يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6801
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
توترت العلاقة كثيرا على مدى فترات التاريخ الإسلامي بين العلماء والسلاطين، وخير للأمة أن يكون علماؤها صوتها القوي في مواجهة حكامهم، فالأصل في الحكام أن تغير طبيعتهم المناصب لما فيها من شهوات، والأصل في العلماء الربانيين أن يقوموا تلك النتوءات في حكامهم بنصحهم الدائم وتذكريهم المستمر أو بمواجهتهم إن استدعى الأمر ذلك .
وفي أغلب فترات التاريخ الإسلامي كانت الغلبة دائما للعلماء في أي نزاع ينشا من عدم رغبة الحكام في الانصياع لهم، ودائما ما كان الحكام يتحاشون غضبة العلماء الربانيين فيحاولون استرضاءهم بالسير على الجادة والابتعاد عن المنكرات، وفي المقابل كان العلماء يتحاشون الدخول على بلاط السلاطين إلا في قضية هامة حتى لا يستهان بدخولهم وحتى لا يقلل ذلك من مكانتهم عن الحاكم وعند الرعية .
ولم تكن خشية بعض الحكام من العلماء معبرة عن حقيقة التزام بأحكام الشرع، فقد ظهر في بعض فترات التاريخ الإسلامي حكام بعيدون تماما عن الالتزام السلوكي بجوهر الإسلام، وإنما جاءت مهابة الحكام للعلماء تخوفا من غضبة الشارع المسلم لغضبة علمائه وانحياز الأمة الدائم لقول العالم إن خالف قول السلطان، فكان العلماء حينها في مساجدهم أكثر سطوة من الحكام في عساكرهم، وفي أحايين كثيرة يُضطر السلطان لأن ينزل عن رأيه امتثالا لقول العالِم حتى يتحاشى غضبة الناس .
وأكاد أجزم من خلال نظرة فاحصة للمجتمع الإسلامي أن أفضل وأقوى الفترات التي مرت على الدول والمجتمعات الإسلامية والتي علت فيها مكانتها بين الأمم بتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية كانت في الفترة التي شهدت علو مكانة العلماء على الحكام، وأن أكثر فترات التاريخ الإسلامي ضعفا ومهانة، ومنيت فيها الأمة بهزائم عسكرية وسياسية هي التي شهدت الحط من مكانة العلماء أو الاستهانة بهم .
ويحتاج العلماء في مواقفهم أمام السلاطين إلى أمور عدة من أهمها :
- سلامة موقفهم الشرعي في القضية التي يعرضونها بحيث يكون لهم الحق الشرعي الكامل فيها، وأن ما ينصحون به حق واضح وما ينكرونه على حكامهم منكر بين
- ثانيا أن يطلبوا رضا الله سبحانه وحده فيما يتصدون فيه للحكام والاحتساب عليهم، وأن يتذكروا أن مقامهم هذا مقام سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه .
- ثالثا أن يثبتوا على كلمة الحق وأن لا تأخذهم فيه لومة لائم وألا يتنازلوا أو يهادنوا أو يرضوا بأنصاف الحلول فلا وسط بين الحق والباطل .
ولم يكن ما وصل إليه العز بن عبد السلام ( سلطان العلماء ) في مواقفه المتعددة مع الصالح إسماعيل في الشام والصالح أيوب في مصر إلا تمثيلا صادقا لموقف العالم مع الحاكم،وتجسيدا واضحا لالتفاف الشعب المسلم مع العالم إذا جابه الحكام بالمناصحة .
ويقوم عدد من العلماء بواجبهم الشرعي في المناصحة للأمراء والحكام ليذكروهم بحقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام وليكروهم أيضا بحق الناس عليهم ليصوبوا لهم ما يرونه انه انحراف عن المنهج الإسلامي القويم .
وفي المقابل ينبغي على الحكام أن لا يتكبروا عن سماع النصيحة وويجب عليهم التحقيق فيها إن لم تكن القضية أو الشكوى حقيقة وتبيان ذلك في أدب وتوقير للعلم والعلماء دون اجتراء عليهم .
وقد قام الشيخ يوسف القرضاوي بتوجيه رسالة إلى حكام الإمارات بعد اتخاذهم لقرار فيه ترحيل لمائة أسرة سورية من البلاد وسحب الجنسية من بعضهم لأنهم خالفوا التعليمات بعدم التظاهر، فوجه القرضاوي للحكام النصح ألا يفعلوا ذلك لوقع ضرره الشديد على تلك العائلات وأن يقدروا ماهم فيه من المعاناة فلا يزيدونها عليهم بعناء أشد، طالبا منهم أن يتقوا الله وأن يعلموا أنهم ليسوا أعلى من البشر وأنهم ليسوا آلهة بل بشرا ككل البشر، فلا ينبغي عليهم أن يظلموا أحدا أو يخذلوه، مذكرا إياهم بحقوق السوريين كإخوة في الدين والدم، وذكرهم بأن الأمير – كل أمير أو ملك أو ذي سلطان - أجير عند المسلمين، وأن هناك موتا وبعده بعثا وحسابا وجنة ونارا، وهي نصائح عامة يحتاجها كل مسلم، وتشتد الحاجة إليها إن كان هذا المسلم حاكما .
وردت شرطة دبي بعنف على تلك النصيحة التي اعتبرتها سبا للإمارات حكومة وشعبا، بل وذكرت بأنها تعد مذكرة اعتقال للشيخ، وستقدمها للشرطة الدولية للقبض عليه بتهمة الإساءة للإمارات !! .
وفي الأمر وقفات لابد من الانتباه لها :
- بالنظر إلى هذا الانفعال الزائد الصادر من شرطة دبي على لسان رئيسها - وهو ممثل رسمي حكومي – سنجده الرد لا يتسم بالكياسة ولا بالفطنة مع من لم يخطئ في حقهم كأشخاص أو كهيئة دولة .
وإذا نظرنا إلى كلمات الشيخ وهو يناصحهم فلن نجد فيها لفظا يسيئ لا إلى الإمارات ولا إلى أي بلد ولا أي شعب .
- قال الشيخ للحكام " اتقوا الله "، نعم أستطيع أن أتفهم أن هذه اللغة لم يعتدها الحكام من العلماء في هذا الزمان – وإن لم يكن فيها ما يشين ولا يستوجب الغضب، فهي كلمة تقال لكل مسلم فلا يمكنه أن يتبرم منها، وهل يظن حكام المسلمين أنهم أعلى مكانة وقدرا من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه سبحانه نفس اللفظة في الآية الكريمة في مطلع الأحزاب " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ " ؟ .
وهل هم أعلى وأفضل من جميع المؤمنين على مر الأزمان حينما يطالبهم ربهم – وهم مؤمنون بشهادة ربهم – فيطالبهم كمؤمنين بالتقوى سبع مرات في القرآن ويأمرهم بالتوبة جميعا " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "
- وليس في قوله لهم الأمر بالتقوى إساءة ولا غضاضة بل إن الإساءة والغضاضة في عدم تقبلها والتكبر عنها، فقد أنكر الله على من يغضب ويتكبر حينما تقال له " اتق الله " وتأخذه العزة بالإثم وتوعده بالعذاب لذنوب كثيرة تسبقا وتلحقها، إذ أن هذا الكبر قد يدفع إلى معاص كثيرة، وينبغي على المسلم الحق حين تقال له هذه الجملة أن يبادر ويقول " اللهم اجعلني من المتقين "
- وهل أخطأ القرضاوي في حقهم حينما ذكرهم أن الحكام ليسوا آلهة وهم بشر، فقد قال الله لنبيه الكريم أنه بشر وأنه سيموت كما البشر، وجعلها كلمة باقية إلى يوم القيامة فقال سبحانه " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ .."
- ويذكر صاحب الشرطة أن الشيخ قد بنى كلماته على أخبار مرسلة غير دقيقة واتخذ موقفه بسببها، والأخبار التي وردت جاءته على لسان برهان غليون من المجلس الوطني السوريوهو على اتصال مباشر بتلك العائلات، كما أن الأخبار قد ملأت المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية، وسكوتهم عنها بلا تكذيب نوع من الإقرار السكوتي بعدما ملأت الأسماع والأبصار، فهل يخرج ليعيب على الشيخ أم يخرج - على الأقل - ويعلن تكذيبه للخبر أو نفيه – إن كان غير صحيح - أو التراجع عنه – إن كان صحيحا -، أليس هذا هو الأولى منه ؟ .
- ولم يفسر صاحب الشرطة علاقة قضية نصحه لهم بشخص الشيخ وحياته الشخصية أو مواقفه السابقة، فقد ذكر قائد الشرطة أن للشيخ أفعالا أخرى مخالفة، فلماذا سكت عنها صاحب الشرطة ولم يلتفت لها ولم يطالب قبلا بمحاكمته إن كانت تلك الأفعال تمس صالح بلاده ؟ ولماذا ادخرها ولم ينطق بها إلا حينما نصح حكامهم ؟، وما دخل حياة الرجل الشخصية في الإنكار ؟، فلو كان الإنكار لا يصح ولا يقبل إلا ممن ليس له ذنب – وكل البشر خطاء – فمن يجوز له أن ينصح الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ !!!.
- وهل أخطأ الشيخ حينما قال عن الحاكم أنه أجير عند الأمة ؟ فالحاكم أجير عند الأمة استعمله الله بداية على ذلك وأولاه تلك المهمة وينبغي عليه أن يقوم بشأنهم بما يصلحهم وينال على ذلك – إن أحسن - أجرين، أجرا من الله دنيوي وأخروي وأجرا من الناس دنيوي، وقد تحملها الصحابي الجليل خال المؤمنين وكاتب الوحي معاوية بين أبي سفيان رضي الله عنهما من رجل مسلم تابعي وهو أبو مسلم الخولاني، فلماذا لم يتحملها الحكام ؟ وهل هم أفضل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
- كثير من الحكام من يطبق حرفيا ما نسب إلى الإمبراطور الفرنسي لويس الربع عشر من مقولة " أنا الدولة، والدولة أنا " فيعتبرون أن أي انتقاد لهم كأشخاص أو كسياسات هو انتقاص لهيبة الدولة وانتقاد لها، وأنه لا يجوز لأحد أن ينتقص من شأن الحاكم احتراما للدولة، وابتليت أمة الإسلام في العقود التي تخلفت فيها بمن ينسب اسم الدولة لاسم رئيسها، فتم تداول " مصر مبارك، ليبيا القذافي، تونس زين العابدين " وغير ذلك، ولكن الدول أكبر من حكامها فهي التي تبقى والشعوب تستمر ويزول الرؤساء والحكام، فلم يقرن بينهما في الصدر الأول للإسلام، فلم يكن الخليفة أبو بكر يربط بين انتقاد شخصه وبين انتقاص دين ودولة الإسلام حينما قال " أمَّا بعد أيُّها النَّاس، فإنِّي قَدْ وُُلِّيْتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فإِنْ أحْسَنْتُ فأَعِيْنونِي، وإنْ أسأْتُ فقوِّموني " ولهذا تقدمت الدولة الإسلامية، وهكذا تفعل الدول الغربية الآن، فلم نسمع أحدا منهم يعتبر أن انتقاد رؤسائهم أو نصحهم إهانة لبلدهم !!
ولهذا ينبغي على العلماء بتجمعاتهم وروابطهم ومنظماتهم أن يقفوا بثبات وبحزم هذه المرة وأن ينصروا من نصر الحق وقال كلمة الصدق، ولن يسعهم أبدا السكوت عن هذه النصرة التي تجب عليهم وخاصة أن الشيخ لم يخطئ في حق أحد وأنه قال ما يجب أن يقال لكل حاكم، وويجب على روابط العلماء أن ينتبهوا أن هناك وسائل إعلامية - فضائيات ومواقع - تلبس على الناس أفكارهم وتصور لهم أن الشيخ اعتدى على الإمارات وتحرك الأمر بصورة عنصرية بغيضة ناسين أو متناسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن العصبية للأهل والعشيرة في مواجهة الحق " دعوها فإنها منتنة "
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: