أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11933
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الـزيتونة والصادقية
أجهد الحمامي نفسه طيلة الصفحات التي سوّدها على الحطِّ من قدر الـزيتونة والرفع من شأن الصادقية مستعملا في ذلك كلّ الوسائل والأدوات التي توَهَّم أنها تساعده على ذلك وغاب عنه أن ما سمّاه "الصراع الـزيتوني الصادقي" قضيّة وهميَّة لا وجود لها إلا في أذهان مخترعيها، يقول:"ويظل الصراع الحقيقي... بين القوى التقليدية والقوى الحداثية أو هو صراع بين الـزيتونة والصادقية في نفس الآن فالتعليم السائد في تونس قبل الاستقلال هو التعليم الزيتوني والتعليم الفرنسي وكلّ منهما يجذب المتعلم إلى الاجتثاث عـن واقعه سواء بشدّه إلى الماضي باستمرار أو بشدّه إلى واقع غير واقعه وحضارة غير حضارته وكان التعليم الصادقي ضدّ هذا الصراع المثال المعتدل"(17).
يُصنف الحمامي في كلامه هذا التعليم في تونس إلى ثلاثة أصناف هي التعليم الزيتوني والتعليم الفرنسي والتعليم الصادقي وهو تصنيف مغلوط لأن التعليم الفرنسي وإن وُجد منذ منتصف القرن التاسع عشر إلا أنه كان خاصًّا بالجاليات الأجنبية كالفرنسيين والإيطاليين والمالطيين وغيرهم ولم ينخرط فيه من التونسيين إلا عدد قليل من أبناء الذوات ممَّن كان هدفهم الحصول على الوظائف بإتقان اللغة الفرنسية بحيث عاشت هذه المدارس قبل الاستقلال ووئدت بعده دون أن يكون لها تأثير يُذكر في الحياة الثقافية والاجتماعية في بلادنا(18)، ولم يلجأ الحمامي إلى مغالطة القارئ بالنفخ في صورة هذه المدارس إلا بقصد افتعال "الخلاف بين الـزيتونة والصادقية" فيما بعد وهو خلاف وهمي لا سند له في الواقع إذ لا يصحُّ أن توضع الـزيتونة في مقابل الصادقية لأسباب متعدّدة من بين أهمّها:
1) الـزيتونة تضرب بجذورها في عمق تاريخ وتربة هذا الوطن، علـَّمت أبناءه منذ تأسيسها قبل 14 قرنا وأنجبت أسماء عزّ نظيرها إذ لا يمرّ عقد من الزمان إلا وللزيتونة فيه ذكر في هذا الفن أو ذاك أمّا الصادقية فهي حديثة العهد لم يتجاوز عمرها أيام الاستقلال السبعين سنة.
2) الـزيتونة حاضرة في كامل أرجاء الوطن وحتى خارجه فقد بلغ عدد فروعها 29 فرعا سنة 1956 من بينها فرعان في الجزائر(19)، وفي سنة 1945 بلغ عدد طلبتها في مختلف مراحل التعليم حوالي 9000 طالب(20) وما هو بالرقم الهيِّن ويذكر صاحب المفيد السنوي لسنة 1936 إن عدد المكتبات الـزيتونية بلغ 33 مكتبة في كامل أرجاء الوطن وإن عدد المدارس المخصّصة لسكنى الطلبة وصل إلى حدود 24 مدرسة في العاصمة لوحدها(21) كلّ هذا بجانب مئات الجمعيات والنوادي والروابط والفرق الأدبية والكشفية والمسرحية والرياضية التي نشأت وعاشت في فضاء الـزيتونة(22)، ونقلا عـن الأستاذ عبد الجليل التميمي يقول:"وقد ذكر لوي ماشويل أوّل مدير للتعليم بتونس في عهد الحماية إنه توجد بالبلاد سنة 1883 أربع وعشرون مدرسة ومعهدا وإن عشريـن منها يشرف عليها رجال الدين المسيحيون، أما الأربع الباقية فهي المعهد الصادقي وثلاث مدارس إسرائيلية حيث عهد بالتدريس فيها إلى معلميـن و أساتذة علمانيين"(23) في حين لم يتقدم إلى امتحان شهادة ختم الدروس في الصادقية في شهر جوان 1911 إلا خمسة تلاميذ حسب ما أورد أحمد عبد السلام في الصفحة 48 من كتابه عـن المدرسة.
3) التعليم الـزيتوني تعليم متكامل يصل إلى المراحل العليا في حين يتوقف التعليم الصادقي عند حدود الباكالوريا ولا يتجاوزها.
4) لما أسّس الجنرال خير الدين المعهد الصادقي اختار له بناية لا تبعد عـن جامع الـزيتونة إلا أمتارا معدودات هي قشلة الزنايدية الكائنة بالعدد 55 من نهج جامع الـزيتونة الحالي كما كلف أساتذة الـزيتونة وشيوخها بوضع برامج التعليم للمدرسة الصادقية وقد كانوا كلـُّهم من مناصري الجنرال المصلح من بينهم الشيوخ بيرم الخامس وأحمد ابـن الخوجة ومحمد الطاهر النيفر وعمر ابـن الشيخ وأحمد الورتتاني ومصطفى رضوان ومحمد العزيز بوعتور وهم الذين تولوا التدريس فيها منذ تأسيسها ولم تنقطع صلتهم بها(24)، ويذكر المنصفون من الصادقيين القدامى والمحدثين شيوخهم بالكثير من الإجلال والتقدير من بينهم المرحوم حمادي الساحلي الذي يذكر باعتزاز شيوخه محمد الزغواني وعبد العزيز الباوندي ومحمد الفاضل ابـن عاشور(25)، يقول الأستاذ الجليل سي محمد اليعلاوي في حديث له في جريدة الصريح بتاريخ 5 جانفي 2009:"تلقيت شخصيا دروس التاريخ الإسلامي عـن الـزيتوني التهامي الزهار ودروس الفقه عـن الـزيتوني العـربي العنابي ودروس النحو عـن الشيخ محمد الزغواني طيّب الله ثراه" وفي تكرار الإشارة إلى الـزيتونة من طرف الأستاذ الجليل معاني لا تخفى على ذوي النباهة، يقول صديقنا الشاعر المرحوم جعفر ماجد في مذكراته:"ولا أشك في أنني لو قرأت البلاغة على أستاذ زيتوني ممّن عرفوا السعد والإيضاح والتلخيص لكانت إفادتي أكبر"(26).
