أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5249
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" تفويض الأمر إلى الله، وصدق التوكل عليه، والثقة بوعده، والرضا بصنيعه وقضائه، و حسن الظن به، و انتظار الفرج منه، من أعظم ثمرات الإيمان، و من أجلّ صفات المؤمنين، و حينما يطمئن العبد إلى حسن العاقبة، ويعتمد على ربه في كل شأنه، يجد الرعاية و الولاية و الكفاية و التأييد و النصرة "
****
" لو أن أحدكم هم بإزالة جبل وهو واثق بالله لأزاله ..."
( ابن القيم الجوزية )
*****
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعــد :
ما أحوج المسلم المعاصر إلى تجديد إيمانه، وتعميق ثقته في الله، وتصحيح توكله على الله، وترسيخ يقينه في الله تعالى، وهكذا كان أسلافنا العظام رضي الله عنهم، وما أتينا اليوم، وحل بنا ما حل إلا من باب ضعف الإيمان، واهتزاز الثقة، وقلة اليقين، وضعف التوكل، والغفلة عن التقوى،
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( الحديد : 28 )،
وقال جل سأنه : { ....وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }( غافر :44 )،
وقال : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }( النساء : 81 )،
وقال : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً }( الفرقان : 58 )،
وقال سبحانه : { .....وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( المائدة : 23 )،
وهذا موقف حدث بين الحسن البصري رحمه الله، والحجاج بن يوسف الثقفي، يدلل على فضل الثقة بالله، وثمرة التوكل الحق على من بيده مقاليد الأمور كلها سبحانه،
اجتمع القراء وطلبة العلم في زمن الحجاج بن يوسف (1) عند قصر الحجاج يطلبون أعطيات (أرزاقاً)، فلبس الحسن البصري (2) ثيابه وأتى على القراء، وقال: ماذا تريدون معشر القراء ؟، وأين تذهبون ؟،
قالوا : نذهب إلى الحجاج لنأخذ أعطياتنا ( أي المنح والهدايا )، فغضب الحسن وقام فألقى خطبة، وقال فيها : بئس القوم أنتم، قبحتم، رققتم نعالكم، وشففتم ثيابكم، وتطيبتم تطلبون الدنيا بعلمكم! أنتم المتأكلون، ثم قال : هذا الغشوم الظلوم، يقرأ القرآن على لخم وجذام ( قبيلتان من قبائل العرب ) (3)، ويعظ وعظ المعتبرين الأبرار، ويبطش بطش الجبارين، ويلبس لباس الفسقة! ثم وصل الكلام إلى الحجاج، وبلغه ما قال الحسن !!!...
فغضب كثيرا واحمر وجهه، وقال: علي به، والله لأقتلنه هذا اليوم...ومعلوم أن قتل الناس عند الحجاج كذبح الدجاج، فأرسل إلى الحسن فلما سمع الحسن الجنود قال : أنظروني قليلاً، فدخل فدخل واغتسل ولبس أكفانه من تحت الثياب، فاختلى بالله وبكى وقال : يا رب! يا ذا القدرة التي لا تضام، والركن الذي لا يرام، أسألك أن تسخره لي وأن تنصرني عليه...
ثم خرج الحسن، وفي أثناء الطريق قلب الله قلب الحجاج – وقلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإذا أراد أن يفلب فلب عبد فلبه – فتغير فلب الحجاج، غيره الذي يغير الليل والنهار، قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } ( الفرقان:3 )، فدخل عليه الحسن، فقام الحجاج فاستقبله عند ركن الباب، وقبله على رأسه، وأخذ غالية من طيب ( قارورة ) ، وطيب لحية الحسن، وأجلسه بجانبه، وقال : هيجناك يا أبا سعيد، اعذرنا ولا نعود إلى ذلك، فلما خرج قال الوزراء باندهاش وتعجب : أين وعودك وأيمانك؟!!!قال : والله ما دخل علي حتى كان عندي من أرهب الناس (4)...
الله..الله..يا ولي المتقين..يا ناصر أوليائه المومنين..يارب العالمين..ما أعظمك!
ولا عجب في ذلك فالحسن كان صادقا في توكله على الله، والحق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } ( الفرقان :58 )، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } ( آل عمران :173-174 )، وكان الحسن شديد الثقة بالله تعالى، فأنقذه الله تعالى من بطش الحجاج،
إنها الثقة بالله، إنه التوكل على الله، إنه اليقين في الله، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث الصحيح : " إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.."
الهوامش والإحالات :
===========
(1) - الحجاج بن يوسف الثقفي : ( 41 - 95هـ، 661 - 713م )، من فصحاء العرب، ويعد في الذروة من أهل الخطابة والبيان في العصر الأول، وهو سياسي محنك، وقائد عسكري وخطيب مفوه، من دعائم دولة الأمويين حيث نصر حكمهم بيده ولسانه،
وُلد في الطائف ونشأ بها، وتلقى تعليمه الأول على يدي والده ؛ إذ كان معلم صبيان، فامتهن مهنة أبيه في شبابه، ويذكر بعض المؤرخين امتهانه الدباغة أو بيع الزبيب، وكان قصيرًا دميمًا قاسيًا، كانت الظروف التاريخية التي أعقبت وفاة معاوية بن أبي سفيان، وإمرة ابنه يزيد وما حفلت به من اضطرابات وفتن ؛ قد دفعت به إلى الحياة العسكرية، فأظهر فيها قدرته على القيادة، مما جعل عبدالملك بن مروان يوليه إمرة الجيش المكلف بالقضاء على حركة عبدالله بن الزبير بمكة، فلم يترك وسيلة لإثارة الرعب إلا ركبها، فحاصر مكة وضربها بالمنجنيق، فتفرقت الجموع من حول ابن الزبير، وقاتل حتى قتل فصلبه الحجاج، ولم ينزله من مكان صلبه إلا بأمر عبدالملك، فكافأه عبدالملك على هذا النجاح بتوليته العراق إضافة إلى الحجاز، فذهب إلى العراق واليًا، حيث الفتن تمور، وهيبة الدولة مستباحة وسلامتها مهددة ؛ إذ كثرت أعمال العصيان والتمرد والتعدي على الولاة وطردهم، فقرر إعمال القسوة وسياسة القبضة القوية، كما يظهر من بياناته الأولى في خطبتي التتويج في الكوفة والبصرة، وضرب العصبيات بعضها ببعض، ثم عمل على احتوائها واستثمار عنفوانها في القضاء على الخوارج وأشكال التمرد في أطراف الدولة، كامتناع ملك سجستان عن دفع الخراج، ثم في القضاء على تمرد ابن الأشعث وملاحقة الخوارج، ولهذا عرف بأنه اليد القوية لعبد الملك بن مروان في تأسيسه الثاني للدولة الأموية وتثبيت دعائمها،
ساعدت منجزاته في تأمين سلامة الدولة الأموية وتثبيت كيانها، وعودة هيبتها، وقد ساعده على النجاح قدرة بيانية استغلها استغلالا جيدًا في خطبه وبياناته، ويدللون على هذه القدرة بأنه واحد من أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل، وهم : الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج، وابن القرية، لم تقف إنجازاته للدولة عند الجانبين العسكري والسياسي فحسب، بل تعدتهما إلى الجوانب الحضارية والثقافية، فبأمره عرِّب ديوان العراق من الفارسية، وبأمره أعجم القرآن ونقط،
وتحتفظ كتب الأدب وتأريخه بقدر كبير من أخباره السياسية والأدبية، وتُعد خطبه لونًا جديدًا من ألوان الخطابة السياسية ؛ إذ ترسم سياسة الدولة، وتقدم فصاحة وبلاغة تبهر السامعين، وتستأثر بأسماعهم، ومن أشهر هذه الخطب تلك التي خطبها في الكوفة حين قدم واليًا على العراق، واستهلها بقول الشاعر :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني
وكان بصيرًا بالشعر، تذوقه ونقده، قصده الشعراء ولزموا مدحه وإذاعة أخباره الحربية،كان الشعراء الأمويون الفحول مقدمين في ذلك ومنهم جرير والفرزدق والأخطل، كما مدحه هؤلاء فقد هجاه نفرٌ من شعراء الأحزاب الأخرى وعلى رأسهم شعراء الخوارج والشعراء الزبيريون،
(2) - الحسن البصري ( 21- 110هـ، 642- 728م )، هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، أبوه يسار من أهل " ميسان "، وكان مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه خيرة مولاة أم سلمة أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر، ونشأ في وادي القرى وتوفي بالبصرة، وكان أجمل أهل البصرة، شديدًا متين البنية، وحيثما أُطلق اسم الحسن بلا قيد عُرف أن المراد منه في كتب الشرع والعلم الحسن البصري، وهو تابعي وإمام أهل البصرة وحَبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء الشجعان النساك، لقي جماعة كثيرة من الصحابة وسمع منهم،
سكن البصرة وعظمت هيبته في القلوب، فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في الحق لومة لائم، وصف الإمام الغزالي الحسن البصري قائلاً : " كان الحسن البصري أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء، وأقربهم هديًا من الصحابة، وكان غاية في الفصاحة، تتدفق الحكمة من فيه، وله مع الحجاج بن يوسف الثقفي مواقف وقد سلم من أذاه،
تخرج عليه عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء من أئمة المعتزلة، ولهذا يعدونه واحدًا منهم، عمدته في الحديث الإمام مالك، وأكثر شهرته يرجع إلى زهده، ومذهبه فيه يقوم على الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، ومحاسبة النفس والتفكر في المصير خوفًا من عذاب النار وطمعًا في ثواب الجنة، فكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار يسير، والحسن مؤسس المذهب البصري في الزهد، القائم على الخوف والتخويف حتى يلقى العبد الأمن، وعلى الحزن والبكاء مما يقترفه العبد من المعاصي حتى تصفو نفسه، ويوصله تفكره فيما فرط منه وما سيرد عليه الإيمان واليقين،
وللبصري كلمات سائرة بين الناس :
- منها رده على عمر بن عبدالعزيز عندما ولي الخلافة وكتب إليه : إني قد ابتليت بهذا الأمر فانظر لي أعوانًا يعينونني عليه، فأجابه الحسن قائلا : " أما أبناء الدنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك، فاستعن بالله "،
- ومن كلماته السائرة أيضًا قوله : " إذا أراد الله خيرًا بعبد لم يشغله بأهل ولا ولد "،
- وقوله : " من شرط التواضع أن يخرج الإنسان من بيته فلا يرى أحدًا إلا رأى له الفضل عليه "،
- وقال أيضًا : " لا تشتر مودة ألف رجل بعداوة رجل واحد "،
- ومن كلماته السائرة أيضًا قوله عندما سئل هل بالبصرة منافق؟ فقال : " لو خرج المنافقون منها لاستوحشت "،
وكان الحسن إذا جلس يجلس كالأسير، فإذا تكلم كان كلامه كلام رجل أُمِرَ به إلى النار، لأنه كان شديد الورع والخوف من العقاب، كأنَّ النار قد خُلقت له وحده،
(3) - قبيلتان من قبائل العرب، أما " جذام " فهو (عمرو) بن عدي بن الحارث بن مرة، وسمي بـجذام لأنه ( لما لطمه اخوه " لخم " قام (عمرو) وجذم إصبع أخيه أي قطعها فسمي (جذام)، وجذام هي إحدى قبائل العرب القحطانية اليمانية الاصل، وكانت منازل هذه القبيلة في الجاهلية شمال الجزيرة العربية وابرزها مدن مدين وحسمى وتبوك وحقل (العقبة) اليوم، ثم انتشرت بعد الفتح الإسلامي في بلاد الشام ومصر ومنهم الآن في تبوك قبيلة بني عقبة و قبيلة بني عطية وفي الأردن العجارمة و بني صخر و بني حميدة،
وأما " لخم " فهو " مالك أخو عمرو، وسمي " لخما " لأنه لخم ( لطم ) عمروا، ولخم هي قبيلة عربية من اتحاد تنوخ القبلي كانو يقطنون بالاصل في الاردن (مملكة الانباط) سابقاً وقد استوطنت في الحيرة العراق وكانت منازل هذه القبيلة في الجاهلية في العراق والشام هم فرع من التنوخيين، وكان منهم المناذرة ملوك الحيرة،
أنظر :
- أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي ( ت : 821هـ) : " قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان "، إبراهيم الإبياري، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، لبنان، ط2، 1402هـ - 1982 م، ص : 821،
- أبي العباس أحمد القلقشندي : " نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "، إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط2، 1400هـ-1980م.
(4) - عائض بن عبد الله القرني : " دروس الشيخ عائض القرني "، مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، http://www.islamweb.net
**************
أ.د / أحمد بشير، جامعة حلوان، القاهرة،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: