د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6082
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كيف نفهم الموقف في سوريا داخلياً، وخارجياً...؟
بادئ ذي بدء لا بد من القول أن قوى الشعب السوري وأدواته السياسية، تدرك تماماً أبعاد المعركة، وتستطيع تحليل أبعاد الموقف الداخلي /المحلي والعربي والدولي، بل هي تدرك منذ اليوم الأول لثورتها أن إزالة النظام إنما تعني عملية جراحية، بل ومعقدة داخلياً وخارجياً، ومن ثم قبل بها وبنتائجها.
فالنظام العائلي السوري يفعل كافة المحرمات، بل يسلك كل طريق للبقاء في الحكم، فهو يقول للإيرانيين أنا امتدادكم للبحر المتوسط، ويقول للروس أنا موطئ قدمكم الأخيرة في الشرق الأوسط، وبحفاظه على السلم وحمايته للحدود الشمالية لإسرائيل يطرح نفسه عملة نادرة للأمريكان والغرب. هكذا يضع النظام نفسه والبلاد في سوق النخاسة الدولية، ليواصل القمع، والنهب والسلب، فالنظام قبل أن يرتهن مصير البلاد وثوابتها مقابل أن يكون رقماً غبر قابل للصرف.
من المعلوم أن الفقه الدستوري تطور كما لم يتطور فرع من فروع القانون العام، فالبشرية تعرف القانون الاساسي أو ما يطلق عليه أيضاً بالقانون الدستوري، وهو أبو القوانين، ذلك لأن شرعية كيان الدولة يستمد من هذا القانون. ومن أهم ما طرأ على أفكار وفقه القانون الأساسي من تطور جوهري منذ زمن حمورابي(1790 ق ب) ، هو تعاظم سلطة الشعب، لدرجة أن عبارة " الشعب مصدر السلطات " أصبحت اللازمة الضرورية في فقه القانون الدستوري، وبقدر ما تضعف إرادة الشعب في صياغة الدستور، أو عندما لا تكون تلك الإرادة ظاهرة جلية لا لبس فيها في فقراته الحاسمة، يكون الدستور موضع شبهة في نزاهته، وبالتالي في شرعيته، أما التصويت وحجم الأصوات فهذا شأن تدبره الأنظمة الديكتاتورية بشطارة لا تحسد عليها.
ولابد من القول هنا والتذكير، أن الشعب السوري حكم بدون دستور حقيقي لعقود طويلة، رغم وجود كراس بهذا المسمى، إلا أن الإرادة الشعبية كانت غائبة كلياً، ولم تكن الاستفتاءات التي أجريت على الدستور تجري إلا على طريقة، ( خذه أو أتركه " Take it or live it "، و" هذا الموجود وما في غيرو" )، والاستفتاءات لم تكن سوى شكلية شأنها شأن الانتخابات لمجلس الشعب، فالشعب السوري نسي مفردات الديمقراطية وثقافتها التي كانت تحبو في البلاد، بعد الاستقلال، وربما حتى أواسط الخمسينات، وبعدها نمت أجيال كاملة لا تعرف الديمقراطية، تذهب لصناديق التصويت ولا يهم بماذا تدلي، المهم أن نسب الفوز الساحقة كانت مقررة سلفاً، وأسماء الفائزين محسومة قبل الانتخابات.
فالنظام ومن يدور في فلكه هم من دبجوا الدستور وصاغوه بعناية بما يضمن مواصلة الديكتاتورية والقمع بوسائل قانونية. واليوم قد غدا أكيداً حتى لمحامي الشيطان، أو لمن له عين واحدة، أن النظام بعد أن تمخض طويلاً، لم يلد سوى دستوراً لا يستحق الحديث إلا كأسوأ دستور عرفه السوريون، دستور يسمح للرئيس الحالي بالمكوث في السلطة حتى عام 2028 بالإضافة إلى 12 عام في الحكم، ليصبح المجموع 40 عام، وبهذه وبغيرها فهو حقاً أسوء حتى من الدستور الذي سن يوم كان سكان سورية بأسرها لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة عام 1950، في بلد كان حديث الاستقلال لم يمر على تحرره سوى سنوات خمس فقط، فيما تضاعف عدد السكان خمس مرات، واليوم يقدم للشعب دستوراً ليس تعاقدياً، بل على طريقة المنحة والهبة، يعود بالناس 200 سنة أو أكثر إلى الوراء في ثقافة الفقه الدستوري، وكأنها بلاد تحت الاحتلال أو الوصاية والانتداب.
ماذا مثل مؤتمر تونس .....؟
الموقف الداخلي أصبح على درجة أكبر من الوضوح لا لبس فيه، القوى السورية التي تنشد الإصلاح التي كانت قابضة على حفنة ضئيلة من الآمال والأوهام، فالدستور الجديد مزق الأقنعة وبدد تلك الاوهام، فالإصلاح برأي النظام هو كيف نمكث في السلطة ونواصل ممارسة الطغيان وليس سوى ذلك مطلقاً، مشرعو النظام شرعوا للطغيان، وقبضة فولاذية تحاول أن تشرعن قسوتها.
كما لابد من الإقرار (في إطار الموقف الدولي) بحقيقة أن مجلس الأمن ليس المكان المناسب لإحراز انتصارات أو مكاسب وطنية، فالمجلس خاضع بصفة شبه مطلقة لإرادة القوى العظمى، وهي تدير الشؤون من وراء الكواليس، والغرب لما يزل بعد لا يثق بالثورة وبنتائجها، وبالتحديد فإن الصهاينة يتوجسون من احتمال رحيل النظام، ومعها سيكون في المجهول مصير اتفاقات سرية ومذكرات تفاهم، تضمن أمن إسرائيل، وخير لهم نظام كهذا(فليطلق على نفسه ما يشاء)لا ينتمي للمعسكر العربي ولا الإسلامي، مصيره معلق بالبورصة السياسية، وإرادته السياسية مرتهنة لقوى خارجية، هزيل يفتقر للتأييد الشعبي، يخشى الدخول في معارك سياسية لا كبرى ولا صغرى ناهيك عن العسكرية، وما سوى ذلك من شعارات إلا ذر للرماد في العيون.
الموقف العربي يدب دبيب السلحفاة، ولكنه بعد جهد وجهيد بلغ مرحلة نضجت فيها القناعات، وأضحى الجميع ولا سيما بعد إعلان الدستور الجديد، أن النظام ليس في وارد التقدم ولو انملة واحدة صوب مطالب الشعب التي اقر بشرعيتها الجميع دون استثناء، حتى أصدقاء النظام وهم أقلية.
أما مؤتمر أصدقاء الشعب السوري، فبتقديري أنه سوف لن يكون له تأثير قانوني أو مقررات ملزمة، ولكن وقعه الأخلاقي والإنساني سيكون كبيراً، إذ سيمثل مزيداً من الاصطفاف مع الشعب السوري في الساحتين العربية والدولية، ومزيداً من عزل المواقف المؤيدة للنظام وهي أساساً ضئيلة جداً، فلم يقف مع النظام سوى أحد عشر دولة، ولعلها نتيجة تاريخية في الأمم المتحدة لم تحضى بها قضية أخرى.
لذلك لم يكن مقدرا سلفاً لمؤتمر تونس أن يخرج بقرارات الزامية لأي من الأطراف المشاركة فيه أو لغير المشاركة فيه. ومن الواضح أن الكل يريد تجنيب سوريا مصيراً دموياً صعباً، بطريقة لا تخلو ربما من المثالية، فهم يريدون الخروج من الأزمة بأقل الخسائر فهل هذا ممكن عملياً ..؟
النظام سوف لن يستطيع أن ينهي الثورة، فهو في ضعف سياسي وعسكري متواصل، ومعسكر الثورة في أتساع وقوة متواصلة. الثوار في الداخل بلغوا شوطاً بعيداً، والثورة أصبحت مؤسسة كبيرة داخل البلاد بالدرجة الأولى قبل الخارج، بل ربما أن شكل عبئاً على الثورة، فالثائر يفكر بمصير المعركة الدائرة في شؤونها الكبيرة والصغيرة، بينما القياديين في الخارج أخشى أن يكونوا من طراز المثقفين الذين ينظرون ويدققون في ما بعد مرحلة النظام، والخشية هي أن يركزوا عليها، أكثر مما تستحق، على حساب مستحقات أخرى.
وإذا كان الغرب يولي أهمية شكلية، ونكرر شكلية، لقضايا حقوق الإنسان والرأي العام وتأثيراتها، وربما لها دور في تفاعلات الرأي العام والانتخابات في بلدانهم، فالروس والصينيين حسموا بدم بارد ووقفوا مع مصالحهم لا يرون غيرها، ومصالحهم في سوريا لها دوائر ومراكز نفوذ لا يودون خسارتها، وهذه من أولى سمات مرحلة التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ولا يعتمدن أحد بعد اليوم على روسيا والصين.
الغرب وإن كان مقتنعاً لدرجة الوثوق أن هناك جرائم يمكن تصنيفها بضد الانسانية تقترف على مدار الساعة في سوريا، ومن العار تأييد هذا النظام الساقط لا محالة، إلا أنهم يفضلون أن يكون ذلك سقوطاً تحت السيطرة، وأن يتعرفوا لحد التفاصيل على المرحلة القادمة فذلك أفضل بالطبع ولا يبقي شيئ للمفاجئات، على طبيعة النظام المقبل، لضمان مصالحهم وفي المقدمة الأمن والسلام الذي يعم 75 كيلو متراً من الحدود الآمنة حالياً مع المدللة إسرائيل، ومن أولى الأساليب السياسية الأمريكية أنهم لا يصدقون الكلمات والوعود، بل هم يريدون أن يتعرفوا على المرحلة القادمة وطبيعتها، لذلك فإن إدانتهم للنظام حذر، وتأييدهم للثورة أكثر حذراً، فهم بانتظار مرحلة حاسمة يعتقدون أن الثورة ستصلها.
بتقديري أن وجه النظر الأمريكي المرنة التي تجعل الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات، حضي بدعم عربي، وما مغادرة وزير الخارجية السعودي المؤتمر إلا إشارة على أن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن، فالرئيس التونسي الذي عرف عنه تحمسه للثورة السورية قبل بمنح ضمانات قضائية للرئيس السوري وعائلته واعتماد الحل على الطريقة اليمنية، فيما بوابة المحكمة الدولية مشرعة لما أرتكب من جرائم وحشية ترتقي دون ريب لدرجة الجرائم ضد الإنسانية.
من كل ذلك يبدو للعيان أن هناك قوى تريد أن تمنح الرئيس السوري فرصة كريمة للخروج من الأزمة، وهذه الفرصة لا يبدو أنها طويلة، بل أنها بالساعات، والمؤتمر قرر متابعة الموقف بعد وقت قصير في مؤتمر سيعقد في تركيا، وتجاهل النظام في سوريا إرادة ورغبات التغيير من الشعب، التي تلقى مزيداً من التبلور في الداخل، وتأييداً وتعاطفاً متزايداً من الخارج، سوف لن يكون بلا تأثير مادي، وإن كان ذلك يتشكل ببطء، إلا أنه يتشكل، وقد تغير المشهد على مسرح السياسة العربية والدولية كثيراً خلال الشهور القليلة المنصرمة.
وباعتبار أن المواجهة تدور الآن بالضبط هي بين سوريا الشعب ومستقبله الذي يستحق أن يكون مزهراً، وبين نظام ديكتاتوري أحكم بنفسه إغلاق آفاق التطور، لذلك فإن أسماء القادة السوريون المعارضين وطبيعة الحركات المعارضة لا تهم كثيراً. المسألة المركزية في سوريا الآن تعبر عن نفسها كاستحقاق الانتقال إلى المرحلة القادمة وضرورة اجتياز المرحلة الحالية والتوصل لنظام ديمقراطي.
الثورة أصبحت مؤسسة، والنضال السوري ودخل مراحل جديدة، وبالمقابل النظام يطرح نفسه بإصراره على أعمال القمع الدموية، نظاماً استبدادياً بامتياز لا ينتمي للعصر الحديث، والشعب السوري يستحق مجداً عريضاً كما أستحقه طوال تاريخه المجيد.
ترى هل نحن بحاجة لنتنبأ بمصير دستور يطلق النار وله سلاسل يدب كدبابة ....؟
الدستور الذي قرر النظام فوزه بأغلبية ساحقة، وطالما أن الكل يعرف أنها مسرحية عابثة فحسب، الفائز فيها يعلم أنه لا يحتاج لأصوات حقيقة، وأصحاب الأصوات يعلمون أن أصواتهم لا تصل لأبعد من صندوق التصويت، طالما أن صراخهم لا يجدي. بتقديري أنها ضرب من مسرحية عابثة (Theater of Absurd) حيث تنتهي المسرحية من حيث بدأت لا يتغير شيئ جوهري لا في نتائجها النهائية، ولا في حبكتها من البداية حتى النهاية، وهو شيئ يدركه سلفاً المخرج، والممثلون، انتهت اللعبة فلم يعد مهماً كيف ومتى، فالنظام قضى على مصداقيته، ثم على شرعيته في أن يكون نظاماً لكل الشعب، ثم كشفت الأحداث تفاصيل العلاقة الواضحة والخفية بكل القوى الدولية العظمى، وبالقوى المحلية، مع جديد قديم واحد، أنها أضافت حزمة من الأضواء إلى الحلف الرئيسي في المنطقة : الحلف الأمريكي / الإيراني / الإسرائيلي، وبالضبط مثل هذا الفحوى جرى في مسرحية لجان بول سارتر انتهت اللعبة (The game is over).
والفارق المهم هنا هو أن جان بول سارتر كتب هذه المسرحية عام 1943، والمفارقة لا تكمن في التاريخ فقط، بل أن فرنسا كانت محتلة، واليوم يدور ما يسمى بالاستفتاء في سوريا ويجري تحت وقع الصواريخ والمدفعية الثقيلة في سيمفونية دموية يستمتع القائمون بها، أيما استمتاع، ويهزئون ويسخرون ويتضاحكون ويقدمون دستوراً ديمقراطياً للتصويت، ولسان حالهم يقول، واللي ما يصدق يطخ رأسه بدبابة ت 72.
المسرحية انتهت، فلم تعد هناك لا ستائر، ولا أقنعة، لن يختبئ أحد خلف أصبعه، اليوم كل الحقائق تعرض نفسها بوضوح تام، لكل الشعب السوري بصرف النظر في أي معسكر يقف.
أما لمن يعول على الانتخابات نقول ينطبق عليه مثل:
تمخض الجمل فولد فأراً ............. ولكن فأرنا ولد أعمى وأعرج وأكتع...!