5) لمّا أسّس الجنرال خير الدين المدرسة الصادقية بعد فشل تجربة المدرسة الحربية في باردو كان هدفه تكوين نخبة عصرية بتدريسها العلوم العصرية واللغات الأجنبية إلا أن انتصاب الحماية انحرف بها عـن أداء دورها الذي أسِّست لأجله وحصره في تكويـن المترجميـن الذين تحتاجهم الإدارة الاستعمارية لتصريف شؤون المحميَّة وهو الدور الذي لعبته الصادقية، يقول الشيخ عبد العزيز الثعالبي:"وأصبح التعليم بذلك المعهد لا يرمي إلى إعداد نخبة مثقفة للمهن الحرّة كما كان من قبل، بل تحوَّل إلى آلة لتشويه أفكار الشباب التونسي وانحصر دوره في تكوين مترجمين غير أكفاء لمصالح الشرطة أو موظفين من الدرجة السفلى للإدارات وأصبح تعليم اللغة العـربية من مهام المعلمين الفرنسيين الذين عوَّضوا شيئا فشيئا المدرسين التونسيين وقد نزل عددهم منذ عشر سنوات (سنة 1910م) إلى سبعة وبلغ الآن ثلاثة فقط"(27) وهو نفس المعنى الذي أعاد صياغته بشكل آخر مخفف فيما بعد أحمد عبد السلام مدير التعليم الثانوي في عهد المسعدي قال:"أما السواد الأعظم من خريجي الصادقية فكان التعليم الذي تلقوه يؤهلهم إلى الانخراط في سلك الوظيف العمومي "(28) هذا الدور رفض علي الورداني القيام به منذ سنة 1890 لمّا عُرض عليه أن يترجم من العـربية إلى الفرنسية فقد أبى لأنه اعتبر ذلك خيانة لوطنه ونقلا لأسرار مِلـَّتِهِ إلى المستعمر واشترط للعمل في الإدارة الفرنسية أن يعـرِّب فقط حتى يتمكن مواطنوه من الإطلاع على ما يجدُّ لدى الآخرين فترجم المجلات القانونية وغيرها(29).
لهذه الأسباب نرى أن وضع الصادقية في الموقع النقيض للـزيتونة غير علمي ولا تسنده الوقائع ففي بدايات القرن الماضي وقف الزعيم علي باش حامبة الصادقي خطيبا في جموع المتظاهرين في الـزيتونة في شهر أفريل 1910 قائلا:"أنا أستحسن اجتماعكم في هذا المعهد الديني إذ أنكم تحيون فينا بذلك سنة أسلافنا الأوّليـن فقد حفظ لنا التاريخ أن الصدر الأوّل كانوا كلما حدث لهم أمر يجتمعون في المساجد ويتباحثون في كلّ ما يعن لهم من المصالح والآراء، إن الحرية لا تعطى عفوا وإنما تؤخذ قسرا لكن يجب قبل كلِّ شيء استعمال الحكمة والرويّة في الحصول عليها ولا شيء أنفع من الرويّة والتعقل. لست أيها الإخوان بعيدا عنكم أو غريبا بينكم بل أنا أفتخر أن أعدّ نفسي زيتونيا مثلكم فقد قضيت عامين من المدّة التي كنت فيها تلميذا في المدرسة الصادقية أتلقى دروسا حرّة في الكلية الـزيتونية المباركة، نعم إنني لم أحرز على جانب عظيم من العلوم الإسلامية ولكن ما أحرزته منها هو مدار الكفاية لأمثالي فإن المقدار الذي حصلته قد أفادني كثيرا من حيث تنمية شعوري الإسلامي وتقوية العاطفة الملية في صدري وهذا ما ترك لي في نفسي أجمل ذكرى لإخواني الزيتونيين ولذلك فإني أدين لهذه الكلية المباركة بما لها عليَّ من الجميل والامتنان"(30)، ذاك هو صوت العقل والقلب معا لمّا تكون المصلحة الوطنية هي الحاكمة ولمّا ننأى بالنفس عـن الهوى والمصالح الآنيّة الظرفية الشخصية.
لم يظهر الخلاف الموهوم بين الـزيتونة والصادقية إلا في فترة الاستقلال وما بعدها وكانت أسبابه سياسية استغلها ضعاف النفوس ممّن اختلت لديهم الموازين وتبعثرت الأولويات.
لمّا وصل بورقيبة إلى الحكم حمل معه مشروع بناء دولة جديدة نظامها جمهوري قائمة على مؤسّسات عصرية على النمط الفرنسي ولم يكن أمامه أيامها إلا القضاء على نظام البايات وكلّ المؤسّسات الموجودة فحُلـَّت الأوقاف ووُحِّد القضاء وألغي التعليم الـزيتوني وأزيحت العائلات المخزنية وحوكم عدد كبير من رموز العهد البائد وصدرت مجلة الأحوال الشخصية، جملة هذه الإجراءات وجدت معارضة ظهرت فيما نشر من مقالات في الجرائد والمجلات وما ألقي من خطب في الجوامع وغيرها، في نفس الفترة حدث الخلاف اليوسفي البورقيبي ليختلط الحابل بالنابل وتصبح بذلك عملية الفرز بين المواقف عسيرة، أدّت هذه الخلافات المتزامنة إلى ظهور جبهتيـن مناوئتين للنظام الجديد:
الجبهة الأولى سياسية يقف على رأسها صالح بـن يوسف وخصوم بورقيبة من بقايا الحزب القديم وغيرهم.
والجبهة الثانية ثقافية ترفض مجلة الأحوال الشخصية وإلغاء التعليم الـزيتوني وتوحيد القضاء.
في خضم هذه المعركة المتعدّدة الأطراف أسّس اليوسفيون الأمانة العامة أداة سياسية لتنظيم المقاومة فصفاهم النظام الجديد عـن طريق الاغتيالات والمحاكمات والنفي، واتجه في نفس الوقت إلى التنكيل بمعارضي إصلاحاته الذين وضعوا جميعا تحت لافتة الـزيتونة التي صُنفت منذ ذلك التاريخ رغما عـن كلِّ شيء عَدُوًّا للنظام وإصلاحاته وهو ما لم يمنع عددا من الـزيتونيين من البقاء على ولائهم للحزب الدستوري ومن بينهم المرحومون الشيوخ محمد الشاذلي النيفر ومحمد العروسي المطوي والحبيب المستاوي ويوسف الرويسي وحسن قاسم والتهامي نقرة ومحمود كريشان وعبد الستار الهاني والحبيب نويرة أمدّ الله في أنفاسهما... ولكنهم في نفس الوقت دافعوا عـن الـزيتونة وحاولوا قدر ما وسعهم الجهد في إيقاف السلطة وثنيها عمّا اعتزمت القيام به.
بعد الاستقلال وانتهاء المعارضة اليوسفية لم تتوقف الحملة على الـزيتونة إذ تطوَّع البعض لمحاربة كلّ من انتسب إليها في فترة ما مستغلين في ذلك رغبة السلطة في الإبقاء على عدوّ منزوع المخالب والأنياب حتى تخيف به كلّ من تسوِّل له نفسه أن يخالفها بسوء المآل من ناحية وتجمع بوَهْم وجوده الأنصار من ناحية أخرى بالإضافة إلى ظهور التيار الناصري والبعثي محليا وعـربيا والخلاف معهما لتتوسع بذلك دائرة العداء وتصل إلى حدود الدعـوة إلى التمغرب في مقابل التمشرق.
الآن وبعد مرور نصف قرن وغياب أغلب رموز هذه المرحلة السوداء في التاريخ الثقافي لبلادنا من المتحتم أن نعيد المسائل إلى نصابها.
منذ أن عُيِّن محمود المسعدي وزيرا للتربية القومية عوضا عـن المرحوم الأمين الشابي الذي رفض إلغاء التعليم الـزيتوني باشر حملة اجتثاث لكلّ ما له علاقة بالـزيتونة وقد وصل به الأمر إلى حدود من الإسفاف لا نظير لها، روى لي الوالد رحمه الله وقد كان قيِّما عاما في معهد ابـن شرف حادثة يندى لها الجبين عثرت عليها فيما بعد في مذكرات الأستاذ الحبيب نويرة حفظه الله ننقلها عنه، كتب يقول:"حكى لي مدير الحي الـزيتوني الشيخ محمد النابلي رحمه الله قال زارني وزير التربية القومية وبعد أن طاف بالأقسام التي صارت مخصّصة للتدريس بعد أن كانت معدّة أساسا للمراجعة فقط وغرف النوم والمطبخ وغيره، أبدى ابتهاجه بما رأى ودوّن ذلك في دفتر خاص، ولمّا كنت أودِّعه عند الباب نظر إليّ قائلا لم يبق شيء اسمه الحي الـزيتوني فالمطلوب منك إزالة هذه الكتابة، فبهت من طلب الوزير وشعرت كأن أحدا صبّ علي سطل ماء بارد، غير أنني نسيت الموضوع ولم أنفذ ذلك الطلب لعدم تحمسي له ولأن إزالة الكتابة تتطلب فكّ الباب وهو ثقيل جدًّا وحمله على شاحنة إلى الحداد ليعالجه بالنار ويزيل تلك الكتابة ويضع بدلها أي رسم آخر. وبعد سنة أو أكثر علم الوزير ولا شك بأنني لم أنفذ تعليماته فجاء ليقوم بزيارة أخرى للحي ولما استقبلته عند الباب بادرني بقوله حانقا (أنا موش قتلك نحي علي ها الباب وما عادش ثمة حاجة اسمها الحي الـزيتوني؟) فكتمت غيظي ولم يبق في وسعي إلا أن آمر بخلع الباب وإزالة كتابة يؤلم مرآها عيني الوزير" ثم يتساءل سي الحبيب نويـرة:"فما معنى هذا التحامل الحقود يا ترى على الـزيتونة حتى عندما تكون كلمة مكتوبة في باب من حديد؟"(31).
إلى هذا الحدّ يصل الحقد، وتحفل المذكرات التي نشرت في الفترات الأخيرة بألوان من التشفي والقهر الذي عرفه الـزيتونيون على أيدي المسعدي فحتى كبار المقاومين لم يسلموا من ذلك إذ نُقل الشهيد عبد العزيز العكرمي نُقلة تعسفية من المنستير إلى عين دراهم وخاطب بورقيبة في ذلك ولكنه لم يفعل شيئا لأن ما:"يتفق فيه الوزير مع الرئيس هو تغلغل العكرمي في الانتماء الـزيتوني وكفى بهذا عندهما جرما ومأخذا"(32) وفق رواية المناضل علي المعاوي، أمّا الذين درسوا في القاهرة أو في غيرها من الجامعات العـربية وحتى في الصربون ذاتها فقد وقف لهم المسعدي بالمرصاد، يقول الدكتور محمد الحبيب الهيلة في شهادته في مؤسّسة التميمي:"الجميع كانت لهم حدود في التعاطي مع الملف الـزيتوني إلا محمود المسعدي لم تكن لديه أيّة حدود المهمّ لديه أن يحارب الـزيتونيين" راويا في نفس الشهادة الأساليب التي استعملها المسعدي لمنعه من إتمام أطروحته ومن بينها قطع المرتب وتوزيع ساعات التدريس طوال اليوم حتى لا يتمكن من الذهاب إلى المكتبة وبعد حصوله على الدكتوراه بقي سنة كاملة عاطلا عـن العمل(33)، وفي مقال للأستاذ نور الديـن بوكراع نشر في جريدة الصباح بتاريخ 15 فيفري 2004 قال:"وما إن تسلم السيد المسعدي مهامه حتى شمّر عـن ساعد الجدّ في تصفية التعليم الـزيتوني، وكلمة التصفية أوردها المسعدي في ندوته الصحفية التي عقدها غداة مباشرته لمهامه حيث قال بالحرف الواحد (سنشرع ابتداء من الآن في تصفية التعليم الـزيتوني) ووفى بما تعهد به"، أما الرائد الرسمي للجمهورية التونسية المستقلة حديثا فقد استعمل لفظ الانقراض بكلّ ما يحمل من مشاعر التشفي والحقد والضغينة في إشارة إلى شيوخ الـزيتونة الذين سيتقاعدون(34) يقول أحد الشهود:"صحيح إن المسعدي بعد عودته من الصربون أصبحت له قناعات خاصة فهو لا يعترف بشهادات الجامعات الشرقية وأذكر انه كان يسند رتبة معلم منتدب للتعليم الثانوي بالنسبة لحاملي إجازات من جامعات القاهرة"(35) وفي شهادة أخرى يقول حسن الذوادي:"عارض الأستاذ محمود المسعدي انتداب الـزيتونيين الذين تحصلوا على إجازات من بلدان الشرق العـربي كمصر ولبنان وسوريا والعراق بدعوى أنهم غير أكفاء وكان في ذلك الوقت محمود المسعدي رئيسا لمصلحة التعليم الثانوي بوزارة التربية الوطنية"(36)، يقول فتحي بـن سلامة فيما ترجمته له رجاء بـن سلامة عـن بورقيبة بأنه:"أغلق الجامعة الدينية الكبرى، جامعة الزيتونة التي لها من العمر ألف وثلاثمائة سنة، وشرّد مدرّسيها، وإمعانا في إذلالهم نقلهم إلى التدريس بالتعليم الثانوي"(37) هذا التشريد والإذلال اللذان تعرّض لهما أبناء الوطن لم يلفتا انتباه رجاء التي عودتنا بالصراخ عاليا عند الحديث عـن حقوق الإنسان وإنصاف المظلومين واحترام الأقليات... وكأني بها في هذه الحالة تبطن المساندة.
وبطبيعة الحال أعان المسعدي في تنفيذ هذه المجزرة عدد من الأشخاص منهم من انتقل إلى رحمة الله بفعله ومنهم من هو على قيد الحياة كعبد القادر المهيري الذي نذكر له مظلمتين ارتكبهما في حق باحثين اثنين من خيرة من أنجبت تونس:
الأوّل منهما الأستاذ عمر بـن سالم الذي كتب ضدّه المهيري تقريرا نقل إثره من مدرسة الأساتذة المساعدين إلى مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية لأنه زيتوني درس في القاهرة وبيروت.
والثاني هو الدكتور المنجي الكعبي الذي تصدّر المهيري لمنعه من التدريس في كلية الآداب في الجامعة التونسية لأنه زيتوني درس في القاهرة كذلك.
اليوم وقد ذهبت السلطة إلى غير رجعة وتقاعد الأساتذة الثلاثة ولم يبق إلا العمل الصالح تذكره الأجيال الشابة فتثني على هذا أو تلعن ذاك يدعونا الإنصاف والواجب الأخلاقي إلي تقييم الحصيلة النهائية من البحوث والدراسات التي أنجزها كلّ واحد من الأطراف الثلاثة ومدى علاقتها بتاريخ هذا الوطن وشخوصه، فعبد القادر المهيري لن تذكره الأجيال القادمة إلا ببعض المقالات في علوم اللغة كتبت خصيصا لإلقائها في ندوات خارج البلاد ونشرت في حوليات الجامعة التونسية بأسلوب فجّ ثم أعيد نشرها في كتيبين اثنين أدرج فيهما حتى تقديمه لبعض الكتب ككتاب التصريف للطيب البكوش وتاريخ النحو لعلي المكارم تضخيما لعدد الصفحات، أما أطروحته عـن ابـن جني التي حرّرت بالفرنسية فهي مفيدة لمن ليس لهم تمكن من التراث العـربي الإسلامي ممن تبهرهم مصطلحات ومفردات لم يتعوّدوا سماعها ولكنها غير ذلك بالنسبة للعارفين باللسان العـربي وعلومه ولهذا السبب بالذات لم يعـرِّب المهيري أطروحته لأنه إن فعل ذلك بدت بسيطة ودارجة ومكرورة، ومن الجدير بالملاحظة أن المهيري فيما نشر لم يتعرّض لهذا الوطن وأغفل ذكره وهو أمر يتنافى مع ما درجت عليه الجامعات ومراكز البحوث خصوصا في العلوم الإنسانية حيث تعمد إلى الانغراس في بيئتها وتحث طلبتها وباحثيها على إحياء الرموز والاعتناء بما هو محلي وهو أمر ملحوظ في الدراسات والبحوث التي تنشر في رحاب الجامعة التونسية في مختلف أقسامها باستثناء البعض من منشورات قسم العـربية وربيبه قسم الحضارة حيث يغيب الوطن فيهما بامتياز، وأذكر أن الأستاذ حسونة المصباحي كتب مقالا في الموضوع جاء فيه:"خلال مؤتمر الرواية العـربية الذي انعقد في القاهرة أواخر شتاء عام 1998 حضر الوفد التونسي ممثلا بحوالي عشرة من الأساتذة الجامعيين بينهم من يحترف النقد وكتابة الرواية وجميع هؤلاء قدموا مداخلات عـن كُتاب من أقطار عـربية مختلفة من دون أدنى إشارة إلى أيّ كاتب تونسي ميّتا كان أم حيّا وقد أثار هذا الأمر امتعاض الكثيرين بمن في ذلك بعض الكتاب الذين احتفي بهم في الدراسات التونسية التي قُدمت وأذكر أن الدكتور جابر عصفور مهندس المؤتمر المذكور قال بالحرف الواحد (نحن دعونا التونسيين لكي يتحدثوا عـن أدبهم ويعرِّفوا به وليس ليكونوا أبواقا لغيرهم !!!) أما الصديق إبراهيم الخطيب الكاتب والمترجم المغربي المعروف فقد قال لي ساخرا (هل أقفرت بلاد الشابي إلى هذا الحدّ حتى أصبح نقادكم وجامعيوكم مجبرين على الهجرة أدبيا؟!)"(38).
وبالعودة إلى ما كنا بصدده من مقارنة بين الإنتاج العلمي للأساتذة الثلاثة يبرز اسم الأستاذ عمر بـن سالم خريج الـزيتونة والقاهرة وبيروت كواحد من أبرز كتاب القصة والمسرحية في بلادنا أثرى المكتبة التونسية بحوالي ثلاثين مؤلفا نكتفي بالإشارة إلى دراسته وتحقيقه لديوان محمود قابادو شيخ الشيوخ ورائد النهضة في تونس وكاتب أوّل افتتاحية تنشر في أوّل جريدة تونسية وأبرز شاعر في الدولة الحسينية وأستاذ النخبة التي قام على أكتافها تنفيذ المشروع الإصلاحي للجنرال خير الدين، كاتب بهذا العطاء والألمعية يُبعد من الجامعة التونسية ويُحرم طلبتها من علمه وتوجيهه، وكذا الحال بالنسبة إلى الدكتور المنجي الكعبي الذي نشر عددا لا يستهان به من الدراسات والتحقيقات التي تهمّ تاريخ البلاد وشخوصها آخرها الموسوعة القيروانية، يُمنع هو الآخر من دخول قسم اللغة العـربية ويُحرم أبناؤنا من التتلمذ له والاستفادة من قدراته العلمية التي ظهرت في عدد من المؤلفات نقد فيها تحقيقات لنصوص تونسية فأبان عـن باع طويل وذهن وقاد في ضبط المعلومات الأمر الذي يبوِّئه دون منازع لاحتلال موقع الناقد الأوّل وأحد حرّاس الذاكرة الوطنية، شخصية بهذه القامة العلمية والعطاء الفكري لا تجد حظها في قسم اللغة العـربية لا لشيء إلا لأن صاحبها زيتوني درس في القاهرة، فأيّ خسران لوطن لا يقدِّر رجاله؟. والغريب في الأمر أن كُرْه المهيري للـزيتونة ولكلّ من انتسب إليها لم يكن مرتبطا بالمسعدي أو بسيطرته على قسم اللغة العـربية أو بسعيه إلى الارتقاء الوظيفي فقط، وإنما بقي متواصلا إلى يوم الناس هذا ولا يملُّ ترديده كلـَّما سنحت الفرصة، ففي حديث له نشر في جريدة الحرية بتاريخ 5 أكتوبر 2010 تحدث عـن كتاب النحو الذي ألفه المرحوم التهامي نقرة وهو الكتاب الذي تعلمنا فيه قواعد اللغة العـربية قال:"وقد دعيت صحبة ثلة من الزملاء إلى تقييم مشروع كتاب نحو لتلاميذ السنة الأولى قدَّمه المرحوم التهامي نقرة وكان مدرِّسا بالـزيتونة ويبدو أن المسعدي كان متحرِّجا من الرفض فكوَّن لجنة فيها التهامي نفسه ومدرِّس زيتوني آخر..."، يلحظ المتمعن المنصف في هذا الكلام أن المهيري قدّم لنا رواية على غير حقيقتها التاريخية يدلُّ على ذلك ما يلي:
1) لا نعتقد أن المسعدي كان سيتحرَّج من التهامي نقرة لو كان الكتاب دون المستوى فالذي يصل الحقد لديه إلى حدود الأمر بإزالة لفظ الحي الـزيتوني من باب طمسا لهويَّة المكان لا نعتقد أنه سيجد حرجا في طرد المرحوم التهامي وإحراق كتابه لو وجد إلى ذلك سبيلا.
2) القول بأن المسعدي كوَّن لجنة لتقييم الكتاب ليس إلا حيلة إدارية القصد منها أن لا يخرج كتاب في اللغة العـربية ألفه زيتونيون فقط لأن ذلك يتعارض مع ما يُرَوِّجُ له المسعدي من عجز الـزيتونيين، لذا وجب أن يكون أحد أتباعه من بين المؤلفين فألفت اللجنة لتبرير إضافة اسم المهيري على غلاف الكتاب.
3) لو كان المهيري قادرا على تأليف كتاب في اللغة العـربية لتلاميذ المدارس الثانوية لكلـَّفه المسعدي بذلك، يقول في حديثه المشار إليه أعلاه:"وأعتقد أن هذه التجربة قد مكنتني من مزيد التعمق في اللغة وفي النحو والصرف والسيطرة على مختلف الجوانب كما دعتني إلى أن ألقي على التراث نظرة نقدية وفي نطاق مسيرتي الجامعية اهتممت بالتراث اللغوي عند العـرب والنحوي بصفة خاصة بإعداد أطروحة دكتوراه دولية حول أحد أكبر النحاة من القرن الرابع هجري هو ابـن جني" ودون أن يشعر المهيري اعترف بأن جلساته مع الزيتوني المرحوم التهامي نقرة والزيتوني عبد الله بـن علية حفظه الله أفادته في التعمق في اللغة والنحو والصرف ووجهته إلى الاهتمام بابـن جني، فلماذا العناد والمكابـرة؟.
كتب اللغة التي ألفها المرحوم التهامي نقرة ومن معه بقيت تدرَّس إلى ثمانينات القرن الماضي ليقع تعويضها بكتب أخرى ألفها أحد تلاميذ عبد القادر المهيري وبما أن (هذا العريِّف من هاك الشجرة) كما يقول المثل العامي البليغ حفلت هذه الكتب بشناعات وفظاعات لا عدّ لها ولا حصر أتى عليها الأستاذ محمد المختار العـرباوي في دراسة هامة له عنوانها "وضع لغتنا من خلال كتب اللغة بالثانوي" نشرت سنة 1991 كشف فيها العيوب الكثيرة والخطيرة التي لا تخلو في بعض الحالات من تشويه اللغة كما قال العـرباوي في طالعة كتابه.
والذي نخلص إليه من كلّ ما ذكـر أعلاه أن ما سمي "الخلاف الـزيتوني الصادقي" هو في حقيقته استغلال لخصومة سياسية بين بورقيبة وابـن يوسف قصد بها تمرير مشروع "تربوي" استهدف القضاء على ذاتية الأمة وانتمائها إلى الفضاء العـربي الإسلامي بتشويه لغتها وتخريب ذاكرتها وتخوين رموزها، قال الأستاذ الجليل سي محمد اليعلاوي :"ولا أزال أدعو الجيل الصاعد إلى الحفاظ على العـربية لأنها مفتاح تراثنا القديم وحتى الحديث فإذا أهملنا العـربية وجنحنا إلى لغة (موش نرمال) فإننا نقطع علاقتنا مع نجيب محفوظ ويحيى حقي والكتاب الجزائريين والمغاربة والخليجيين وإلى غير ذلك علاوة على قطع العلاقة بالقرآن الكريم والحديث النبوي وهذا إثم كبير"(39).
في موقع آخر ممّا سوّد يعود الحمامي إلى التهوين من شأن الـزيتونة وأبنائها يقول:"لقد اشتركت دراسات التقليديين في تونس في التعبير عـن جلّ القضايا التي تناولت الفكر الإسلامي في العصر الحديث بالدرس وتداخلت دراسات التقليديين خريجي الـزيتونة بدراسات الجيل اللاحق لهم من أكاديمي الكلية الـزيتونية للشريعة وأصول الدين وتشابهت أساليب الطرح ومناهج المعالجة، ولم تفرز مدونة هذا الفكر على غزارتها أطروحة ذات شأن أو عَلما فذا باستثناء الشيخ محمد الطاهر ابـن عاشور الذي كان تواصلا للفكر الإسلامي الكلاسيكي لحظة ازدهاره"(40). هكذا بجرّة قلم واحدة يلغي الحمامي تاريخ تونس الثقافي ويقرِّر أن المدوَّنة التونسية لم تفرز علما باستثناء الشيخ محمد الطاهر ابـن عاشور الذي لم يُمثل إلا تواصلا للفكر الكلاسيكي فحسب.
لو قيل هذا الكلام في مجلس نميمة لهان الأمر أمَّا أن يُدَوَّن في أطروحة ويُعرض على لجنة ورغم ذلك يمرّ ويذاع بين الناس بهناته وعلاته فذلك ما يحتاج إلى ردٍّ نحتكم فيه إلى المعرفة والتاريخ.
عرفت المدوّنة الفكـرية التونسية في القرن العشرين صدور عدد من الكتب التي لا يمكن لأي باحث أن يتجاوزها أو يغفلها في أيّ دراسة جادة لأنها جماع الشخصية التونسية مختزلة في مؤلفات كتبها روّاد النهضة ممّن لن يمحو التاريخ ذكرهم وكلهم تخرجوا في الـزيتونة وعاشوا في رحابها وتتلمذوا لشيوخها وهي التالية:
1) "تونس الشهيدة" للمرحوم عبد العزيز الثعالبي وهو أوّل بيان سياسي وفكـري يتحدث بوضوح وجلاء عـن الذاتية التونسية وعـن وطن يجهد من أجل التحرّر والانعتاق، لمّا وقعت منه نسخة بين أيدي الزعيم الحبيب بورقيبة قال:"لقد أخفيت الكتاب تحت غطائي وأنا متأثر شديد التأثر فاطلعت على ما احتواه من أرقام وما تضمنه من معلومات حول الأموات والفقر وشعرت بالإهانة الناتجة عـن الاستعمار وكنت أبكي خفية"(41).
2) "أليس الصبح بقريب" للمرحوم الشيخ محمد الطاهر ابـن عاشور وهو الكتاب الذي عرض فيه فلسفته في التربية وإصلاح التعليم وسبل النهوض به.
3) "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي وهو الديوان الذي احتفى النقاد والشعراء بصاحبه منذ بداياته لأنه مثل ظاهرة فريدة في الشعر العـربي الحديث ما زال الاهتمام بها متواصلا لحدِّ الساعة ولأنه جدّد في اللغة وفي مضامينها وترك أثرا بَيِّنا في الشعر العـربي المعاصر وفي كلّ الشعراء الذين أنجبتهم تونس.
4) "العمال التونسيون" و"امرأتنا بين الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد وهو من هو في مجال الإصلاح الاجتماعي حيث مثل مؤلفاه مصدرا أساسيا لا غنى عنه في التأريخ للحركة العمالية وفي الدعـوة إلى النهوض بالمرأة.
5) "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" للمرحوم محمد الفاضل ابـن عاشور وهو الكتاب الذي وضع فيه الشيخ المحاور والركائز التي تقوم عليها الحياة الثقافية في تونس ويُعَدُّ أوّل عمل تنظيري للفكـر التونسي في القرن العشرين.
جملة هذه الكتب الستة تمثل في تقديرنا أهمّ ما صدر في تونس في القرن العشرين وتقدم أبرز المشاغل الفكرية والوجودية وسبل الإصلاح والنهوض بالأمة، وهي لهذا السبب بالذات بقيت حيَّة في وجدان شعبها وتواصل تأثيرها في فضائنا الثقافي، فرغم الحقد والكراهية والضغينة التي يحملها أعداء الـزيتونة لأبنائها ورغم محاولاتهم المستميتة في الإساءة إلى الرموز بافتعال المواقف المشبوهة ونسبتها إليهم فإن التاريخ أنصفهم بدوام الذكر وأنصفهم بما نُشر في العشر سنوات الأخيرة من مذكرات ومن أطاريح أعدّها ونشرها الخيرة من أبناء الجامعة التونسية.
ولسائل أن يسأل الحمامي ومن لفّ لفـّه أن يذكر لنا عنوانا واحدا امتلك حضورا في الذاكرة الجماعية يضارع حضور الكتب التي ذكرت أعلاه؟.
قد يقولون السد لمحمود المسعدي ودليلنا على ذلك إلحاحهم على ذكر مؤلفه والإشادة به بمناسبة وبدونها وطبع أعماله الكاملة، فهل فيما ترك المسعدي ما يؤهله لاحتلال موقع متقدم في المدوّنة الفكرية التونسية؟.
أذكر ونحن ندرس في التعليم الثانوي أن امتحانات مادّة اللغة العـربية في الباكالوريا كانت تشتمل في كلّ سنة على ثلاثة مواضيع أحدها تحرير مقال عـن المسعدي وكنا أيامها مبهورين برواية السد إذ كانت عصيَّة على أفهامنا لغموض معانيها التي كنا نتصوَّرها تفلسفا ولتكلـُّف في أسلوبها الذي اعتقدناه منتهى التأدُّب، تلك هي الصورة التي انطبعت في الأذهان الغضّة، ولكن بعد أن تقدّم بنا العمر واتسعت الآفاق واغتنت التجربة وصقل اللسان والقلم عدت إلى المسعدي فيما نُشر من أعماله الكاملة سنـة 2003 وأعدت القراءة بتمعّن وتفحّص لتنقلب تلك الصورة الباهتة عنه إلى ظلال من الشك والريبة حول الأسباب التي تدفع إلى إدراجه في برامج دراسية تصوغ عقول الناشئة؟ وبيان ذلك أن المسعدي رغم الهالة التي أحيط بها فإننا لا نكاد نجد له ذكرا خارج برنامج الباكالوريا وخارج الكتب شبه المدرسية التي يعدّها الأساتذة استنادا إلى جذاذات الدرس فالطبعة الأولى لرواية السد صدرت سنة 1955 لم تنفذ من الأسواق إلا بعد عشرين سنة كاملة وبعد أن أدرجت في البرامج الرسمية للتعليم لتصبح بذلك من بين الأدوات المدرسية التي يطالب التلميذ باقتنائها في بداية كلّ سنة ولهذا السبب بالذات صدرت الطبعة الثانية سنة 1974 لتتوالى بعد ذلك الطبعات فهل في ذلك ما يدلّ على أن:"محمود المسعدي من أهم أعلام الأدب العـربي الحديث"(42).
في حديثه عـن مقال نشرته مجلة الفكر للشاذلي القليبي عـن السد في عددها الخامس سنة 1956 يقول البشير بـن سلامة:"ويظهر من سياق الكلام أنه نقد لاذع لهذا العمل الجديد وقيل الكثير عـن هذه الرواية في الكواليس استنكارا للغتها الصعبة القديمة ولعسر فهمها ولكنّ مكانة محمود المسعدي وهو أستاذ النخبة من المدرسيين... ودخول حلبة النقد طه حسين... والأصوات العالية في مجال الأدب آنذاك حدّ من النقد وأصبح ما عرّض به الأستاذ القليبي مجرّد همس تضاءل بمرور الزمن ولم يبق إلا التنويه... وأصبح كتاب السد وحدث أبو هريرة وغيرهما بمثابة الآثار المقدسة الجديرة بالتبريك ولا مجال فيها للنقد بل هي حَوَت كلّ شيء ولا يمكن للتلميذ الذي يجتاز الباكالوريا الفوز في امتحان مادة الأدب إذا عجز عـن ترديد ما لقن، ولم يعلم الذين أجازوا ذلك أنهم أساؤوا لمحمود المسعدي وللأدب التونسي والعـربي عامة وأخطؤوا تكوين التلامذة التكوين الصحيح وابتعدوا عـن النزاهة الفكرية والنقد العلمي. ولطالما كنت أسأل نفسي لماذا اكتفى الأستاذ القليبي بالجزء الأوّل من مقاله ولم ينشر البقية، وان لم أكن مخطئا لعلّ الظروف العاتية هي التي منعته من ذلك"(43)، هذه الظروف العاتية نفسها دفعت الأستاذ الحفناوي الماجري إلى طبع كتابه "المسعدي من الثورة إلى الهزيمة في حدث أبو هريرة قال" على نفقته بعد أن تـهيَّـب الناشرون ذلك لأن المسعدي أيّامها كان يحتل مراكز عليا في السلطة كما يقول الأستاذ أبو القاسم محمد كرو(44). بعد صدور حدث أبو هريرة انتظم حفل بالنادي الثقافي أبي القاسم الشابي تحدث فيه عدد من الكتاب وقد كان الأستاذ أبو زيان السعدي حاضرا يقول في شهادته:"ولكني أذكر جيدا أنه بعد أن فتح باب النقاش والأسئلة والحوار وتقدم الأستاذ محمود عبد المولى بأسئلة فيها اعتراض وإثارة كيف هبَّ أنصار المسعدي معترضين وصاخبين"(45).
إن الناظر في أسلوب المسعدي في الكتابة يلحظ أنه فيما يكتب يتكلـّف في اختيار ألفاظه ويستعمل الغموض الذي لا يُسلم إلى أيِّ معنى مباشر أو رمزي وهو غموض انتقل إلى الأستاذ محمود طرشونة لمّا أراد وضع عناوين لمقالات تركت غفلا فجاءت هذه العناوين هي الأخرى معبِّـرة عـن غموض النصّ والتباسه، من ذلك "مسؤولية الاضطلاع بالحياة"(46) أو"وحدة الوجهة أن تكون غايتك ثقافية محضة"(47) أو"دور الثقافة في إقامة نظام عالمي جديد"(48) وهو عنوان لنص كتب سنة 1945 إبان الحرب الباردة ونشر في المباحث ولم يكن يدور بخلد أحد أيامها أن هناك نظاما عالميا جديدا لم يظهر إلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أواخر القرن الماضي، ومن بين ما جاء فيه تعـريف المسعدي للثقافة بأنها:"نتاج الفكر البشري الشامل عندما يحاول استخلاص نتائج مغامراته الدامية، هي النظرية التي ينتهي إليها العالم بعد التجربة المليئة بالمصاعب والأخطار، هي قوة الروح التي تتغلب على المادة وعلى التجربة والواقع..."(49) وهو تعـريف لا نظير له ولا شبيه فيما نعلم، هذا الغموض الذي عُـرف به المسعدي أشار إليه طه حسين في مقاله القصير بقوله:"والأثر التونسي الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم قصة تمثيلية رائعة ولكنها غريبة كلّ الغرابة... وحسبك أني قرأتها مرتين ثم احتجت إلى أن أعيد النظر فيها قبل أن أملي الحديث وهي بالأدب الجد عسير أشبه منها بأي شيء آخر... وكم كنت أتمنى أن تكون لغة المؤلف أيسر شيئا ما ممّا هي... فأضاف عسير اللفظ إلى عسير المعنى وعسير الأسلوب... شعر كلها ولكنه شعر غير منظوم... وهو إلى الشعر الفرنسي المطلق أدنى منه إلى أي شيء آخر."(50)، هذا التقييم يُـقـدَّم في صورة إطراء للسد وإشادة بمعانيه الغزيرة والحال أن طه حسين قصد العكس تماما ولأنه من صنف الرجال الكبار الذين لا يصدمون الآخرين بآرائهم مهما كانت شديدة وقاسية بل يعبرون عنها بلطف وتواضع لا يجرح السامع نسَبَ سوء الفهم لنفسه.
وقد ذكرني قول العميد ببيت لابـن الرومي جاء فيه:
ليس به عَـيْـبٌ سِوى أنـَّــ ***ــه لا تقعُ العَـيْـنُ عـلى شِـبْـهـه
فهل يمكن أن يُصدِّق عاقل أن طه حسين إمام اللغة ومجدِّدها وعميد الأدب العـربي وأحد أبرز الكتاب باللسان العـربي لم يفهم ما كتب المسعدي؟ إذ لا يخلو الحال من أمرين إما أن الخلل موجود لدى طه حسين الذي لا يحسن القراءة أو الفهم وهو أمر نستبعده تماما أو أنه موجود في كتابة المسعدي ذاتها وهو ما نرجِّحه خصوصا وإن دلائل كثيرة تؤيِّد هذا الذي ذهبنا إليه.
ومن الجدير بالملاحظة أن محمود المسعدي راسل طه حسين بخصوص كتابه حدث أبو هريرة قال أربع مرات فيما بين سنتي 1947 و1949 طالبا رأيه ومساعدته على نشره في مصر إلا أن العميد أهمل الردّ عليه وفي ذلك ما ينبئ بحقيقة تقييم العميد لأسلوب المسعدي في الكتابة وأثناء الإعداد لرحلته إلى تونس كتب نصي مجاملة نشرا في جريدة الجمهورية الأوّل قبل وصوله بأربعة أشهر والثاني بعده بيوم، والذي نخلص إليه أن المسعدي اتصل بالـردّ على رسائله الأربع بعد ثماني سنوات وعلى كتاب آخر!!!.
لمّا جاء طه حسين إلى تونس وقام بالعديد من النشاطات التي جمعها الأستاذ أبي القاسم محمد كرو في كتاب (51) كان ذلك بدعـوة من وزير التربية آنذاك المرحوم الأمين الشابي للإشراف على امتحان السنة الأولى من شعبة اللغة والآداب العـربية بدار المعلمين العليا وما أن عُيِّن المسعدي سنة 1958 وزيرا للتربية حتى دعا المستشرق ريجيس بلاشير للإشراف على امتحانات شعبة الآداب(52) وفي هذه الدعـوة ما يغني عـن كلّ تعليق.
وفيما يلي شهادة المرحوم جعفر ماجد رواها في مذكراته متحدثا عـن المسعدي ورأيه فيه وفي مدى معرفته للغة العـربية نثرا ونظما، علما بأن شهادة المرحوم عصيّة على النقاش فضلا عـن الردّ لأن صاحبها شاعر أي إنه من صنف أولئك الذين امتلكوا ناصية اللغة بكلّ علومها واكتسبوا القدرة على الإحساس بمواطن الجمال والقبح فيها ممن عزَّ نظيرهم اليوم، يقول:"كان بين أيدينا، نحن أساتذة العـربية، كتاب من منشورات الديوان التربوي التابع للوزارة، ندرِّب تلامذتنا على شرح نصوصه المعدّة أساسا لتلاميذ التعليم الثانوي الذيـن سيتولون تعليمهم بعد التخرج. والكتاب مَحشوٌّ بكمية وافرة من نصوص المسعدي المختارة بعناية من أدب الوزير. وصادف أن زارني في ذلك اليوم وأنا بصدد شرح أحد نصوصه فألهمني الله الوقوع على استعمال لغوي رديء في ذلك النص، تشبثت به كمن ظفر بصيد واخترقت ذلك النصّ طولا وعرضا وأمعنت في التشنيع عليه، فكظم غيظه وبعث مدير المعهد الحاضر إلى جانبه للإتيان بـ(لسان العـرب) والمدير المسكين لا يعلم ـ وهو أستاذ في العلوم الطبيعية بعيد عـن اللغة العـربية وآدابها ـ أن هذا المعجم يقع في عدّة مجلدات لا يمكن جلبها إلى القسم، وهو لم يسمع به قط، فخرج يردِّد اسمه في طريقه إلى المكتبة كما ذكر لي أحد الزملاء الذين اعترضوه في ساحة المعهد وهو يتمتم (لسان العـرب... لسان العـرب...) خشية أن ينساه. وأدرك الوزير أنه كلف المدير بمهمة مستحيلة، فغادر القاعة قبل رجوعه دون أن يكلمني وانصرف. وبعد الظهر، ذهبت إلى مكتبة بوسلامة بشارع فرنسا حيث كنا نلتقي، مجموعة من الصّحاب، فقال لي صاحب المكتبة إن المحجوب بـن ميلاد وكان من روّاد المجلس، قد غادر منذ حين وكلفه بإعلامي أن الوزير الذي زارني في الصباح لم يعجبه إفلاتي من قبضته، وأنه سيعيد الكرّة خلال الأسبوع. ولم تمض ثلاثة أيام حتى عاد الوزير في حصّة بعد الظهر، في نشوة ظاهرة، ومن سوء حظه أن كان الدرس في مادّة العروض التي لم يكن يمتلكها فيما أزعم... وفي أصعب بحر من بحور الخليل وهو المنسرح. وكان أحد الطلبة مكلفا بالقيام بعرض في هذا الموضوع، وأنا جالس في آخر القسم أتابع سير الدرس. فلم يصبر الوزير على الاستماع، لأنه جاء لغرض محدّد، وانطلق كالسهم إلى جانب السبورة ليهاجم الطالب المسكين، وأنا في قرارة نفسي أسعد ما أكون بهذه الصدفة التي وضعته أمام رهان خاسر... مهما كان إصراره على المكابرة، لأن العروض مجال قوَّتي ومرآة ضعفه... ولأنه في هذه المواجهة هو الطرف الضعيف. فتركته يستعيد هدوءه، ثم تقدمت بتؤدة لأشكر الطالب على ما قدّمه من جهد عـن أصعب بحور الشعر، يتجنبه حتى فحول الشعراء، (وقد علـّمه محمد مزهود للشاذلي عطاء الله وهو من هو الذي عجز عنه ، بالتحيّل على مخلـّع البسيط فيما ذكر لي) فخرج الوزير وعلامات الغضب بادية على وجهه وسألني عـن (المستوى) بصورة عامة فقلت له متعمدا إثارته بلهجة الواثق (رديء)، فأمر المدير بإعداد لقاء مع الأساتذة لم يتمّ قط... وتحدث الناس بالزيارتين... وكفى الله المؤمنين شرّ القتال..."(53).
أما الأستاذ علي العزيزي الذي أعدّ أطروحة الدكتوراه عـن أدب المسعدي فإنه يقول:"لقد ندمت ندما كثيرا على القيام بشهادة الدكتوراه حول محمود المسعدي لأنه تبين لي أن عددا كبيرا من النقاد والمدرسين قد استفادوا من هذه الشخصية وتسلقوا السلم الاجتماعي بسرعة فائقة وتركوا عقدة تسمى عقدة المسعدي فكأنه لا يمكن لأي كاتب تونسي أن يقدم كتابات تفوق كتابات المسعدي الذي مكنه مركزه السياسي سابقا من الرفع من مستوى تآليفه"(54).
اليوم وبعد مرور نصف قرن على الاستقلال وبعد غياب أغلب شهود المرحلة إلا قلة نتمنى لها طول العمر وندعوها إلى الإدلاء بشهادتها تصحيحا للأحداث وإذكاء للذاكرة لا مندوحة عـن العودة إلى تحديد المسؤوليات والأسباب التي أدّت إلى وقوع مظلمة تاريخية طالت عددا لا يستهان به من أبناء الوطن ممّن حُرموا من فرص التعلم ومُنعوا من الارتقاء وأطردوا وطوردوا ووصل الأمر إلى حدود تجويعهم وتجويع صغارهم بافتعال "خلاف صادقي زيتوني" هو في حقيقته حرب شنها المسعدي على لغة الأمّة وتاريخها وروحها مستهدفا الرموز والشخوص التي تمثلها مستخدما كلّ الوسائل والأدوات خصوصا بعد أن عُـيِّـن وزيرا للتربية طوال عشرية كاملة أتى فيها على الأخضر واليابس، وبدل أن يتوب "المسعديّون" ويعترفون بفداحة الجرم الذي أتوه في حق الوطن وأبنائه ومؤسّساته يُصرُّ البعض من تلامذتهم على مواصلة نفس النهج بذات الأساليب ولكن هيهات.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: