الجواب على هذا السؤال جاء من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمة ألقاها على مدرج جامعة السوربون والتي طرح فيها عدة مواضيع اقتصادية وسياسية واجتماعية أدخلت الاتحاد الأوروبي في أكثر من أزمة.
وقال “إذا لم نستعجل الحلول الناجعة فإن أوروبا ستجد نفسها في مواجهة وجودية” وطالب ماكرون بوضع استراتيجية دفاعية أوروبية تعتمد على صناعة أسلحة مشتركة وتسريع إعادة التسلح بتمويل من أموال الاتحاد الأوروبي من أجل التعامل مع التهديد الروسي.
تغريد خارج السرب
ليست هذه المرة الأولى التي ينبه فيها الأوروبيين ماكرون للمخاطر المحدقة بأوروبا، ورغم أن البعض يرى أنه يغرد خارج السرب، أو كأنه يطرح نفسه كزعيم لأوروبا ومنقذها عبر أطروحات جريئة بشأن بناء وتعزيز الوحدة الأوروبية، لكن هناك من أصاخ السمع له وأثنى على طروحاته.
فالثنائي ألمانيا ـ فرنسا اللتان تقودان القاطرة الأوروبية، وهما اللتان وضعتا حجر الأساس لها في بداية خمسينيات القرن الماضي بعد حرب طاحنة بينهما خلال الحرب العالمية الثانية باتفاقية الفحم والصلب والتي انضم إليها أربع دول أخرى شكلت فيما بعد السوق الأوروبية المشتركة (بلجيكا، هولاندا، لوكسمبورغ، إيطاليا)، ليستا بالضرورة دائما على الموجة نفسه. وكذلك الخلافات حول مجموعة من القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية وكيفية مواجهة التحديات.
أكثر من مسؤول ألماني انتقد المستشار الألماني أولاف شولتس لبرودة علاقته مع ماكرون وعدم السماع له. رئيس حكومة ولاية شمال الراين ـ ويستفاليا هندريك فوست انتقد تردد بلاده في التفاعل مع أطروحات ماكرون وقال: “لا يضاهيه أحد من أجل ضمان إجابات مشتركة على التحديات الكبرى في هذا العصر”.
مواقف متضاربة
الواقع أن العلاقات السابقة بين المستشارين الألمان والرؤساء الفرنسيين كانت دائما ممتازة، وخاصة مع المستشارة ميركل. وهذا البرود في العلاقات بين الزعيمين الأوروبيين يعود لتضارب في المواقف بينهما، خاصة فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، والهجوم الإسرائيلي على غزة.
فالرئيس ماكرون الذي لوح سابقا بإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، معتبرا أنه ينبغي طرح هذه القضية إذا ما اخترقت موسكو “خطوط الجبهة” وإذا ورد طلب أوكراني بهذا الشأن، أحدثت بلبلة كبيرة في صلب الاتحاد الأوروبي، وفي حلف الناتو، ورد شولتس على ماكرون “اذهب أنت وجيشك فقاتلا فهاهنا نحن قاعدون”، ومن المعلوم أن الخطر الأكبر لأوروبا وهجسها الدائم هو روسيا (سابقا كان الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وأمريكا من ناحية أخرى التي لا تنفك من ابتزاز أوروبا منذ موافقتها و”توريطها” بخطة مارشال لإعادة البناء في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، (وأصلا مصطلح القارة العجوز أطلقه وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد ) لتسيطر عليها اقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتزيد في الطين بلة، إذ قام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بإطلاق تصريحات مذلة للدول الأوروبية الأعضاء في حلف “الناتو” عندما قال إنه “سيشجع روسيا على فعل كل ما تريده لحلفاء أمريكا الذين لا يوفون بالتزاماتهم في الانفاق العسكري” واليوم يرى زعماء أوروبا أن الكابوس الحقيقي هو عودة ترامب إلى الحكم. خاصة وأن العقوبات الأمريكية على روسيا أثرت تأثيرا مباشرا في واردات النفط وأضعفت الاقتصاد الأوروبي.
والخشية الكبرى على المستوى السياسي الداخلي هي صعود صاروخي لليمين المتطرف في ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولاندا، وفنلندا، والسويد، وينتظر أن يسيطر اليمين المتطرف على مقاعد أكثر في انتخابات البرلمان الأوروبي هذا العام التي ستجرى في 6 حزيران/ يونيو، وهذا يعكس سياسة محاربة الهجرة غير الشرعية من دول افريقيا والشرق الأوسط التي تعاظمت خلال العقدين الماضيين من قبل أحزاب اليمين المتطرف.
حرب غزة
وجاءت حرب غزة لتظهر جليا على السطح الخلافات العميقة بين الدول الأوروبية في تعاطيها الأزمة الغزية ومواقفها من الحرب الهمجية الصهيونية على الشعب الفلسطيني، وظهر الخلاف والتضارب في الآراء أولا على أعلى المستويات في صلب الاتحاد الأوروبي ففي الوقت الذي تؤيد فيه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسلا فون دير لاين الألمانية إسرائيل في همجيتها ومجازرها في غزة (وهذا موقف بلادها أيضا والمستشار شولتس )، يعارض الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية الإسباني جوسيب بوريل هذا الموقف (كموقف بلاده إسبانيا) ويدعو إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات إلى غزة.
وبالطبع في صلب البرلمان الأوروبي تضاربت المواقف بين نواب الأحزاب اليسارية واليمينية من حرب غزة، لكن الخلافات الأعمق جاءت بعد إطلاق دعوات أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية التي بدأتها كل من إسبانيا وإيرلاندا والنرويج، وتحفظت فرنسا وألمانيا، وتمهلت دول أخرى، في الوقت الذي لوح فيه ملك الدانمارك من شرفته بالعلم الفلسطيني.
وزادت المحكمتان الجنائية والعدل الدوليتان في الطنبور نغما عندما دعت الجنائية لاعتقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت باعتقالهما كمجرمي حرب، ودعت الدولية إلى وقف الحرب في رفح وإدخال المساعدات، فالمواقف الأوروبية تباينت هنا أيضا، والغريب في الأمر أن المستشار الألماني شولتس صرح أنه قانونيا إذا مر نتنياهو أو غالانت في ألمانيا ستقوم ألمانيا باعتقالهما في حين صمتت دول أخرى، في حين الراعية الأمريكية هاجمت قرارات المحكمتين. وهكذا يتبين أن الاتحاد الأوروبي لم يتفق أعضاؤه يوما حول أي حدث سياسي عالمي كما حصل في البوسنة، أو في جيورجيا، أو في المشاركة في حروب أمريكا في أفغانستان والعراق.
خطر الريح الأصفر
خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت أوروبا تنام قريرة العين، مطمئنة أنها في حلبت المنافسة الاقتصادية العالمية كانت لاعبة أساسية كثاني اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، لكن زمان أول تحول مع بداية القرن الجديد، فالمارد الذي كان غافيا في الشرق الأقصى وأوصى الجنرال شارل ديغول “بألا يوقظوه” خرج من القمقم لا ليقول: “شبيك لبيك” ولكن ليكشف عن حجمه الهائل الذي دب الرعب ليس فقط في القارة العجوز بل في عقر دار الرأسمالية العالمية في واشنطن، فالصين التي كانت مستعمرة بريطانية ويابانية ونالت استقلالها بالثورة التي قادها ماوتسي تونغ في العام 1949 أصبحت في أقل من نصف قرن أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ونسبة النمو الاقتصادي بقي خلال سنوات طويلة يرمز إليه برقمين وليس برقم واحد، بل أنها طورت قوتها العسكرية بحيث أصبح الغرب كاملا يخشى جانبها، خاصة وأن تكتل البريكس الذي يضم روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا وهناك دول ترغب بالانضمام إليه بدأ يشكل قطبا مناهضا بشكل أو بآخر للغرب خاصة بعد توثيق التعاون الروسي الصيني.
وبدأت بكين تلعب دورا دبلوماسيا نشطا في الشرق الأوسط فهي تبحث عن دور لها في التدخل في الأزمات العالمية، وكانت قد استقبلت الفصائل الفلسطينية لمحاولة رأب الصدع بين حماس والسلطة الفلسطينية، وقامت بعقد المؤتمر الصيني ـ العربي الذي عقد مؤخرا في بكين الذي يؤكد على أن الصين تبحث عن دور دبلوماسي نشط في الشرق الأوسط، وهذا ما يقلق الغرب بأكمله، وإزاء هذا الاختلال في التوازن تجد أوروبا نفسها اليوم عاجزة على مجاراة هذه التحولات السريعة، والأحداث الجسام في أوكرانيا، وغزة التي هي في صلب اهتماماتها خشية على أمنها من جهة، وأمن إسرائيل من جهة أخرى.
وتزداد التحديات حدة مع صحوة الدول الافريقية الراغبة في التخلص من المستعمر القديم عن طريق انقلابات عسكرية (مالي، النيجر، الغابون)، بل وتتفاقم مع إحلال القوى الجديدة مكانها في أكثر من مكان في القارة السوداء الغنية بالمواد الأولية (روسيا، الصين، تركيا) التي كانت تستغلها بأرخص الأثمان وتدر عليها أرباحا كبيرة.
وهكذا تجد القارة العجوز نفسها في خضم أحداث متلاطمة، وتحديات كبيرة خارجية وداخلية على أصعدة مختلفة وهذا ما دفع ماكرون للتحذير من أن أوروبا في حالة احتضار ولابد من إدخالها غرفة الإنعاش.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: