كيف باع لنا مؤلف "في أيدي العسكر" العتبة الخضراء؟!
سليم عزوز المشاهدات: 314
كلما أبحرتُ في كتاب "في أيدي العسكر" للصحفي الأمريكي ديفيد د. كيركباتريك، وتأملتُ كثيرا مما جاء فيه، أشفقتُ على الحقيقة، بقدر شفقتي على زملاء أقاموا له زفة، واعتبروا أنهم بقراءاته، سواء في نسخته الإنجليزية أو العربية، قد أحاطوا بتاريخ المرحلة من أطرافها، وحيزت لهم الدنيا بحذافيرها!
وديفيد، كان قد قدم للقاهرة ربما في ذات الوقت الذي تم تعيين عبد الفتاح السيسي فيه مديرا للمخابرات الحربية، وقبل عام من قيام الثورة، وكما نظر البعض للمراسل الأمريكي على أنه خبير في الشؤون المصرية، وسلموا بصحة كل ما جاء في كتابه الضخم، فإن كثيرين تعاملوا مع الجنرال على أنه رجل مخابراتي عميق، وفي وقت سابق قلت إن خبرة عبود الزمر في الجهاز أكبر من خبرته!
وعندما أتأمل حجم كتاب ديفيد كيركباتريك، أتذكر دهشتي مع كتاب "وائل غنيم" عن قصة الثورة، والذي مولته دور نشر عالمية بالتعاون، وبكل لغات الدنيا بما فيها لغة الطير، ولم أهتم بقراءته وكنت كلما رأيته على أرفف إحدى المكتبات في القاهرة، سألت نفسي: من أين جاء الفتى بما يسود به كل هذه الصفحات، ليكمل هذا الكتاب المجلد، وهو لم يكن شاهدا على محطات الثورة الرئيسية، فلم يحضر يومها الأول، كما لم يكن حاضرا في يوم جمعة الغضب، وفي موقعة الجمل، وفي أول مليونية بالميدان، وفي يوم الزحف إلى القصر الرئاسي لم يكن مع الزاحفين إلى هناك، أو ممن قرروا البقاء في الميدان، حتى لا يتركوه خاليا فيطمع الذي في قلبه مرض؟!
شاهد ما شفش حاجة:
بيد أن الغرب يصنع نخبته، ولا مانع من أن يمول كتابا لشاهد "ما شفش حاجة"، ويحدث التواطؤ بين الأطراف كافة على تمرير الأمر، ضمن أشياء كثيرة تم تمريرها بالغفلة وحسن النية، وعندما شاهدتُ وفودا شبابية ذاهبة للخارج وعائدة منه للحديث باسم الثورة، حذرت من الأمر، وقلت: وما هي الأدوار المميزة لهؤلاء الشباب فيها؟ لكن الرأي العام السائد، هو دعوا الشباب يسافر ويفرح، وكنت أرى شجرا يمشي وقلت إن الثورة ستؤتى من قبل هؤلاء عندما يجري اعتمادهم بأنهم شباب الثورة ومن قاموا بها!
في مجلده الضخم، اعتمد ديفيد كيركباتريك على عدد من الأشخاص كمصادر لمعلوماته التي ذكرها عن الثورة، ومبارك، والإخوان، وقد التقى بهم في ميدان التحرير، كما اعتمد في بعض الجوانب على أقوال المسؤولين الأمريكيين المعروفة والمنشورة، وسد الفراغات باعتماد روايات دون فحصها وذكر قصصا دون تحقيقها، وفي روايات مهمة لا يذكر مصادره، لأنه لا يجوز أن تترك بدون توثيق!
وفي ملف التوريث، فإنه يردد رواية لا نعرف مصدرها، إنما يكتفي بقوله "علمت"، فقد علم أن مبارك ينوي توريث الحكم لنجله في أيار/ مايو 2011، وعلم المؤلف أن اللواء عبد الفتاح السيسي مدير الاستخبارات الحربية، كان يعالج سؤال التوريث. ثم يسرب أمرا ليس بسيطا، وهو أنه في خضم مهمات الاستخبارات التجسس على رئيس الدولة، على نحو كاشف أن السيسي وقف على عملية توريث الحكم في هذا التوقيت. ولا يستطيع المرء أن يتجاهل أن اقتحام موضوع التجسس على الرؤساء في ذات السطر، ونفس الجملة، إنما هو يعني ما يتصوره القارئ!
وبعيدا عن قواعد العمل لأجهزة الاستخبارات في العالم، فجهل كيركباتريك بالواقع المصري يدفعه لاستدعاء قواعد أجنبية لتطبيقها على واقع مختلف، ففي مصر لا يوجد جهاز استخباراتي يستطيع أن يقوم بذلك، لأن كشفه سيكون سهلا، في واقع تتنافس فيه هذه الأجهزة على أن تبدو الأقرب للرئيس، ولأنها ليست على وفاق فيجعلها تتربص ببعضها البعض، وكان مبارك حريصا على وجود التنافس، أو الصراع للدقة، ولهذا وعلى مدى 30 عاما لم يتم تسريب حديث واحد لمبارك، وعند اقتحام مقار أمن الدولة لم يُضبط تقرير واحد يخصه.
حكاية أحمد العدلي:
وكيركباتريك، ومصادره في الميدان، ولأنهم حديثو عهد بالسياسة ولا علم لهم بدهاليزها، فلم يعلموا أن وشاية كاذبة في هذا الشأن كانت كافية للإطاحة بمدير جهاز أمن الدولة اللواء أحمد العدلي، ويفتقد الحماية، فلا يجد أمانه في مستشفى الشرطة، فيسافر للخارج للعلاج!
فقد كان رئيس الحكومة كمال الجنزوري يتجاوز وزير الداخلية اللواء حسن الألفي، ويتعامل بشكل مباشر مع العدلي، بشكل يوحي أن مدير جهاز أمن الدولة هو البديل المحتمل له، وإذا كان الألفي عُرف أنه ليس بالرجل الشرير، فقد كان الشر كله بجانبه ممثلا في مساعده رؤوف المناوي، فوضع له الخطة، وتم التنفيذ!
أبلغ اللواء الألفي الرئيس مبارك أن لديه معلومات تفيد أن العدلي كلف بإعداد تقرير عن أنشطة نجليه جمال وعلاء، وأنه يحتفظ به في مكتبه، وسأله مبارك إن كان يستطيع أن يحصل على التقرير، وقال الألفي إن في استطاعته هذا!
وفي اليوم الموعود، وعندما غادر العدلي مكتبه، دخله الوزير ومساعده، ومنه اتصل بمبارك وأبلغه بالعثور على التقرير في المكتب، ولم يكن هذا صحيحا، فقد تمت فبركته وكان مساعد الوزير يحمله في يده عند هذه المداهمة للمكتب، ومع هذا صدر القرار الرئاسي في الحال بعزل مدير الجهاز، وهذا لمجرد كتابة تقرير فماذا عن التجسس، وهذه الأعمال خارج الاختصاص الوظيفي للمخابرات العسكرية، ومنذ أزمة عبد الناصر مع مراكز القوى لديه، فقد تم إبعاد هذا الجهاز عن كل عمل يتصل بالسياسة والحياة المدنية.
ونستطيع القول إنه منذ عهد السادات، صار من يعمل على الأرض هو جهاز مباحث أمن الدولة، واختص مبارك وزارة الداخلية وأجهزتها بصلاحيات مطلقة، ولم يعد سرا أن هواتف كل القادة العسكريين كانت تحت رقابة أجهزة الداخلية، وبعلمهم، بل إن مبارك كلف وزير الداخلية زكي بدر بالقبض على تنظيم داخل الجيش في سنة 1987، دون المرور بالتحريات العسكرية، بل ودون علم وزير الدفاع القوي عبد الحليم أبو غزالة!
فمن هذا الذي يمكنه أن يتجسس على الرئاسة فيعلم من خلال تجسسه أن مبارك ينتوي توريث الحكم في مايو 2011، ويشطح به الخيال وينطح، حد تصوره أن هذه السيطرة كانت على عقل مبارك، إذ لا يوجد أحد من الدائرة المحيطة بالرئيس في ذلك الوقت قال إن الرئيس فاتحه في ذلك، وتُرك الأمر لضاربي الودع، ويقول فيه مصطفى الفقي كلاما مختلفا في كل مرة، بحسب الريح ما تودي الريح، مع الاعتذار للعندليب!
إن توريث الحكم بهذه السرعة كان يلزمه الاستعداد وبالتخطيط عبر أدوات الحكم، لأن الأمر تلزمه انتخابات واستعدادات ودراسة احتمالات المنافسين، وتهيئة المناخ لذلك، ومن يحيط به هم الحرس القديم مثل زكريا عزمي، وصفوت الشريف، ويوسف والي، وهم من كان جمال يهمشهم لصالح الوافدين على المشهد، ممن لا يستطيعون أن يخرجوا عنزا من البرسيم، ولا يعرفون إجراءات إخراج شخص من قسم الشرطة، وكان من يمكنهم القيام بالفعل لا يؤيدون التوريث، ولم نسمع منهم بيان وجهة مبارك في الأمر. الأمر نفسه ينسحب على الخادم في البلاط حبيب العادلي وزير الداخلية، أو المقرب من العائلة وزير الإعلام أنس الفقي!
إبلاغ الضباط:
لقد انطلق ديفيد كيركباتريك مما ذكره كمسلّمة بعلم السيسي بأمر التوريث، فقد أبلغ كبار اللواءات في ذلك الصيف بنية مبارك تسليم الحكم لنجله في أيار/ مايو 2011، وأن السيسي توقع خروج المصريين في ثورة، وحينئذ سيأمر الجيش بقمعها، وهنا عليهم إعلان الولاء للشعب لا للرئيس. وفي سياق آخر وعندما قامت الثورة وعقد الرئيس مبارك لقاء مع القادة العسكريين في 31 كانون الثاني/ يناير 2011 قال المؤلف: لم يعط الضباط لمبارك أي إشارة بناء على نصيحة السيسي التي أعطاها لهم في 2010!
لم يذكر كيركباتريك مصدره فيما ذكره على خطورته، ولو بالإيحاء، وأخشى أن يكون قد اطلع عليه في السلاسل التي تنشرها جريدة الأخبار بعد الثورة، برئاسة تحريرها ياسر رزق، المحرر العسكري السابق، وهي السلاسل التي كانت تدشن لفكرة أن الجيش كان يرفض التوريث وأنه من حمى الثورة، ورددتها قوى الثورة لتبرير تحالفاتها مع المجلس العسكري، مع أنه لا يوجد دليل عليها!
هل يمكن لعاقل تعرف الآن عن قرب على شخصية السيسي أن يتصور أنه يمكن أن يقدم على خطوة انتحارية كهذه، وهو في مستهل مرحلة جديدة ينتظر أن ينتقل منها ليسير على خطى عمر سليمان الذي انتقل للمخابرات العامة من المخابرات الحربية، وكيف يأمن أمرا كهذا لكبار الضباط وقد كانوا فريقين؛ واحد يتبع المشير والثاني يتبع الفريق أول سامي عنان، وبين المشير والفريق ود مفقود، وهذا من أصول الحكم عند مبارك؟!
إن تسريب خبر كهذا من شأنه أن يدفع السيسي إلى المجهول، والأمر لم يكن يكلف مبارك سوى قرار من سطر واحد، فهل يمكن تصور أن الرجل الذي أقال أبو غزالة الأكثر شعبية من وزراء الحربية والدفاع داخل الجيش، وفي المجتمع، يتهيب من إقصاء السيسي من وظيفته؟
إن كيركباتريك باع لنا العتبة الخضراء!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: