د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5240
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين، هو الحي الذي لا يموت، وأشهد ألآ إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، سبحانه كتب على نفسه الخلد والبقاء، وكتب على جميع خلقه الموت والفناء، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، خاطبه ربه – رغم كرامته عند ربه، وعظيم مكانته عند الله - في كتابه الكريم قائلا : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }( الزمر : 30 )، وقال له : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }( الأنبياء : 34 )،
وبعــــــــــــــــــــــد
من الحقائق الدامغة في هذا الكون والتي لا يعتريها شك أن الموت مصير كل حي ومخلوق، والإستعداد له وإعداد الزاد واجب على كل مؤمن، قال تعالى : {...... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة197 )، ورحم الله القائل :
مافي الحياة بقاء ** ما في الحياة ثبوت
نبني البيوت وحتما ** تنهار تلك البيوت
تموت كل البرايا ** سبحان من لا يموت
وتعد لحظة الإحتضار من اللحظات الفارقة في حياة الإنسان، حيث يستدبر فيها دنياه بكل ما ومن فيها، ويستقبل فيها آخرته، وهو لا يدري ماذا ينتظره فيها، قال تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ .............. الآية }(الأنعام : 94 )، ومن المشاعر والأحاسيس التي تسيطر على المؤمن عند حضورالموت أنه يخشى ذنوبه وعاقبتها، ويرجو رحمة ربه ويحسن الظن به، ويسيطر عليه شعور الندم والإستغفار من كل ذنب فرط منه في ساعة لهو أو جهل أو غفلة – وما أكثرها في حياة الإنسان بعامة وفي هذا العصر خاصة - فيذرف دموع الندم على كل لحظة غفلة مرت به ، وهكذا كان سلفنا الصالح – عليهم سحائب الرحمة والرضوان – تسيطر عليهم مشاعر الرجاء حتى إذا دنا الموت زاد رجاؤهم في رحمة الله ومغفرته، وفيما يلي نذكر طرفا من تلك النماذج الوضاءة :
- كانوا يحتسبون أنفسهم عند الله تعالى، فلقد روى سفيان بن عيينة عن رقبة بن مصقلة قال : أن الحسن بن علي رضي الله عنهما - سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة لما حضره الموت قال : أخرجوا فراشي إلى صحن الدار , حتى أنظر في ملكوت السماوات، فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه إلى السماء فنظر ثم قال : اللهم إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعز الأنفس علي، فكان مما صنع الله له أن احتسب نفسه عنده، وفي رواية أنه قال : فإني لم أصب بمثلها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم !!!!! وهكذا فالحسين رضي الله عنه يسأل الله ويضرع إليه في تلك اللحظات المهيبة أنه يحتسب نفسه عند الله خالصة لوجهه رجاء أن يتقبلها منه، وبين أن الموت أعظم مصيبة يصاب بها الإنسان بعد مصابه بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمى القرآن الكريم الموت مصيبة، قال تعالى : {............... فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ............. الآية }( المائدة : 106 )
- كانوا يدركون الحياة الدنيا على حقيقتها ولا يغترون بزخارفها وزينتها وبهجتها، كما كان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأخذ لحيته ويبكي ويقول : " يا دنيا غري غيري طلقتك ثلاثا ... إلى آخر كلامه رضوان الله عليه "، ولما حضر الموت عبد الملك بن مروان وهو الخليفة المعروف قال لمن حوله ( أخرجوني ) فأخرجوه، فتلفت وقال: " يا دنيا ما أجملك!!!! – يسخر - يا دنيا ما أجملك!!!! والله إن عيشك لحقير، وإن طويلك لقصير، وإن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً، ولا طوق لي بالعذاب، أو تجاوز فأنت رب غفور لمسيء ذنوبه كالتراب ".
- وكانوا يعترفون بكثرة ذنوبهم وتقصيرهم، ويرجون عفو الله وكرمه ورحمته ومغفرته، فهذا هو الإمام الشافعي رحمه الله لما نزل به الموت، استغفر الله تعالى، ثم قال ودموعه تتحادر على لحيته :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظـــمنى ذنبي فلما قرنــــــــــــته * بعفوك رب كان عفوك أعظــما
فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل * تجــــــود وتعفو منَّــــةً وتكرما فلولاك لم يصــــــمد لإبليس عابـــد * فكيــف وقد أغوى صــفيك آدما
فلله در العــــــــــــــارف الندب إنه * تفيض لفرط الوجـــد أجفانه دما
يقيم إذا ما الليل مد ظلامـــــــــــــه *على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكـــــر ربه *وفيما سواه في الورى كان أعجما
ويذكر أياماً مضــــــــت من شبابه * وما كان فيها بالجــــــهالة أجرما
فصار قرين الهم طــــــول نهاره * أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول إلهي أنت سؤلي ومـــــوئلي * كفى بك للراجين سؤلا ومغنـــــما
ألست الذي غذيتني وهديـــــــتني * ولا زلت منانا عليَّ ومنــــــــــعما
عسى من له الإحسان يستر زلتي * ويغفر أوزاري وما قد تقدمــــــــا
ثم فاضت روحه رحمة الله تعالى عليه.
هكذا كانوا فكيف أصبحنا، هكذا كان أسلافنا الكرام، ولكن كيف أصبحنا نحن اليوم، أصبحنا وقد سيطرت علينا الغفلة واللهو والإعراض والإنشغال بمتاع الدنيا الزائل وشهواتها العارضة، حتى يفاجئنا الموت ونحن في غفلة عنه معرضون، تلك الغفلة عن ذكر الموت التي حذرنا الله منها، وتعجب منها " مالك بن دينار " رحمه الله بقوله : " عجبًا لمن يعلم أن الموت مصيره، والقبر مورده.. كيف تقر بالدنيا عينه ؟ وكيف يطيب فيها عيشه ؟،
وكان الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث : أضحكني : مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه، و أبكاني : فراق أحب الأحبة محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحبه، وهَول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية فلا يدري أإلى الجنة أم إلى النار.
وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول : " لو فارق ذكر الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبنا " .
ولما حضر الموت الحسن البصري رحمه الله، دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له : " يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا قال: إني مزودكم بثلاث كلمات، ثم قوموا عني، ودعوني لما توجهت له، ما نهيتم من أمرفكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان خطوة لكم، وخطوة عليكم، فانظروا أين تغدون ؟ وأين تروحون ؟
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال وهو ينعي على الغافلين غفلتهم : " أما بعد: فإن كنتم مؤمنين بالآخرة، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين بها فأنتم هلكى،
هذا ومن أعجب ما يكون للمؤمنين المتقين عند الموت الترحيب بالموت، والشوق إلى لقاء الله عز وجل، ولذلك يقول شاعر الإسلام محمد إقبال :
آية المؤمن أن يلقى الردى ***باسم الوجه سروراً ورضا
إن الذين يفرحون بقدوم الموت هم أولئك الرجال الذين عاشوا بالإيمان وماتوا عليه، قلوبهم مطمئنة بذكر الله عز وجل، وربطوا قلوبهم وأرواحهم بالدارالآخرة، وتعلقت نفوسهم برفقة الحق التي طالما جاهدوا معها، وكابدوا وعاشوا الصعاب، فكان الواحد منهم يحن إلى لقاء حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: " اليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه "، ومن النماذج المشرقة في هذا الصدد ما روي عن الصحابي الجليل " حذيفة بن اليمان " رضي الله عنه لما نزل به الموت قال: " يا مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، لا أفلح من ندم، الحمد الله الذي سبق بي الفتنة قادتها وعلوجها، أعوذ بالله من يوم صباحه إلى النار "، وهكذا تمنى الموت وفرح به واشتاق إلى لقاء مولاه وقال: لا أفلح من ندم، ولاشك أن الإنسان بطبعه يكره الموت، وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، كلنا يكره الموت، كما في الحديث الشريف (1)،
- وكان منهم من يحزن ويبكي لا خوفا من الموت ولا جزعا من حضوره، وإنما لما سيفوته بالموت من الأعمال الصالحات والطاعات والقربات، ولذلك لما حضر الموت " عامر بن عبد قيس " رحمه الله جعل يبكي بكاءا مرا، فقيل له : ما يبكيك يا عامر ؟ قال: ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر ( يعني الصيام )، وعلى قيام الليل في برد الشتاء، وحضرت الوفاة أحد الصالحين فجزع جزعًا شديدًا وبكى بكاءً شديدًا, فقيل له في ذلك فقال: ما أبكي إلا على أن يصوم الصائمون لله ولست فيهم , ويصلي المصلون لله ولست فيهم , ويذكره الذاكرون ولست فيهم، فذالك الذي أبكاني.
هؤلاء هم الرجال حقا
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالرجال فلاح
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يفرحون للقائه !!!
***********
الهوامش :
======
(1) – إشارة إلى حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قلنا يا رسول الله كلنا يكره الموت، قال ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه " ( رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والنسائي بإسناد جيد، وصححه الألباني )
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: