د. خـالد الطـراولي
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10773
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ملاحظة: يمثل هذا النص جزء من مقدمة الطبعة الثانية من كتابي "حدث مواطن قال"
ما أحلى تعريف ابن منظور في لسان العرب وهو يتحدث عن الوطن... الوطن هو المنزل الذي نقيم فيه! حيث تسقط جدران الداخل وتصبح الحياة الخاصة جزء منصهرا في حياة عامة، يجتمع فيها خاصة الخاصة مع الأهل والعشيرة، ويحفظهم عن الخارج جدران ونوافذ، خنادق وجسور... والوطن بساكنيه والوطن بجدرانه والوطن بأبوابه ونوافذه!
في الوطن تعيش أيام الصبا بدون وعي المسئول، فالوطن هو المسئول حتى يشتد عودك فتدلف بك الحياة في هضابها وكثبانها وتصبح مسئولا عن الوطن، ولن تسقط هذه المسؤولية عنك، ابتعدت عنه أو قربت، عشت دفئه أو زمهريره، لفحك حره أو برده، حتى تغادره إلى وطن الفناء!
فأوطان السفر والإقامة، وأوطان الملاجئ والتشريد، لن تحول ومسؤوليتك عن الوطن الأم وواجباتك نحوه وحقوقك عليه، حتى وإن جفاك ساكنوه وجار عليك جيران الأمس القريب.. فالوطن منزل في الوجدان ومنزلة في القلب، يمشي معنا حيث نمشي، ويقف حيث نقف..، نزور الناس بصحبته ولا نعود إلا برفقته، لا نتركه يبيت بعيدا عنا، ولا نسلمه ساعة لغيرنا، ذلك هو الوطن! تاريخ يدفع وحاضر يدافع ومستقبل يبحر على سفينة من الأحلام والآمال.
يروى أن النبي سليمان عليه السلام كان ذات مرة مع جيشه الذي يحوي الإنسان والحيوان وكان يصطحبه في مشواره أحد النسور، وأثناء سير الجيش باغتهم الليل، فأراد سليمان عليه السلام أن يجد مكانا آمنا لجيشه يمضي فيه ليلته، فطلب من النسر الذي كان من تلك البقاع أن يتخير لهم أحسن الأماكن، فقبل النسر وطلب منهم أن يتبعوه، وامتثل الجيش لذلك، حتى وصل النسر إلى مكان مظلم يعلوه الخراب والحصى، وتعوي فيه الرياح، فقال لهم هنا المستقر، فتعجب سليمان وسأل النسر: أفي هذا المكان المقفر والمرعب تضعنا، فأجاب النسر مستغربا وبكل ثقة وحزم: هنا وُلدتُ وهنا ترعرعتُ وهنا عشتُ أيام صباي وشبابي ... هذا وطني يا سليمان!
ذلك هو الوطن، حنين دائم وعلاقة متشابكة بين ماض وحاضر ومستقبل، يتنقل في ثناياها فرد ومجموعة بعواطفهم وعقولهم من أجل سعادة الجميع. وفي الحديث الشريف "حب الوطن من الإيمان" ولعل هذه الصيغة المثلى والعالية في تشريف الوطن، مثلها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يعلن تكوين أول وطن معافى وسليم ليس فيه إقصاء أو تهميش أو تعدي، ويهيمن عليه تكريم الإنسان وتسبق كرامته وجوده، فكانت المدينة إطارا نموذجيا لهذه المقاربة التي تجمع ثلاثة مستويات وفاعلين : مواطن ووطن ومواطنة، وكان دستور المدينة أحسن تعبيرة لتمثيل هذا المشهد الجديد، وتنزيل التصورات الجديدة التي حملها هذا الدين الجديد تجاه العلاقة المدنية بين الأفراد جميعا، أيا كانت ديانتهم وثقافتهم وتقاليدهم.
لقد عبّر دستور المدينة عن هذه الحلقة الذهبية المفقودة في الكثير من أطوار هذا التاريخ البعيد والقريب، وفي الكثير من البقاع والبلاد التي نعيش أيامها ولياليها، فكان المواطن حاضرا كإنسان له حقوقه وواجباته نحو هذا الوطن، وكان الوطن مهيمنا على الجميع بجغرافيته ودولته، ومحتضنا لهم على اختلاف مشاربهم، وكانت المواطنة قد نسجت رداءها الحريري بقوانينها ودستورها ومواثيقها وكثير من علاقات المودة والعدل والأخوة في الوطن.
ومرت الأيام... ونزلنا من عليائنا على أرض قاحلة مجدبة، غيّبنا المواطن وغيّبنا الإنسان، فغاب الجميع وابتعدنا عن الأنوار، ودخلنا الكهوف ودهاليز الظلام! وكانت المرأة أول من رميناه في هذه المسالك المظلمة والبحار العاتية وأخرجناها من التاريخ، وخرجنا نصطحبها إلى حيث العدم، ونزعنا عنها صفة المواطن الإنسان وصبغناها بالمرأة الأنثى، وهيمن الظلم والظلام... وأضحى الرجل ظالما في بيته، مظلوما إذا خرج منه، ودخلت أمة بأكملها كهف الجهل والتخلف، وفقد الجميع حقوقه و تخلى عن واجباته تجاه هذا الوطن!
ولعل المواطنة المعاصرة، في حلتها الجديدة المتطورة، قد استوطنت منذ زمن بعيد أرضا غير أرضنا، والتحفت سماء غير سمائنا، وحملت عناوين جديدة ومصطلحات من غير معاجمنا، وجعلت بلدانها تتزين بلبوس التحضر والتمدن وتكريم الإنسان. ودخلت المواطنة عندنا في الكثير من البقاع دهاليز مظلمة، وحملت معها كساء من أحزان ومآسي وتخلف واستخفاف بالفرد والمجموعة، وغاب الإنسان معها، وخرجنا من التاريخ يتامى بدون صحبتها...
مواطننا الجديد يسعى أن يعود إلى التاريخ في ظل جغرافيا ضاغطة وواقع متأزم على أكثر من باب، مواطننا الجديد يريد أن يكون صالحا مصلحا في أكثر من إطار وبيئة، رغم الهضاب والتضاريس...
مواطننا عالمي، يعيش وطنه الصغير، يعيش الحي والقرية والمدينة، ويعيش عالمه الكبير الذي يتجاوز حدود البلاد ليلامس هموم القرية الكونية ويساهم في بنائها...، مواطننا يحمل أجندة واضحة المعالم والأفق، الإنسان أولا والإنسان دائما، لا يخفي شيئا في جعابه ولا يتدثر بغير ردائه، السلم والسلام للجميع أيا كانت الضفاف وأيّا كانت المنطلقات، غير أنه التزم موقع المسؤولية والإرادة الحرة والعزيمة الصادقة والكلمة الطيبة والمنهج القويم، من أجل بناء واع للحاضر، واستشراف سوي للمستقبل، وفي إطار شفاف من العدل والإنصاف، شعاره حقوق الإنسان مقدسة وعنوان بارز "ولقد كرمنا بني آدم".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
22-02-2009 / 13:02:46 حمامي
نعم هي إن شئنا أيضاً مقاربة الاخوان المسلمين وعساي لا أعمم فمنهم من يعتد بعلمه ومنهجه ولكنها خاصة تلك الفئة الشابة أو التي عاشت بالمهجر هي من تحاول عبثا إدخال مفاهيم غربية تحت مظلة الاسلام وهو مما لا يقبله ذو عقل فما بني على باطل وعلى تخمينات أفراد لا يستطيع أن ينسجم تمام الانسجام مع دين شامل نزل للعالمين دون إستثناء.
هؤلاء يا أخي لن تجدهم يتورعون عن دقي عنق الايات المحكمات و اتباع المتشابهات حتى يبرهنوا عن قولهم ومن يتبعهم يضيع وقته الذي لا يمكن تداركه. اللهم إجعلنا بكتابك متمسكين ولسنة حبيبك محيين والسلام عليكم ورحمة الله.
22-02-2009 / 12:46:55 ابو سمية
وجوب التحرر من الرؤية الغربية للاشياء
الاخ الحمامي السلام عليكم
لعلي ايضا لا اوافق الدكتور الطراولي في مجمل مقاربته لقضايا عديدة من تلك التي توصف بالمعاصرة، وهي في مجملها قضايا مفتعلة، كتلك التي تتعلق بالمراة والمواطنة وحقوق الانسان وغيرها من المسائل، والتي لا تعدو كلها ان تكون قضايا لا تجد الا حين الرؤية بالمنظار الغربي، وليست على اية حال من اولويات العمل الاسلامي، لان الصراع مع اهل الباطل يجب ان يكون عقديا ، وليس مبنيا على مفاهيم حقوق الانسان والمواطنة وغيرها، فالمسلم يجب ان يتحرك ايضا لمصارعة الباطل حتى وان كان تام الحقوق كمواطن، وحتى ان كان له كامل الحقوق التي تفرها منظومات حقوق الانسان الغربية، لان هذه المنظومات نفسها مبنية على باطل وتروج وتدافع عن المفاهيم الفاسدة التي تناقض الاسلام (ومن اكثر من الامم المتحدة اجراما في حق الاسلام، بحيث تعمل مجمل منظماتها المتفرعة المختصى للترويج لكل المفاهيم التي تنادي بنقض الاسلام)
ومصدر عدم الموافقة للرؤى كتلك التي ينطلق منها الدكتور الطراولي، ان تلك اصلا قضايا لن توجد الا من خلال التموقع في زاوية معينة حين النظر للاشياء وهي زاوية النظر الغربية و باستعمال منهج الحكم الغربي وقبول المفاهيم الغربية من دون النظر في جدواها، بقطع النظر عما سيؤول اليه تناول تلك القضية فيما بعد حين التحليل،ن لان تناولها فيما بعد لا يعدو ان يكون سقوطا في ما ارتضته الرؤية الغربية العلمانية للاشياء، واقرارا ضمنيا بتبني المنهج والمصطلح الغربي، وكل ما سياتي من افكار متضمنة ماهو الا تكريس للرؤية الغربية من خلال الزعم ان الاسلام ايضا يماثلها، بمعنى ان اقصى ما ينتجه الطرح المتبني للمفاهيم الغربية هو ان بثبت ان الاسلام ايضا يهتم بتلك القضايا، وهو لن يقول ابدا ولن يستطيع،ان الاسلام له رؤية كونية مخالفة لتلك الغربية، وهو المسعى الذي يعني بان المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب
على ان من حق الدكتور الطراولي ان لا نظلمه كثيرا بحيث نحمله وحده وزر تسويق هذه المفاهيم المشبعة بالرؤية الغربية، لان من روج لهذه المفاهيم هي مجمل الحركة الاسلامية التونسية، وكان من دواعي تبنيها لهذه المفاهيم، اسباب عديدة منها سعيها المحموم لكسب الاعتراف من رموز الداخل التونسي الذي يسيطر عليه اقطاب العلماينة، والاعتراف الغربي الخارجي
وتعمل بعض التيارات الاسلامية للترويج للمفاهيم الغربية هذه وبالتالي التمكين للطرح العلماني واضعاف الطرح الاسلامي الجذري، بتبنيها هذه المفاهيم والعمل من خلالها
بقي الاشارة الى انه توجد فعلا مقاربات فكرية اسلامية تقول بوجوب اعادة الرؤية للعديد من المفاهيم التي تتسيد الساحة حاليا، والتي تقدم على انها مسلمات، كمفاهيم حقوق الانسان، وكوجود قضية للمراة منفصلة عن غيرها، والاسراف في مفهوم الوطن وعزله عن مفهوم الدولة الاسلامية ودولة الخلافة، وغيرها من المفاهيم الغربية
22-02-2009 / 08:22:38 حمامي
عندما تقرأ "وكانت المرأة أول من رميناه في هذه المسالك المظلمة والبحار العاتية وأخرجناها من التاريخ، وخرجنا نصطحبها إلى حيث العدم، ونزعنا عنها صفة المواطن الإنسان وصبغناها بالمرأة الأنثى، وهيمن الظلم والظلام... "
لا تستطيع إلا أن ترتاب من مقدمات كهذه فهكذا بدأ من اصطلح على تسميتهم بمصلحي القرن ١٩ في تونس وهم ما كانوا إلا مفسدين عدا من رحم ربك.
22-02-2009 / 13:02:46 حمامي