الصواريخ السوفيتية في كوبا : في كواليس الحرب الباردة -2-
ترجمة: د. ضرغام الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11476
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وهناك نوعين من الدفاعات الجوية في كوبا: صواريخ أرض / جو من طراز سام /2 ضد الطائرات المحلقة على أرتفاعات شاهقة، ويديرها جنود سوفيت وبقيادة سوفيتية، وعدد كبير من بطاريات مقاومة الطائرات التقليدية وهي تحت قيادة ضباط كاسترو، وكاسترو لا يريد أن يضل ساكناً طويلاً دون حراك.
وقام قائد الثورة في الأيام التالية بتركيز عدد أكبر من أسلحة مقاومة الطائرات بالقرب من الصواريخ الذرية، جنباً إلى جنب مع الصواريخ السوفيتية لمقاومة الطائرات من طراز سام / 2، كان خروتشوف في غضون ذلك لم يخبر الكوبيين بعد في يوم الجمعة عن رسالته إلى الرئيس كندي والتي كانت مؤثرة على مجرى الأزمة. وكان كاسترو قد أعطى الأوامر لمدفعيته المضادة للطائرات، بإطلاق النار في اليوم التالي(السبت) على الطائرات الأمريكية التي تطير على ارتفاع منخفض.
وكما أخبر لاحقاً(الرئيس كندي) الكاتب تيد سزولا الذي كتب تاريخ حياته، بأن كاسترو لم يعد يحتمل خرق القوات الجوية الأمريكية لحرمة الأجواء الإقليمية الكوبية، وأنه كان يأمل (كاسترو) بأن الروس الذين يديرون صواريخ سام / 2 " بدافع الروح المعنوية لرجال مدفعيتنا لن يقفوا مكتوفي الأيدي " وسيشتركون في التصدي للطائرات الأمريكية.
ويستفاد من المكالمات الهاتفية اللاسلكية السوفيتية الملتقطة من قبل أجهزة الإنصات الأمريكية NSA ، بعد أن أرسلت لحل الشفرة، تبين بأنه مساء يوم الجمعة قد حصل تصادم بين الجنود السوفيت والكوبيون.
إذن، فإن كاسترو، ولم يعد هناك مجال للشك، قد حطم بنفسه سيطرة الأخ الأكبر، الوضع في كوبا كان يسير وكأنه زورق بدون مجاذيف، وكل من واشنطن وموسكو أدركتا الموقف، وهيئة ركن الأزمات التابعة للقصر الأبيض استعلمت يوم السبت صباحاً فقط، أن المدفعية الكوبية المضادة للطائرات قد أطلقت النار على الطائرات الأمريكية فودو، ولكن إلى حد الآن بدون إصابات، والأمريكيون يعتقدون أن الكوبيون يطلقون النار على الأوامر السوفيتية.
وفي نفس الوقت، وكان ذلك واضحاً، أن خروتشوف قد أرسل رسالته بدون إطلاع كاسترو على الأمر. ثم أنه أرسل ثانية إلى الرئيس كندي:" عزيزي السيد الرئيس " ولكن لم تكن سرية هذه المرة، بل مفتوحة للرأي العام العالمي عبر إذاعة موسكو. ويدل بوضوح أنها تمت تحت ضغط زملاؤه في القيادة، تقدم فيها بطلبات أخرى من أجل التسوية:
"نحن نوافق على سحب الأسلحة التي تعد من قبلكم هجومية من كوبا وسيقوم ممثل
لكم بإعلان فـحواه، أن الولايـات المـتحدة ستـخلي Evacation من الأسـلحة
المماثلة"
إنها سخرية التاريخ، فصواريخ جوبيتر في تركيا، التي كانت ستسحب منذ أمد طويل، وكان كندي قد أمر بسحبها، اعتبرت مماثلة لتلك التي نصبت في كوبا، وها هي الآن مطروحة للمبادلة، وقبل يومين أثنين كان هناك أيضاً فالتر ليبمان المتابع في الشؤون السياسية، كان قد اقترح الحل ـ صفر، كوبا مقابل تركيا كصفقة تجارية، وهو ما قبل به السوفيات.
الرئيس كان على حق، كان يريد أن يرى الصواريخ عائدة من تركيا، وقد يغضب: فإن المناطحة قد أغضبته. الغلطة الحمقاء التي ارتكبناها بأنفسنا أوقعتنا في الفخ الذي يبحث عنه السوفيت، غلطة تجلب العار.
قفز الرئيس وهيمن على مساعديه ومستشاريه، وكان قد أخبرهم أن يخلوا الطاولة (طاولة المفاوضات) من هذه الصواريخ المنصوبة في تركيا. وغادر الغرفة وهو غاضب إلى حديقة الورود التي أمام الشباك، يتمشى جيئة وذهاب إلى أن هدأت نفسه.
وفقط في الأسبوع ما قبل الأخير، في 21/أكتوبر/1987، تلقت مكتبة كندي الوثائق والتسجيلات التي رفعت عنها السرية لإطلاع الجمهور على المناقشات التي كانت قد دارت في 26/ أكتوبر ـ تشرين الأول / 1962 في اللجنة التنفيذية، وبشكل أوضح من المصادر السابقة، نعلم أن الرئيس كندي كان مستعداً صباح يوم السبت، لأن يمضي قدماً مع الطلبات السوفيتية(بالموافقة) رغم أن ذلك سيبدو ويا للحماقة أنه رضخ للضغط السوفيتي.
قدم المستشارون، بما فيهم شقيقه روبرت اعتراضاً: لا يجوز القبول بالضغط، حتى لو كان تحت ضغط الصواريخ الذرية السوفيتية المنصوبة في كوبا، مقابل التعامل مع قضية الصواريخ في تركيا التي نصبت هناك بناء على قرار أتخذه حلف الناتو. فذلك له تأثيره العظيم على التحالف وعلى ضمانات الحماية الأمريكية التي ستفقد مصداقيتها. وبالمقابل فإن مغامرة خروتشوف ستفوز وسيكون ذلك بمثابة " ميونيخ العصر الذري "(11)
وبالمقابل فإن كندي، وكما لو كان تحت وطأة موقف لا يطاق، إذ كان عليه أن يتشبث لأسباب تتعلق بالهيبة، باستخدام السلاح، وهو ما كان قد شطبها منذ زمن بعيد " أينبغي علينا ربما القيام بغزو أو القيام بقصف كثيف على كوبا، من جرائه يمكن أن نفقد برلين(الغربية)، فقط لأننا لا نريد سحب الصواريخ من تركيا ! ذلك هو همي الأكبر ! ".
وهنا تحدث كندي بسخرية لاذعة، ترى هل سيفكر حلفاء الناتو بشكل مغاير، الذين مثل كونراد أديناور الباحث عن التشدد.
" من المؤكد أننا نعلم، كيف أن الشجاعة تتلاشى عندما يبدأ الدم يسيل، وعندما تبدأ العمليات العسكرية، وعندما يقبض الروس على برلين، عندها سيقول الجميع، ربما أن عملية تبادل الصواريخ لم تكن اقتراحاً سيئاً جداً.
اليوم يمكن سحبها، ولكن الأمر لن يبقى كذلك عندما نبدأ بالعمل العسكري ".
نعم، كان الأمر يبدو كذلك، عندما أكملت الماكنة العسكرية استعدادها القتالي، ليس فقط مدافع كاسترو المضادة للطائرات، تطلق نيرانها على اليانكي (12) الذين كانوا يظهرون دائماً بطائراتهم، ومن الممكن أن تكون إصابتها قاتلة في أي لحظة، وليس فقط الجنود السوفيت الذين أنجزوا في غضون هذه الفترة أعداد قواعد الصواريخ وجاهزيتها للعمل، بل: ها قد فقد أول أمريكي في هذه الأزمة، وهو الرائد الطيار رودلف أندرسون قائد طائرة يو/ 2 U2 (13) وهو الذي كان قد ساهم قبل أسبوعين اكتشاف الصواريخ السوفيتية، لم يعد هذا الطيار من مهمة كلف بها، ولا يعرف بدقة ماذا جرى له.
وبعد الظهر، كان أعضاء اللجنة التنفيذية يزاولون أعمالهم في دوائرهم. وفي الساعة 1600(الرابعة عصراً) عادوا وأجتمعوا مرة أخرى، وكان رؤساء الأركان الأربعة (القوات البرية، الجوية، البحرية، بالإضافة للأركان العامة)، حاضرين الاجتماع، وقد تحدثوا وشرحوا بما فيه الكفاية، وكانوا جميعاً مدركين " أن تأثير الحصار سيكون ضعيفاً على المدى البعيد، وأن الحل العسكري هو الأوحد. وهذا ما يعرفه الاتحاد السوفيت ويفهمه".
وسجل روبرت كندي مقترح رئيس الأركان العامة " هجوماً جوياً يوم الاثنين يعقبه غزو الجزيرة".
وفي هذه اللحظة توقفت المناقشات التي كانت تدور في حالة اجتماعات المستشار الجوي في ملجأ القصر الأبيض، إذ ورد نبأ عاجل بأن الرائد الطيار المفقود أندرسون قد اسقط بصاروخ أرض / جو سوفيت من طراز سام/2 عندا كان يحلق على ارتفاع شاهق وقتل في طائرته التي ارتطمت بالأرض. إنه القتيل الأول !!!
وليس رئيس الأركان العامة فقط أدرك منذ الوهلة الأولى، أن إسقاط الطائرة هو استفزاز واضح، أراد منه قادة الكرملين أظهار استعدادهم القتالي. وليس هناك مجال للتراجع كما هو ظاهر : إن على الولايات المتحدة الهجوم إذا أرادت حماية طياريها، ويقول روبرت كندي:
" كان لدينا الإحساس أن الأنشوطة تسحبنا سوية ... كيف سيكون بوسعنا مواصلة إرسال طيارين يو/2 إلى هذه المنطقة قبل أن نسكت مواقع صواريخ سام/2 ؟ سأل الرئيس ثم قال " إننا أمام لعبة جديدة تماماً" . في البداية ساد إجماع بأننا يجب أن نهاجم غداً صباحاً بالقاذفات والطائرات المقاتلة ويجب تدمير مواقع صواريخ سام/2".
ولكن الشكوك تصاعدت من جديد عند الرئيس كندي، على هذا الشعور المشوب بالعفوية وتعاظم روح الثأر " لا نقوم بالخطوة الأولى من حالة الغضب" قال الرئيس، وكان يقصد كيف سيكون الحال عندما " يصبح الطرفان في مرحلة الصراع الرابعة أو الخامسة، وكيف سيكون التصعيد، ولن نذهب إلى المرحلة السادسة لأنه لن يكون أحد منا بوسعه المجئ إلى هنا ".
وفيما يبدو، وحتى تلك اللحظة، أن الرئيس لم يكن واثقاً من تراجع الروس( أو أنه يشك في ذلك)، أو أن الرائد الطيار رودلف أندرسون قد أسقطت طائرته بناء على أوامر من موسكو، وكان يأمل قبل أن يعطى الأمر بهجوم خاطئ على شيء ما يفصل بين الأمرين، وأنها فعلى خاطئة لقائد بطارية صواريخ، فذلك افتراض ينبغي توقعه، لا بل وحتى هذا اليوم ليس واضحاً تماماً، لأي سبب أطلق صاروخ الأرض / جو. ولكن أوامر كاسترو بإطلاق النار ولأخبار التي تتحدث عن تصادم بين الكوبيين والسوفيت في الليلة الماضية تشير إلى مثل ذلك. إذا لم تكن من الكوبيين أنفسهم، فمن المؤكد أنها تمت(عملية أطلاق الصاروخ) بضغط منهم، ولكن من المؤكد هو أن موسكو لم تصدر الأوامر بإطلاق الصاروخ.
لم يكن بوسع الرئيس كندي أن يبرهن على ذلك، ولكنه أرجأ هجوماً جوياً مأموناً قبل أن تسيل دماء لا ضرورة لها، إذ أنه راغب في إرسال طائرة يو/2 إلى كوبا لمعاينة نوايا السوفيت، إنه يريد أن يكون واضحاً ومتأكداً.
وبدون ارتياح، أصغى رؤساء الأركان إلى ذلك، الذين صاروا أخيراً أمام أهدافهم، وعندما عادوا إلى البتاغون(وزارة الدفاع)، هكذا يروى لمؤرخ جراهام أليسون من جامعة هارفارد، أوقفوا حالياً الهجوم الانتقامي كانوا مندهشين " استلموا الأمر وهم غير مصدقين، بعض الضباط كانوا مقتنعين بأن الرئيس فقد أعصابه وإنه جاث(راكع) على ركبيته".
وفي الساعة 1800(السادسة مساء) يوم السبت، ما زال رد خروتشوف الذي يسعد جون وروبرت كندي لما يصل بعد ! والمذكرات تتوالى من وزارة الخارجية حول طلبات موسكو بصدد سحب صواريخ جوبيتير من تركيا، برفض يخلو من التوفيقية. وروبرت يجد ذلك أمراً سلبياً ولكنه بالمقابل كان معارضاً الاستمرار في مساعي الصواريخ كما يطرحها خروتشوف، والتي يبدو أن الرئيس كان مقتنعاً به في البدء.
وهنا كانت للأخ الصغر خاطرة (فكرة) التي من شأنها أن أعادت النشاط إلى أعضاء اللجنة التنفيذية المستنزفين، كما أنها لاقت الاستحسان لدى الحمائم منهم: كيف سيكون الموقف إذا وردت رسالة ثانية من خروتشوف لا تأتي على ذكر قضية سحب الصواريخ فحسب، بل وتجيب على الرسالة الأولى... إلى سحب الصواريخ مقابل تعهد بعدم غزو الجزيرة، ستكون موافقة وبفرح.
ذهب روبرت كندي وتيد سندرسن سوية إلى الغرفة البيضوية التي كانت خالية، وفي خلال 45 دقيقة جهزا نصاً يتضمن تعهداً كهذا، والذي سيكون لاحقاً أحد قضايا نزع السلاح والتي بموجبها سيتفق على قضية صواريخ جوبيتير.
صادق الرئيس كندي على مقترح نص الرسالة، وتركها تأخذ طريقها إلى موسكو، ثم دعا اللجنة التنفيذية إلى الاجتماع، ثم أجتمع مع شقيقه على انفراد في الغرفة البيضوية وتحادث معه. ويكتب المؤرخ أرثر شليزنغر إنها دبلوماسية سرية وفريدة من نوعها.
وبذلك بدا روبرت كندي بالعمل، إذ دعا السفير السوفيتي في واشنطن أناتولي دوبرنين إلى محادثات فورية التي بدأت في الساعة 19،45(الساعة السابعة وخمسة وأربعين دقيقة مساء) في مكتب روبرت الذي كان يشع بالأنوار في تلك الليلة بمقر وزارة العدل بما يشبه ما يجري في أفلام دراكولا(14)، وشقيق الرئيس روبرت، الشاب النحيل الجسد ستكون له لقآته السرية مع الروسي الضخم الخفيف الدم(السفير السوفياتي) وقد تولى إفهام السفير بأن شقيقه(الرئيس) سيتعامل في قضية سحب الصواريخ بجدية تامة.
هناك روايتان عن محادثات ليلة السبت: واحدة كتبها روبرت كندي، والأخرى التي كتب عنها أناتولي غروميكو(نجل أندرية غروميكو رئيس الدولة السوفيتية لاحقاً) وقد أرخها نقلاً عن أنباء دوبرنين. والروايتان لا تتناقضان بل تكمل أحداهما الأخرى.
ويصف دوبرنين روبرت كندي بأنه فظ جداً :" لقد أعلن ذلك الأمريكي والبتاغون يمارس ضغطاً شديداً على شقيقه(الرئيس) في التعامل حول هذا الموضوع بما في ذلك استخدام القوة المسلحة " وقول دوبرنين نقلاً عن المؤرخ غروميكو:
" لقد أدرك روبرت ت كندي أن بين الجنرالات الكبار في الولايات المتحدة حمقى وأغبياء كثيرون طامعون إلى القتال، وهو لم يغلق باب الفرص، وبأن الموقف قد يخرج عن نطاق السيطرة إذا أستمر التدهور. إن كل مماطلة بإيجاد مخرج من هذه الأزمة، مرتبط بمخاطر كبيرة " .
ثم يروي شقيق الرئيس، روبرت كندي في روايته الإنذار:
" يجب أن تكون الموافقة عندنا غداً، بـن القواعد (في كوبا) ستزال، وإن هذا ليس إنذاراً نهائياًUltimatum ، وإنما تثبيت حقيقة أن ما لم تزال هذه القواعد، فإننا سنتولى أزاحتها بأنفسنا".
السفير دوبرنين سأل عن التصرف المقابل، سحب صواريخ جوبيتير من تركيا، فرد عليه روبرت كندي، بأن ذلك غير ممكن بسبب ضغط الصواريخ السوفيتية في كوبا والمفاوضات حول ذلك. ولكن يمكن التأكيد دائماً أن الرئيس " يفكر بذلك منذ زمن بعيد، سحب الصواريخ من تركيا وإيطاليا". وإذا حلت أزمة كوبا، فإن الصواريخ الأمريكية جوبيتير ستختفي في غضون أربعة أو خمسة اشهر، هكذا تعهد روبرت للاتحاد السوفيتي.
ويرى روبرت كندي في ذلك " الزمن لا ينتظر، ولا ينبغي علينا تبديده، ونهاية الدبلوماسية السرية التي سعى إليها شقيق الرئيس، هي حل الأزمة سلمياً بدون دفع ثمن سياسي لها لا يستطيع أعضاء تحالف الناتو احتماله أو الناخبين في الولايات المتحدة الأمريكية، أنهم يريدون التركيز على الطلبات الرخيصة لخروتشوف بدون التعرض إلى متاعب سياسية.
ويقر المؤرخين الليبراليين اليساريون منه، بأن سياسة كندي تجاه السوفيت في قضية الصواريخ والإنذار وصلت إلى حافة الكارثة، وعلى الرغم من أن الأمر كان يجري من أجل حفظ الهيبة والكبرياء، ومن أجل ذلك كادت أن تشعل حرباً، فقط من أجل إرغام خروتشوف ولفظ وعود روبرت كأسرار.
والأخوة كندي(الرئيس وشقيقه روبرت) كانا قد أرعبا خصومهما، وهذه حقيقة. ولكن اليوم، وليس هناك أدنى شك، أنهما كانا يخدعان(بلف ـ خدعة) وفي الحقيقة فإنهما كانا قد قررا بأنهما سوف لن يستخدمان القوة المسلحة ضد الروس في كوبا، فيما لو رفض خروتشوف المفاوضات السرية، وخلال مفاوضات روبرت كندي مع السفير دوبرنين، تحادث الرئيس في القصر الأبيض مع وزير الخارجية دين راسك. وفقط في عام 1987 كتب راسك عن هذه المحادثة وهو يبلغ اليوم 78 سنة من العمر، كتب في رسالة إلى مستشار الأمن القومي في ذلك الوقت ماك جورج بوندي(68عاما) يزيح فيها الستار عن تلك المحادثة.
الرئيس كندي كان قد قرر تكليف وزير خارجيته دين راسك بتحقيق اتصال مع سكرتير الأمم المتحدة يوثانت بواسطة رجل اتصالات موثوق (أندرية كودير) وإيصال نص تلفوني إليه بطرح مقترح إلى القوى العظمى(والحديث لراسك) بسحب الصواريخ سواء الجوبيتير الأمريكية، أو صواريخ كوبا، إذا رفضت موسكو المحادثات والصفقة السرية، سيقوم رجل الاتصالات كودير وبناء على إشارة رمزية من واشنطن بوضع المقترح أمام السكرتير العام للأمم المتحدة مع الرجاء أن يتقدم بطرحها كمقترحات شخصية منه على الاتحاد السوفيتي وإبلاغ الأمم المتحدة بذلك.(14)
وإذا توجب الأمر، فإن الرئيس كندي على استعداد لتحمل مسؤولية التباحث مع السوفيت أما الرأي العام، شيئاً واحداً لم يكن يريده الرئيس: لا يريد أن يطلق المتعطشين للثأر القتال بإرسال سلاح الطيران يوم الاثنين أو الثلاثاء، لكي تغير على كوبا وتقتل الروس.
وفعلاً لاقت لعبة بوكر الأخوين كندي الحظ، ففي الصباح الباكر ليوم الأحد، جاءت الأنباء عن طريق إذاعة موسكو، أن خروتشوف استلم طلب كندي بسحب الصواريخ(ومحتفظاً بسرية اتصالات روبرت كندي مع سفيره في واشنطن).
وكان خروتشوف ورفاقه قد فقدوا السيطرة على فيدل كاسترو وعلى الموقف في الجزيرة، وينبغي تقريباً الاعتبار، أن في حالة سقوط طائرة أمريكية أخرى(بدون إرادة أحد)، وقد يكون جندياً فاراً من الخدمة العسكرية فوق أحدى قطعاتهم المرسلة بقصد الاستطلاع Expedition، ولهذا السبب وحده لن يبقى أمام القادة السوفيت سوى خيار حكيم واحد: إن التزام كندي قد هزم وأبعدنا جرثومة المواجهة والتصعيد طالما بوسعنا فعل ذلك.
" سيكون الأمر مثيراً للسخرية لنا، إذا شنت الحرب على الولايات المتحدة من كوبا " أوضح خروتشوف في مذكراته التي يمكن وصفها بالتساهل وتبعد كوبا 11،000 كيلومتر عن الاتحاد السوفيتي.
* * * *
في 26 / أبريل ـ نيسان / 1963، أي بعد ستة شهور من محادثات روبرت كندي مع السفير دوبرنين(يشغل اليوم منصب سكرتير اللجنة المركزية للعلاقات الخارجية) أرسل وزير الدفاع مكنمارا مذكرة بخط اليد إلى الرئيس كندي: " الرؤوس الأخيرة لصواريخ جوبيتير ستسحب من تركيا يوم السبت " وكانت قضية الصواريخ السوفيتية قد أغلقت نهاية عام 1962.
وحتى عام 1968، عندما ترك روبرت كندي وراءه تقارير عن أزمة الثلاثة عشر يوماً، تتضح أن هناك أربعة أشخاص فقط عدا الأخوين كمدي مطلعين على المحادثات السرية مع خروتشوف، ولم يتم أبلاغ أي من زعماء حلف الناتو، والتبريرات التي قدمت لسحب الصواريخ جوبيتير هي إجراء عمليات صيانة شاملة عليها، وأنها ستستبدل بصواريخ بولاريس التي تطلق من الغواصات.
لذلك، ولأن دين راسك ظل صامتاً لمدة 25 عاماً، يمكن اعتبار نهاية أزمة كوبا بأنها نصر للإرادة الأمريكية، التي أرغمت الاتحاد السوفيتي على سحب الصواريخ. وكدرس لمنظري حلف الناتو حول نزاع القوى العظمى في أزمة كوبا، كبرهان على الحل الذي يعتمد على القوة والتصدي الذي أعاد السوفيت لصوابهم.
بعد اغتيال جون ف. كندي في نوفمبر ـ تشرين الثاني/1963، أصبح الطاقم الذي يساعده ضحية لبعض الخرافات من أجل تجديد أسطورة القوة، لذلك ساهم مكنمارا ودين راسك وبوندي في حرب فيثنام. أما روبرت كندي فقد كان يناضل من أجل السلام حتى أغتيل في حزيران ـ يونيو / 1968، القتال المثير للاشمئزاز في الغابات، وذلك دليل أن شقيقه الأكبر كان في فيثنام وكما في فخ كوبا يمارس الجزء الأفضل من الصمود، والعجز عن الصبر والصمود يحول الأمور إلى مغامرات دموية.
في أكتوبر ـ تشرين الأول / 1964، عزل نيكيتا خروتشوف من مناصبه عن طريق اللجنة المركزية ورئاسة الحزب، والسبب الرئيسي لعزله كانت قيادته المشوبة بالفوضى واختلاط الحابل بالنابل في ميدان الزراعة. ولكن رفاقه لم يحاسبوه بأنه أضر بمستوى المعيشة لاهتمامه بالتسلح النووي، وإرساله الصواريخ الذرية إلى كوبا، لأنه كان يأمل تقليص التفوق النووي الأمريكي.
وكان خروتشوف قد حاول من خلال التسلح النووي(أو تحديد السلاح الذري) والتعادل في القوة، أن يصبح قوة عظمى، كان في نظر رفاقه قد فشل في إدارة أزمة كوبا، وفي عهد برجنيف قرر الاتحاد السوفيتي بأن يقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة مهما كلف الأمر.
" هناك مجنون واحد بأمكانه الاعتقاد، أن التسلح هي المسألة الرئيسية في حياة مجتمعه " كتب خروتشوف في أولى رسائله أبان الأزمة واستطرادا قائلاً " التسلح يجلب الإدانة ". الرئيس وشقيقه ربحا المعركة من خلال تفادي الخطر.
ولكن منذ موت كندي وعزل خروتشوف لم ينتصر سوى المجانين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• نشر الكتاب كمسلسل في مجلة دير شبيغل Der Spiegelالألمانية / همبورغ.
• العدد: 45
• بتاريخ : 2 / نوفمبر ـ تشرين الثاني / 1987
• الفصل السادس/ بعنوان ، المواجهة بين القوى العظمى/ أزمة كوبا 1962 Konfortation der Superm'chte in der Kuba - Krise
• الكاتب : فيلهام بيتورف Wilham Bittorf
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1. نشر في الغرب مذكرات نيكيتا س. خروتشوف بعنوان "خروتشوف يتذكر" ولكن المصادر الرسمية السوفيتية لم تقر بوجود مثل هذه المذكرات. المترجم
2. مثل مقتل الأرشيدوق ولي عهد النمسا على يد إرهابيين في سراييفو/ البوسنة، شرارة أشعلت نيران الحرب العالمية الأولى. المترجم
3. يطلق مصطلح الصقور على رجال القرار السياسي المتشددين الميالون منهم إلى استخدام القوة، فيما يطلق مصطلح الحمائم على هؤلاء الذين يفضلون الحلول السياسية والدبلوماسية.
المترجم
4. نيكولاي غوغول (1805 ـ 1852 ) روائي روسي شهير له عدد من الأعـمال المهمة.
المترجم
5. كانت ألمانيا الاتحادية تعتبر حدودها مع ألمانيا الديمقراطية حدود بين محافظات ولا تعترف بالحدود البولونية التي ضمت قدراً من الأراضي الألمانية كواحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية. المترجم
6. سياسة الانعزال Isolationism منهج في السياسة الخارجية استمر في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى وإلى الحرب العالمية الثانية ومفادها: ابتعاد الولايات المتحدة عن مشكلات أوربا. المترجم
7. يبدو من الوضوح أن كلا الجانبين يتجنب الاحتكاك الخطر مع الطرف الآخر. المترجم
8. هذه المعلومات غير دقيقة، جيفارا كان في ذلك الوقت وزيراً للصناعة وحاكم مصرف كوبا المركزي وعضو مهم في قيادة الثورة. المترجم
9. هكذا باللغة الإنكليزية في النص الألماني وهو حديث الرئيس كندي المترجم
10. كانت هناك محاولة غزو فاشلة قام بها منفيون كوبيون بدعم من الولايات المتحدة غير مباشر، ومباشر في بعض فقراته، تدعى حادثة خليج الخنازير. المترجم
11. اتفاقية ميونيخ بين هتلر وموسولويني وتشيمبرلين وديلاديه عام 1937، والتي توصف في العلاقات الدولية بأنها معاهدة ابتزازية، فاز بها هتلر وكسب تشيكوسلوفاكيا ضد منافسيه وخصومه في أوربا. المترجم
12. اليانكي تسمية تطلق على أمريكيو الولايات المتحدة. المترجم
13. وهي طائرة تجسس أمريكية الصنع من أنتاج شركة لوكهيد، وتمتاز بقدرتها على التحليق الشاهق جداً ولمسافات طويلة، وقد أسقطت أول طائرة من هذا الطراز عام 1959 فوق الاتحاد السوفيتي، وحوكم طيارها غاري فرنسيس باور بتهمة التجسس، وتسببت هذه الفضيحة بانهيار مؤتمر قمة باريس بين خروتشوف وأيزنهاور. المترجم
14. يستحق الملاحظة هنا أن هذه الاتصالات تعكس قدرة الدول العظمة على المناورة واستخدام البدائل، والاتصالات الجانبية والدبلوماسية السرية والعلنية، وكذلك التأثير المهم على منظمة الأمم المتحدة والتلاعب بالمواقف والقرارات، حتى في زمن الحرب الباردة. المترجم
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: