د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5192
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
رابعا : ولكي يفوز الإنسان بالجنة – التي هي سلعة الله الغالية - فلابد له من التسلح بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، وفي كل زمان ومكان، فالقرآن يخبرنا أن الله تعالى أعد الجنة وهيأها لعباده المتقين، قال تعالى : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }( آل عمران : 133 )، ولأجل ذلك فإن خير ما تواصى به المؤمنون فيما بينهم تقوى الله عز وجل، فهي وصية الله العامة للأولين والآخرين، والأنبياء والمرسلين، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وعموم الخلق أجمعين، قال تعالى موجها الخطاب لعموم الناس : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }( النساء : 1 )، وفي موضع آخر يقول الحق جل جلاله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }( الحج : 1 )، وقال أيضا : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }( لقمان : 33 )، هذا بالنسبة للتقوى كوصية عامة للناس أجمعين، أما بالنسبة لها كوصية خاصة للمؤمنين الموحدين فلقد جاءت العديد من النداءات الإلهية في الآيات القرآنية تأمرهم بتقوى الله تعالى في كل حال ومقال، من ذلك قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }( البقرة : 278 )، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }( آل عمران102 )، ومعنى " حق التقوى " لله تعالى كما قال بعض أهل العلم : هي " أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى "، فمن أطاع الله تعالى وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه فقد اتقى الله، ومن شكر الله على سابغ نعمه التي لا تعد ولا تحصى ولم يكفره فقد اتقى الله، ومن ذكر الله في كل أحيانه فلم ينساه ولم يغفل عن ذكره فقد اتقى الله، وتعددت الآيات القرآنية في الوصية بالتقوى والحث عليها بالنسبة للمؤمنين الموحدين، حيث قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( المائدة : 35 )، وقال أيضا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }( التوبة : 119 )، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً }( الأحزاب : 70 )، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( الحديد: 28 )، وقال في موضع آخر : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }( الحشر : 18 )،
كما أن التقوى أيضا هي من أعظم وصايا سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأتباعه وأحبابه من أبناء أمته، ففي الحديث : " إتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، و خالق الناس بخلق حسن " ( رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه ) (7)، ففي الحديث أمر جلي واضح بتقوى الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والوقوف عند حدوده، وذلك في أي مكان كان الإنسان فيه حيث يراه الناس، وحيث لا يرونه، فإن الله تعالى ناظر إليه ومطلع عليه.، ولما كان الإنسان خطاءا بطبعه، فعليه إذا أتى سيئة - وهي ترك بعض الواجبات، أو ارتكاب بعض المحظورات – فعليه أن يلحقها بحسنة – أي أن يتوب منها وتلك حسنة، أوالإتيان بحسنة أخرى – فإنها بإذن الله تمح عقابها من صحف الملائكة، وأثرها السيء في القلب، وعلى الإنسان أن يتمسك بالخلق الحسن في التعامل مع الناس، بحيث يعاملهم بما يحب أن يعاملوه به، فبذلك تجتمع القلوب وتأتلف االنفوس ، وتتفق الكلمة، وتنتظم الأحوال،
ومن تقوى الله تعالى أن يحاسب الإنسان نفسه على كل ما تأتي وكل ما تدع، وكل كبيرة وصغيرة، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر، ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا "، وفي ذات المعنى يقول ميمون بن مهران : " لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه، كما يحاسب شريكه، من أين مطعمه وملبسه " (8)
وتأسيسا على ما سبق، وانطلاقا من تلك الحقائق يأتي تناولنا لموضوع الغفلة والنسيان في حياة الإنسان، باعتباره من الموضوعات الهامة المؤثرة على موقف الإنسان من نفسه، ومن خالقه ومعبوده، ومن الحياة الدنيا، ومن الكون، ومن الدار الآخرة، خاصة ونحن نعيش عصرا تزايدت فيه عوامل الغفلة، وانتشرت فيه الوسائل والأدوات العصرية التي جعلت منها ظاهرة صرفت الإنسان عن غايته التي من أجلها خلق، وللعمل على تحقيقها وجد في هذا الكون، هذا وسوف نتناول هذا الموضوع من خلال مجموعة من العناصر وذلك على النحو التالي :
أولا : - الغفلة والنسيان طبيعة إنسانية
الغفلة والنسيان صفتان جبليتان ( فطريتان ) للإنسان أي إنسان، بل يرى البعض أن الإنسان ما سمي إنسانا إلا لكثرة نسيانه وغفلته، ولذلك قيل :
وما سُمي الإنسان إلا لنسيه ***ولا القلب إلا أنه يتقلب
ولقد قالوا قديماً: " إن أول نَاسٍ أولُ الناس "، والمقصود بذلك " آدم " نبي الله عليه الصلاة والسلام، وما وقع له في الجنة مما قصه القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }( طه : 115 ) ، وهكذا نسي آدم التكليف، نسي الأمر والنهي، ولم تكن له قوة في العزم، ولذلك جاء في الحديث الشريف : " ....فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، و خطئ آدم فخطئت ذريته " ( رواه الترمذي عن أبي هريرة ) (9)
وكذلك – وكما أخبر القرآن - نسي " موسى " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عهده مع العبد الصالح، حيث قال الله تعالى حاكيا عنه : {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }( الكهف : 73 )، ونسي " يوشع بن نون " : حيث قال الله تعالى على لسانه : {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً }( الكهف : 63 )، بل نسي سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد صلى الظهر مرة بأصحابه خمساً، ومرة قام من اثنتين في صلاة الظهر ونسيَ الجلوس للتشهد الأول، كما صح في الحديث (10)،
ولأن النسيان – بوجه عام - طبيعة فطرية، وصفة جبلية تكوينية في الإنسان، فلقد جاء في الحديث الشريف الثابت عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه "، (11)
ولذلك كان من الطبيعي أن يكون أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول وهو يبتهل إلى ربه ومولاه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فلما قيل له في ذلك ( أي سئل عن ذلك ) ؟ قال : إنه ليس آدمي إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام و من شاء أزاغ " (رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها )، (12)
(يتبع )
أحمد بشير
جامعة حلوان
=====
الهوامش
=====
(7) - قال الشيخ الألباني : ( حديث حسن ) انظر حديث رقم : 97 في صحيح الجامع، مرجع سبق ذكره، ص : 97
(8) – حافظ بن أحمد بن علي الحكمي : " معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول "، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم، الدمام، السعودية، ط1، 1990م، ج2، ص ص : 822-823
(9)- قال الشيخ ناصر الدين الألباني : ( حديث صحيح ) انظر حديث رقم : 5208 في صحيح الجامع، مرجع سبق ذكره، ص : 934،
(10) – الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " صَلَى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العَشِيً- الظهر أو العصر-، قال: فَصَلَّى بنا ركعتين، ثم سَلم، ثم قام إلىَ خشبة في مُقَدمِ المسجد فوضع يديه عليها، إحداهما على الأخرى، يُعْرَف في وجهه الغضب، ثم خرج سَرَعَانُ الناس وهم يقولون : قَصُرَتِ الصلاةُ!! قَصُرَتِ الصلاة!! وفي الناس أبو بكر وعمر، فهاباه أن يُكَلماه، فقام رجل - كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَميهِ ذا اليدين - فقال : يا رسول الله!! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال:" لم آنْسَ، ولم تقصر الصلاة "، قال: بلى نسيت يا رسول الله ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، فأقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على القوم، فقال: " أصدق ذو اليدين؟! ". فَأوْمَأُوا، أي: نعم، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَقَامِهِ، فصلى الركعتين الباقيتين، ثم سلَّم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، ................. الحديث " ( متفق عليه )، أنظر :
- محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى : 1420هـ) : " صحيح أبي داود "، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 1423 هـ - 2002 م، ج4، ص : 164
(11) - قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) بلفظ : " وضع " أنظر الحديث رقم : 3515 في صحيح الجامع، مرجع سبق ذكره،
(12) - قال الشيخ ناصر الدين الألباني : ( حديث صحيح )، انظر حديث رقم : 4801 في صحيح الجامع، مرجع سبق ذكره، ص : 894،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: