د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 13925
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المقدمـــة
بعيدا عن الصراعات السياسية والحزبية، نرى أنّ الوقت قد حان للمثقفين والأكاديميين وأصحاب الرأي أن يبدؤوا متجاوزين الوضع الثوري في تونس، مستغلين أرضيته الوجدانية التأليفية، للانكباب على أمهات القضايا التي لا تزال تؤرق المجتمع والدولة على حدّ سواء. على هؤلاء جميعا الشروع في تخزين نشوة الانتصار على القهر والظلم في الذاكرة الجماعية للتونسيين من ناحية والاستباق فترة ترتيب الانتخابات التأسيسية من ناحية أخرى. الواجب الوطني يحتم علينا التأهب للانطلاق باتجاه المستقبل، مثقلين بأزمة عامة، شملت كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي مقدمتها أزمة البطالة وتعثر حلول التّشغيل.
الثورة قطع مع كل سلبيات الماضي وفي طليعتها سياسة الارتجال وإصلاح الخطأ بالخطأ التي شكلت رافعة العمل السياسي أيام النّظام الفاشي/الفاشل ومحور خطابه الرّسمي، المنّمق/المُضَلِلِ، القائم على وسائل بروبغندا هجينة.
قبل اندلاع الثورة بأشهر قليلة، أطلقت السلطة حملة دعائية لنشر مفهوم التّشغيلية في الأوساط الشعبية، باعتباره حلاّ سحريا لمعضلة البطالة عموما وبطالة حاملي الشهادات الجامعية خصوصا. لهذا الغرض جنّد النّظام آنذاك، طاقات عديد الإعلاميين والآكادميين للتّرويج لهذا (المفهوم/المعجزة).
انتابني إحباط عميق وشعور أعمق بالجهل، عندما حاولت تحديد التّشغيلية كمصطلح لغوي، قبل التّطرق لدلالاته السوسيولوجية وخلفياته الإيديولوجية وأبعاده السياسية والإجرائية… فكان عزائي أنّي بشر محدود العلم، قاصر المعرفة، لقوله تعالى: " … وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"[1]. وليس من العيب أن أكون جاهلا، لأن علمي نسبي، منقوص مهما اكتمل " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"[2]، لكن العيب أن أظل جاهلا. لتدارك تخلفي المعرفي، انطلقتُ في رحلة البحث عن معنى التّشغيلية، فأصابتني خيبة أمل كبيرة لخلو معاجم اللغة العربية من المصطلح، فاستنجدت بقواميس اللغة الفرنسية، ففوجئت بأن كلمة "employabilité" لم تضمها دفّات مراجعها اللغوية.
من أين خرج علينا هذا المفهوم المبهم ومتى؟ ما هي دلالته الإبستيمولوجية ومن يدركها؟ في أي بلدان الدنيا يتمّ استعماله وكيف؟ أسئلة عديدة لا تكاد تنتهي، سنحاول الإجابة عليها موضوعيا، دون تحيّز، أقدمها مختصرة للقارئ الكريم حتى يستوعب المفهوم في بعديه النظري والإجرائي ويتّبين إيجابياته وسلبياته على المجتمع التونسي.
التّشغيلية في التصورات الاجتماعية التونسية
للكشف عن مدى إدراك المجتمع التونسي للتّشغيلية وتحديد مكانتها في تصوراتنا الاجتماعية، المحدّدة لطريقة تعاملنا معه، قمنا ببحث ميداني دام ثمانية أشهر ضمّ عيّنة عشوائية من مائة فرد، تركنا للصدفة تكوينها. اشتملت عيّنة البحث على الجنسين من كل الشرائح الاجتماعية والثقافية من طلبة وأساتذة وأطباء وموظفين، يلخص الجدول الواصف التالي تركيبتها:
خلافا لمنهج البحث السوسيولوجي، سأقدم الدراسة الميدانية عن النّظرية وذلك لتوقف الجزء الميداني أمام عجز أفراد العيّنة عن تعريف التّشغيلية. نوجز الأجوبة فيما يلي:
1/ انقسمت الأجوبة إلى ثلاثة مجموعات اختلفت في الشكل وتوحدت في المضمون كما سجلنا إجماع المستجوبين %100 حول حداثة المفهوم ومنشئه الغربي.
2/ التقى المجموعات الثلاث بنسبة %100 في عدم الفهم الصحيح لمفهوم التّشغيلية.
3/ عّرفت نسبة %10 التّشغيلية على أنها تساوي حظوظ الجميع في التشغيل.
4/ مجموعة بنسبة %30 قدمت تعريفا عكسيا للمفهوم، حيث اعتبرت التشغيلية تحقيق التشغيل الكامل.
5/ المجموعة الثالثة والأخيرة ونسبتها %60 لم تتمكن من تعريف المصطلح لعدم سماعها عنه من قبل.
عند هذا المستوى توقف البحث الميداني و أصبح بالتالي الاستمرار في إلقاء الأسئلة ضربا من العبث الذي لا جدوى ترجى من ورائه.
مأتــى التّشغيلية
أمام عجز الفكر الغربي عن ابتكار حلول ناجعة لتحقيق التشغيل الكامل، لجأ إلى إحياء مصطلح قديم استعارته التايلورية من القاموس العسكري للتّمييز بين من يستجيبون لشروط التجنيد من الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. اقتبس "تايلور" مفهوم (قابلية التجنيد) ليطبّقه على جيوش العاطلين، المتقدمين للعمل بمصانعه. سحب الغرب فكرة "قابلية التجنيد" على سوق الشغل، فحوّلها إلى "قابلية التشغيل" محاولا دمرقطة سوق الشغل ومساواة حظوظ العاطلين أمام الشغل. أتى المفهوم مفعما بروح الإقصاء الاجتماعي والتّمييز العنصري، بتعمدّه تفضيل العمالة الوافدة من بلدان شرقي أوروبا إلى غربيّيها بعد أن انضمت تلك الدول إلى السوق الأوروبية المشتركة على العمّال المهاجرين خاصة المغاربيين.
الدلالات اللغوية للتّشغيلية
يجمع الباحثون المهتمون بدراسة مفهوم التّشغيلية، على صعوبة تعريف المصطلح من الناحية اللغوية، لاقتصار استعماله بين الصّفوة وبين أهل الاختصاص دون غيرهم. فالمصطلح لغة، غير متداول على الألسن، حتى يحظى بعناية القواميس والمعاجم الكلاسيكية. لم يكن هذا شان الموسوعات الإلكترونية الحديثة التي يجري تحيّينها باستمرار، فهي تقدّم تعريفات شبه موحدة للتشغيلية، التي تعرفها موسوعة (Universalis.fr) " القدرة الشخص على الالتحاق بعمل جديد"[3]، ويعرفها القاموس الإلكتروني (Larousse.fr) على أنها " قدرة الشخص في المحافظة على شغل أو عثوره سريعا على موطن عمل"[4].
من الملاحظ تأكيد هذين التعريفين على الجانب الحركي أو الديناميكي للكلمة، من حيث هي سلوك موجه نحو سوق العمل. لذا، تبقى التّشغيلية على المستوى اللغوي مفهوما مجردا، يغلب عليه الغموض والضبابية، الذين يلازمانه حتى في الاستعمالات السياسية و/أو الاقتصادية، أما الناحية الاجتماعية، فما زالت تتطلب من الباحثين الكثير من الجهد والعناء لتوضيح المعاني والأبعاد السوسيولوجية لهذا المصطلح. فتح غياب الدّقة الإبستيمولوجية للمفهوم الباب أما استعمالات مختلفة باختلاف البلد، متنوعة بتنوع الجهات؛ متقاربة في المعنى حينا ومتباينة أحيانا أخرى، محدثة فوضى فكرية شبه تامة. لقد رصدنا استعمالات متباينة أو ربما متنافرة لمفهوم التّشغيلية، من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى ثقافة.
التّشغيلية عند الكنديين
حاول الباحث الكندي "جون مارك فونطن" ربط التشغيلية بالعولمة، فقدّم للكلمة تعريفا وظيفيا، أقامه على العلاقة الجامعة بين الظاهرتين الاجتماعيتين الحديثتين، المميزتين لسوق الشغل في الزّمن الرّاهن، فيقول بشيء من الغموض: « تشير التشغيلية عموما إلى جملة من العوامل/الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الفرد، كي يتمكن من دخول سوق شغل معولمة، يحدّد معالمها مفهوم التشغيلية...»[5]. ثم يستدرك لتوضيح ما يقصده بالعوامل/الشروط بتصنيفها إلى صنفين رئيسيين. ربط الصنف الأول بذات الشخص «... مثل السّن، اللياقة البدنية والصحة العقلية، درجة التّعليم وتنوع الشهادات العلمية بتنوع التخصصات، مستوى التّدريب المهني والخبرات السابقة المتحصل بما يؤهله ولوج سوق الشغل...»[6]. أما الصنف الثاني من العوامل/الشروط، فألصقه بالجوانب النفسية من ناحية والظروف الاجتماعية للفرد من ناحية ثانية " يتعلق الصنف الثاني بالوضع النفسي والاجتماعي لهذا الشخص أو ذاك والدّافع الذي يدفعه للعمل وموقفه الشخصي من الشغل ومجموعة القيم الاجتماعية التي نشأ عليها، لتحدّد مجتمعة، صورة طالب الشغل. لقد أصبح على الذين يواجهون التوظيف، التّعريف الاجتماعي بذواتهم المعولمة..."[7].
يتجاهل ""فنوطن" ساهيا أو متعمدا دور المُشَغِل ومسؤوليته إزاء طالب الشغل، الذي يقف (موقف "المومس" المتجملة، الواقفة على الرّصيف للإيقاع بباحث عن متعة). فقد يحصل طالب الشغل، المستوفي لكل العوامل/الشروط وقد لا يحصل على موطن شغل، فمسألة التشغيل أصبحت رهينة مقاييس ومعايير، تحجبها التشغيلية عن العين المجردة، حسب تعقيب "فونطن" نفسه: "... إن الاستجابة لشروط التّشغيلية لا يعني الحصول الآلي على موطن شغل، كما أنها، أي التّشغيلية لا تجبر المؤسسة على التّوظيف الفوري. فالتّشغيلية ليست مرادفا للشغل، كما أن القابلية أو التأهيل للعمل لا يعني العمل في حدّ ذاته..."[8]. لقد عبّر "فونظن" بكل وضوح عن النّزعة النيو- ليبرالية، التي تتحكم فيها أهواء أرباب العمل في معزل عن حاجيات سوق الشغل أو مخططات الدول. لقد أسست التّشغيلية، حسب تعريف هذا الباحث لطرق انتداب وتوظيف، تتقدم فيها النّواحي الذاتية على الموضوعية؛ نتيجة تخلّي الدولة عن الاضطلاع بدورها الاجتماعي، التقليدي في بعث مواطن الشغل وتقلّيص وظيفتها السياسية بتحقيق التوازن بين القطاعين العمومي والخاص. لقد أتاحت الدولة "المقزّمة"، للخواص فرصة التّحكم في الرّقاب وتوجيه مسارات الأفراد والجماعات، في انحياز تام لمصالحهم ودفاعا عن امتيازاتهم وضمانا لتفوقهم الاقتصادي والاجتماعي. تحالف استراتيجي بين السياسة والمال، يؤمن ديمومة الوضع الاجتماعي القائم "Le statu quo social" ينعم فيه السياسي بسدّة الحكم ويتربع فيه الرأسمالي على قمة التركيبة الطبقية للمجتمع.
من التعريفات التي قدّمها الكنديون لمفهوم التّشغيلية قولهم هي " القدرة النّسبية لدى الفرد للفوز بشغل مَرْضِيٍّ، نتيجة التّفاعل الحاصل بين خصائصه الشخصية من ناحية ومقومات سوق الشغل من ناحية أخرى"[9]. يوضّح هذا الباحث العلاقة القائمة بين التّشغيلية كمفهوم إجرائي يرتبط في نفس الوقت بفئة النشيطين المشغولين وفئة النشيطين غير المشغولين أي العاطلين؛ إذا تعلق الأمر بالأُجَرَاءِ فمفادها " قدرة الأجير على المحافظة على وظيفته أو الحصول على وظيفة بنفس خطته أو أرقى منها داخل مؤسسته أو خارجها". أما إذا كان المعنيون بالتّشغيلية هم العاطلون، الساعون للإدماج المهني، فإنّها تعني " جملة المؤهلات المسبقة التي يجب أن تتوفر في الفرد، لتؤهله أولا للبحث عن عمل، ثانيا تمكنه من الحصول على غايته وثالثا تساعده على المحافظة على موطن شغلها"[10].
التّشغيلية في نظر الأوروبيين
تنقسم التعريفات الأوروبية إلى مدرستين رئيسيتين وهما المدرسة الفردية والمدرسة التفاعلية وبينهما باحثون متأرجحون. يبقى التّردد الأوروبي في التعامل اللغوي والمعرفي مع مفهوم التّشغيلية بين المدرستين؛ بعضهم يقلّل من بُعِدِهِ الإجرائي ومن قابليته في مجال التطبيق الميداني في غرب ليبرالي متأزم وبعضهم الآخر مثل "سيفريد"[*] الذي لم يتوصل في وضع تعريف لمفهوم التّشغيلية، ليبقى متذبذبا بين تعريف المدرسة الفردية بزعامة "ماريو ترونتي" الذي يعتبرها " قدرة الأفراد على إيجاد موطن عمل، لعلاقتها بتعديل مؤهلاتهم من ناحية وارتباطها بفرص العمل التي تتيحها المؤسسة المُشَّغِلَةِ لطالبي الشغل من ناحية أخرى"[11] وبين تعريف المدرسة التفاعلية، التي يترأسها "برنارد جاك فرنسوا غازيي"[•] الذي اتخذ من بعدها الإجرائي ركيزة لتعريفها، فهي " إرادة العامل و/أو العاطل في الحركة وإرادته في تطوير مهاراته المهنية"[ 12]. أما للباحثة والأستاذة "كاترين كروس"[*] فقد فضلت الجمع بين المدرستين، بتعريف التّشغيلية على أنها " قدرة واستعداد الشخص في التّحكم والسيطرة على مختلف مراحل حياته المهنية، باعتباره قوة عمل ومجموعة مهارات مهنية، دائمة التأقلم مع متطلبات سوق الشغل واشتراطاته"[13].
التّشغيلية في منظومة الفكر النيو-ليبرالي
لقد تخطت التّشغيلية حدود التنظير والتصقت بواقع سوق الشغل انطلاقا من نظرية تؤمن بالفرد كفاعل رئيسي، أسموها نظرية الاختيار العقلاني " la théorie du choix rationnel " التي تُحَمِّلُ كل فرد مسؤولية نجاح أو فشل حياته المهنية، إلى جانب مسؤولية الظّفر بموطن شغل أو بعث مورد رزق لحلّ أزمة بطالته وتجاوز إحباطه وكل مآسيه النّفسية والاجتماعية. تمثل هذه النظرية امتدادا وتطويرا لنظرية "الفردانية المنهجية()L’individualisme méthodologique* " التي وضعها عالم الاجتماع الفرنسي "ريمون بودون(•) Raymond Boudon".
في هذا الإطار الفلسفي الذي ضخّم دور الفرد ومكانته في الحياة الاجتماعية وقلّص في المقابل دور الدولة ومكانتها، أصبح من العسير على الفرد الحصول على موطن شغل إلا بامتلاك مهارات وخبرات، تُشْحَذُ وتُنَّمَى باستمرار. إنه قانون المنافسة الرأسمالية، التي تسربت إلى سوق العمل في المجتمعات الغربية بعد تراجع فترة الرّخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي بفعل أزمات الرأسمالية المتلاحقة. لقد خلقت التّشغيلية بوصفها أداة للتّنمية المستدامة ووسيلة لتحسين إنتاجية العامل ودرعه الواقي من الطرد وجواز عبوره لعالم الشغل والعمل، حالة ذِهَانٍ عام « psychose généralisée » أصابت الطبقة الكادحة، خاصة لدى محدودي المؤهلات الذهنية والمهاجرين ممن لم يحصلوا على شهادات علمية ولم يتمكنوا من اكتساب خبرات وقدرات مهنية وإبداعية.
مدلول التشغيلية في العالم العربي واستعمالاته
للتّشغيلية دلالات مختلفة ومتنوعة بتنوع مجال استعمالاتها في الوطن العربي. يعود التباين والاختلاف في هذه المسألة إلى عدم توحد المصطلحات وعدم توحيد دلالاتها من بلد إلى آخر. وأساس الاختلاف استعارة اللغة العربية لمختلف المفاهيم الحديثة من اللغات الأجنبية وترجمتها من الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها من اللغات "الحية". تعاني اللغة العربية في زمن التكنولوجيا من تعقيدات المصطلحات العلمية والتقنية الناجمة عن تطور العلوم ومخرجاتها المتسارعة. لم تقتصر تبعية العالم العربي الرّاهن على الجوانب الاقتصادية والعلمية والسياسية والثقافية، لتبلغ في مداها لبّ الأمة، فانعقد لسانها وتحنّطت لغتها. لا يزال المثقف العبي يلهث خلف تطور اللغات الأجنبية ومصطلحاتها، بترجمات محتشمة، قد تؤدي إلى تحصيل شيء من المعرفة العصرية والتفاعل معها، دون الفعل والتأثير فيها بالإضافة والابتكار اللغوي الذي لا يحصل إلا بالمشاركة في دنيا العلوم والتكنولوجيا وخوض غمار الاكتشافات والاختراعات.
أُعْطِيَ مفهوم التشغيلية في المشرق العربي معاني عديدة ومختلفة باختلاف البلد. ففي الكويت مثلا، يتم استعمال مفهوم التّشغيلية للدلالة على ما نسميه في تونس (ميزانية التصرف Budget de fonctionnement). تستعمل الصحافة الكويتية هذا المعنى في إخبارها عن المناقشات البرلمانية المتعلقة بالميزانية، حيث كتبت تقول: " استكملت لجنة الميزانيات والحساب الختامي البرلمانية في اجتماعها أمس بحث الميزانية التشغيلية لشركة […] للسنة المالية 2010 –2011 " ] 14].
من المعاني المختلفة لمفهوم التشغيلية، ما مفاده (ورقة عمل) أو (جدول أعمال)، وهو مدلول متداول في المملكة العربية السعودية وينشر على الصفحات الإلكترونية لعديد المواقع، نذكر منها ما نشر عن (البرامج التشغيلية) لموقع الفقه الإسلامي مثلا، تحت عنوان: مشروعات الخطة التشغيلية الثالثة لموقع الفقه الإسلامي لعام 2010 " بين يديك أخي القارئ مشروعات الخطة التشغيلية الثالثة لموقع الفقه الإسلامي…"[15]، ليبن النص تفاصيل البرنامج السنوي لنشاط الموقع.
للمصطلح دلالة أخرى في دولة البحرين، حيث يقصد به الميزانية العامة للمؤسسات. ففي خبر عن إحدى الشركات السعودية، كتبت جريدة الوقت البحرينية بعنوان: " [*…](( السعودية تتجاوز خطتها التشغيلية" ما يلي: "نجحت شركة […] السعودية في تجاوز الأهداف الموضوعة ضمن خطة العمل التقديرية لخططها التشغيلية في المملكة… حيث كشفت النتائج المالية للفترة المنتهية في 31 ديسمبر الماضي عن تحقيق الشركة إيرادات تشغيلية قدرها… مليون دولار"[16].
التّشغيلية في تونس
أما في تونس، فللتّشغيلية مدلول مغاير تماما عن باقي البلدان الخليجية. إذ يتم تداوله في الأوساط الصحفية والرسمية التونسية، بنفس المعنى والدلالة المستعملين في أوروبا وعلى وجه الخصوص في فرنسا، دون تحريف عن مقاصده اللغوية والإجرائية. ليس للمفهوم معنى خارج مجال التشغيل باعتباره إستراتيجية حديثة لخروج من أزمة البطالة واستيعاب العاطلين، خاصة منهم القادرين على التعلّم والتأهيل المهني، بفضل ما يتمتعون به من مستويات تعليمية عليا.
في استنساخ سمج، نقف عاجزين عن ابتكار الحلول الملائمة للبطالة بما يستجيب لطبيعة ودرجة تطور المجتمع. غير أن الخطاب الرسمي التونسي (قبل الثورة) بدأ يروّج للتّشغيلية، كحلّ جذري لأزمة البطالة، دون الكشف للرأي العام عن خلفياتها وأعماقها المعولمة. قدمت السلطة التونسية بمساعدة جهات أكاديمية مفهوم التّشغيلية بمعزل عن خلفيته الإيديولوجية. تبنت الدولة طوعا منهج التّشغيلية لتقنين تخليها عن سياستها الاجتماعية "الكلاسيكية" في مجال التشغيل على وجه التّحديد. في هذا الصدد كتب موقع "أخبار تونس" الإلكتروني عن يوم إعلامي حول التشغيلية وإدماج أصحاب الشهادات العليا في الحياة المهنية يقول: « انتظم يوم السبت بالمعهد العالي للتصرف بتونس يوم إعلامي حول موضوع التشغيلية وإدماج أصحاب الشهادات العليا في الحياة العملية بإشراف وزير التشغيل والإدماج المهني للشباب… وأشار إلى تحدى مجابهة طلبات الشغل المتنامية والإضافية والتغيرات الهيكلية التي طرأت على بنيتها مع تطور عدد خريجي التعليم العالي وصعوبات الإدماج بالنسبة لخريجي بعض الاختصاصات سيما منها مجال الإنسانيات مبينا أن رهانات التشغيل خلال الفترة القادمة تتمثل في تجاوز تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية وقد بادرت تونس إلى مساعدة المؤسسات المتضررة وكذلك العمال المسرحين»[17].
قطعت الدولة التونسية أشواطا كبيرة في التّخلي عن سياستها الاجتماعية، تحت ضغوط خارجية وضعتها المؤسسات المالية الدولية المانحة، التي لا تساعد ولا تمنح ولا تقرض إلا من اتبع برامجها الإصلاحية. توالت الإصلاحات بدأً بخصخصة جلّ القطاعات العمومية (المتّعثرة)، كالصحة والنقل والتعليم... فتضخّم القطاع الخاص وتعاظمت أهميته لتتساوى مع القطاع العام حينا أو تتفوّق عليه أحيانا أخرى.
أسس هذا التغيير لِمَ أسميه "الانقلاب على مبادئ الدولة الوطنية"، فالتّشغيلية مكنّت الدولة من التّفريط في جزء هام من ممتلكاتها العامة التي هي ممتلكات المجموعة القومية، بأسعار بخسة للخواص من محلّيين وأجانب.
لقد تخلت السلطة الحاكمة في تونس بشكل من الأشكال عن بعض مجالات السيادة الوطنية وأسقطت معها جانبا كبيرا من شرعيتها، لتقيم على حساب شعبها تحالفا ثلاثي الأطراف مكوّن من "رموز الحكم" وشركائهم في الثروة "رؤوس الأموال المحلّية" و"المستثمرين الأجانب"، تدعمهم المؤسسات الدولية المانحة. تؤكد الوثائق الرسمية للحكومة التونسية التّقدم المتدرج والثّابت للقطاع الخاص في كل المجالات التنموية على القطاع العام، هذا ما تؤكده النّسب المتصاعدة من عشرية إلى أخرى لمساهمة القطاع الخاص في مجال الاستثمار "من سنة 2002 إلى 2006 بلغت نسبة الاستثمار الخاص في الاستثمار الجملي %56.5 ومن 2007 إلى 2011 %63.5 ويتوقّع أن تبلغ النّسبة فيما بين 2012 و2017 %70.0"[ 18].
تونس تتبنى التّشغيلية في بعدها الإجرائي الغربي
تبنّت تونس التّشغيلية على ما هي عليه في فرنسا، وانطلقت منذ نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، تروّج للمفهوم في كل الأوساط الاجتماعية والثقافية. حرص عديد المتخصصين في قضايا التشغيل من سياسيين وكبار الموظفين وأكاديميين، على تقديم التّشغيلية كمخرج وحيد وحلٍّ سحري لأزمة البطالة في تونس. إنها مغامرة غير محسوبة العواقب بالدخول في مرحلة جديدة مما يعرف باقتصاد المنافذ، المتماهي مع مفهوم العولمة وانعكاساتها الكونية الشاملة. تونس الدكتاتورية تمهد لخوض التّشغيلية دون تهيئة شروطها الموضوعية الثلاثة:
أ/ الشرط الأول يرتبط بالفرد من حيث السّن والجنس ومستوى التّعليم والتّخصص العلمي والمهن من ناحية وبمدى إدراكه ووعيه بقدرته على التّكيف مع ضرورات التّشغيل الجديدة، كاستقلالية قراره وأخذه بزمام المبادرة فيما يتعلق بمستقبله المهني، إضافة إلى درجة حسّه بالمسؤولية وقابليته للتّكوين المستمر لاكتساب خبرات جديدة، مغايرة لتخصصه الأصلي من ناحية أخرى.
ب/ الشرط الثاني يتعلق بطبيعة سوق الشغل ودرجة تحرّرها من سلطة الدولة ومستوى انخراط المجتمع في منظومة اقتصاد السوق واندماجهما في منظومة العولمة، بتقدمها التّكنولوجي وتطور بحثها العلمي.
ج/ الشرط الثالث والأخير، فيتصل مباشرة بطريقة تسيّير المؤسسة وإيمانها بالمرونة الداخلية للعمل ومدى استعدادها لمساعدة أعوانها على اكتساب مهارات جديدة إلى جانب تطوير مكتسباتهم القديمة؛ إما للحصول على ترقية داخلية أو للانتقال من مؤسسة إلى أخرى أو للبحث عن موطن عمل في حالة العاطلين و/أو المطرودين.
في غياب الديمقراطية والفردانية المنهجية في تونس، من شأن هذه الشروط "الموضوعية" أن تثير لدى الباحث التونسي الحيرة والتساؤل عن مدى جدواها في حلّ البطالة الهيكلية بشقيها الأفقي والعمودي[*]؟ وهل للاقتصاد الوطني في اللحظة التاريخية الرّاهنة القدرة على تلبية مثل تلك الشروط من ناحية وهل في إمكان طالب الشغل تلبيها والاستجابة لتحقيقها من ناحية أخرى؟ هل ستمضي الدولة في تونس الثورة، بعد الفترة الانتقالية، في نهج تطبيق التّشغيلية قبل القضاء على الإقصاء الممنهج لشريحة الشباب المتّعلم من ذوي الأصول الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة، الذين فجّروا الغضب وتحدوا الموت؟.
الخاتمــــــة
لولا تمرد الدولة الوطنية على التقاليد التونسية واستبدالها مفهوم "مورد الرّزق" الذي ورد ثلاثة عشر مرة في القرآن الكريم وقد انصهر تماما في التصورات الاجتماعية المؤمنة بأنّ الرزق في السماء " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ "[19] وأنّ الله " يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"[20] ، بمفهوم "موطن الشغل" فانتقل التوكل على الله والأنا إلى تواكل جماعي على الدولة في مسألة الشغل بنسبة "%71"[21]. أما اليوم ومجتمعنا في مطلع القرن الحادي والعشرين، مثقل بهموم العولمة، يرزح تحت وطأة ضربات التخلف والشروط المجحفة للمؤسسات المانحة، التي لا تكاد ترضى عن جهودنا التّنموية، حتى تغيّر رأيها فتأمر بإصلاح الإصلاح ومن بعد إصلاح، إصلاح الإصلاح... إلى ما لا نهاية، ترسيخا لتبعيتنا الشاملة، التي أنبأ الله بحدوثها وحذّر من مغبّتها علينا في قوله قال وهو أصدق القائلين " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"[22].
الإحالات
1) سورة الإسراء الآية 85
2) سورة يوسف الآية 76
3) الموقع الإلكتروني لموسوعة "أونيفرسالس".
4) الموقع الإلكتروني لموسوعة "لاروس".
5 (Fontan Jean-Marc. L'EMPLOYABILITÉ. Institut de formation en développement économique communautaire (IFDEC). Montréal. Novembre 1990
6) Item. Fontan Jean-Marc
7) Item. Fontan Jean-Marc
8) Item. Fontan Jean-Marc
) Hubert BOUCHET, Conseiller Économique et Social et Vice- Président de la CNIL (Canada).
REVUE. Partenaire N°3, avril 2006. L’employabilité : Pourquoi ? Pour qui? Comment? Unip (union Inter-Professions enseignement).
) Item. Hubert BOUCHET
) Erwin Seyfried professeur à l'université de Berlin, chaire psychologie-développement de ressources humaines.
9) Mario Tronti Ouvriers et Capital (C. Bourgois, 1977).
Mario Tronti est un philosophe et un homme politique italien, considéré comme l'un des fondateurs de l'opéraïsme(mouvement ouvrier) théorique des années soixante. l'opéraïsme (mouvement ouvrier).
•) GAZIER Bernard Jacques François. Professeur d’économie à l’université Paris1 (Panthéon-Sorbonne).
12) GAZIER Bernard Jacques François: L’employabilité. Concepts et politiques. Institut de Recherche Appliquée en socio-économie, Berlin, 1999.
) Dr Katrin Kraus est maître assistante à l’Université de Zurich; elle s’intéresse aux questions actuelles en matière de théorie de l’apprentissage et aux* conditions cadres sociétales et politiques de la formation professionnelle.
13) Katrin Kraus Employabilité, un nouveau concept clé. Revue : PANORAMA 6|2007.
*) الفردانية المنهجية. هي نظرية سوسيولوجية تعتبر الفرد أصل كل ظاهرة اجتماعية ضخمت دور الفرد في الحياة الاجتماعية وتجاهلت أهمية تأثير المعتقدات في الفعل الفرداني. منذ سنة 1990، عمل "بودون" على تعديل نظريته بمفاهيم مثل العقلانية الأخلاقية والعقلانية المعرفية للحدّ مما أسماه بالعقلانية الفاعلة.
•) Raymond BOUDON est un sociologue français né 1934 àParis ? il est le chef de file du courant de la « théorie du choix rationnel ».
14) جريدة الرأي الكويتية: 4أغسطس 2010.
15) 5-11-2010 www.islamfeqh.com
*) اسم شركة تمّ حذفه
16) جريدة "الوقت" اليومية:24 - 02- 2009
17) أخبار تونس14 مارس 2009 موقع www.akhbar.tn
18) وزارة التنمية والتعاون الدول.2006 الوثيقة التوجيهية للمخطط الحادي عشر2011-2007 المجلد 2 المحتوى القطاعي.
*( الشق الأفقي للبطالة يشير إلى انتشارها في كل الشرائح الاجتماعية، أما شقها العمودي فيشير إلى بلوغها أعلى مستويات التعليم من الابتدائي إلى العالي
19) سورة الذّاريات الآية 22
20) سورة البقرة الآية 212
21) www.africanmanager.com Tunisie : Le chômage serait-il sur le déclin? 28/092009
22) سورة البقرة الآية 120
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: