الكنائس النصرانية والتحولات الفكرية في العمل السياسي
يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5597
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لطالما كانت العقيدة النصرانية في جانبها النظري متجهة اتجاها بعيدا تماما عن السياسة وتكتفي بالسلطة الروحية على أتباعها وذلك وفقا للتعاليم المكتوبة في صحفهم ومما نعلمها عنهم مثل ما جاء في سبعة مواعظ متتالية في رسالة رومية توصيهم بعدم منازعة السلطان ووجوب طاعته لأنه معين من الله عليهم, فجاء فيها:
1. لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ.
2. حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً.
3. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ.
4. لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.
5. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.
6. فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضاً إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ.
7. فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ." [1]
وقد خرقت الكنائس النصرانية هذه التعاليم في عدد من المرات أشهرها ما تم في العصور الوسطى حيث التحم القساوسة في الحكم بالقياصرة والملوك وتسبب ذلك في مظالم وفجائع كثيرة أدت بالأوروبيين في النهاية إلى الثورة عليهما معا وقيام الأفكار العلمانية لهذه الثورات التي نادت بمثل هذا المطلب الشهير "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس", فأسقطت تدخل الكنيسة في السياسة وحاصرت الدين النصراني داخل الكنائس فقط.
لكنه وفي الآونة الأخيرة ظهرت مخالفات كنسية لهذا المفهوم الذي استقر لفترات في الكنيسة الأرثوذوكسية والكاثوليكية مما ينبئ عن تحول تدريجي في المفاهيم النصرانية وإهمالهم لهذه النصوص واتخاذهم لأفكار أخرى مضادة ومنغمسة في السياسة.
وتجلى ذلك في مصر حيث قام رأس الكنيسة الأرثوذوكسية على مستوى العالم بابا الأقباط في مصر بالتدخل العلني في السياسة وقام بالمساهمة الفعالة بأفراده ثم بنفسه وحضر المشهد الأهم وهو مشهد عزل الرئيس محمد مرسي وهو الأمر الذي كان عندهم محرما قبل ذلك مما يؤكد وجود هذا التحول الفكري لديهم.
أما عن الكنيسة الكاثوليكية فقد قام البابا بجمع شباب من دول العالم كله تقريبا –حوالي 170 دولة– في جمع يقدر بنحو مليوني شاب على شاطئ كوباكبانا في ريو دي جانيرو في البرازيل, وذلك في مؤتمر دولي كاثوليكي يعرف باسم اليوم العالمي للشباب, ثم ألقى فيهم خطبة من المفترض أن تكون وعظية كما هي العادة, إلا انه جعلها خطبة سياسية أكثر منها وعظية دعم فيها تظاهرات الشباب البرازيليين الذين يطالبون بمطالب سياسية.
ودعا بابا الفاتيكان الشباب النصراني إلى الانخراط في القضايا السياسية والاجتماعية قائلا لهم: "لا تبقوا عند شرفة الحياة، يسوع لم يبق هناك. لقد انخرط في التغيير. انخرطوا كما فعل يسوع", مع العلم بأنه كما تقول كافة الأناجيل –التي لا نقر بصحة كل ما فيها- أن المسيح عليه السلام كان دوره روحيا وعظيا ولم يتدخل في شئون الناس السياسية بل وأمرهم بأداء حقوق قيصر عليهم –حسب ما يقولون ويعتقدون-: "ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟" فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ". فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: "لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟" فَقَالُوا لَهُ: "لِقَيْصَرَ". فَأَجَابَ يَسُوعُ: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ". فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ"[2].
إن هذا التحول التدريجي المشترك بين الكنائس النصرانية في الأفكار لابد وأن ينظر له بفطنة وأن يؤخذ في الاعتبار معه وجود حالة من التقارب وإنهاء الخلافات والانقسامات بين الكنائس الثلاث الأكبر في العالم وخاصة بعد زيارة الأنبا تواضروس للفاتيكان ودعوة بابا الفاتيكان لزيارة مصر وهو الأمر الذي لم يكن يسمح به بابا الارثوذوكس السابق شنودة الذي لم يستقبل يوحنا بولس عند زيارة الأخير لمصر ولم يسمح له بدخول كنائس الارثوذوكس لاعتقاده بكفره ونجاسته ولم يزر شنودة الفاتيكان مطلقا.
ومما يؤكد وجود هذا التحول ما قاله القس يحنا قلتة وهو نائب رئيس الكنيسة الكاثوليكية بمصر في مداخلة تليفزيونية له معقبا على زيارة تواضروس للفاتيكان: "إن زيارة البابا تواضروس الثاني إلى الفاتيكان ليست بدعة، وأن اللقاءات بين القيم الدينية ضرورة حتمية, إلى أن الاختلافات بين الكنيستين ليست عقائدية بالأساس وإنما هي اختلافات حضارية وتاريخية" وكلامه كله مغالطات تاريخية وعقائدية وفكرية, وإنما تؤكد كلمته على وجود هذا التقارب ومحاولة محو أي خلاف تاريخي استعدادا لمواجهة عدو مشترك والذي لا نشك انه هو الإسلام.
---------------
[1] رسالة رومية - الإصحاح 13
[2] انجيل مرقس 12:12-17).
المصدر : مركز التاصيل للدراسات والبحوث
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: