الخصومات الثقافية في تونس: معركة زين العابدين السنوسي وسعيد أبو بكر أنموذجا
أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 570
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
حفلت بلادنا بالعديد من الخصومات الأدبية والثقافية التي نجدها موزّعة في بطون الجرائد والمجلات والتي ما زالت لحد الآن طيّ الإهمال بحيث لم يتمّ تجميعها ولا دراستها توثيقا وحفظا لجانب من جوانب حياتنا الثقافية التي تكشف حيوية النخبة التونسية وقدرتها على المنافحة والأخذ والردّ الذي يصل في بعض الأحيان حدود الشكاس، ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت إن المرحوم الشاذلي بويحي من أوائل من تناول هذه المسألة بنشره ردّ الأميرالاي محمد القروي على محمد السنوسي والد زين العابدين في الاستطلاعات الباريسية الذي سماه "حادثة جوية على الاستطلاعات الباريسية"(1) وهو ردّ كُتب في تسعينات القرن التاسع عشر وبقي مخطوطا مجهول المؤلف إلى أن نشر الصادق بسيس نصّه في كتابه عن محمد السنوسي(2) وفي نشرته الثانية تمكن بويحي من معرفة صاحبه فخصّه بترجمة وافية، في ردّه لم يترك القروي شتيمة أو سبابا إلا استعمله ووصف به خصمه، لم تتوقف الخصومات الأدبية إلى يوم الناس هذا وإن اختلفت مضامينها وأدواتها ولكنها بقيت دائرة بين المحافظين والمجدّدين وحتى بين المجددين أنفسهم حول المفاهيم الثقافية أو الدينية وتعود أسبابها أساسا إلى الخصومات السياسية أو الخلافات الشخصية، فمن بين المعارك التي اندلعت ولم تدم طويلا الخلاف بين سعيد أبو بكر وزين العابدين السنوسي حول الصفحات القليلة التي نشرها السنوسي لسعيد في كتابه "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" الذي يعدّ من أهمّ ما نُشر في القرن الماضي في التعريف بالأدب والأدباء التونسيين، جاء في مقدمته بقلم محمد البهلي النيّال: "فباطلاعي على قطعة منه علمت أنك الوحيد الذي توفّق حتى الآن في هذا القطر لخدمة الأدب والأدباء بأمان وصدق ولا أخفي إعجابي بصراحتكم التامة في نقد معاصريك من أهل بلادك الأدباء وإظهار صُوَرهم في مؤلفك هذا حافلة بألوانها الأبديّة لا أثر للزخرف الكاذب فيها إلا ما كان طبيعيا في أصله ومبناه."(3) وقد أعادت الدار التونسية للنشر طبع المجلّد الأول من قسم المنظوم في جزأين اثنين إلا أنها تصرفت فيهما بشكل فظ فحذفت بعض الشعراء وتصرّفت في القصائد بالإضافة والنقصان بحيث نجد في نهاية الأمر كتابا آخر هو غير الذي ألّفه السنوسي فسالم بن حميدة الأكودي الموجود في الصفحة 288 من المجلّد الأول يغيب في الطبعة الجديدة التي يحضر فيها مصطفى آغة ومحمد بوشربية بعد نقلهما من المجلّد الثاني من الطبعة الأولى أما بالنسبة لسعيد فإن الناشر أعفى ترجمته من أن ينالها التغيير ولكنه اجتهد في إضافة قصائد أخرى للشاعر نصّ في الهامش(4) على أنها زيادة منه وهي التالية:
1) "علموها" الوزير، العدد 241، السنة 9، عامي 1346/1928.
2) "المرأة والأخلاق" الوزير، العدد 62، السنة 2، عامي 1339/1921.
3) "يا أهل تونس" الوزير، العدد 64، السنة 2، عامي 1339/1921.
4) "في سبيل العلم" الوزير، العدد 44، السنة 1، عامي 1339/1921.
5) "أنا ووطني" الوزير، العدد 41، السنة 1، عامي 1339/1921.
6) "البدع والإسراف" الوزير، العدد 83، السنة 2، عامي 1340/1922.
7) "إلغاء الحصار عن الإيالة التونسية" الوزير، العدد 54، السنة 2، عامي 1339/1921.
8) "الفتاة الباكية" الوزير، العدد 79، السنة 2، عامي 1340/1921.
9) "الوفاق.. ! الوفاق.. !" الوزير، العدد 71، السنة 2، عامي 1340/1921.
هذا التغيير لم يحدث وسعيد أبو بكر حيّ وإلا لأقام الدنيا ولم يقعدها غير أنه لم يصمت لمّا وجد أن بعض التغيير أصاب قصائده المنشورة في المجلّد الأوّل كن الكتاب واعتبره تحريفا متعمّدا من زين العابدين فنشبت بينهما خصومة جمع وثائقها الأستاذ أحمد خالد(5) كالتالي:
1) "ماذا في الصحف المختارة" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 272 بتاريخ 19 أكتوبر 1927، ص2.
2) "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر، صحف مختارة" زين العابدين السنوسي، جريدة لسان الشعب، العدد 274 بتاريخ 2 نوفمبر 1927، ص 3.
3) "سعيد وزين العابدين" بقلم (م.هـ)، جريدة لسان الشعب، العدد 275 بتاريخ 16 نوفمبر 1927، ص 1.
4) "ردّ على ردّ" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 276 بتاريخ 23 نوفمبر 1927، ص 2 و3.
5) "جناية على الأدب" بقلم (م.ع. البكوش)، جريدة لسان الشعب، العدد 291 بتاريخ 4 أفريل 1928، ص 2.
6) "أنا وزين العابدين (1)" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 292 بتاريخ 11 أفريل 1928، ص 3.
7) "أنا وزين العابدين (2)" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 293 بتاريخ 18 أفريل 1928، ص 2 و3.
8) "أنا وزين العابدين (خاتمة)" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 294 بتاريخ 25 أفريل 1928، ص 3.
9) "شعراؤنا وإدارة الهلال" سعيد أبو بكر، جريدة لسان الشعب، العدد 304 بتاريخ 11 جويلية 1928، ص 2.
بالنظر في جملة هذه النصوص نجد أن زين العابدين اكتفى بردّ واحد على سعيد الذي نشر سلسلة من المقالات عددها ستة كما نجد مساهمتين باسمين مستعارين (م.هـ) و(م.ع. البكوش) استهدفا الزين بالشتم والتقريع.
الذي يلفت الانتباه في جملة المقالات أنها استعملت ألفاظا في منتهى الفحش والبذاءة والسباب من نوع الكذب والرقعة الصحيحة والرجل الطفيلي وفساد الاختيار وقلب الحقائق وتراميت على الأدباء وتطفلت على نواديهم وغيرها من الألفاظ الموحشة التي توحي بأن الخصومة شخصية ولكن استعمل الفصل المخصّص لسعيد تعلّة لتصفية الحساب ومهما يكن من أمر فقد تناول سعيد بالنقد المتسبّب في تحريف قصائده قال: "قلت زين العابدين... ولو قلت خزندار لكان أصحّ وأرشق اللهم إلا أن يكون غفل عن النظر إلى ما هو منسوب لي أو اطلع عليه وأحسّ بذلك الخلل وتعمد بقاءه أو أن لا وجود للتطوّع بالتصحيح..."(6) ومن المعلوم أن الزين اختار: "رفيقا له من أدباء الحضرة التونسيّة وهو أمير شعرائها محمّد الشاذلي خزندار ليكون رفيقا له في رحلة يقوم بها داخل القطر التونسي يتعرّف أثناءها إلى الأدباء ويبحث عن الناشئة الجديدة في الأدب"(7) علما وأن الشاذلي خزندار كان من أساتذة الخلدونية في مادة العروض وعلى يديه تتلمذ العديد من الشعراء من بينهم محمود بورقيبة(8) ومصطفى آغة(9) وغيرهما وبيّن أن اتهام سعيد للشاذلي خزندار بأنه تغافل عن إصلاح الأخطاء تم بقصد الإساءة إليه وفي نفس الوقت يبرّئ الزين لأنه عهد منه: "التساهل في إبدال الكلام لا فرق عنده بين الألفاظ والمعاني ولا التفات حتى إلى القواعد العربية"(10) ويضيف صاحب الإمضاء المستعار (م.هـ) إلى ذلك قوله: "نعلم أن سيدي الزين لا يلتفت أي التفات للقواعد النحوية أو الرسمية ولا يهمّه من أمرها شيء خصوصا وجنابه يستبيح جعل التاء هاء والعكس بالعكس معتقدا أنه لا ضير من ذلك"(11) هذا الاتهام لأمير الشعراء لم يمرّ بل واجهه الزين بذكر أفضال خزندار على سعيد قال: "فقد تهكم على الأستاذ المصحّح وهو الذي طالما نشطه وألحّ عليه أن يحضر دروسه العروضية التي يؤمّها طبقة من محبّي الكمال الأدبي ومعظمهم من خريجي المدارس الثانوية والكلية الزيتونية"(12) أما تعيير سعيد لخزندار بأنه ليس له شغل فكان ردّ الزين عليه كما يلي: "وفي الحقيقة ليس عديد البلاطات موفورا وفرة مكاتب المحامين في المملكة التونسية حتى نطلب من الرجل أن يلتحق بواحد منها عاجلا وإلا هاجمنا أمنه وشممه الوطني في قصره ومصطافه بكلمة (ليس له شغل)"(13) وهو فيما ذكر قدح في سعيد بأنه مجرد مستكتب لدى وكيل هو راجح إبراهيم ولا تصحّ المقارنة بينه وبين من فضّل العمل الوطني على البلاط والقصر والمصطاف، ورغم أن الزين توقف عن الردّ واكتفى بنصّ واحد فإن سعيد واصل حملته معضّدا بصاحبي الاسمين المستعارين حيث تساءل (م.هـ) بخبث: "وهل سي الزين في حاجة إلى مدح نفسه وتعظيم شخصه بعد أن أصبح صهرا للعائلة المالكة؟"(14) في إشارة إلى مصاهرته لأحمد باشا باي الثاني وزواجه من ابنته آسيا وإمكانية استغلال هذه المصاهرة لصالحه، لم يتوقف غمز (م.هـ) في قناة الزين عند هذا الحد بل تجاوزه إلى التساؤل عن الأموال التي استطاع بواسطتها أن يؤسس مطبعة(15) فيما يعيّره سعيد بأنه: "لا يذكر من الشعراء إلا أصحاب القصور الذين لا يترك أدنى فرصة تمكنه من الترامي عليهم والتحادث معهم في قصورهم أو أصحاب الموائد الكبيرة الذين أشبعوه في رحلتيه بما يلزم لإحضاره أكثر من ورقة بنك ذات ويل للمطففين، أما أولائك الذين لا يملكون القصور ولا الموائد ولا يسكتون إذا وقع التعدي عليهم أو على بنات أفكارهم التي طلبها منهم بإلحاح ليزين بها صدر كتابه وليبيعها إلى الناس بدون رأس مال فإنهم ليسوا بشعراء عنده وهم أحقر من أن يجري قلمه السيّال بذكر أسمائهم وإذا لزم ذكرهم ولا بد فإنما بذكرهم في سبيل التنقيص ليس إلا!"(16) والغريب في الأمر أن سعيدا يدعي بما لا وجود له أصلا في الكتاب يقول: "وقد أظهر لي أحدهم قوله في كتابه أثناء كلامه عن الأديب السيد المكي بن الحسين أنه ولد بنفطة وأن نفطة هاته كائنة بشمال المملكة التونسية (يا للفضيحة ! يا للعار)"(17) وبالعودة إلى ترجمة الرجل لم نجد شيئا ممّا ذكر، هذه الهجمة التي شنها سعيد على كتاب الزين لم يسلم منها حتى من تناوله بالتعريف كمجلة الهلال التي خصّها سعيد بمقال لأنها ذكرت مجموعة من الشعراء من بينهم هو وأردفت ذلك بقولها: "وهذه كلها أسماء لم نسمع عنها مع أننا قرأنا لأصحابها أشعارا جميلة في هذا الكتاب"(18) ووصفها بأنها تتاجر بالأدب وبأن: "هذه الكلمة قيلت في الوقت الذي أرسلت فيه تلك الإدارة مندوبا لجعل اشتراكات في إفريقيا الشمالية، وهكذا الاتجار وإلا فلا"(19)، بهذه الكلمات توقفت المعركة التي دارت على صفحات جريدة لسان الشعب فيما بين سنتي 1927 و1928.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن هذه الخصومة بين الأديبين وإن اندلعت بعد صدور الكتاب إلا أننا نجد ما يؤشر على أن الخلاف بينهما سابق وبيان ذلك أن الزين لمّا نشر "كتاب الجناة" الذي جمع فيه شهادات ثلة من الوطنيين في شهر ذي القعدة 1343هـ الموافق شهري ماي وجوان 1925م نشر قصيد "أيها الليل" لسعيد مصحوبا بصورته وبتقديم أشاد فيه بمن سمّاهم الجناة الذين امتازوا بـأنهم: "... لا يتملقون الحكومة بما ليس فيها ويؤيدون الجنسية التونسية التي ينكرها حضرة سفير فرنسا ووزير خارجية المملكة التونسية وأنهم يدافعون بشهامة عن الشرف التونسي ضد التهم...." مختتما كل ذلك بقوله: "وعسى الصديق أن لا يعد هذا تحريضا منا ضد أمنه وله من حسن نوايانا خير كفيل"(20) هذا الحذر من الزين في التعامل مع سعيد يوحي بأن العلاقة بين الطرفين تسودها الشكوك منذ سنة 1925.
في 29 جانفي 1948 توفي سعيد أبو بكر وكان من المفروض أن يتوقف زين العابدين السنوسي عن العودة إلى هذه الخصومة لا تلميحا ولا تصريحا لأن المعني بكلامه انتقل إلى عفو ربه إلا أنه بعد خمس سنوات من ذلك استغل فصلا نشره في مجلة الندوة للتعريف بسعيد أساء له فيه إساءات بالغة قال: "فقد بقي صاحبنا سعيد يتبعه نقص أصلي في حرفته الكتابية من حيث أغلاطه النحوية والصرفية والرسم تجعله عرضة لملاحظات صاحب المكتب، تلك الملاحظات التي لم تعد تتلاءم مع ما يلقاه من إكبار العموم ومع أنه كان يعرف أن ناشري أدبه يهذبون من هفواته.... وما زالوا يهذبون ويشذبون من أقواله التي تتلقفها الآذان والأفواه."(21) مضيفا إلى ذلك: "وهو من الأدباء الذين يطيلون المراجعة والتنقيح فضلا عن كونه يحتاج لغذاء مسترسل من الأدبية تقوم لديه مقام الفن والمعرفة"(22).
والذي يمكن أن نستخلصه من هذه المعركة أنها:
1) معركة شخصية وإن تخفت وراء الأدب التونسي في القرن الرابع عشر يدل على ذلك إصرار الطرفين على الخصام أحياء وأموات.
2) غير معلومة الأسباب وقديمة تسبق ما نشر الطرفان من مقالات في لسان الشعب
3) لم تتورّع عن استعمال الفاحش من اللفظ والموحش من التعابير تعييرا وشتما.
4) استعملت أسماء مستعارة لنصرة طرف منها على الطرف الآخر.
ورغم ذلك فإن هذه المعركة لا تخلو من فائدة لأنها كشفت طبيعة العلاقة بين أديبين تحوّلا إلى خصمين والأسلوب الذي يعتمده كل واحد منهما للرد على الآخر هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كشفت الظروف التي حفت بتأليف كتاب الزين وعلاقته بأمير الشعراء.
--------
الهوامش
1) تحقيق الشاذلي بويحي، نشر الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1984.
2) "محمد بن عثمان السنوسي، حياته وآثاره" محمد الصادق بسيس، الدار التونسية للنشر، تونس 1978، ص145 وما بعدها.
3) "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" لزين العابدين السنوسي، مكتبة العرب بتونس، الطبعة الأولى 1927، الحلقة الأولى ص6.
4) "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" للسنوسي، طبعة الدار التونسية للنشر 1979، الحلقة الأولى الجزء الأول ص151.
5) "شخصيات وتيارات" أحمد خالد، الدار العربية للكتاب، ليبيا تونس 1982، ط2 ص112.
6) "شخصيات وتيارات" ص116
7) انظر ترجمة زين العابدين السنوسي المنشورة صحبة هذا.
8) "تونس في تراجم أعلامها" محمد الصالح المهيدي، وزارة الثقافة سلسلة ذاكرة وإبداع العدد41، طبع ميدياكوم تونس 2012، ج2 ص36.
9) "تونس في تراجم أعلامها"، سلسلة ذاكرة وإبداع العدد 40، ج1 ص207 وما بعدها.
10) "شخصيات وتيارات" ص115.
11) "شخصيات وتيارات" ص121.
12) "شخصيات وتيارات" ص119.
13) المصدر السابق ص120.
14) المصدر السابق ص123، وعن زواج الزين من ابنة أحمد باشا باي الثاني انظر ترجمته المنشورة صحبة هذا.
15) المصدر السابق ص122.
16) المصدر السابق ص132 و133.
17) المصدر السابق ص134.
18) المصدر السابق ص135.
19) نفس المصدر والصفحة.
20) "كتاب الجناة" نشر زين العابدين السنوسي، مطبعة العرب بتونس 1343هـ، ص34 و35.
21) مجلة الندوة، السنة الأولى العدد 5، شهر ماي 1953، ص14.
22) المصدر السابق ص15.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: