د.خــالد الطراولي
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8185 ktraouli@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المشهد الأول:
رجل ملقى على الأرض، دماء تسيل، عينان تحدقان بعيدا، سبابة تشير إلى السماء، شفتان تتحركان ببطء... انخفض صوت التلفاز، توقفت الصورة ونزل ستار أسود على المكان، المشهد أصبح بدون ألوان، تهم ترفعها سبابة، نخال نسمع حديثا يشتم منه رائحة الاتهام.. أبن أنتم يا شعوب الأرض؟، أين أنتم يا حكام العرب؟، أين أنت يا حقوق الإنسان؟...تساؤلات تسترسل دون عياء دون صخب...نحن وحيدون في وطننا، نحن مظلومون في حيّنا وفي قريتنا، لن نتهم السماء وقد كانت لحافنا، ولن نتهم الأرض وقد كانت فراشنا، ولكن نرفع سبابتنا نحوكم أنتم.. يا من تعيشون على ظهرها وقد نسيتم يوما أن لكم إخوة في الدين أو في العروبة أو في الوطن أو في الإنسانية، يعيشون حصارا مميتا قاتلا، حتى أكلنا علف الحيوان، إني أتهم إني أتهم...
عاد الصوت إلى التلفاز كانت السبابة لا تزال مرفوعة إلى السماء ولا زالت الشفتان ترتعشان...أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله... شهادة على العصر، شهادة لله... كنت في واد وكان الرجل في واد، كان يعلن اقترابه من الملكوت الأعلى وكنت لازلت أنظر إلى هذه الدنيا بصخبها وشططها، كان يعلن إفلاس مجتمع الأرض وفرحته بلقاء السماء، كان يعلن أن مهمته لعلها انتهت وبقيت مهمتنا معلقة بين الأرض والسماء...
المشهد الثاني:
امرأة عجوز تصيح، تولول، بين عشرات من النساء..، يحملن لافتات ويتظاهرن من أجل غزة، في رقعة طيبة من هذا الوطن العربي العزيز...رفعت عقيرتها ودفعت أيديها إلى الأرض وإلى السماء... أين أنتم ياعرب؟ أين أنتم ياعرب؟ ولم تتوقف... كان سؤال الزلزلة، سؤال المسؤولية، سؤال حكومة الضمير، سؤالا يترك الحليم حيران...، كدت أجيب: أنا هنا، أنا... الشعب العربي الأصيل، أنا التاريخ في حضارته، أنا الأجداد في "معتصمه"... لكني تراجعت! أنا الفرد أنا الجماعة، أنا الجماهير المضروبة على يديها تعيش الكهوف والدهاليز، ولا يسمح لها برؤية الشمس، فكيف لها برؤية غزة وهي وراء السحب وتلفها العواصف والظلمات؟... أدركني حبل نجاة أو هكذا يخيّل إليّ، أين أنتم ياعرب، نداء موجه إلى النظام الرسمي العربي وهو يغط في نومه، في أحلامه، وإذا أفاق فعلى عجز ويأس وخوف، وعلى حسابات معقدة يغلب في الكثير منها مصالح الشخص والأسرة والحاشية على حساب مصلحة الأمة والأوطان...
المشهد الثالث:
أهالي غزة يترقبون الموت ويقرأون الشهادة عندما ينتصف الليل... السماء تشتعل ليلا من قبل مغاوير على متن طائرات نفاثة يرتعون حيث لا رقيب...رعب في الأرض وتوترات وخوف يجتمع عليه نساء وأطفال، أمّ تقرأ الشهادة وتضم ابنها إلى صدرها، وهي تظن إن ماتت، فمع رضيعها، تلقنه الشهادة، حتى إذا مات كان مسلما حنيفا، ولعله يشفع في أمه وأبيه... ولعله يشفع في أمة امتد كيانها من الخليج إلى المحيط!...
طفل يجذب الغطاء نحو وجهه كلما اقترب أزيز الطائرات من حواليه، ينظر إلى أمه تارة وإلى صورة معلقة على الجدار تارة أخرى، كُتب عليها القدس لنا، فلسطين لنا بأرضها وسماءها... وإن كانت السماء هذه الليلة ملكا لقوم غير قومه، ناصبوه العداء لأنهم أرادوا إقناع آبائه بأنهم شعب بدون أرض جاؤوا لأرض بدون شعب! فكان الصغير يتلمس أطرافه ليتبين أنه حي، يفترش هذه الأرض كما افترشها أجداده منذ آلاف السنين، غير أنه اختلف عنهم أن أرض الأجداد كانت صلبة وأرضه اليوم ترتجف!
المشهد الرابع :
أسرة أمام النار، أمّ أحظرت ملابس أطفالها القديمة وأحرقتها حتى يتدفأ الصغار وتطبخ لهم ما تجد لسد الرمق..، تنفخ في الرماد وتبعد أبنائها قليلا حتى إذا تطاير الشرر لا يصيبهم، فهي بين بين، تدفعهم نحو النار في هذه الللية القارسة حتى لا يموتوا بردا، وبين إبعادهم حتى لا تصيبهم النار... لحظة رحمة في عالم من الوحوش! تذكرت عمر رضي الله عنه...نفس المشهد، أم مع أولادها حول النار، أكل يُطبخ...صغار يبكون خوفا وطمعا، أم تطمئن فلذات الأكباد ولا تجد من يطمئنها...تأخر عمر هذه الليلة، لم يمرّ كعادته من خيمة أهل غزة، عوّدنا بالكيس الذي يحمله على ظهره استرضاء لأبناء شعبه..، عوّدنا بالأمن الذي لمس الصغار والكبار، والفقير والغني في عهده...، سلّم عمر مفاتيح الزيارة إلى أحفاده، لكن الأحفاد غابوا ولا أثر لهم، غاب الحكام عن الزيارة وبقي الإناء على النار والأطفال يرون ثيابهم تحترق بعدما احترقت قلوبهم انتظارا لحفيد لم يأت.
ملاحظة:
هذه المشاهد هي مواصلة للمشاهد الأربعة التي سبقتها منذ سنتين أيام الحرب على لبنان، وهو تعبير على أن المشهد لم يتغير في ملامحه الصغيرة والكبيرة وإن تغير أصحابه... معادلة الدمار وعقلية الغاب لم تنته محطاتها ولا مسارها ولا عناوينها... الدمار والعنجهية والرعب لم تتغير جهته، والصبر والمقاومة والثبات بقيا في الطرف المقابل وإن أصبح اليوم يسمى غزة وأهلها الفلسطينيون!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: