفع الشر الذي يخشاه، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب، والسبب قد ينفع، وقد لا ينفع، فإذا تعلق القلب بالخلْق أوتي من هذه الجهة، ولم يكن كاملا في توكله، فتعلق القلب بالخلق مذموم، والذي ينبغي: أنْ يتوكل على الله، وأن يعلق قلبه بالله جل وعلا، وألا يتعلق بالخلق، حتى ولو كانوا أسبابا، فينظر إليهم على أنهم أسباب، والنافع والذي يجعل السبب سببا، وينفع به هو الله جل وعلا. إذا قام هذا في القلب فإن العبد يكون مع ربه جل وعلا، ويعلم أنه لن يكون له إلا ما قدره الله جل وعلا له، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله جل وعلا عليه.
قال عليه الصلاة والسلام (رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجُفَتِ الصُحُفْ) يعني أن الأمر مضى وانتهى، وهذا لا يدلّ، كما ذكرته لكم فيما سبق، لا يدل على أن الأمر على الإجبار، بل إنّ القدر ماض، والعبد يمضي فيما قدره الله جل وعلا؛ لأجل التّوكل عليه، وحسن الظن به، وتفويض الأمر إليه، وهو إخْلاء القلب من رؤية الخلْق.
اللهم إني أسألك أن تجمع كلمتنا على الحق، وأن توفقنا للعمل به والدعوة إليه، ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
تلك برقية عاجلة عبر إشارات عابرة، وكلمات قاصرة، أهديها لكم رغبة في نصحكم، وأملاً
في رشدكم، والنبيه يكفيه التنبيه .
وهذه نصيحتي قصدت بها وجه الله والدار الآخرة، وإرادة الحق بالتي هي أحسن، فمن أبصر
فلنفسه، ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى
الله إن الله بصير بالعباد
لذا جرى مداد القلم بما تقدم، براءة للذمة، ونصيحة للأمة، فلكم المغنم، وعلي المغرم،
ونعوذ بالله من المأثم، نصيحة لكم، وإشفاقاً عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المعنى
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ? أرفع شكايتي إليه , أعرضُ حالي عليه, أُحَسِّنُ ظني به , أتوكلُ عليه, أرضى بحكمِه, أطمئنُّ إلى كفايتِه.
[ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ] ... [غافر 44] .
هذا بلاغ لكم والبعث موعدنا وعند ذي العرش يدري الناس ما الخبر
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل .
من هم السعداء؟
وهي أن نتدبر أحوال فريق السعداء الفائزين، ونقتدي بهم.
ثم ندعو له: «اللَّهُمَّ اغْفرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا. اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَىـ الإيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإسْلامِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ»(1).
ونحبه في الله ـ تعالى ـ لعلنا نُحشَر معه، كما أخبرنا أَنَسٍ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لا شَيْءَ إلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت.َ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إيَّاهُمْ وَإنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»(2).
فماذا عن هذا الفريق؛ لو تدبرنا سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ومصيره؟
ونفاجأ كذلك بأن مفتاح شخصيتهم، وسمتهم العامة هي الإيجابية؛ خاصة لو وضعنا أمام أعيننا أمثلة راقية لهم؛ مثل مؤمن آل فرعون، وسحرة فرعون، وغلام الراهب، وشهداء الأخدود، ومؤمن ياسين، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
1 ـ إنهم أصحاب قضية سامية عاشوا لها وعاشت بهم.
وتدبر تلك القضية التي حركت الرجل المؤمن، لينصر موسى ـ عليه السلام ـ وعندها لم يعد يجدي الصمت.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ} [غافر: 28].
ثم جاء الوقت ليعلن قضيته علانية؛ ولو أدى إلى استشهاده.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 38 - 45].
2 ـ إن نظرتهم للحياة الدنيا؛ نظرة موضوعية، كنظرة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عندما حكى فقَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لموْتِك»(3).
3 ـ إنهم كانوا يعيشون لغيرهم كما عاشوا لأنفسهم؛ فكانوا يحبون الخير لغيرهم ويفعلونه.
وتدبر كيف قتل الغلام الدابة التي تعترض الناس، وكيف ساعد على شفاء المرضى بما فيهم جليس الملك.
4 ـ إنهم كانوا مبادرين في اختيار نهايتهم، بل شاركوا في صنعها، واختاروها.
وتدبر نهاية غلام الراهب ومؤمن ياسين ومؤمن آل فرعون، وكذلك موقف السحرة، وتحديهم لفرعون؛ عندما {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
5 ـ أحبوا الموت، ليس هروباً من الحياة؛ كم حذرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ إمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ»(4)، ولكن حباً وشوقاً إلى لقائه ـ سبحانه ـ كما جاء في هذا الحوار:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَه، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإنَّ الْكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»(5).
وتدبر موقف أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ في غزوة أُحُد؛ عندما حكى أَنَس ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي أَصْحَابَهُ ـ وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ـ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ؛ وَرَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَقَالَ: إنَّ أُخْتَهُ ـ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ ـ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَرَضُوا بِالأَرْشِ، وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ»(1).
وكذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عندما قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». قال عمير بن الحمام: بَخٍ بَخٍ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟». قال: لا، واللهِ يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها». قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل»(2).
6 ـ كانوا يعلمون أثر نهايتهم، فنجحوا في توظيفها من أجل قضيتهم، كما وظفوا لها حياتهم.
وتأمَّل كيف دل الغلامُ الملكَ على سر موته؛ «فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. آمَنَّا بِرَبِّ الْغلامِ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ ـ وَاللَّهِ ـ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّهِ! اصْبِرِي؛ فَإنَّكِ عَلَى الْحَقِّ»(3).
وتأملْ: هل سيكون هذا الإيمان الجماعي، وستحدث تلك المظاهرة الإيمانية الجماعية، لو عاش الغلام ودعاهم للإيمان؟
7 ـ إنهم انتصروا بفكرتهم، وتركوها رصيداً ونبراساً على طريق الفائزين من بعدهم؛ ليخلدوا صورة راقية من صور النصر.
8 ـ إنهم شاركوا في صنع مصيرهم بعد نهايتهم؛ وهو الخلود في الجنة.
وتأملْ موقف مؤمن ياسين؛ عندما تمنى مصيراً لقومه مثل مصيره؛ عندما {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27].
الخطوة الرابعة: مع المختارين:
وتأتي الخطوة الرابعة في سلم الرقي الإيماني، فنطمع في أن نكون ضمن المختارين من الفائزين، وهم الذين فضلوا المِيتة الزكية الشريفة.
وهم الذين اختارهم الحق ـ سبحانه ـ من بين أحبائه المخلصين: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
ولنتأملْ فيما أعده ـ سبحانه ـ لهم.
وكيف ضمن لهم كل ما يشغل أي عبد لنفسه ولأهله ولمستقبله؟
أي أن الباري ـ سبحانه ـ قد حل لهم كل مشكلاتهم الحياتية والأخروية.
فندرك لِمَ استعذب هؤلاء النخبة الشهادة، فجعلوا يتمنونها حتى وهم في أعلى درجات الجنة؟
1 ـ الأمن من سكرات الموت:
«مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ أَلَمِ الْقَتْلِ إلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ أَلَمِ الْقَرْصَةِ»(4).
2 ـ الأمن من فتنة القبر:
«أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إلا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً»(5).
3 ـ الأمن على الأهل والولد:
«يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ»(6).
4 ـ التسجيل مع الأوائل:
«إنِّي لأعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَفَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ. وَإنِّي لأَعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: سُلْطَانٌ مُتَسَلِّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهُ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ»(7).
5 ـ الفضائل الفورية الست:
«يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ:
يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ،
وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ،
وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ،
وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ،
وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ،
وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإيمَانِ»(8).
«لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ:
يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ»(9).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَ الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «لا تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِهِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا فِي بَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيَدِ ـ أَوْ قَالَ فِي يَدِ ـ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»(10).
6 ـ المرتبة العليا من الجنة:
«الْقَتْلُ ثلاثَةٌ:
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إلا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ.
وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ مُحِيَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ؛ فَإنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.
وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ، السَّيْفُ لا يَمْحُو النِّفَاقَ»(1).
إنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: «يَا نَبِيَّ! اللَّهِ ألا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ ـ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ ـ فَإنْ كَانَ فِي الجنَّة صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ؟ قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى»(2).
«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا. قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ»(3).
7 ـ استعذاب الشهادة:
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إلا الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ؛ فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى»(4).
«مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إلا الشَّهِيدُ؛ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَة»(5).
8 ـ السعادة الأبدية:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
الخطوة الخامسة: كيف نجيد فن حب الموت عملياً؟
ثم تجيء الخطوة الخامسة؛ وهي عوامل الاستمرارية والثبات على طريق النجاة.
وهي التطبيقات العملية على طريق حسن صناعة الموت.
1 ـ تجديد النية:
«مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهِيدِ»(6).
2 ـ صندوق تجهيز الغازي:
«من جهز غازياً في سبيل الله ـ تعالى ـ فقد غزا»(7).
3 ـ صندوق كفالة بيت الغازي:
«ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير، فقد غزا»(8).
4 ـ الصحبة المؤمنة:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ؛ ألا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ. مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ»(9).
5 ـ المعايشة الدائمة للخطوات الأربع السابقة.
6 ـ المعايشة القرآنية.
7 ـ التدبر في سِيَر السائرين على الدرب، واتخاذ شخصياتهم واسمائهم قدوة.
8 ـ فقه مرض العصر:
(1) ما هو؟
هو مرض الغثائية.
(2) ما سببه؟
كما جاء في فتوى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عندما وضع المعادلة:
(الوهن = حب الدنيا + كراهية الموت ----- الغثائية).
(3) ما علاجه؟
حب الموت في سبيل الله.
عَنْ ثَوْبَانَ ـ رضي الله عنه ـ قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ»(10).
أخيراً:
ليكنْ هدفنا الذي نضعه على قمة جبل حياتنا؛ هو أحد خيارين لا ثالث لهما:
فإما حياةٌ تسرُ الصديق وإما مماتٌ يكيدُ العِدى
أو كما اختار سيد قطب ـ رحمه الله ـ:
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ومؤسس مركز ولدي الطبي للأطفال بدمنهور ـ مصر.
(1) مسند الإمام أحمد 3991. قال: نام عند الظهيرة. القيلولة: نومة نصف النهار.
(2) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي 1/75.
(1) رواه البخاري 21768.
(2) كتاب الموت ـ سكرات الموت وشدته ـ وحياة القبور حتى النفخ في الصور: أبو حامد الغزالي ـ من المقدمة لعبد اللطيف عيسى عاشور 9 - الرقائق: محمد أحمد الراشد ـ 105 ـ عن كتاب الزهد: ابن المبارك 84 و 554.
(3) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي 2/198.
(1) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية الدخان 29 بتصرف.
(1) سنن أبي داوود ـ الجنائز 2786.
(2) رواه البخاري ـ المناقب 3412.
(3) البخاري 5937.
(4) البخاري 6694. يستعتب: يرجع عن الإساءة ويطلب الرضا.
(5) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4845.
(1) البخاري ـ كتاب الجهاد والسير 2595. (2) رواه مسلم. (3) رواه مسلم 5327.
(4) سنن الدارمي 2301. (5) سنن أبي داوود 2026. (6) سنن أبي داوود 2160.
(7) مسند الإمام أحمد 9815. (8) مسند الإمام أحمد 17115.
(9) الترمذي: فضائل الجهاد 1586، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيب. (10) مسند الإمام أحمد 9155.
(1) مسند الإمام أحمد ـ 16998. (2) البخاري 2598. (3) البخاري 2582.
(4) البخاري 2586. (5) البخاري 2606. (6) الترمذي ـ 1578ـ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(7) من حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي. (8) من حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي.
(9) الترمذي 2091، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. (10) سنن أبي داوود ـ كتاب الملاحم ـ 3745.
على الداعية البلاغ:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، و {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، و {إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23]، و {فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20]، إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.
وفي خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقي التبعة عليهم ـ بعد أن بلَّغ ما عليه ـ أنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: «اللهم هل بلَّغت؟» فتردد الجماهير: «اللهم نعم!».
وهذا ـ بالطبع ـ لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم؛ فقد كان ـ صلوات الله عليه ـ أوضح مثل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
يسير الداعية بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ ـ عليه السلام ـ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} [غافر: 44].
وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بدأ الإسلام بشخصه في مكة وهو شاخصٌ ببصره إلى السماء وجبريل يناديه: «أنت رسول الله، وأنا جبريل» ـ ها هو في المكان نفسه قريباً من غار حراء وقد احتشد حوله عشرات الآلاف ليعلن فيهم إتمام المهمة، وتبليغ الرسالة، وإكمال الدين.
من أجل هذا كان الخطاب على الملأ: «اللهم هل بلَّغت؟» فيجيبون: «اللهم نعم!» فيرفع يديه لرب السماء قائلاً: «اللهم فاشهد!».
ومن الحكمة كذلك في الدعوة ملاحظة أقدار الناس وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرا من كثير من الكلام، ومن أمثلة ذلك ما ذكر بعض المشائخ أنه سافر إلى الهند في طلب العلم، وهناك وجد شيخا كبيرا مرهوب الجانب مسموع الكلمة ذائع الصيت يؤم مجلس درسه طلاب كثيرون وكان هذا الشيخ الهندي إذا أبتدأ درسه بدأه بسب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والتحذير من مذهبه، فلما سمع ذلك الشيخ النجدي لم يسارع في الانكار عليه بل أخذ يدرس الطريقة التي يعرف فيها الشيخ الهندي بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دون إزعاج أو إثارة وأخيرا عرف أن الشيخ الهندي يجلس في بعض الأوقات عند بعض المكاتب وأن من عادته إذا جلس أخذ يطالع ما قرب منه من كتب، فاتصل الشيخ النجدي بصاحب المكتبة وصاحبه مدة ثم جاء بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم خلع غلافه وما عليه من عنوان ثم وضع الكتاب قرب مجلس الشيخ فلما جلس الشيخ الهندي أخذ كعادته يقلب الكتب ووقع على هذه الرسالة التي لاتحمل عنوانا فلما أخذ يطالعها دهش لصغر حجمها وما أحتوته من قواعد في العقائد، ثم أخذ يسأل صاحب المكتبة عن اسم هذا الكتاب فقرب منه النجدي وقال له: "هل أعجبك يا شيخ؟"قال: "إن فيه نفس محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وكأنه من تأليفه". فقال له الطالب: "هذا هو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله"فقال الشيخ مندهشا: "النجدي؟ النجدي؟"قال: "نعم"فأخذ يترحم عليه ثم صار لا يجلس مجلسا ألا أثنى فيه على الشيخ كفارة لما كان منه قبل ذلك.
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} ثم يقول زيادة في التكتم: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم..} فقد قدم الكلام على احتمال كذبة على الكلام على احتمال صدقة زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ..}
وكأنه يقول: موسى صادق لأنه مهتد ولو كان كاذبا لم يكن مهتديا، فاستدل باهتدائه على صدقة ثم قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله والمحاربة لدين الله
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَات فأ َطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} .
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه وليكن ما يكون وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .
ثم يقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله فهي سلوك الموعظة الحسنة، والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
أخبر الله عن مؤمن آل فرعون أنه عندما ألقى كلمته الأخيرة وأحس بالخطر منهم لجأ إلى ربه معتمدا عليه وحده ليخلصه من القوم، وقد خلصه الله من مكرهم وخذل أعداءه، وجازاهم بما يستحقون، حيث قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ, فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}.
إن القرآن الكريم يشعر النفس بنعمة الرضا بقضاء الله وقدره [38] ويملؤها بكل معاني الخير [39] وهو علاج نفسي يغني عن جميع عقاقير الأطباء، الذين يسمون أنفسهم أطباء نفسيين وهم أحوج الناس إلى علاج نفوسهم. ومن عاش مع القرآن الكريم، عاش هادئ النفس مطمئن السريرة [40] . عاش في كنف الله تعالى يستشعر إيجابية صفات الله تعالى، وفاعليتها في الكون والحياة. فإذا أصابه سوء، واضطرته ظروفه إلى الضيق لجأ إلى ربه الذي يتولاه. وتذكر قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [41] وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [42] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [43] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [44] وقوله جل علاه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [45] وقوله عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [46] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [47] وقوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [48] وقوله عز شأنه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [49] وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } [50] وقوله تعالى: {وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
ومن هالة الصراع المستمر منذ فجر التاريخ إلى اليوم وإلى الأبد بين الحق والباطل فعليه أن يتذكر قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [51] .
وبهذا تستريح نفسه ويوطن نفسه على استمرار هذا الصراع فيسعى إلى الجهاد بنفسه أو بماله أو بما يستطيع ! إن التفكر في معاني القرآن يشفي النفوس من أوجاعها وأسقامها. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [52] ومن تعرض للفتن فعليه أن يسلك سبيل القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [53] . ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن مأدبة الله. فتعلموا من مأدبته ما استطعتم " [54] . ويقول جعفر الصادق:"عجبت لأربع كيف يغفلون عن أربع ( أي من الدعوات القرآنية ):
عجبت لمن مسه الضر. كيف يغفل عن قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} دعا بها أيوب فقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [55] .
وعجبت لمن يمكر به الناس. كيف يغفل عن قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} والله تعالى يقول عقيبه: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [56] .
وعجبت لمن تكاثر أعداؤه كيف يغفل عن قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . دعا بها المسلمون حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} فقال عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [57] .
وعجبت لمن أصابه محزن. كيف يغفل عن قوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّأَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وقد دعا بها ذو النون عليه السلام فاستجاب الله له. كما قال تعالى في كتابه الكريم: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} ولم يكن ذلك له خاصة. لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [58] . وهكذا يتجلى لنا أن القرآن الكريم جوهر الطب النفسي، وأنه معجز إعجازاً نفسياً لا يماثله في هذا المجال أي كتاب في علم النفس أو في غيره. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إن للقرآن الكريم تأثيراً جوهرياً في النفوس الطاهرة المطمئنة [59] . ولقد صور الشاعر الراحل هاشم الرفاعي كيف يكون القرآن الكريم راحة للنفس. لا ينفع غيره شيئاً على الإطلاق! وحتى في أحلك اللحظات. لحظات الإعدام. فيقول على لسان مظلوم حكم عليه بالإعدام فبعث برسالة إلى أبيه في ليلة التنفيذ منها قوله :
الليل من حولي هدوء قاتل
والذكريات تمور في وجداني
ويشدني ألمي فأنشد راحتي
في بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافة
دب الخشوع بها فهد كياني
قد عشت أؤمن بالإله ولم أذق
إلا أخيراً لذة الإيمان
ثم يعود إلى التركيز على ما يريح النفوس ويعزيها عن فقد الحياة. على حبل المشنقة. فيولي وجهه جهة عدالة القرآن فيقول لأبيه :
ويخلف موسى رجلا من آل فرعون، يقوم فيهم داعيا إلى الله حين همّ فرعون أو هدد بقتل موسى، ونرى في دعوته حججا عقلية يذعن لها العقلاء، ويستجيب لها أولو الأبصار، والقرآن الكريم يحكي لنا ما حاج به قومه، فلا نرى في تهديدا بالقوة، أو إرهابا بالسلاح قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [23] .
لقد كانت تلك الحجج كافية لإقناع فرعون، وإظهار الحق له بعد أن تجاهله، ولكن العناد والجحود حالا بينه وبين الحق، فلج في طغيانه، ولم يستطع أن يرد على الحجة بالحجة، فقال قولة العاجز المفحوم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [24] .
ويترك الداعية فرعون سادرا مع غيه، لاجا في عناده، ويلتفت إلى قومه مشفقا عليهم، حريصا على هدايتهم، فيذكرهم بما حدث للأمم السالفة، وما ينتظرهم يوم القيامة إذا هم لم يطيعوا رسول الله موسى- عليه السلام -.
لقد تفنن الداعية في عرض حججه؛ فساقها مرة في صورة استفهام، ومرة في صورة الدليل العقلي؛ فأمر موسى لا يخلو من أن يكون صاحبه كاذبا أو صادقا: فإن كان كاذبا فسيعود عليه ضرر كذبه، وإن كان صادقا ينزل بكم بعض ما تهددكم به.
ومرة ثالثة يخوفهم من بأس الله، ومما حل بالأمم قبلهم، ثم يلتفت إلى قومه وكأنه يقول لهم: لا تسمعوا لفرعون فإنما يريد لكم الدمار والهلاك، {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [25] .
ثم يتعجب من إصرارهم على الباطل، وإلحاحهم عليه في قبوله، فيقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [26]، ويثبت لهم بالأدلة المنطقية أن الذي يدعونه لعبادته ليس له دعوة ولا يستطيع الإجابة لمن دعاه، ثم يعذر إليهم بقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [27] .
ولك في مؤمن آل فرعون أسوة تولى وهو يقول: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" [غافر:44-45]
نحن نقرأ في سورة غافر أو سورة المؤمن موقفين متقابلين يَشِّفان عن تبادل الفطر لدى المعسكرين المتقابلين:
(وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب).
لاحظوا اللهجة الرقيقة الطاهرة السامية العالية:
(ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردّنا إلى الله وأن المشركين هم أصحاب النار، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).
بهذه الروح الطيبة بهذه الطبيعة الخيرة يتجه الداعون إلى الله إلى الناس فماذا يكون جواب المشركين والمعاندين عن أمر الله في نفس السورة نقرأ قول الله جل اسمه:
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال. وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
لاحظتم؛ الفرق بين الموقفين فريق يدعو إلى الله على هدى وبصيرة وبيّنة في منتهى الحب بمنتهى الشفقة لا يريد أجراً ولا شكوراً ولا مغنماً من الناس (إنْ أجري إلا على الله)، وفريق آخر؛ بمَ يقابل الدعوة؟ بالتي هي أحسن؟ بمَ يقابل الفطر السليمة؟ بمَ يقابل الحق الذي لا يتزعزع؟ بهذه اللهجة الرعناء بهذا التعالي بالقهر والسلطان اقتلوهم اصلبوهم اسحلوهم اشنقوهم ذلك هو منطق الفاسدين ذلك هو منطق العاجزين عن التصدي لدعوة الله تبارك وتعالى.
أين -يا أخوة- رأيتم في تاريخ الإسلام لحظة لم تكن مفعمة بالحب كانت توجه إلى الناس دعوة الله تبارك وتعالى بلا مَن وبلا استعلاء، بمنتهى الحب، بمنتهى الشفقة بمنتهى نكران الذات، وكانت تُقابل دائماً من أعداء الله ومن الذين يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط. كانت تقابل بهذه اللهجة العنيفة القاسية: اقتل، اصلب، اشنق، اسحل وما شاكل ذلك طبيعتان متغايرتان، طبيعة المؤمنين التي لا تعرف الثأر ولا تعرف الانتقام، وإنما هي حب مطلق ورغبة في الخير مطلقة وطبيعة الفاجرين والمعاندين والظالمين تلك التي لا تعرف إلا البغي والعدوان لا جرم أن هاتين الطبيعتين تُنْتِجان آثاراً متباينة وقد كان وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يلقى الأذى من قومه حتى أذعنت له نفوسهم، ودخل معارك نعم دخل معارك، وكان فيها قتلى، نعم كان فيها قتلى ولكن نحن بين يدينا إحصاءات كاملة عن عدد الذين قتلوا في معارك الإسلام طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الفريقين من المؤمنين ومن المشركين ثقوا يا أحبائي أن عدد الذين قتلوا في كل معارك الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز عدد قتلى يحصدهم رشاش واحد في مظاهرة يقوم بها بعض الناس، في معارك اليوم.
من أين تَنْتُج، تنتج من الطبائع الملتوية والفطر الوسخة، ولذلك فهي تدمير كلها وهي عبث وفساد في الأرض، ومعارك الإسلام على غير هذا الطراز، ماذا أريد من ذلك باختصار ولكي لا أطيل عليكم أريد أن أقول كلمتين لكل إنسان تحدثه نفسه بخدمة هذا الإسلام:
( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ) (لقمان: من الآية20) ظاهرة وباطنة, عامة وخاصة, في الدين والدنيا, في الأهل والمال, في المواهب والجوارح, في الروح.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) (الشورى: من الآية19) يرزقهم إذا افتقروا, يغيثهم إذا قحطوا, يغفر لهم إذا استغفروا, يشفيهم إذا مرضوا, يعافيهم إذا ابتلوا.
( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: من الآية53) لم يغلق بابه, لم يسدل حجابه, لم تنفد خزائنه, لم ينته فضله, لم ينقطع حبله.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: من الآية36) يكفيه ما أهمه وأغمه, يحميه ممن قصده, يمنعه ممن كاد له, يحفظه ممن مكر به.
( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) (العنكبوت: من الآية17) فعنده الخزائن ولديه الكنوز وبيده الخير, وهو الجواد المنان الفتاح العليم.
( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: من الآية11) يكشف كربه ويغفر ذنبه, ويذهب غيظه وينير طريقه ويسدد خطاه.
( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (المائدة: من الآية20) كنتم أمواتاً فأحياكم, وضلالاً فهداكم, وفقراء فأغناكم, وجهلة فعلمكم, ومستضعفين فنصركم.
كم مرة سألت فأعطاك, كم مرة طلبت فحباك, كم مرة عثرت فأقالك, كم مرة أعسرت فيسر عليك, كم مرة دعوته فأجابك.
الصلاة والسلام على المعصوم تذهب الغموم وتزيل الهموم, وتشافي القلب المكلوم وتفتح العلوم ويحصل بها الفضل المقسوم.
( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (غافر: من الآية60) ارفعوا إلى الله أكفكم, قدموا إليه حوائجكم, اسألوه مرادكم, اطلبوه رزقكم, اشكوا عليه حالكم.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) (النمل: من الآية62) فيزيل كربه وبلواه ويذهب ما أضناه, ويعطيه ما تمناه, ويحقق مبتغاه.
تصدق بعرضك على فقراء الأخلاق, واجعلهم في حل إن شتموك أو سبوك أو آذوك فعند الله العوض.
إذا خاف ربان السفينة نادى: يا الله, إذا ضل الحادي هتف: يا الله, إذا اغتنم السجين دعا: يا الله, إذا ضاق المريض صاح: يا الله.
(اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص:2) تصمد إليه الكائنات, تقصده المخلوقات, تدعوه البريات بشتى اللغات ومختلف اللهجات في سائر الحاجات.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (محمد: من الآية11) ينير لهم الطريق, يبين لهم المحجة, يوضح لهم الهداية, يحميهم من الضلالة, يعلمهم من الجهالة.
رفقاًَ بالقوارير ولطفاً بالقلوب ورحمة بالناس ورويداً بالمشاعر وإحساناً للغير وتفضلاً على العالم.. أيها الناس.
اكتم الغيظ, وتغافل عن الزلة, وتغاض عن الإساءة, واعف عن الغلطة, وادفن المعائب تكن أحب الناس إلى الناس.
باب ومفتاح, وغرفة تدخلها الرياح, وقلب مرتاح, مع تقوى وصلاح, وقد نلت النجاح.
فضول العيش أشغال, والزائد عن الحاجة أثقال, وعفاف في كفاف خير من بذخ وإسراف.
لا تحمل عقدة المؤامرة, ولا تفكر في تربص الآخرين, ولا تظن أن الناس مشغولون بك, فكل في فلك يسبحون.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية137) فيرد كيدهم ويبطل مكرهم ويخذل جندهم ويفل حدهم, ويمحق قوتهم, ويذهب بأسهم ويشتتا شملهم.
( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) (الفتح: من الآية18) فشفى غليلهم, وأبرد عليلهم, وأطفأ لهب صدورهم, وأراح ضمائرهم, وطهر سرائرهم.
" الكلمة الطيبة صدقة "(1) لأنها تفتح النفس وتسعد القلب وتدمل الجراح وتذهب الغيظ وتعلن السلام.
" تبسمك في وجه أخيك صدقة "(2) لأن الوجه عنوان الكتاب, وهو مرآة القلب ورائد الضمير وأول الفأل.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (المؤمنون: من الآية96) بترك الانتقام ولطف الخطاب ولين الجانب, والرفق في التعامل ونسيان الإساءة.
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2) ولكن لتسعد وتفرح روحك وتسكن نفسك وتدخل به جنة الفلاح وفردوس السعادة.
( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78) بل يسر وسهولة ومراعاة للمشقة وبعد عن الكلفة وسلامة من التعب والإرهاق.
__________
(1) رواه البخاري (2767) ومسلم (1009)، ,احمد (8514) .
(2) رواه الترمذي (1879) .
ولذا فإن القلوبَ لابدَ أن تربى على التسليمِ لله، والتفويضِ إليه كما علمَ النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) البراءَ في دعاءِ النوم الذي هو آخرِ ما يقولُ العبد: اللهم إني أسلمتُ نفسي إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك، وكما قال مؤمنُ آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّه.
علينا أن نربيَ أنفسَنا على إحسانِ الظنِ باللهِ جل جلالُه، قال الإمامُ أبنُ القيم رحمه الله: حسنُ الظنِ باللهِ يدعو إلى التوكلِ عليه، فإنكَ لا تتوكلُ إلا على من ترجوه، لابد أن يأويَ المؤمنُ من التفويضِ لله، وحسنُ الظنِ بالله، والثقةِ بالله، أن يأويَ من ذلك إلى رُكنٍ شديد.
الدرجة السابعة: التفويض: وهو روح التوكل ولُبّه وحقيقته، المفوض إنما يفوض أموره إلى الله عز وجل لأنه يعلم أنه يقضي له الخير في معاده ومعاشه. فعليك أيها المسلم أن تلقى أمورك كلها لله عز وجل وأن تنزلها به طلباً واختياراً، لا كرهاً واضطراراً. بطلبك واختيارك تفوض أمورك إلى الله عز وجل وقد حكى الله سبحانه في القرآن عن مؤمن آل فرعون أنه قال: وأفوض أمري إلى الله.
فإذا قضى الله تبارك وتعالى لك خلاف ما تظنه خيراً بعد أن فوضت الأمور إليه فاستسلم كما علمت من الدرجة السادسة لأنه كما علمت لا يقضي للمؤمن إلا ما هو خير.
درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [غافر:44-45]. ويقول - سبحانه وتعالى - لرسوله: ويخوّفونك بالذين من دونه [الزمر:36].
وكل من دون الله فهو تحته ودونه وعبد له، فلا قيمة له، ولا وزن ولا تأثير.
والناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم، لا في حياتهم وتصرفاتهم، إنهم أجبن من كل شيء، وأجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله.
هام جدا
فإن كان الأعداء يمكرون بكم ليؤذوكم ويدبروا لكم المكائد، فقل ما قاله مؤمن من آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
قلها وأنت واثق من نتائجها وفوائدها المرجوة، وسوف تأتي النتيجة بإذن الله تبارك وتعالى كما عقب ربنا سبحانه وتعالى على من قال هذا بقوله: فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ [غافر:45].
كن واثقًا بربِّك متَّكلا عليه معتمِدًا عليه مفوِّضًا أمورَك إليه، وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
والرسل أئمة المتوكلين وقدوتهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال الخليل عليه السلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال يعقوب عليه السلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال رسل الله لأقوامهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال مؤمن آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وفي مطلع النبوة والتنزيل أمرٌ بالتوكل وأنه يفتح المغلق اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:3]، وجعله الله صفة لأهل الإيمان يتميزون به عمن سواهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
والشيطان لا سلطان له على عباد الله المتوكلين, قال عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
والتوكل مانعٌ من عذاب الله كما قال سبحانه: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:28، 29].
وموجب لدخول الجنات كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59].
بل المتوكلون حقاً يدخلون جنة ربهم بغير حساب, كما وصفهم نبيهم بذلك في قوله: ((هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) متفق عليه(1)[1].
وأوصى النبي ابن عباس بالتوكل وهو غلام صغير لتأصيل العقيدة في نفسه في بكور حياته فقال له: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي(2)[2].
قال ابن القيم: "التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وإن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس".
في التوكل راحة البال, واستقرارٌ في الحال، ودفع كيد الأشرار، ومن أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم, وبه قطع الطمع عما في أيدي الناس.
سئل الإمام أحمد عن التوكل فقال: "هو قطع الاستشراف باليأس من الناس".
والتوكل على غير الله ظلم وامتهانٌ للنفس، وسؤال المخلوق للمخلوق سؤال من الفقير للفقير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي.
ومتى التفت القلب إلى غير الله وكله الله إلى من التفت إليه، وصار ذليلاً مخذولاً، قال : ((من تعلّق شيئاً وكل إليه)) رواه الترمذي(3)[3].
قال شيخ الإسلام: "ما رجى أحداً مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه"(4)[4], وكل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره, وهذا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ولا يحملنك عدم رجاء المخلوق على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال الأذى منهم, بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم, وكما أنك لا تخافهم فلا ترجوهم وارجو الله في الناس, ولا ترجوا الناس في الله.
أيها المسلمون، الأرزاق بيد الخلاّق فما كان لك منها أتاك على ضعفك، وما كان لغيرك لم تنله بقوتك، ورزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، والرزق مقسوم لكل أحد من برٍ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عز وجل: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وقد ييسره الله لك بكسب وبغير كسب.
والناس يؤتون من قلة تحقيق التوكل, ومن وقوفهم مع الأسباب الظاهرة لقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) رواه أحمد(5)[5].
فلا تضيع زمانك بهمك بما ضُمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، قال حام الأصم: "لما علمت أن رزقي لم يأكله غيري أطمئن قلبي".
أيها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارها وهيئ للغايات أسبابها، والأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المسافر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
والالتفات للأسباب نقص في التوحيد, ومحو الأسبابِ أن تكون أسباب نقص في العقيدة، والإعراض عن الأسباب التي أمر بها قدح في الشرع، وعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على الأسباب.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل المتوكلين، ولم يخل بالأسباب فقد ظاهر بين درعين يوم أحد، واستأجر دليلاً يدله على طريق الهجرة، وحفر الخندق غزوة الأحزاب.
وحقيقة التوكل القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب, واعتقاد أنها بيده، فإن شاء منع اقتضاءها, وإن شاء جعلها مقتضية بضد أحكامها, وإن شاء قام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه.
والموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنه لا يهملها أو يبطلها بكل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجرِيها، وإذا قوى التوكل وعظم الرجاء أذن الله بالفرج، ترك الخليل زوجته هاجر وابنها إسماعيل صغيراً رضيعاً بوادٍ لا حشيش فيه ولا أنيس ولا زرع حوله ولا ضرع توكلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايته، فإذا الصغيرُ يكون نبياً وصفه الله بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والأمر بها، والماء المبارك زمزم ثمرة من ثمار توكل الخليل عليه السلام.
ولما عظم البلاء ببني إسرائيل وتبعهم فرعون بجنوده, وأحاطوا بهم, وكان البحر أمامهم قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61], قال نبي الله موسى الواثق بنصر الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62], فأمره الله بضرب البحر فصار طريقاً يبساً, كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ٍالشعراء:63].
ويونس التقمة حوت في لجج البحر وظلمائه فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فنبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرداً في الخلاء.
وأم موسى ألقت ولدها موسى في اليم ثقة بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسول من أولي العزم المقربين.
ويعقوب قيل له إن ابنك أكله الذئب ففوض أمره إلى الله وناجاه, فرده عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.
ولما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال من مريم عليها السلام عظم التوكل على ذي العظمة والجلال, ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال, فأشارة إليه فقالوا لها: كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29]، فعندها أنطقه الله فقال: إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً [مريم:30].
ونبينا محمدٌ يتوارى مع صاحبه عن قومه في جبل أجرد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبه, فقال: يا رسول الله، والله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال الرسول وهو واثق بربه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما))(6)[6]، فأنزل الله تأييده ونصره وأيده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصل الأمن وتمت الهجرة وانطلقت الرسالة.
وإذا تكالبت عليك الأيام وأحاطت بك دوائر الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفع أكف الضراعة, وألقِ كنفك بين يدي الخلاق, وعلق رجاءك به, وفوض الأمر للرحيم، واقطع العلائق عن الخلائق، ونادِ العظيم, وتحرّ أوقات الإجابة كالسجود وآخر الليل.
وإذا قوي التوكل والرجاء وجُمع القلب في الدعاء لم يرد النداء أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [النمل:62].
فسلم الأمر لمالكه، والله عزيز لا يضل من استجار به, ولا يضيع من لاذ بجنابه.
وتفريج الكربات عند ثناء الكرب, واليسر مقترن بالعسر، وتعرف على ربك في الرخاء يعرفك في الشدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها الخليلان في الشدائد، ومن صدق توكله على الله في أصول شيء ناله ومن فوض أمره إليه كفاه ما أهمه، ومن حقق التوكل لم يكله إلى غيره, بل تولاه بنفسه وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وعلى قدرك حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه, فجالس ربك وحده مرجع شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك ما تريد".
وهو سبحانه القدير لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ [الشعراء:217-219].
قال إبراهيم الخواص: "ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله".
ومن تعلّق بغير الله أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وكماله, واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنصوص والتجارب".
وأرجح المكاسب الثقة بكفاية الله وحسن الظن به، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن ظن أنه ينال ما عند الله بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه, أو ظن أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو ظن أن من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه، أو ظن أنه إذا صدقه في التوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن بالله ظن السوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله, وعرف أسماءه وصفاته, وعرف موجب حكمته وحمده.
قال ابن القيم: "أكثر الخلق, بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه يستحق فوق ما شاءه الله له، ومن فتش في نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء, وليظن السوء بنفسه"(7)[7].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: أيها المسلمون، لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيد يكون صحة التوكل، ومتى التفت العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
والرضا والتوكل يكتنقان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكل التفويض, وإلقاء أمورك كلها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات", وكلما كان العبد لله أعرف كان توكله عليه أقوى، وقوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه.
ومن توكل على الله فلا يعجل بالفرج، فالله ذكر كفايته للمتوكل عليه, وربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فالله جعل لكل شيء قدراً ووقتاً، فلا يستعجل المتوكل, فيقول قد توكلت ودعوت فلم أرى شيئاً, إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3]، والله هو المتفرد بالاختيار والتدبير وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وهو أرحم به منه بنفسه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره.. (5705)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم في الإيمان (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) في صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2516)، وكذا أحمد (4/409-410) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي : "حديث حسن صحيح". قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2043).
(3) في الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (3072)، وكذا أحمد (4/310)، والبيهقي في الكبرى (9/351)، والطبراني في الكبير (22/385)، من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه. قال الترمذي: "وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم".
(4) مجموع الفتاوى (10/257).
(5) في (1/30)، والترمذي في الزهد، باب: في التوكل على الله (2344)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوكل واليقين (4164). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (730)، والحاكم (4/318)، والضياء في المختارة (227، 228)، والحافظ في الفتح (11/306)، والألباني في الصحيحة (310).
(6) أخرجه البخاري في المناقب، باب: المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر (3653)، بنحوه، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، بنحوه من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
(7) زاد المعاد (3/235) بتصرف يسير.
أخي الحبيب، والله ما وقفت هذا الموقف ولا تكلمت بهذا الكلام إلا لخوفي على هذا الوجه الأبيض أن يصبح مسودًا يوم القيامة، وعلى هذه الوجوه المنيرة أن تصبح مظلمة، وعلى هذا الجسد الطري أن يلتهب بنار جهنم.
والله ما وجدتَ في هذه الدنيا إلا للعبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56]. لم تخلق للهو واللعب، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
فاستعد للقاء الله، وتذكر الرجوع إلى الله، ألا تفكّر؟! ألا ترجع لرشدك؟! أتشكّ في وعد الله ووعيده؟! يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر:5-7].
والله إني أخاف عليك عذاب يوم عظيم، والله إني لك ناصح أمين، اسمع ـ أيها الأخ الحبيب ـ لذلك المؤمن النصوح المشفق الذي قام بنصح قومه قائلاً: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [38-44].
نعم والله، سوف تذكر هذا الكلام، والموعد يوم القيامة، وستعلم يومئذ من كان على هدى ومن هو في ضلال مبين، وستعلم من كان على نور ومن هو في ظلام يتخبط.
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب [هود:88].
الثقة بالله ـ أيها الأحباب الكرام ـ هي خلاصة التوكل على الله، وهي قمة التفويض إلى الله، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر: 44].
الثقة ـ أيها المسلمون ـ هي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك.
الثقة هي التسليم المطلق للملك جل وعلا، هي الاستسلام لله عز وجل؛ فهو الأعلم بما يصلحنا، وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: "أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئًا دون الله"، يعني: في طاعته واجتناب معصيته. وقال بعض السلف: "صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء".
الثقة بالله تعالى هي التي شجّعت أم موسى، وفي ذلك يقول تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]؛ إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه، وينطلق به الموج إلى ما شاء الله، لكنه أصبح في اليمّ في حماية الملك جلّ وعلا ورعايته، وما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ قال تعالى: فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون [القصص:13].
الثقة بالله نجدها جليّة عندما انطلق موسى ومن معه من بني إسرائيل هاربًا من كيد فرعون، وتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدونًا، فقال بنو إسرائيل وهم مذعورون مستسلمون: لا مهرب ولا نجاة إنا لمدركون؛ فرعون وجنوده من خلفنا والبحر من أمامنا، لكن موسى الواثق بالله وبمعية الله أراد أن يبعد الخوف والهلع ويضع مكانه السكينه والطمأنينة، فأجاب بلسان الواثق: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، إن معي ربي يساعدني ويرعاني ويحفظني ولن يسلّمني، فما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ جاء الفرج من الله جل وعلا: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]. ونجّى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون.
عباد الله، الثقة بالله تنجلي جليّة واضحة في سيرة نبينا محمد، فهو سيد الواثقين بالله فبينما هو في الغار والكفار بباب الغار قال أبو بكر خائفًا: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال بلسان الواثق بالله: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)). وعندئذ تنجلي قدره ذي العزة والجبروت؛ فيرد قوى الشر والطغيان، ويُسجِل القرآن هذا الموقف، قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وفي عزوة الأحزاب نرى صورة المؤمنين الواثقين بربهم وبتأييده وعونه، قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
ها هو النبي يلقن الأُمة درسًا في الثقة بالله، فيقول لابن عباس: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه ولن يُضيعه، إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس.
والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأيّ قوّة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله. الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقا [الجن:13].
الواثق بالله تراه دائمًا هادئ البال ساكن النفس، إذا ادلهمت وزادت عليه الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولسان حاله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
عباد الله، من أنواع الثقة الثقة بالنفس، فعلى المسلمين أن يثقوا بأنفسهم ثقة ليس فيها خور ولا ضعف، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، قال الألوسي: "فلا تهنوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون؛ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".
الثقة بالنفس، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. لماذا الخور والضعف والهوان؟! نحن الأعلون مبدأ، والأعلون سندًا، والأعلون منهجًا، ربنا الرب الكريم العظيم، ورسولنا النبي الرحيم، وكتابنا القرآن الحكيم.
ها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع في صحراء خالية، لا ماء ولا طعام ولا جيران، فتقول زوجته: يا إبراهيم، لمن تتركنا؟! لمن تدعنا يا إبراهيم؟! فلم يجب، فقالت: يا إبراهيم، آلله أمرك بهذا؟ فأشار نعم، قالت: إذا لن يضيعنا. والكريم جل وعلا حقًا ما ضيّعهم.
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما ِسر زهدك في هذه الدنيا؟ فقال: "أربع: علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به، وعلمت أن الموت لا شك قادم فاستعددت له، وعلمت أني لا محاله واقف بين يدي ربي فأعددت للسؤال جوابًا"، وقال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه: قرأت قول الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام:17] فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه مني، وقرأت قوله تعالى: فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152] فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه، وقرأت قوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6] فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي الله لن يأخذه أحد غيري".
أسال جل وعلا أن يجعلنا وأياكم من أهل الايمان والتقوى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله؛ فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله، أي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].
عباد الله، هل نحن واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم؟! إذًا لماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء؟! قال الربيع بن خيثم: "إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17]، وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ومن أنواع الثقة الثقة بنصر الله، فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته، فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن، ومهما قويت شوكة الباطل، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرا...
ويعقل المؤمن قول الله تعالى: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]،
يها العلماء، أيها المجاهدون، أيها الدعاة، أيها المصلحون، فوضوا أموركم إليه، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
أيها المسلمون، عند اشتداد الكروب وتفاقم الخطوب يتجلى إيمان المؤمنين، وفي خضم الحوادث وثنايا الكوارث يبرز صدق المتقين وزيف المنافقين وهوى المنحرفين، عند حلول الفتن وحصول المحن يظهر توجّه المتوكلين وتضييع المتواكلين؛ لأن الأحداث والمدلهمّات والشدائد والملمّات معايير دقيقة ومقاييس منضبطة لسَبْر أغوار الرجال وإظهارهم على حقائقهم، والموفق المُلهَم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله معتصمًا به، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أما في الدنيا: فقد ضمن الله عز وجل لمن توكل عليه أربعة أشياء.. هي:
الهداية.. والكفاية.. والوقاية.. والنجاة من الغواية.
فأما الهداية فنجدها في قوله تعالى:?ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم?(ءال عمران:101) وأي نعمة أعظم من أن يهتدي المرء إلى صراط مستقيم يسير عليه بلا خوف من الضلال أو الهلاك، يسير عليه وهو موقن بالنهاية المشرقة لهذا الطريق، يسير وهو يشعر أن معه وحده النور وأن كل البشرية64 تعيش في الظلام.
أفبعد هذا الجزاء يحتاج المرء إلى جزاء؟.. ولكن لا حرج على فضل الله.. فكما أنه يهديه فإنه يكفيه.. وذلك في قوله تعالى:?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:3) أي يكفيه مئونته وييسر له الخير فلا يتعب ولا يشقى.
وأما الوقاية فتظهر في قصة مؤمن آل فرعون حين توكل على الله وفوض أمره إليه وقال:?وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد?(غافر:44) فكانت النتيجة كما قال الله عز وجل:?فوقاه الله سيئات ما مكروا?(غافر:45)، فكيف يخاف المؤمن من مكر أعدائه ومعه خير الماكرين الذي يقيه كل سوء ويدفع عنه كل شر؟!
وأما النجاة من غواية الشيطان فنجدها في قوله تعالى:?فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم? إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون?(النحل:98-99).
وأما التوكل : فليس المراد منه إلا مجرد التفويض وهو من أخص مقامات العارفين كمان كان النبي يقول : اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد غافر : 4445 فكان جزاء هذا التفويض قوله : فوقاه الله سيئات ما مكروا فإن كان التوكل معلولا بما ذكره فالتفويض أيضا كذلك وليس فليس
النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب : أنهم أهل مقام التوكل
ولم يجيء التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله : وأفوض أمري إلى الله غافر : 44 وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال : رب المشرق والمغرب لا إلكه إله هو فاتخذه وكيلا المزمل : 9
أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطي من غرض إلى غرض وأنه سيطرق ما يغاير أول كلامه مغايرة ما تشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقى باستدراجهم في درج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئا جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظته إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليم، وهو كلام آيس من إستجابتهم لقوله فيه )فستذكرون ما أقول لكم(، ومتوقع أذاهم لقوله )وأفوض أمري إلى الله(، ولقوله تعالى آخر القصة )فوقاه الله سيئات ما مكروا(. فصرح هنا وبين بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.
والاستفهام في )ما لي أدعوكم إلى النجاة( استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي )وتدعونني إلى النار( فجملة )وتدعوني إلى النار( في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال: ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاما عن عل أو حال ثبت للمجرور باللام وهي لام الاختصاص، ومعنى لام الاختصاص يكسب مدخولها حالة خفيا سببها الذي علق بمدخول اللام نحو قوله تعالى )ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض( )ما لي لا أرى الهدهد( وقولك لمن يستوقفك: ما لك? فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.
وتركيب: ما لي ونحوه، هو كتركيب: هل لك ونحوه في قوله تعالى )فقل هل لك إلى أن تزكى( وقول كعب بن زهير:
ألا بلغا عني بجيرا رسالة فهل لك فيما ويحك هل لك فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.
وجملة )تدعونني لأكفر بالله( بيان لجملة )وتدعونني إلى النار( لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى: تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإلهية.
ومعنى )ما ليس لي به علم( ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه بعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.
وعطف عليه )وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار( فكان بيانا لمجمل جملة )أدعوكم إلى النجاة(. وإبراز ضمير المتكلم في قوله )وأنا أدعوكم( لإفادة تقوي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي.
وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف )إلى( وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معمول في هذه الآية أربع مرات ب)إلى( ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقة الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل )تدعونني لأكفر بالله وأشرك به(، وربطه بما هو ذات بحرف إلى في قوله )أدعوكم إلى النجاة( فأن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله )تدعونني إلى النار( وقوله )وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا( الخ، لأن حرف )إلى( دال على الانتهاء لأن الذي يدعو أحدا إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقاده صحته بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت استعارة مكنية وتخييلة وتبعية، وفي )العزيز الغفار( استعارة مكنية، وفي )أدعوكم( استعارة تبعية وتخييلية.
صفحة : 3759
العزيز الغفار :
وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين )العزيز الغفار( لإدماج الاستدلال على استحقاقه الإفراد بالإلهية والعبادة، بوصفه )العزيز( لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه.
لا جرم
وجملة )لا جرم أن ما تدعونني( بيان لجملة )تدعونني لأكفر بالله(.
وكلمة )لا جرم( بفتحتين في الأفصح من لغات ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لابد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل لك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون: لا ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا جر بدون ميم ترخيما للتخفيف.
8-02-2013
|
|
|
|
|
|
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي |
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته |
|
|
أحدث الردود |
|
|
|
|
|