يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6617
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم يخفت ظهور الدافع الأيديولوجي الكاثوليكي اليهودي المتشدد عبر خلفيات القرارات السياسية الفرنسية تجاه البلاد الإسلامية والعربية، وبرغم إعلان شارل ديجول تدشين محاولة لتوازن فرنسي تجاه قضية الصراع "العربي الإسرائيلي "، وبرغم أنه ما بين ديجول وساركوزي حاول رؤساء فرنسا السير على نهج إعلامي يؤكد التوازن في رؤيتهم لكن نهجهم التطبيقي كان دائما في كل موقف يؤكد الكيل بمكيالين، كما يؤكد الرغبة الدفينة لإدانة الإسلام وما ينتمي له..
ولما انتشر الإسلام في فرنسا انتشارا واسعا بدأت الحركات الفكرية المناهضة للإسلام بإيقاظ الروح العدائية عند المسئولين الفرنسيين للحد مما أسموه " الظاهرة الإسلامية "، وكان من بين أشد المسئولين تطرفا في رؤيته للإسلام في فرنسا الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي الكاثوليكي المنحدر من أصول يهودية المنتمي فكريا لغلاة اليمينيين والصديق الحميم لصقور البيت الأبيض الذين قاموا باحتلال العراق وأفغانستان
وبدأ ساركوزي في كشف استراتيجيته تجاه الإسلام عندما دعا في خطاب فوزه إلى إنشاء "إتحاد متوسطي" يضم الدول الأوروبية المطلٌة على البحر الأبيض المتوسط والمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن ولبنان وتركيا و"إسرائيل" !!، كان الهدف الأول لساركوزي هو شق الصف العربي المسلم – المشقوق أساسا – بغرض التمهيد للعب على الشقين بطريقة براجماتية خاصة، وتجاهل ساركوزي كل قضايا المنطقة المتفجٌرة ولم يجد من همومها ما يستحق التوقف ولا الاهتمام به !، ولا يخفى البعد العقدي في تصرفه حيث يبدي اهتمامه بأرمينيا النصرانية التي يسعى دوما لنصرتها على تركيا المسلمة ويسعى لدخولها للاتحاد الأوروبي في حين يقوض سعي تركيا للانضمام لنفس المنظمة.
المعارضة الفرنسية وصفت الثلة الحاكمة الجديدة لفرنسا بأنهم النسخة الفرنسية للمحافظين الجدد الأمريكان، ومن هؤلاء كثير من اليهود وربما يكون بعضهم من أخواله الذين هاجر قسم منهم إلى أميركا وقسم آخر إلى فرنسا من اليونان.
داخليا نجحت استراتيجية ساركوزي توحيد مسيرة الاتجاهات اليمينية المختلفة ودفعها للالتفاف حوله ليكون " منطقة حظر سياسية بامتياز، بدأت نذرها تبدو مع الإعلان عن أول قاعدة عسكرية فرنسية في منطقة الخليج في الإمارات العربية
وباتت العودة الفرنسية الاستعمارية إلى بعض الدول الإسلامية هدفا ظاهرا في الاستراتيجية الفرنسية سواء في منطقة الشام أو في شمال إفريقيا، وفي العقل الفرنسي ذكريات استعمارية ليس أقلها وقوف الجنرال غورو العام 1920 أمام قبر صلاح الدين ومخاطبته بعبارة: “ها قد عدنا يا صلاح الدين فقم من قبرك لتقاتلنا…” !!
على المستوى الفكري والإعلامي فلا تكف الإدارة الفرنسية عن الدخول في مصادمات فكرية مع المسلمين فيها على كافة الأصعدة، ولا تلقى لغضبهم بالا، بل تتعامل معهم على اعتبارهم مهاجرين غير مرغوب فيهم، كذلك تتعامل بنفس العنجهية الفكرية والتكبر مع الشعوب الإسلامية في المنطقة مكتفية بالتعامل مع من يسحقهم من الأنظمة – وثقت فرنسا علاقاتها بنظام زين العابدين القمعي الكاره للإسلام توثيقا واسعا وكذا تفعل ولا تزال مع النظام الجزائري وغيره - !
وتتشدق الإدارة الفرنسية منذ زمن أيضا بقضية الحريات في العالم وتنصب نفسها حامية لها، في حين أنها لا تلتفت لانتهاكها حريات المسلمين على أراضيها، - لدينا أكثر من نموذج للاستدلال غير قضيتي ارتداء النقاب للمسلمات والتي تعبر عن حرية الإنسان في اختيار الملابس التي توافق قواعد دينه، وأيضا قضية بناء المساجد وهي أيضا حرية الإنسان في بناء دور لعبادة ربه وفق معتقداته وغيرها من القضايا -
النفعية السياسية وصوت الناخب ومبدأ فرنسي
وغالبا ما يقدم السياسي الفرنسي المصلحة الحزبية أو الانتخابية على كل هذه الشعارات التي يدعون أنهم يدافعون عنها، بل إنهم غالبا ما يضحون بمصالح أمتهم مع الدول الأخرى لإرضاء الناخب الفرنسي أو لاسترضاء قطاع من الناخبين لنيل أصواتهم.
ولم تكن قضية الأرمن إلا حلقة في السلسلة التي يحاول فيها ساركوزي نيل أصوات أكثر من خمسمائة ألف ناخب فرنسي من أصل أرميني، وذلك بتقديم أي ثمن مقابل ذلك حتى لو كان ذلك الثمن علاقته مع دولة مثل تركيا أو حتى علاقته مع كل العالم الإسلامي، فلا صوت يعلو عنده الآن على صوت الانتخابات لإرضاء الناخب الفرنسي بكافة السبل، أما الصوت الإسلامي من مسلمي فرنسا والذين وصفهم ساركوزي بالحثالة فلا قيمة له عند ساستها فقد تم تأمينه من جانب آخر هو الرهان على تشتيتهم أو ضمان ولاء المغاربة والجزائريين منهم كما أن الناخب المسلم لا يجد أمامه إلا اختيارات أحلاها مر واتفقت كلها على هضم حقه !
قضية الأرمن والتحرش بتركيا دبلوماسيا
وكانت متابعات خطوات ساركوزي حينما صرح أثناء زيارته لأرمينيا التي تسعى للانضمام للإتحاد الأوروبي، بأن على تركيا أن تتحلى بالشجاعة في مواجهة ماضيها !!، كما هدد بإصدار قانون في فرنسا يجعل من إنكار وقوع المذبحة ضد الأرمن جريمة مثل جريمة الإنكار أو التشكيك في المذابح اليهودية في عهد النازي والتي تسمى بتهمة معاداة السامية التي تعرض لها الكثيرون مثل المفكر روجيه جارودي.
وبالقطع لم تكن قضية الحريات أو فتح الملفات القديمة أو تبني قضية مذابح الأرمن المزعومة التي ترجع لعام 1915 هي الشغل الشاغل لساراكوزي، بل قد لا يعتبرها قضية من الأساس، إذ إن تاريخ فرنسا الدموي حافل وملئ بمثل هذه المذابح في كل الدول التي احتلتها وخاصة الدول الإسلامية.
وقد ناقشت الجمعية الوطنية الفرنسية ( البرلمان الفرنسي ) مشروع قانون لتجريم ومعاقبة كل منكر للمزاعم الأرمينية بـ " الإبادة الجماعية " التي يدعي الأرمن التعرض لها بين عامي 1915 و1918 على يد الأتراك العثمانيين بالسجن حتى سنة ودفع غرامة مقدارها 45 ألف يورو أي ما يعادل 58 ألف دولار، وقد أقر مجلس النواب مشروع القانون ويُنتظر فقط لإقراره نهائيا والعمل به موافقة مجلس الشيوخ الفرنسي عليه.
وبالعودة لتاريخ تلك الواقعة التي يدعيها الأرمن فبحسب مؤرخيهم وبإقرار بعض الدول الغربية أن الأتراك قتلوا مليونا ونصف المليون من الأرمن في الاضطرابات التي صاحبت الحرب العالمية الأولى والتي كانت فيها الإمبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية في أواخر أيامها، ثم تعود أرمينيا وتؤكد أن أحداث تلك الفترة ترقى إلى أن تكون مجزرة ارتكبت في حق الشعب الأرميني.
وينفي الأتراك دوما تلك المزاعم كلها، فقد جاء على لسان أردوغان قوله " إن الأرمن المسيحيين والأتراك المسلمين على حد سواء قتلوا في صراعات وقعت في سياق الحرب العالمية أثناء هجوم روسي على شرق تركيا في نفس الوقت الذي كانت تتفسخ الإمبراطورية العثمانية فيه "، ثم يؤكد أردوغان " لم يتم ارتكاب أية إبادة في تاريخنا، نحن لا نقبل ذلك "، لافتا النظر لحرمة قتل المعاهَد عند المسلمين ما لم يرتكب جريمة يعاقب عليها، ولا يوجد في الإسلام ما يسمى بالعقاب الجماعي.
سياسة الكيل بمكيالين
وانتقدت الحكومة التركية بعنف هذا التوجه الفرنسي متهمة إياه بالبراجماتية ونسيان الماضي مطالبة الفرنسيين ألا يكيلوا بمكيالين في تعاملهم مع مثل هذه القضايا، فقال وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إن : " من يعجزون عن مواجهة ماضيهم لأنهم مارسوا فيه الاستعمار على مدى قرون وعاملوا الأجانب كمواطنين من الدرجة الثانية، هؤلاء لا ينبغي لهم أن يعلموا تركيا دروسا في التاريخ ".
وتصاعد الاحتجاج التركي على مشروع القرار لاستخدامهم منطقا غريبا باستغلال التاريخ في شن الحملات الانتخابية، فرد عليهم أردوغان باتهامه لفرنسا بارتكاب إبادة جماعية في كثير من بلدان المسلمين ضاربا المثل بالجزائر التي ارتكبت فيها القوات الفرنسية مذبحة بحق ما يقدر بنحو 15% من سكان الجزائر عام 1945، وما بعده، وعلق على هذه مشددا : " هذه إبادة جماعية ".
واتهم إردوغان ساركوزي بتغذية كراهية المسلمين والأتراك سعيا وراء مكاسب انتخابية وقال إن " التاريخ والناس لن يغفروا لمن يستغلون الحقائق التاريخية لتحقيق أهدافهم السياسية "، ووجه أردوغان اتهامه للنواب الفرنسيين الذين دعموا القرار بأنهم اتخذوا قرارات سياسية على أساس من "العنصرية، والتمييز وكراهية الأجانب ".
فرنسا الاستعمارية وتاريخ مظلم
ولم تكن الجزائر وحدها التي عانت من ويلات المحتل الفرنسي، فقد طال بطشهم بالشعب المصري أيضا في فترة احتلال دامت ثلاث سنوات فقط، فكما يذكر الجبرتي ( المؤرخ المصري الكبير الذي عاصر الحملة الفرنسية ) : أن الفرنسيين أشعلوا النيران في الغيطان، وأرهقوا الشعب المصري البائس بالضرائب الباهظة، وأخرجوا أصحاب المنازل من منازلهم، واستولوا عليها، وعاثوا بالأزهر وضربوه بالقنابل، دخلوه بخيولهم وربطوها بقبلته، وداسوا المصاحف بأقدامهم، و ذبحوا أكثر من 2500 من المصريين كما قال نابليون بونابرت في تقرير رسمي أرسله إلى فرنسا، و ذبحوا المسجونين المصريين وألقوا بجثثهم في قاع النيل ليلا، حتى النساء المصريات لم يسلمن من الذبح والسلخ على أيدي جزاريهم.
وهذا ما يؤكده الأستاذ محمود شاكر في رسالته القيمة " في الطريق إلى ثقافتنا " إذ يقول عن ثورة القاهرة الأولى " ثورة القاهرة وأحيائها في يوم السبت 10 جمادى الأولى سنة 1213، 21 أكتوبر 1798، أي بعد ثلاثة أشهر من تدنيس نابليون أرض دار الإسلام بجحافله وعدده، فارتكب في قمعها القسوة والتدمير وذبح الرجال والنساء أيضا وسفح الدماء الغزيرة، ولم يكفه ذلك، فقد نذر وأوفى بنذره أن يزيد فيضحي عند مشرق كل شمس بخمسة أو ستة تقطع رؤوسهم ويطاف بها في أنحاء القاهرة، ولا شك عندي أن هؤلاء الخمسة أو الستة هم من طلاب العلم في الأزهر ومن المحرضين على مقاومة هذا الغازي المنتهك لحرمة دار الإسلام "
فإذا كان هذا ديدن المحتل الفرنسي الذي سرق ونهب وقتل أبناء مصر في ثلاث سنوات فقط، فكيف فعله في الجزائر الذي دام احتلاله لها مائة وثلاثين سنة أذاق شعبها الويلات، حتى ذكر مؤرخوهم من المخازي الفرنسية التي لا يتسع المقام لذكرها كلها.
فمنها ما يرويه " لفتنانت كولونيل دو Montagnac " بنفسه عن الأوامر التي كانت تُصدر للجنود الفرنسيين في الجزائر : " يجب أن ننهب جميع السكان التي لا تقبل شروطنا ويجب اغتنام كل شيء، دمروا دون تمييز لجنس أو سن، يجب أن تكون هكذا الحرب ضد العرب، اقتلوا جميع الرجال الذين تجاوزوا سن الخامسة عشرة، واتخذوا كل ما لديهم من نساء وأطفال، وحملوهم على متن السفن التابعة للبحرية، وأرسلوهم إلى جزر الماركيز أو أي مكان آخر حتى يفنوا، يجب أن يزحفوا تحت أقدامنا كالكلاب ".
ويقول عن أفعال وحشية لجنرال فرنسي منهم " لقد محا الجنرال لاموريسيير (La Moricière) من الوجود خمسة وعشرين قرية في خرجة واحدة ".
فهذه هي الدولة راعية الحريات التي تطالب اليوم بنبش التاريخ وتقليب صفحاته واعتبار ما حدث للأرمن إبادة جماعية، ومن سينكرها سيجرم وسيعاقب.
فهل تريد الإدارة الفرنسية أن تُحاسب ويُنبش لها التاريخ وتُحاكم على تلك الممارسات البشعة التي لا يقبلها ضمير إنسان ؟، أم أن الإدارة الفرنسية لا تعبأ بالمسلمين الذين تناسوا ما حدث لأجدادهم وتجنسوا بالجنسية الفرنسية وحققوا الأمجاد تحت ظل العلم الفرنسي ؟
إن سياسة فتح الملفات القديمة والنبش في قبور الماضي لن يكون في صالح المحتل الفرنسي البغيض بأي حال من الأحوال، ولن تكون في صالح البشرية كلها التي كادت تتناسى المظالم القديمة وفتحت صفحات جديدة مع من الظالمين المعتدين... فهل تريد الإدارة الفرنسية إعادة عقارب الزمن إلى الوراء ؟!.
المصدر : مركز التأصيل للدراسات والبحوث
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: