د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6585
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نحن شعب يفكر بقلبه لحد الوريد وبعاطفته إلى حد النخاع ... ولكن الآن ليكفي ...!
نسمع بين الحين والآخر من يدافع عن هذا الحاكم أو ذاك عندما يسمع عن إصابته بأمراض، أو بجروح، أو عندما يقف ذاك الحاكم يبدي التفهم والمسكنة ويثير مشاعر التعاطف، نعم هو محشور، ومزنوق .... على حافة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي .... وهو أمر محزن لنا دون ريب أن يحاكم قادتنا المبجلون كمجرمي حرب وإبادة، ولكن ترى من وضع نفسه في هذه الحشرة أو الزنقة ..؟ لماذا جعلوا منا مسخرة الدنيا، مأساتها وملهاتها معاً ...
نقرأ في الصحافة الأوربية أن رئيساً لدولة عظمى، أشتعل لبلاده دون هوادة عقود طويلة، يحاسب ويحال لمحكمة لأنه تصرف بإيجار شقة فحسب...! وهذا أمر يفعله نقيب في الأمن أو المخابرات في بلداننا، ولكني أتحدث هنا عن جاك شيراك عمدة باريس عمدة لباريس لمدة 18 عاماً من 1977 إلى 1995. وتولى رئاسة وزراء فرنسا مرتين: الأولى من 27 أيار 1974 إلى 26 آب 1976، والثانية من 20 مارس 1986 إلى 10 مايو 1988 وأنتخب رئيس جمهوريتها لدورتين: في 1995 وجدد له في 2002، انتهت رئاسته بتاريخ 17 مايو 2007، يحاسب على إيجار شقة ضمن صلاحياته، لكن الفرنسيون يقولون: القانون قانون، هو تصرف بالشقة بغير حق وينبغي أن يحاسب ... وهكذا تصبح الدول محترمة، وحكامنا يملكون البلاد رقاب الناس كالعبيد والأرض وما عليها كبستان، ولا يتورع في أن يورثها حتى لأولاده من بعده ...! وعندنا أبن خال أو أبن عم رئيسنا المفدى يستطيع أن يشتري نصف باريس، ولكن هكذا تصبح الدول غير محترمة ..!
أبلغوا انديرا غاندي، أن هناك مؤامرة لاغتيالها من بين حراسها من السيخ، ونصحوها بإبعادهم، فرفضت، وقالت إن فعلت ذلك فأنا أول المقتنعين بتقسيم الهند ... ودفعت حياتها ثمناً لهذه القناعة المبدأية ... ولهذا الهند دولة محترمة ..!
نحن جميعاً شرقيون وتأخذنا العواطف أيما مأخذ، نؤله من نحب وننزل من نكره أسفل السافلين، والآن لنكف عن كل ذلك، فبتقديري ألحقت بنا هذه الصفة الأضرار لدرجة لم يعد مقبولاً أن نستمع لنشيد العواطف فقط، بل دعونا ننظر للمسألة من جانبها الآخر أو من جوانبها الأخرى، أن ننظر إلى صور الضحايا الذين فارقونا مبكراً، وهم في سن الزهور غالباً، تركوا أحبة وأطياف وأحلام أن يعيشوا يوماً في وطنهم أحراراً، يشبعون خبز وكرامة وحرية ... لا أكثر ... لا أكثر .. أشياء في غاية البساطة صارت حلماً في غاية التعقيد وبعيدة المنال ... وأوطاناً أضحت خرائب وحطام ...
لست في سن يدعوني لأكون أفكار وأحكام قاسية، ولكني قررت منذ زمن بعيد أن لا أخضع عقلي إلا لنتائج مناظرات ومحاكمات عقلية، وأعترف أنني واجهت مواقف صعبة كان القرار فيها صعباً، لأنه يخالف أحكام عقلية حيناً وعاطفية حيناً آخر، لذلك أعترف بأسف مرة أخرى بأن الخوف والقلق كان يساورني على مصير أقطارنا عند هبوب الثورات، ولكن ... أي خوف وأي قلق، وهل يوجد أسوء مما نحن فيه ..؟ وماذا تبقى لنخاف عليه ...؟ لقد طمى الخطب حتى غصنا إلى ما فوق الركب بكثير ..!
كنت قد كتبت منذ أن هبت الثورات، وعبرت عن قلقي، من أنني على يقين أن عناصر كثيرة تتسلل عبر أمواج الفيضان، وتأخذنا الحماسة لنسمح لأنفسنا أن نقبل في صفوفنا جواسيس وعملاء، كنت متأكداً أن للإسرائيليين فيها يد وللأمريكان أيادي، وربما حتى للإيرانيين أصبع صغير ضئيل هو نتيجة جهد مخابراتي تمكنوا خلاله من شراء ذمم لكتاب وصحفيين، وتوافه من هنا وهناك، وما زالوا يسعون ... ولكن في النهاية ... الأرض تتكلم عربي ... ولا يصح إلا الصحيح.
ومن ذلك، كنت وما زلت أتحول للضد من أي موقف أشم فيه رائحة للأمريكان، وإن كنا نحمل جعبة حافلة بالانتقادات للعقيد القذافي، إلا أننا لا نستطيع أن نحتمل موقفاً تدس الولايات المتحدة فيه يدها، ناهيك عن قنابل وصواريخ كروز وما شابه ذلك من ألعاب الإمبريالية الدموية، ولكن في الوقت نفسه لا نستطيع أن نفهم سر تمسك القذافي بالحكم بعد حكم طال واستطال لأثنين وأربعين عاماً، أجيال ولدت أجيال والرجل لا يزال يحكم، ويصر على البقاء ولو أفنى الشعب بأسره، وأبيدت منجزات بذل الشعب الليبي الغالي والنفيس من أجلها، وها هي الأبنية تحفرها طلقات المدفعية لا يهم من أي جهة وبلاد تتآكل، يهددها التقسيم، والسلاح الذي دفع ثمنه من لقمة الشعب، يتحول إلى خردة تحت الشمس المحرقة، والرجل يأبى رغم ذلك أن يغادر ... ولو بما تبقى من كرامة ومهابة ... لماذا ..؟
ودولة تتجول فيها الدبابات من أقاصي القرى شمالاً لأقاصي القرى جنوباً، تعزف سمفونية الموت والتهجير، تطلق النار وتقتل عشرات المئات وتجرح الألوف، وتعتقل عشرات الألوف بسلاح دفع الشعب المسكين الغلبان ثمنه بعرق جبينه، يعتقل بالألوف في ملاعب تتحول لسجون شيدها ليمارس الرياضة لعله ذات يوم ينافس الأمم المحترمة، دولة تنشئ ميليشيا سرية طائفية لتدافع عن الرئيس إذا ما أدلهمت الخطوب، وكيف تدلهم الخطوب .. فعندما يتجرأ الشعب وتنفجر معاناته ويسأم معاملة العبيد، تنطلق تلك القطعان يقتلون ويعذبون ويعتقلون بهمجية يحسدهم عليها هولاكو، ورجائي لا تتحدث عن القانون... لأن من يسمعك يصاب بسعار الضحك .. دولة تستعين بميليشيا طائفية غير قانونية من دولة أخرى على شعبها، وتستعين بخبراء قمع من دولة أجنبية لتضرب شعبها ... دولة أمنت ظهرها بمناورات لا تفوح منها الكرامة على حساب سيادتها، وتمضي شهور أربعة وهي تمارس قتل شعبها كما تصطاد الزرازير، بلد يحكمه الكذب وصحف لا تتوقف عن التلفيق، على قول الشاعر الروسي أيفتوشينكو، فصح عليها المثل: من أمن العقاب أساء الأدب ...
بالله عليكم ماذا تبقى لنخاف عليه ..؟
حملتنا تيارات وأنواء اليسار واليمين وتقاذفتنا أعاصير شتى، تأخذتنا الحمية على فلسطين والكل يدعي الوصل بليلى، ولكن الأرض هناك ما تزال تذرف الدمع دماً، ثم جاءت الوصلة الجديدة وحمل الجميع راية الإسلام تقترباً، بل وذهب البعض في ذلك مذاهب عظيمة وصار يدافع وينافح .... ولله في خلقه شؤون...!
ومن ذلك أيضاً، بلد أني لا أستطيع أن أفهم ماذا يريد أي حاكم عربي بصرف النظر عن منجزاته الجيدة أو السيئة، ماذا يريد بعد أن مكث في السلطة أكثر من دورتين، ألا نستحق أن نكون شعوباً مثل مخاليق الله في أرضه الواسعة، لننتخب من نريد أن يحكمنا كبشر وليس كقطيع غنم، وتلك أولى مبادئ الحرية.
في مصر هناك 225 مليار دولار مهربة في البنوك الأجنبية، وفي سوريا يهيمن رجل واحد يمثل المسؤول المالي لأسرة حاكمة تتوارث الحكم منذ 40 عام على أكثر من 60% من الأعمال التجارية والعمولات، والأدهى فقد كلف بإصلاح اقتصاد البلد، وفي ليبيا لا يوجد شيئ على سطح الأرض سوى العقيد وأبناؤه .. فأي بؤس هذا نعيشه، وأين المغامرة في أن نفعل أي شيئ وكل شيئ لنتحرر من هذا الحال، فبماذا نجازف ..؟ بالحرية التي لا يحق إلا أن نحلم بها، بالخبز الذي ما شبعته يوماً شعوبنا ... بالكرامة التي طالما تمرغت تحت حذاء أصغر رجل أمن ..! نصب في جيبه راتباً لا يستحقه، ليصب الرصاص في أفواه من يطالب بالحرية، وهي أبسط حق من حقوقه ..! ماذا تبقى لكم أيها القابعون في القاع، سوى أن تحطموا بقبضاتكم الغشاء الذي يمنع التنفس والهواء النقي، ليدخل الضوء والهواء ..
يشكون ويتحدثون عن المافيا .... يا لبؤسها ... المافيا الإيطالية، مقابل منجزات أبطالنا الذي أسسوا مافيات عندها جيوش وإذاعات وتلفزيون ومهرجين بل وأحزاب وكتاب أخضر، وصحافة ورجال إعلام تبلغ مهارتهم أنهم يجعلونك تقرأ التقويم بالمقلوب بحيلة المغلوب...
الصدأ والعفن في كل مكان، في الزوايا السوداء والبيضاء، السرية والعلنية، اليأس والشعور بالظلم في كل مكان والرماد والذل والهزيمة، فكيف لمستقبل مشرق أن يبزغ من بين هذه الأنقاض مع كل هذه الحثالات من المأجورين والمرتزقة والقتلة، مالعمل عندما يطغى صوت التهريج، على صوت الحكمة والقانون، لا ضياء في الأفق، لا أمل لنا البتة .... سوى النهوض والمواجهة بشجاعة لهذه الأشباح القابضة على مصيرنا.
ليس هناك عادلون وإنما هناك أسياد شريرون يجعلون الأكاذيب سائدة: البير كامو
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: