د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 468
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كدت أُحرم أولا من قراءة كتاب صديقي الدكتور علي الشابي الأخير البيروني المفكر الأكبر لأن النسخة التي وقعت إلي دون إهداء منه كالعادة افتقدت فيها أكثر من عشر صفحات ناقصة (١٦٠- ١٧٧ كما توضّحه المصورة الشمسية المصاحبة) فألهمني الله - كما يقول ابن خلدون عن نفسه - التفطّن إليها وعالجت الموضوع حتى لا أكون مستهدفا من عدم الاطلاع عليها أو الغفلة عنها ما دام ابن خلدون نفسه مستهدفا من المؤلف نفسه للغفلة عن واجباته نحو العلماء قبله.
وقد لا يعلم القارئ أني كتبت مقالاتي الأولى عن الكتاب ولم تصلني بعد تلك الورقات التي طلبتها من نُسخه عند بعض الأيدي ولم يعجزني الأمر الذي أرجو أن لا يكون مدبرا بليل لأتّهم أحدا بالذات لأنه أمرٌ مستغرب في تاريخ الطباعة المتطورة في العصر الحديث والرقابة على الكتب التي تحمل الرقم الدولي للكتاب).
ولكن بالاطلاع أخيرا على فحوى هذه الصفحات صُدمت إلى حد الألم من اجتراء المؤلف على ابن خلدون نفسه وعلى حرمة العلم والعلماء ومقام الخلافة والخلفاء والصحابة والأئمة ورموز معنوية كثيرة في ثقافتنا ابتذلهَا ابتذالا مريعا أنفة بنفسه عنهم، وتكبّرا بدوره في الفهم والإدراك والتقدير والتعليل والتحليل دون تواضع واحتراز البتة، تحسّبا لأبي الريحان البيروني مُلاغيه في الفارسية، الذي أكبره في المطلق على علماء الدنيا جميعا. ولم يهتد على الأقل بالتقدير الاحتمالي الذي وجده لبرنار لويس أحد أشهر المستشرقين تعصبا على الإسلام الذي قدّر أن يكون ابن خلدون من أعظم المؤرخين في العصور الوسطى.
وكأنه كان يرجو أن يقول ذلك من باب الاحتمال لا من باب التبعيض كشأن الدقة عند المستشرقين حتى لا يوهموا أحدا أنهم ظلموا أحدا من بني قومهم أو عصبيتهم بمِنّة ويَخصّوا بها غيرهم من ثقافة أخرى دونهم.
فاعتمده مؤلفُنا التونسي لأنه لم يقل ابن خلدون أعظم، فيسْري حكمه على البيروني ويُفسد عليه رأيه في أنه الأكبر من ابن خلدون.
هذه نقطة من النقاط التي كانت غائبة عني في العشر صفحات الناقصة من الكتاب كما ذكرت. وقبل أن نأتي إلى البقية أقول:
وهذا أقوله ليس طعنا في هذا المستشرق الكبير ولكنه قانون من قوانين علم الاجتماع، قال به الكلّ البيروني وابن خلدون على الترتيب إذا أردت، أي من التعاطف الموضوعي كما يقولون المباح بقدَر في البحث في الإنسانيات) أو ما بعبّر عنه اليوم بثقافة الشخص الغالبة.
وفيما يلي أقواله بدءا من نقطة برنار لويس:
(ملاحظة: (أولا فيما سيأتي بين قوسين مزدوجين يتقدمهما الرمزان ((م ك:)) هكذا إشارة إلى صاحب المقال وكلامه تعليقا على ما تقدّم، ثانيا صفحة وبعدها رقم هي من الصفحات المنقوصة في نسختي من الكتاب المتحدّث عنها.)
«وقد أصاب برنار لويس في حديثه عن ابن خلدون حين لم يقطع بأنه أعظم مفكر في علم التاريخ في العصور الوسطى مبيّنا ذلك في صيغة احتمالية يوضح في قوله وقد يكون أعظم مفكر في علم التاريخ في العصور الوسطى. (صفحة ١٦٣ وما بعدها).
أصاب.. - وحقّ العلم - صواباً أوهَى من خيط العنكبوت! وإنما وجّهت قوله إلى ما تريد لا إلى ما يريد هو حقيقة.
(صفحة ١٦٦) «وبيّنٌ أن ابن خلدون قد نقل عن البيروني ما يجب أن يتحقق لقيام الملك وهو العصبية حيث عنون فصل من فصول المقدمة بقوله: “في أن الدعوة الدينية تزيد الدعوة في أصلها قوة على قوة العصبية”. وبشأن العصبية يكاد التعبير لديهما يكون واحدا ، قال البيروني“إن العصبية أساس الملك (...) وقفّى ابن خلدون على آثار البيروني بقوله “من هذا يظهر أن الملك هو غاية العصبية وإذا بلغت العصبية غايتها حصل للقبيلة الملك” (...).
«كشأن ابن خلدون الذي لم يلتزم في كثير من الأحيان أثناء عرضه للأخبار بما اشترطه لصدقية الأخبار وعدالة المؤرخ، ومن ثمّ أسفرت كتاباته في كثير من الأحيان عن القطيعة بين النظر والممارسة، وعن تجاوز للمبادئ التي وضعها، من ذلك مثلا وصله نسب أبي العباس الحفصي بعمر بن الخطاب ((م ك: ألا رأيت ـ لا كفّ الله بصرك الحديد ـ أن من أمّهات المؤمنين حفصة وهي بنت عمر بن الخطاب والشّرفُ بالنِّسبة إلى منسوب هو شرف بالدم أو بالإيمان أو بالارتزاق، أو بالولاء كأكثر الفرس في القبائل العربية حبا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه وآله وصحبه رضي الله عنهم، وفي مصر والقيروان وغيرهما الكثير منهم)) بقصد التقرّب إليه والإفادة من نواله، في حين أن الحفصيين هم بربر خلّص، وادّعاؤه ربط نسب مؤسس الأسرة الموحّدية بنسب رسول صلى الله عليه وسلم ((م ك: نسب إيماني لا نسب دموي!!)) هو ادعاء لا غناء فيه ((م ك: شرعية الحكم أي شرعية الدين.. والمستشرقون نوّهوا بنسب الدويلات التي ظهرت في المشرق والمغرب، عجمية وبربرية في نسبها المرفوع إلى العرب من أشراف قريش وفي مقدّمتهم آل النبي صلى الله عليه وسلم) وكان يقصد من وراء ذلك رضا الدولة الموحّدية ((م ك: ريحة العصبية.. الدولةُ الحفصية كانت في حرب مع آخر الشابية حتى أسقطتها في الأخير في القيروان في معركة القرن المشهورة مع آخر أمراء الحفصيين))، كما أنه صدّق أوهاما رائجة كتصديقه بوجود الياقوت في جزيرة سنكل ديب (...) كما أنه صدّق ما تمّ تناقله بشأن البذخ الأسطوري المعلن في زواج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وهو بذخ يقصر دونه الخيال ((م ك: خيال القاصر خياله عن إدراك عظمة ملكهم في أوج دولتهم التي قال الرشيد لا تغيب الشمس عنها ككل الذين قالوا مثل ذلك من قبل من أباطرة العالم القديم والحديث ولم يقصر خيال كتّابهم عن سعة ما وصل إليه بذخهم)) (...) وقد تبنّى الخبر الذي يقول إن جوهر الصقلي حمل معه إلى مصر ألف جمل من المال. وهو خبر ينبئ فيه الإغراق في المبالغة عن تهافته وهو لا يتّسق بأية حال مع وضع إفريقية آنذاك ((م ك: ألا ترى ـ لا كفّ الله بصرك الحديد ـ الطائرة في سفرية واحدة من سفراتها تحمل من أغراض الركاب مئات الحقائب، فاحْملها على الجمال فسترى كثرة عددها بالمئات لنقل مئات العائلات المتنقلة من عاصمة ملكهم إلى عاصمة ملكهم الجديدة بقيادة أعظم فاتح في عصره؟ والمال في الخبر المقصود منه أشمل من الورِق والذهب)).
«كما أنه لم يُصب حين كذّب تعاطي هارون الرشيد للخمر بسبب ارتضاه ((م ك: وأنت لا ترتضيه شهوةً في نفسك!!) وهو ما عرف عن الرشيد من صلاة وحج وغزو، قال فيه "فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأين من حال الرشيد بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحابةِ العلماء والأولياء" ((م ك: يظهر لي، لو كلّفوك بتعليم أبناءنا تاريخنا في المدارس لأفرغته من كل ما لا ترضاه أنت ويرضاه العلماء الحقيقون به، جَرْحا وقدحاً فيهم منك)). ومع أن هذا التعليل لا ينفي تعاطي الرشيد للخمر بحكم غلبة ازدواجية الشخصية السائدة في المجتمع، فإن ابن خلدون أكد في ذات الخبر أن الرشيد كان يتعاطى النبيذ وأي فرق في الإسكار بين الخمر والنبيذ. وتَواصلَ تصديقُه لأساطير رائجة لا غناء فيها ((م ك: بل لا غناء منك في تعليقك عليها وعرضها بهذه الصورة المشوّهة!)) (...) إلا لإذكاء الخيال والنفاذ من خلاله إلى آفاق سحرية (...) فقد أورد دون نقد أو تصويب خبر المدينة التي أنشأها أحد المغول بين قزوين وهمذان فجاءت هذه المدينة كما شاء لها الخيال مدينة لؤلؤية ذهبية تفيض ترفا ومتاعا هي عبارة عن جنة في الأرض((م ك: ماذا لو حدثوك عن مدينة نيوم السعودية المنتظرة لآفاق 2030!)) (...)
«وبرغم ما أفاده ابن خلدون من البيروني بالنقل عنه تارة وبالمحاكاة تارة أخرى فإنه لم يذكر البيروني قط. وقد أورد محمد عادل لطيف ((م ك: من هو هذا السيد؟ لم تعرّفه من الباحثين أو العلماء، معاصر أو حديث)) في كتابه مصادر ابن خلدون أن سبب عدم ذكر ابن خلدون البيروني إنّما يتمثّل في أن ابن خلدون السنّي أبى أن يذكر البيروني الشيعي لأنه كان يخشى لو أقدم على ذكره من غضب أهل السنة واستنكارهم ومن اتهامهم له بالمروق عن الدين القويم. وعلى العكس من ذلك فإن ابن خلدون ذكر عددا كبيرا من من علماء الشيعة يتصدّرهم الفيلسوف نصير الدين الطوسي وقد وضّحت فيما سبق أن البيروني كان شيعي النشاة لكنه انصرف عن التشيع وتحوّل إلى مذهب أهل السنة» (صفحة 169).
وهنا نقطة أخيرة، عن محمد عادل لطيف الذي ذكرته مرة واحدة دون تعريفه أكثر، لتزييف تقديره بأن ابن خلدون أغفل ذكر البيروني لكي لا يتّهم هو نفسه بالتشيع مثله، وردّك عليه أنه غير صحيح لأن البيروني لم يدم طويلا على التشيّع بل انقلب إلى سنّي وبالتالي لا عذر لابن خلدون بتجاهل البيروني.
محمد لطيف هذا الذي لم تعرّفه من يكون في العلم هو دكتور أستاذ مساعد في التاريخ بالجامعة التونسية. وكان ينبغي أن تنوّه إلى أنه كان في حديثه عن المقارنة بين البيروني وابن خلدون أدقّ وأكثر احترازا منك.
فهو يقول في خلاصة بحثه عن مصادر ابن خلدون : «فمن بين الشخصيّات الهامة التي تغافل عنها ابن خلدون نجد العالم أبي الريحان البيروني (...) فالملفت للانتباه حقا، أنه لم يشر إليه ولو مرّة واحدة، بل نعتقد أنه غضّ الطرف عنه كلّيّا؛ ذلك أن أهمّ ما أتى به صاحب «العبر» من نظريات في “فضل علم التاريخ” لا نجد لها أثرا إلاّ لدى البيروني. ورغم القراءات التي قمت بها للعشرات من الكتب والمقالات حول ابن خلدون وفكره، لم أجد من الباحثين من أشار إلى هذه العلاقة المفقودة ظاهريّا بينه وبين البيروني».
فأنت نشرت كتابك بعده ببضع سنوات فكان ينبغي أن لا تُفرد نفسك دون العالمين بأنك أول من قرّر ذلك على الأذهان. ولو تلمسنا لك العذر بأنك كتبته قبله ولكن لا بأس بتنوير القارئ ما دمت أقحمت في كتابك زيادات، وذكرته عرَضا للردّ على زعمه أنه بما بين الشيعة والسنة من تناف أو تجاهل للتهمة أسقط ابن خلدون ذكر البيروني لإقرار زعمك أنت بأنه أغفله قصدا للتفرد بكشف العلم الجديد.
ويقول الرجل في الموضوع نفسه بعدما تقدم من كلامه: «وعندما نعمّق المقارنات بين ما كُتب في المعرفة خلال القرن الثالث والرابع للهجرة مع ما تطرّق إليه ابن خلدون خاصة في المقدّمة، فإننا سنلاحظ أن كل الأفكار التي بدت للبعض، خلدونيّة أصيلة فذّة ومبتكرة، لم تكن في الحقيقة جديدة على الفكر العربي الإسلامي، لكننا نجد ابن خلدون مسترجعا إيّاها في عصر تدهور الثقافة العربيّة، متحاشيا الإشارة إلى أصحابها، منكرا تأثّره بالبعض منهم (...) ». فأنت كما ترى أو يرى القارئ المتجرّد من عصبيتك للبيروني أن هناك من كتب بقدَر من أدب البحث وتبسيط المدرّسين أفضل منك في المسألة.
-----------------
تونس في ٢ من ذي الحجة ١٤٤٥ ه / ٩ جوان ٢٠٢٤م
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: