د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4913
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تنقل قنوات التلفاز ووسائل الإعلام صور ومشاهد لا تنتمي لهذا العصر ولا تشرف هذا الزمن، وبداهة لا تشرف منظمي المجزرة ولا منفذيها الذين حكموا على أنفسهم بأنفسهم، بل ولا الساكتين عنها. فها هي الجريمة ماثلة للعيان موثقة بالصورة والصوت. قد لا تنعقد المحكمة اليوم، ولكن من يفلت من الحساب اليوم ففي غد سوف لن يفلت، وليتذكر الهاربون من وجه العدالة، أن لا مأوى لهم، وليعلموا أنهم ارتكبوا جرائم قتل عمد مع سبق الاصرار والترصد، وسيقفون ذات يوم في قفص الاتهام، فهذه جرائم إبادة بشرية لا تسقط بالتقادم.
وعندما تتواتر اليوم الأنباء المؤسفة من سوريا، نشرات الأخبار العالمية تتحدث مطولاً عن سوريا، القنوات الفضائية الدولية الرئيسية تبث مشاهد عن أرتال الدبابات وجحافل جيش النظام، ومقاطع مطولة عن مشاهد الموت في سورية. إذن هي لم تعد أزمة وهي ليست من اختراع الإعلام المعادي، وهي ليست ورائنا، ولا مؤامرة دولية، فليس هناك جهة معينة مهما بلغت من قوة وامكانات قادرة على إخراج عشرات الآلاف إلى شوارع المدن السورية يومياً، وخارج سوريا أيضاً ولمدة تقارب العام، يقدمون حياتهم من أجل حرية هم سيصلونها حتماً، والنظام بحديثه عن مؤامرة فهو لا يعبر عن احترامه لنفسه أولاً وللشعب ولإرادته تالياً.
النظام في سوريا يبحر في الأوهام بعيداً إذ يعتقد أنه يحرز الانتصارات، لا بل هو يغطس أكثر فأكثر في رمال لا خلاص منها. النظام قرر وبقلة ذكاء وحيلة منقطعة النظير،(بسبب تعقد آلة الحكم وتعدد مراكز النفوذ والقرار داخلياً وخارجياً) أن بوسعه أن ينجو بالغطس عميقاً، أستبعد نهائياً أية حلول سوى مواصلة احتفالية الموت والدم، وهو لا يدرك أن لا شيئ في الدنيا كالدماء تطارد وتلح وتستفهم، تقض مضاجع الجناة، بل وقد تدفع بهم للانتحار .
في سوريا يتسع معسكر الثورة، الثورة ليست مدينة، وليست حياً أو حارة، سوريا كلها في معسكر واحد، وهي اليوم بأسرها قد أصبحت على قناعة أن النظام قد غدا ورماً سرطانياً كما لم يكن سابقاً ولا يجوز الإبقاء عليه، وإلا فسوف يجهز على البلاد بأسرها. والأورام السرطانية لابد من معالجتها دون تردد مهما كان الثمن. المواجهة اليوم تدور بالضبط بين سوريا الشعب ومستقبله والدولة كمنجز للاستقلال الوطني، وبين نظام ديكتاتوري يرفض التقدم وأحكم بنفسه إغلاق آفاق التطور، المسألة المركزية في سوريا الآن تعبر عن نفسها بشكل مادي كاستحقاق اللانتقال إلى المرحلة القادمة بصرف النظر عن أسماء الأشخاص أو أسماء وعناوين الحركات السياسية، بل في ضرورة اجتياز المرحلة الحالية، والتوصل لنظام ديمقراطي تعددي يمثل الشعب أوسع تمثيل.
الموقف في الداخل السوري اليوم بلغ درجة عالية جداً من النضج الفكري والسياسي، وفي تبلور في المواقف والحلول. اليوم لم تعد المسألة بين أطراف، بل بين شعب ومرحلة من استحقاق قانوني دستوري لا علاقة له بأسماء الأشخاص أو الأحزاب والحركات السياسية، فالنظام الحالي قد تجاوزه الزمن والأحداث والمستحقات وانتهت مبررات وجوده، ويطلق عليه في علم السياسة (غير قادر على الحكم) (Unable government)، فالحكم الذي يستخدم القوات المسلحة للبلاد في ضرب الشعب، في حين يعجز عن استيعاب رغبة الجمهور في تحويلات سياسية وقانونية / دستورية، تحولات عميقة ومهمة ومحقة باعتراف الجميع، يفقد مبررات وجوده. فعلى مدى أكثر من أربعة عقود عجز النظام العائلي عن تحقيق الحلول لأية من المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وواجه كل معارضة بالعنف المسلح، ألا يطرح ذلك بالضرورة مستحقات مهمة في مقدمتها أن تخطو البلاد خطوة واقعية وليست لفظية صوب أفاق حياة سياسية جديدة، فهذا من أبسط حقوق الناس، تمارس في البلدان المحترمة من أجل قضايا بسيطة للغاية، فتجري الاستفتاءات، وإعادة الانتخابات، وينسحب المسئولون عن ساحة العمل السياسي معززين محترمين.
النظام أسدل بنفسه الستار على مسرحية الدستور وأحال الأمر كله إلى لا شيئ،والحركة المطلبية إلى دفاع عن نظام الأسرة مقابل الشعب وكافة الاستحقاقات. الدستور أنتهى إلى ما يستحقه، فالنظام لم يعد نظاماً وهو من ألغى شرعيته بنفسه رسمياً، إذ لا شيئ في بنية الدولة له حساسية الدساتير، التي تثلم شرعيتها حتى بالشبهات، وتسقط عروش وتنهار دول لأن حكوماتها خالفت ليس الدستور، بل روح الدستور، والدستور المهزلة الذي شرعه النظام ينطوي على معطلاته منذ البدء، فهو دستور قدم للشعب بيد والصاروخ بيد آخر، في بلد يغطس في حمام دم وملفاته مطروحة أمام المؤسسات الدولية، فأي نظام هذا وأي دستور وأي شرعية...؟
اليوم في سوريا النظام بسياسة الأرض المحروقة، يقدم خدمة من حيث لا يقصد، فبغض النظر عن كل شيئ، اليوم تحديداً يدرك أي مواطن سوري أن السكوت لم يعد ممكناً، واليوم تحديداً تدرك أي حركة سياسية في سوريا أن الازمة تتجاوز الحساسيات الصغيرة، وتقرب من وجهات النظر، وتحيل الخلاف حول جزئيات صغيرة، إلى شؤون ثانوية لا قيمة لها حيال مشروع بناء وتشييد سوريا جديدة ديمقراطية تعددية، ليذهب الناس إلى صناديق الانتخابات ويختارون من يقودهم، أين الخطأ في ذلك ..؟
النظام منح المعركة طابعاً شعبياً لا جدال فيه(سنبين ذلك في الفقرة التالية)، في خطوطه العريضة وفي تفاصيله ومفرداته الصغيرة أيضاً، النظام مزق كافة الستر التي غلف نفسه بها طيلة عقود طويلة، من شعارات قومية وتمترس وراء شعار سخيف (الممانعة) لا يسمن ولا يغني من جوع، بعد أن بهتت شعارات الحزب الذي كان الضحية الأولى التي نحرت على يد نظام الأسرة الديكتاتوري، وبذلك أستبعد النظام أي محتوى سياسي أو اجتماعي يستحق الاحترام، ولم يعد يهمه حفظ الكيان السياسي للدولة والدفاع عن مكتسبات الشعب، بل وضع نفسه في مهب المصالح الدولية، فدخل تحت الخيمة الإيرانية وتفاصيلها المعادية للأمة العربية(بشعارات طائفية)، وداهن الغرب بابتزاز مذل عندما طرح نفسه حامياً لإسرائيل، ومنح الروس ما يحلمون به منذ قرون ليس بموطئ قدم فحسب، بل ومرسى للسفن والأساطيل. هكذا ذبح النظام سيادة الوطن السوري فقط ليستمر النهب والتحكم والقمع والقهر والتسويف.
في الساحة الدولية هناك تردد أسبابه معروفة، الموقف الروسي والصيني يعبر عن مصالح الدولتين العظميين، ولكن هذا الموقف لا يعول عليه للنهاية بالطبع فهناك نقطة سيبلغها مسار الأزمة، آنذاك سوف لن تستطيع روسيا والصين التضحية بسمعتهم بالدرجة الأولى، ومن ثم بمصالحهم مع القوى الدولية الأخرى، وهو بالضبط ما عبر عنه الروس والصينيون مرات عديدة أن وقوفهم لجانب النظام ليس أبدياً، واليوم تحديداً (14/ مارس) شاهدنا وزير الخارجية الروسي لافروف يدلي ببيان مهم في الدوما الروسي، يشير بصراحة ما بعدها صراحة أن النظام يتجاهل النصائح، وأن روسيا لا تقف مع نظام بل هي مع سوريا الدولة، والغرب بعد حساب كافة المصالح، ستسحبهم الواقعية إلى مواقف أكثر جدية، وهذا تحول يلمس يومياً، فالصحفيون الغربيون يزودون الرأي العام الأوربي بمعطيات الموقف يومياً وبدقة والرأي العام الأوربي مذهول من أفعال النظام، والأنظمة الأوربية لا تستطيع تجاهل الرأي العام لديها.
وفي القمة الأوربية (2/ مارس) طالب قادة الاتحاد بمحاسبة النظام السوري على أعماله و" الفظائع " التي ارتكبت في إطار قمع الاحتجاجات في البلاد، فالغرب رغم موقفه المرن اللين حيال النظام إلا أنه لا يستطيع أن يكذب عينيه ولا يستطيع الكذب على شعبه. قالت المستشارة الألمانية ميركل إن العنف الذي يمارسه النظام السوري ضد شعبه " غير مقبول على الإطلاق ". وأكدت المستشارة عقب اختتام قمة الاتحاد الأوروبي التي استمرت يومين في بروكسل أن الاتحاد سيبذل ما بوسعه حتى "يتم مستقبلا محاكمة الذين ينتهكون اليوم حقوق الإنسان بأقصى درجة ". أما الرئيس الفرنسي ساركوزي فقد اعتبر أن الوضع في سوريا يمثل "فضيحة" بالنظر إلى عنف القمع الذي مارسه نظام الرئيس بشار الأسد، فيما صرح الرئيس الأمريكي أوباما أن " أيام الأسد باتت معدودة ".
النظام عول على الوقت في سباق مع القتل والحرق والاقتلاع، ولكن ذلك لم ينجح وسوف لن ينجح في مراوغاته وتسويفاته، وما سيحصل هو أن النظام سيجد نفسه قد غطس في حفرة عميقة لا نجاة منها. هذا هو الموقف اليوم، الوقت لا يلعب لصالح النظام، وممارساته الخاطئة تضيف تراكمات سلبية ستبلغ قريباً حدها الأقصى، وهذا المخاض الدموي الرهيب الذي يعيشه الشعب السوري، سينهي مرحلة استحقت أن تغرب، إنما يمثل معالم المستقبل وولادة جديدة لسوريا كما تستحق، والشعب يؤدي ما يستحقه أفق مشرق هم بالغوه.