صيدلية القرآن – ما شاء الله لا قوة إلا بالله (5-2)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5885
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعــــــد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية ،
أيها الإخوة الأحباب :
ونستكمل اليوم من الحديث ما انقطع مع مثل من الأمثال التي ضربها لنا القرآن الكريم للستفادة مما تحمله من دروس وعبر ، قال تعالى : { ......وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }( إبراهيم : 25 ) ، أي ليتذكروا ويتعظوا ويعتبروا ، قال تعالى : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }( العنكبوت : 43 ) ، نعم فنحن مع واحدة من قصص القرآن ، الذي ما جاء إلا لحكمة بالغة ، وغاية سامية ، حيث قال الله تعالى عنه في كتابه الكريم : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }( يوسف111 ) ،
وقال جل جلاله : {.....فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }( الأعراف : 176 ) ، لعلهم يتدبرون ، وينتفعون بما في هذا القصص من الدروس والعبر التي هم في أمس الحاجة إليها ،
نحن إذا مع قصة صاحب الجنتين ، ووقفنا في اللقاء السابق عند قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً{36}( الكهف ) ،
وبينا أن الآيات تتحدث عن رجلين كانت بينهما صحبة وصلة ، أحدهما كافر ابتلي بالنعمة والثروة الطائلة والجاه والعشيرة ، والآخر مؤمن ابتلي بضيق ذات اليد وتقتير الرزق ، وقلة العشيرة والأنصار ، فماذا حدث ؟
لقد جعل الله لذلك الكافر جنَّتَيْن ، والمراد بالجنّة هنا " البستان " أو "المزرعة"، أي إنه كان يملك مزرعتين ، وصفهما القرآن الكريم بقوله تعالى :{جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِن أعنابٍ وحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وجَعَلْنَا بينهما زَرْعًا ، كِلتا الجنَّتَيْن آتتْ أُكُلَهَا ولم تَظْلِم منه شَيئًا وفَجَّرْنَا خلالهما نَهَرًا ، وكان لهُ ثَمَرٌ} ( الكهف: 32-34 ) ، كانتا مزرعتين من أعناب ، وكانتا "مُسوَّرَتَيْن" بأسرابِ النخل من جميع الجهات، وكان صاحبهما يزرع الزرع بين الأعناب، وقد فجَّرَ الله له نهرًا، فكان يجري بين الجنَّتَيْن (المزرعتين)، وكان صاحبهما يجني ثمارَهما، ثمار الأعناب ، وثمار النخل، وثمار الزرع ، وكان له مال وفير متنوع من الذهب والفضة والأنعام والمزارع والثمار والأغلال والمتاع ، والخلاصة أنه كان في غاية الغنى والثراء ،
وتُقدم لنا الآيات إشارة لطيفة إلى " تنسيق " الحدائق والمزارع والبساتين وجمالهما الذي يأخذ بالألباب ، فكانت المزرعتان مِن أعناب متناسقة ، وكان النخل يشكل سورًا محيطًا بهما ، وكان الزرع والخضار والبقول يزرع بين أسراب الأعناب ، وكان النهر بينهما وقنواته تجري وسطهما ، فماذا تريد " تنسيقًا هندسيًّا " أبدع وأبرع وأروع من هذا التنسيق الزراعي فيهما؟ ثروة عظيمة ، وجمال يأخذ بالألباب ، وهكذا عطاء رب الأرباب ، فماذا حدث ؟
أُعجِبَ الرجلُ الكافر بجنَّتيه ، وافتخرَ بمزرعتَيْه ، واعتزَّ بهما ، وشعر بالكبر والغرور يملأ عليه جوانح نفسه ، فرأي نفسه أهلا لهذا التميز ، وشعر بالتعالى على صاحبه الفقير ، وظن المسكين أنه من طينة غير طينة صاحبه فقال : { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } ، غرور ، كبر ، جحود ، استعلاء ، افتتان بالمال والعشيرة ، فالمال فتنة ، والعشيرة فتنة ، آه من فتنة المال ،
إنه يتعالى على صاحبه الفقير ، لم يرعى صلة ولا صحبة
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ، إياك أن تظن أننا متساويان ، أو أنه لا فرق بيني وبينك ، من أنت ، وماذا تملك مما أملك ،
ألا ترى مع من تتحدث ،
أنا أكثر منك مالا ، وأعز نفرا ، أنا الأفضل ، أنا الأغنى ، أنا الأعلى ، أنا الأسمى ، أما أنت فلا مال ولا عشيرة ، ولا قبيلة ولا عصبية ،
قال هذا لصاحبه تعاليا وغرورا وكبرا مع أن صاحبه لم يطلب منه شيئا ، ولم يقل له شيئا ، وإنما هو الغرور والتعالي ،
كأنه يقول له ابتداء : اعرف انت بتكلم مين ، كل واحد بعرف حجمه ،
إن الكافر الغني صاحب الثروة والعز والجاه يتباهى على صاحبه بما أعطاه الله تعالى من النعم والثراء ، هو يتطاول ويستعلي بماله وثروته ، ونسي المنعم المتفضل عليه بكل ما بين يديه من المال ، وهذا حال الإنسان عندما تستبد به الغفلة ، وينسى فضل الله عليه ، ويحسب أنه حصل الثروة والمال بذكائه وفطنته ، تماما مثلما فعل قارون الذي قص الله علينا قصته مع المال ، عندما اغتر بماله وثروته ، قال تعالى : {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78}( القصص ) ، نعم أيها الإخوة الأحباب إنها فتنة المال وقانا الله وإياكم شرها ، قال تعالى : {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }العلق6
فالإنسان إذا شعر أنه اغتنى إذا أبطره الغنى فإنه يتجاوز حدود الله عز وجل فيغتر ويتكبر ويتجبر , وينسى كل طاغية أن المصير إلى الله تعالى ،
وهكذا كانت كلمات الغني لصاحبه الفقير تنضح بالكبر والغرور والاستعلاء والبطر وهي كلمات من جنس ما نسمعه اليوم من كثير ممن أنعم الله عليهم بالمال والثروات الطائلة ، أنا أكثر منك مالا ونفرا ، المال معروف ، والنفر هم العشيرة والبطانة والجوقة وماسحي الجوخ الذين يلتفون حول كل صاحب مال أو سلطان يزينون له الباطل ويوهمونه بما ليس فيه طمعا فيما عنده من المال ، وهكذا أكثر الناس في كل زمان ومكان ، يسارعون خلف الدرهم والدينار ، ويلتفون حول أصحاب الثروات ، لا ترى الغني يمشي وحده أبدا ، هكذا أغلب الناس ، وهكذا الحياة ، وهكذا الدنيا ، وصدق من قال :
رأيت الناس قد مالوا **إلى من عنده مال
ومن لا عنده مال *** فعنه الناس قد مالوا
رأيت الناس قد ذهبوا ** إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب ** فعته الناس قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة ** إلى من عنده فضة
ومن لا عنده فضة ** فعنه الناس منفضة
لا إله إلا الله ، إنه تجسيد حي لواقع الناس اليوم ، واقع نعيشه ونلمسه ونعاني منه ، قاتل الله المال إن لم يكن سبيلا إلى مرضاة الله عز وجل ، فهو نكبة على صاحبه ، ونقمة على من يبتلى به ، نسأل الله السلامة ،
أكثر الناس – إلا من رحم الله - يعظمون الأغنياء ، ويتملقون الأثرياء ، حتى وإن كانوا يعلمون أنهم لا ينفعونهم بشيء كما قال ابن دريد في المقصورة :
عبيد ذي المال إن لم يطمعوا*** من ماله في شربة تروي الصدى
وقال آخر :
إن الغني إذا تكلم بالخطأ ***قالوا أصبت وصدقوا ما قالا
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم*** أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في الأماكن كلها ***تكسوا الرجال مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ***هي السلاح لمن أراد قتالا
وقال ثالث :
يمشي الفقير وكل شيء ضده ***والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ***يرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا غنية *** أصغت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً *** نبحت عليه وكشرت أنيابها
لا إله إلا الله ،
ونعود إلى صاحب الجنتين إذ يقول لصاحبه : أنا أكثر منك مالا ونفرا !!! توهم المسكين أن التفاضل بين الناس إنما يكون بالمال والعزوة وكثرة الأنصار ، ونسي قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }( الحجرات : 13 ) ، نعم إن أكرمكم عند الله ، وأفضلكم في ميزان الإسلام أكثركم خشية لله ومراقبة له ، وأتقاكم لله عز وجل ، لم يقل أكرمكم أغناكم ، أو أعلمكم ، أو أكثركم جاها ، أو سلطانا ، أو أفضلكم نسبا وحسبا ، إن ميزان التفاضل بين الناس في الإسلام إنما هو شيء واحد فقط تقوى الله والعمل الصالح ، ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا أتقاكم لله ، و أعلمكم بحدود الله " ( قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 583 ) ،
أما صاحب الجنتين فظن أن سر التمييز والتفاضل بين الناس إنما يكون في كثرة المال والعشيرة فقال لصاحبه : " أنا أكثر منك مالا ونفرا " ، ثم ماذا ؟
قال تعالى : " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه " قال بعض أهل التفسير : أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها ، تماديا في العجب والكبر والتطاول والاستعلاء ، طاف به يريه ما فيها من أنواع الزروع والثمار ، وهو في ذلك كله ظالم لنفسه ولكمه لا يدري ، قالوا دخلها حال كونه ظالما لنفسه بكفره وغروره ، مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه ، ولا شك أن من أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه ، ولكن لماذا أفرد الجنة وهما جنتان لا جنة واحدة ؟ قالوا : وإنما أفرد الجنة هنا ( ودخل جنته ) بينما القصة تتحدث عن جنتين لأن الدخول إنما يكون لإحداها ، لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى ، فما دخل إلا إحدى الجنتين ،
إن صاحب الجنتين غره الشيطان فاغتر (1) ، وخدعه فانخدع ، ووسوس له فاستمع لوسوسته ، واتبع خطواته ، فاغتر المسكين لما رأى فيها من الزرع والثمار والأشجار والأنهار، وتوهم أنه ملك الدنيا وما فيها ، وتوهم أنها خالدة باقية لا تفنى ولا تبيد ، ولا تنتهي ولا تهلك ، وهذا هو الوهم الثاني من سلسلة الأوهام التي وقع فيها وسيطرت عليه ، ولذلك لما نظر إلى جنتيه استبد به الغرور : " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ، قال : { مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } ، نظر المسكين إلى جنته فلما رأى من حسنها ونضارتها وجمالها وتنسيقها ؟ صاح يقول لصاحبه لا أعتقد أن هذه الجنة يمكن أن تذهب وتهلك وتفنى أبدا ، قالوا : والظن بمعنى : الإعتقاد ، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده ، أي بقاء الجنة وخلودها ، والإشارة في قوله ( هذه ) إلى الجنة التي هما فيها ، أي لا أعتقد أنها تنتقض وتضمحل وتفنى ، والأبَد : مراد منه طول المدة ، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها ، وهذا اغترار منه بغناه ، واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر وقوته وثبوته واجتماع أسباب نمائه ودوامه وما حولَه ، من مياه وظلال وارفة وجمال بديع ، فأنكر فناء الدار ، ونسي المسكين قول الله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }( الرحمن26 – 27 ) ، وقوله تعالى : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }( القصص : 88 ) ،
ما في الحياة بقاء ** ما في الحياة ثبوت
نبني البيوت وحتما ** تنهار تلك البيوت
تموت كل البرايا ** سبحان من لا يموت
ونأتي إلى الوهم الثالث الذي وقع فيه هذا الكافر حيث قال : { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } ، أي لا أحسب البعث كائنا ، ولا القيامة قائمة ، ولا الساعة آتية ، فأنكر البعث والقيامة وكفر باليوم الآخر ، قال ابن عاشور في تفسيره : " وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوامَ تلك الجنة ، إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة ، ولا تلازم بين المعتقَدَيْن ، ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه ، ولذلك عقب ذلك بقوله : { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } ، تهكماً بصاحبه . وقرينة التهكم قوله : { وما أظن الساعة قائمة } وهذا كقول العاصي بن وائل السهمي لخباب بن الأرت رضي الله عنه { ليكونن لي مال هنالك فأقضيكَ دينك منه } ، وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد بقوله : ( لأجدن ) مبالغة في التهكم . (2) ، وهذا هو الوهم الرابع الذي وقع فيه وهو قوله : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا } ، أي وعلى افتراض أن هناك بعث وقيامة – على حد زعمك - فكما أعطاني الله هذه النعم في الدنيا ، فسيعطيني أفضل منها في الآخرة لكرامتي عليه ، وهو معنى قوله : {لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} ، وفي قراءة : { لأجدن خيرا منهما } على التثنية ، وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر ، (3) وكأنه المسكين قد أخذ عهدا على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،
وقوله: {مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة ، كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة ، ومدار هذا الطمع الذي لا أساس له ، واليمين الفاجرة التي أكد بها زعمه ، إعتقاده أن الله تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا ، لاستحقاقه لذاتِهِ ، وكرامته عليه ، ولم يَدْرِ المسكين الغافل أن ذلك محض استدراج من الله له من حيث لا يعلم ،
قال صاحب أضواء البيان (4) : " وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد ، كما أنعم عليهم في الدنيا ـ جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى : في سورة فصلت : {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} ( فصلت : 50 ) ، وقوله سبحانه في سورة مريم : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} ( مريم : 77 ) ، وقوله جل جلاله في سورة سبأ : {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ( سبإ : 35 ) ، وقوله تعالى هنا {فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} ،
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه : من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : {يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ} ( المؤمنون : 55 – 56 ) ، وقوله تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} ( القلم : 44-45 ) ، وقوله عز وجل : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ( آل عمران : 178 ) ، وقوله تعالى : {مَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى...}الآية ( سبأ : 37 ) ، وقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ( المسد : 2 ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
الهوامش والإحالات :
============
(1) - الغرور لغة : الخداع، والباطل، وإظهار النفع فيما فيه الضرر، قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرًا تحبه وله باطن مكروه ، قال تعالى : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } ، وهذا إخبار عن الواقع، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وأخبر تعالى عن عمله مع آدم وحواء، فقال: { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } ،
(2) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير " ، الطبعة التونسية ، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م ، ج15 ، ص : 320 ،
(3) – نفس المرجع السابق ،
(4) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، الرياض ، 1983م ، ج19 ، ص : 158 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: